الإخوة الكرام.. لعله فألٌُ حسن أن يكون الحديث في مثل هذا المجلس الطيب، عن موضوع التوبة، عسى أن يمن الله تعالى علينا جميعاً بأن يتوب علينا من ذنوبنا وخطايانا، وأن يكتبنا في عداد عباده الذين تابوا وأنابوا إليه، ولعله من المناسب أيضاً أن يكون الحديث عن التوبة في مثل هذه الأوقات التي كثرت فيها الذنوب والمعاصي، بل وكثرت فيها المجاهرة، التي تدل على الاستخفاف بالذنب، والتهوين من شأنه، بل ربما دلت على الشك، وعدم الإيمان بوجوب ما أوجب الله، أو تحريم ما حرم الله، وفي هذا الوقت بدأت الآيات والنذر، تتوالى من بين أيدينا، ومن خلفنا وعن أيماننا وعن شمائلنا.
فنحن نسمع من المحن، والفقر، والجفاف، والفيضان، والزلازل، وغيرها الشيء الكثير، ونجد حتى فيما بين أيدينا شيئاً من ذلك، فنضرع إلى الله عز وجل، في صلاة الاستسقاء أن يغيثنا، يقول الله عز وجل على لسان نبيه نوح عليه السلام: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً [نوح:10-12] فمن أراد سقيا الله وبره وجوده وعطاءه في الدنيا والآخرة، فعليه بالاستغفار والتوبة إلى العزيز الغفار.
ويقول الله عز وجل: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الزمر:53-55].
ويقول عز وجل: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31].
ويقول سبحانه عن نبيه آدم عليه السلام: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى [طه:121-122].
إلى غير ذلك من الآيات التي فيها الحث على التوبة والأمر بها.
وقد يتساءل كلُ فردٍ منا، أو كثير منا، فيقول: إنما التوبة للعصاة، والمذنبين، ولسنا بالضرورة عصاة أو مذنبين، فكيف نتوب؟! وهذه مشكلة تقع لكثير من الناس، حين تقول لإنسان: يا أخي استغفر الله، يقول لك: وهل عصيت الله حتى استغفره!! وجاء أحدهم إلى مريض على سرير مرضه، فقال له: (لا بأس عليك طهورٌ وتكفيرٌ لذنوبك إن شاء الله) فقال: وهل أنا عاصٍ حتى تكون هذه الآلام والأمراض تكفيراً لذنوبي، وهذا من جهل العباد بقدر أنفسهم وما يصدر منهم، وجهلهم -أيضاً- بحق الله تعالى عليهم، وأن العبد لو قضى حياته كلها ساجداً، راكعاً لله ما أدى حقه.
ما للعبادِ عليه حقٌ واجبُ كلا، ولا سعيٌ لديه ضائعُ |
إن عُذِّبوا فبعدله أو نُعِّمُوا فبفضلهِ وهو الكريمُ الواسعُ< |
وما سُمي الإنسان إلا لنسيه ولا القلبُ إلا أنه يتقلبُ< |
وكم منهم من يتوب إلى الله عز وجل، وكم منهم من يقول: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي [القصص:16] ومنهم من قال الله عز وجل عنه: فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ * فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ [ص:24-25].
بل علم الله نبيه ومصطفاه وخيرته من خلقه عليه الصلاة والسلام، أن يستغفر فقال: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [محمد:19]. وكان من شأنه عليه الصلاة والسلام في كثرة الاستغفار، أنه يحسب له في المجلس الواحد نحو مائة مرة، (أستغفر الله وأتوب إليه) وفي لفظ سبعين مرة، فإذا كان هذا شأن الرسل والأنبياء، فما بالك بنا ونحن في جَلْجَلتنا، وفي أوضارنا، وفي تقصيرنا، وفي غفلتنا، وقلوبنا قد أصابها من الران وغطى عليها من الغبار ما لا يدفعه إلا الله عز وجل، فنحن أحوج وأحوج إلى أن نتوب إلى الله عز وجل ونستغفره.
فنفس المؤمن لا تزال تلومه على تقصيره، وعلى ذنوبه: ما أردت بهذه الكلمة، ما أردت بهذه الفعلة، ما أردت بهذه الأكلة، فيظل يوبخ نفسه!!
أما المنافق: فإنه يمضي قُدماً لا يلوي على شيء!! ويرى ذنوبه كذبابٍ وقع على أنفه فقال بيده هكذا فطار، وانتهت القضية، ولذلك يقول الله عز وجل عن بني إسرائيل: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ [الأعراف:169].
كثيرٌ من المسلمين اليوم وهم يواقعون العظائم، والجرائم، والكبائر، وقد يكون أحدهم مرابياً، معلناً الحرب على الله ورسوله، أو شارباً للخمر، أو عاقاً لوالديه، أو مستهزئاً بالمؤمنين، ساخراً منهم، فإذا ذُكِّر بالله عز وجل، فإما أن يقول: هذا الكلام الذي أفعله صحيح، كما نجد اليوم من بيننا من يقول: الفوائد الربوبية لا شيء فيها، وقد سمعنا هذا من محاضرين وقرأناه في نشراتهم، مع أنه قولٌ حادث، مخالف لما عليه إجماع أمة محمد صلى الله عليه وسلم أولها عن آخرها، ويتلمس لنفسه العذر في عيب المؤمنين، فيقول: هؤلاء متطرفون، هؤلاء متشددون، هؤلاء مغالون، هؤلاء فيهم وفيهم، أو يعترف على نفسه بالخطأ، ولكنه يقول: الله غفور رحيم.
وهكذا يكون العِوج، فإن الله عز وجل يقول: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ [الحجر:49-50] إن ربك شديد العقاب، إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنعام:165] فلابد أن تأخذ هاتين الصفتين معاً، فلا يؤمن الإنسان ببعض الكتاب، ويكفر ببعض.
ويقول سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم في آخر عمره، وبعد أن فتح الله عليه الفتوح ودانت له جزيرة العرب: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً [النصر:1-3].
فكان عليه الصلاة والسلام، كما في حديث عائشة، في الصحيح، بعد نـزول هذه السورة، { يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي يتأول القرآن} يعني: ينفذ أمر الله عز وجل له بقوله: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ [النصر:3] فبعد أن جاهد عليه الصلاة والسلام، وكابد، وعانى، وطُرِد، وأُوذي، وألقي السلى على ظهره، وشج رأسه، ودخلت حلق المغفر في وجنته عليه الصلاة والسلام، وأدميت عقباه، وأوذي، وشرد أصحابه، بعد هذا كله، يقول الله عز وجل له: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً [النصر:3].
وكان من شأنه عليه الصلاة والسلام، أنه كان إذا صلى قال: {استغفر الله، استغفر الله ثلاث مرات} كما في حديث عائشة وثوبان في صحيح مسلم { أنه إذا صلى استغفر ثلاثاً ثم قال: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام} فيتعود المسلم: أنه حين يعمل الأعمال الصالحة، ينبغي أن يستغفر، ولذلك قال الله عز وجل في وصف عباده المؤمنين: كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:17-18] قيل معنى الآية: أنهم كانوا يقومون الليل تهجداً، قائمين، وراكعين، وساجدين، يراوحون بين أرجلهم، وجباههم، فإذا كان الفجر استغفروا الله عز وجل، وهذا له دلالات عظيمة جداً، منها: أن يدرك الإنسان أنه مهما بذل، فبذله شيء يسير بالنسبة لحق الله عز وجل، ولا يمكن أن يؤدي الإنسان حقيقة شكر نعمة الله تعالى عليه، لأنه كلما تعبد، كانت هذه العبادة نعمة جديدة، تستحق شكراً، فإذا شكر الله عز وجل على هذه النعمة، كان الشكر نعمة أخرى تستحق شكراً آخر، ولذلك يقول القائل:
إذا كان شكري الله نعمة عليَّ له في مثلها يجبُ الشكرُ |
فكيف أقوم الدهر في بعض حقهِ وإن طالت الأيامُ واتصل العمرُ |
المعنى الآخر: أن العبد قد يعتريه في أثناء عبادته تقصير من غفلة، أو سهو، أو نسيان، أو ما أشبه ذلك، فيستغفر منه.
المعنى الثالث: أن العبد إذا تعبد لله عز وجل، بعباده، أو طلب علم، أو تعليم، أو أمرٍ بالمعروف، أو نهيٍ عن المنكر أو غير ذلك، فإن الشيطان حينئذٍ يأتيه، ويقول له: أنت الذي فعلت وفعلت، وأنت الذي أتيت بما لم تستطعه الأوائل، جاهدت في سبيل الله، وعملت، وتعلمت، وبذلت، وأعطيت، الحقيقة: أنك إنسان مجهول القدر، مجهول القيمة، ولا يزال يفتله في الذروة والسنام، حتى يصيبه بالعجب والعياذ بالله الذي قد يحبط عمله، ولذلك يستغفر العبد ربه عقب العمل في آخره، لما قد يكون ورد على قلبه من مثل هذه الخواطر السيئة الرديئة، وبذلك ندرك أن كل إنسان محتاج إلى التوبة، فالعابد محتاج، والعالم محتاج، وطالب العلم محتاج، وكذلك العاصي، والمقصر محتاج، فضلاً عن غيرهم من الكفار والمشركين والمنافقين، فهم أحوج الناس إلى التوبة، والتوبة أوجب ما تكون عليه.
فتوبة ماعز، الذي جاء، -كما في الصحيح- إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {يا رسول الله زنيت فطهرني، فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: لعلك غمزت، لعلك قبلت، لعلك كذا، لعلك كذا، يفتح له أبواب العذر، قال: لا يا رسول الله قال: أبك جنون قال: لا. وسأل عنه، فوجد رجلاً عاقلاً، واستنكهوه فلم يوجد فيه رائحة الخمر، فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فرجم، وأخبر بصدق توبته عليه الصلاة والسلام}.
وأعجب منه الغامدية الجهنية، التي جاءت إليه عليه الصلاة والسلام تذكره ذنبها، قالت: {يا رسول الله، لقد زنيت فطهرني، فكأنها رأت النبي صلى الله عليه وسلم سيردها، فقالت: لعلك تريد أن تردني، كما رددت
هذه هي التوبة، التوبة: ندم يحرق القلب، وخز في الضمير، عذاب يقلق الإنسان، فلا يستقر ولا يهدأ، حتى يكفر عن ذنبه، فتأتي هذه المرأة -وهي امرأة فيها طبيعة المرأة من الضعف الذي جبلت عليه- ومع ذلك تأتي، وهي تعلم، ما هي العقوبة المقررة على مثلها من الزناة المحصنين، أنه الرجم بالحجارة حتى الموت، ومع ذلك تقول: لعلك تريد أن تردني كما رددت ماعزاً، والله إني لحبلى من الزنا، فيقول لها النبي صلى الله عليه وسلم: {أما لا فاذهبي حتى تلدي} عندها فرصة تسعة أشهر، أو ثمانية أشهر، فربما لم تعد، لكنها عندما ولدت أتت بالصبي، {يا رسول الله هأنا قد ولدت، قال لها: اذهبي حتى تفطميه} كما في بعض الروايات، فتذهب وأمامها ربما سنتان، فكان بإمكانها أن لا تعود، والعجيب أيها الإخوة، أن سنتين وتسعة أشهر كافيه في لهدوء هذا العذاب الموجود في قلب الإنسان، فالمعتاد أن الإنسان إذا وقع في المعصية يندم في ساعتها، لكن مرور الأيام والليالي يخفف من حدة العذاب الموجودة في قلبه، لكن هذه المرأة بعد سنتين وتسعة أشهر تأتي بالصبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي يده كسرة خبز، وكأنها تريد أن تقدم الدليل المادي للرسول صلى الله عليه وسلم، أن هذا الصبي قد فطم فعلاً، وأصبح يأكل الخبز: {يا رسول الله هذا قد فطمته} فيرجمها المسلمون، ويشهد النبي صلى الله عليه وسلم بصدق توبتها -هي الأخرى- كما شهد بصدق توبة ماعز رضي الله عنهم أجمعين.
قال له هذا العالم: ومن يحول بينك وبينها -سبحان الله! باب الله عز وجل مفتوح- لكل إنسان في كل وقت يريد أن يتوب إليه، إذا كان صادقاً في توجهه- ولكن لا تعُدْ إلى أرضك فإنها أرض سوء، واذهب إلى قرية كذا، وكذا.. فإن بها قوماًُ يعبدون الله عز وجل، فاعبد الله تعالى معهم -فنبهه هذا العالم إلى مسألة تغيير البيئة كما سوف أشُير إليه بعد قليل- فذهب هذا الرجل إلى هذه القرية، فلما كان في بعض الطريق، أتاه ملك الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة، وملائكة العذاب، ملائكة الرحمة تقول: إنه رجل جاء تائباً مقبلاً إلى الله تعالى، وملائكة العذاب يقولون: إنه رجل لم يعمل خيراً قط!! فأرسل الله تعالى إليهم ملكاً في صورة رجلٍ فحكموه بينهم فقال: قيسوا ما بين القريتين، فأوحى الله عز وجل، إلى هذه القرية أن تباعدي، وإلى هذه القرية أن تقاربي، -وفي رواية أخرى- أن هذا الرجل جعل ينوء بصدره، "أي جعل يزحف بصدره" وهو في الاحتضار إلى تلك القرية التي هاجر إليها- فوُجد أقرب إلى القرية التي هاجر إليها بشبر -فقط- فقبضت روحه ملائكة الرحمة!!
}وهذا يذكرني بالقصة التي رواها الطبري وغيره، عند قول الله عز وجل: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [النساء:100].
فقد روى أن رجلاً من المسلمين حُبس بـمكة، ومنعه أهله من الهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمرض مرضاً شديداً، حتى أشفق عليه أهله ورقُّوا له، فكانوا يقولون: كما يقال للمريض -عادةً- تشتهي شيئاً؟ تريد شيئاً نحضره لك؟ فلا يرد عليهم، لا يريد طعاماً، لا يريد شراباً، لا يريد دواءً، إنما يرد عليهم بإشارة ضعيفة، يشير إليهم بيده هكذا، وهو في مكة، يعني أريد المدينة التي حرمتموني من الهجرة إليها، فرَقُّوا له وخرجوا به من مكة صوب المدينة، فلما خرج من مكة مات رضي الله عنه وأرضاه! وأنـزل الله عز وجل قوله وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [النساء:100].
ومن عجيب قصص التائبين -أيضاً- من بني إسرائيل، ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي والحاكم والبيهقي وابن حبان وغيرهم، في قصة الكِفْل: أن الكفل كان رجلاً من بني إسرائيل، لا يتورع عن معصية، لا تبين له معصية إلا فعلها، كان رجلاً والغاً في الفجور والرذيلة، والزنا، وشرب الخمور، وغير ذلك من الفواحش والموبقات، مقيماً عليها، فأعطى امرأة ستين ديناراً على أن تُخلي بينه وبين نفسها، فلما قعد منها، مقعد الرجل من زوجته انتفضت وبكت!! فقال لها: ما يبكيك؟ هل أكرهتك؟ قالت لا، ولكن هذا أمرٌ لم أفعله، قال: فما حملكِ على ذلك؟ ما حملك أن ترضي مني بهذا؟ قالت: الحاجة، فقام منها وتركها، وقال: الستون ديناراً لك، وقال: والله لا عصيتُ الله تعالى أبداً، فأصبح ميتاً، وغفر الله تبارك وتعالى له!!
وهذا من عجيب شأن التائبين أن الله عز وجل يوفق بعض عباده للتوبة، قبل أن تُقبض أرواحهم، وبعد دنو آجالهم، فكم من إنسانٍ نعلمه، وكم من إنسان لا نعلمه، يكون إقلاعه عن المعصية قبيل موته بقليل، مع أن موته قد يكون فجأةً، مصداقاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم، في المتفق عليه: {إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار، فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها}.
إذا مِتُ فادفني إلى جنبي كرمةٍ تُرَوِّي عظامي بَعد موتي عُروقُها |
ولا تدفنني بالفلاة فإنني أخاف إذا ما متُّ ألا أذوقها |
والله أعلم إن صح هذا عنه، أو لم يصح، لكنه كان يشرب الخمر، فيجلد، فيشربها فيجلد، وأخيراً.. حبسه سعد بن أبي وقاص، رضي الله عنه وأرضاه، فلما كانت معركة القادسية، بين المسلمين والفُرس، نظر أبو محجن الثقفي رضي الله عنه إلى المسلمين، فكأنه رأى فيهم ضعفاً، وانكشافاً، فثارت حميته الدينية، وثارت غيرته الإسلامية، وهكذا كان عُصاة ذلك الزمان، الذين قد يقعون في بعض المعاصي، تجد أن الواحد منهم ولاؤه للإسلام، وحبه للإسلام، وعاطفته مع الإسلام والمسلمين وإن وقع في بعض المعاصي، لكن المُصيبة كل المصيبة في كثيرٍ من العصاة في الأزمنة المتأخرة، تسللت المعاصي إلى أعماق قلوبهم، فأصبح الإنسان ولاؤه لغير الله، وبراؤه لغير الله، وحبه، وعطاؤه، ومنعه، لغير الله عز وجل، فقد يعادي المؤمنين، ويوالي غيرهم، ويُحب الضلال والفساق، ومن كانوا أشباهه ونظراءه، وقد يأنس بالكافرين، والمجرمين، والضالين، ويستوحش من المؤمنين، والمطيعين، وهذه هي المصيبة التي لا جبر لها إلا التوبة، فالتوبة تجب ما قبلها، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رأى أبو محجن الثقفي انكشاف المسلمين، تحسر، وبكى، وأقبل، وأدبر، وهو يرسف في قيوده، وصار يتمثل بأبياتٍ من الشعر، يقول:
كفى حَزناً أن تُطْرد الخيل بالقنا وأُترك مشدوداً عليَّ وثاقيا |
إذا قُمت عناني الحديدُ وغلِّقت مصاريعُ دوني قد تَصُم المناديا |
وقد كُنت ذا مالٍ كثيرٍ وإخوةٍ فقد تركوني واحداً لا أخا ليا |
ولله عهدُ، لا أخيس بعهدهٍ إذا فُرِّجت ألا أزور الحوانيا |
يعني ألَِا يزور حانات الخمر التي كان يتردد إليها، ثم قال لـسلمى زوجة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه: [[إنني أُريدُ مِنك أمراً وأعاهدك أن أصدق فيه: فكي قيودي، وأعطيني هذه البلقاء -وهي فرس
فلما انتهت المعركة جاء أبو محجن، وعادَ إلى البيت، فوضعت سلمى زوجة سعد القيد فيه، فلما جاء سعدٌ قصَّ خبر ما رأى لزوجته، فقالت له: [[هو والله
كلمة وقعت في القلب!! وقال لأمه: إذا جاءك أصحابي، فأدخليهم البيت وأطعميهم، وأخبريهم، بما أحدث الله لي من التوبة، وإراقة الخمور، وكسر أوانيها، حتى لا يعودوا مرةً أخرى، ثم خرج إلى المدينة، وأخذ العلم عن الإمام مالك، ولما عاد إلى البصرة، كان شعبةرضي الله عنه قد مات، فلم يرو عنه إلا ذلك الحديث: {إذا لم تستح فاصنع ما شئت}.
وذلك شابٌ آخر، لم يترك شاذةً ولا فاذة من المعاصي إلا وقع فيها!! ولم يترك بلداً من بلاد الرذيلة والإباحية، إلا سافر إليها!! ولم يترك معصيةً قرأ عنها أو سمع بها، أو تخيلها، إلا سعى إليها!! حتى أصبح مضرب المثل، في الجراءة على الله تعالى، وعلى حدوده، وحين يأذن الله تبارك وتعالى له بالتوبة، ويفتح له بابها، ويرحمه برحمته، يكتب له أن يلتقي بداعية، أو طالب علم، أو يسمع كلمة خير، فتُلقى في قلبه، فيصبح في لحظات، كأنه خلق آخر، غير ما كان يعلمه الناس، وبقدر ما كان في الماضي جريئاً على المعاصي، أصبح الآن مسارعاً إلى الطاعات، وهو يقول: لا أندم على شيء إلا على لحظات ضيعتها في معصية الله عز وجل، ويتمنى أن يمد الله في عمره، حتى يعبد الله عز وجل، ويحسن بقدر ما أساء، وظلم، وتعدى، في ماضيات الأيام.
ولا تستغربون أننا نعلم من بعض الناس أنه قد يتوب إلى الله توبة مؤقته، وتلاحظون -مثلاً- أن بعض الناس أو بعض الشباب، إذا جاءته أزمة معينة، كأزمة الاختبار -مثلاً- بدأ يتردد على المسجد، فإذا انتهت هذه المناسبة، عاد إلى ما كان عليه من قبل، وشابُُ آخر إذا هم بالزواج، وأصبح يحس بأن من المهم أن يأخذ الناس صورة مشرفة عن شخصيته، بدأ يتردد على المسجد، فإذا حصل له ما يريد تنكر.
صلى وصام لأمرٍ كان يطلبه فلما انقضى الأمر لا صلى ولا صاما |
وهذا موجود، وملحوظ، ومن كان هذا شأنه، ففيه شبه من بعض الوجوه من الذين كانوا إذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ [العنكبوت:65] فالله عز وجل معبود في حال الرخاء والشدة، والرسول صلى الله عليه وسلم، يقول في حديث ابن عباس عند الترمذي وأحمد وغيرهما: {تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة}.
ولذلك، قال النبي صلى الله عليه وسلم، في حديث أبي هريرة: {من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه} والحديث في صحيح مسلم، وفي الحديث السابق -أيضاً- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الله يبسط يده بالليل، ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمسُ من مغربها} فهذه العلامة لا ينفع بعدها إيمان، وهي علامة عامة بالنسبة للناس كلهم.
وفي الحديث -أيضاً- عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: {إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر} فحينئذٍ إذا غرغرت الروح، وعاين الإنسان الملائكة، لا تنفعه التوبة (الذين يعملون السوء بجهالة). كل من وقع في المعصية، فهو جاهل لحق الله تعالى وقدره، وكل من تاب قبل أن تُغرغر فقد تاب من قريب، ثم يتوبون من قريب، وإن كان في الآية دلالة على أن الإنسان ينبغي أن لا يتهالك في المعصية، ولا يتوغل فيها، ولا يؤخر التوبة، فربما يريد أن يتوب فتقبض روحه على غير توبة.
المهم أن الحديث يدل على أن تكرار وقوع الإنسان في الذنب، لا يدعوه إلى أن يترك التوبة، خوفاً من أنه ينقضها، وإذا تاب بصدق، تاب الله عليه، فإذا وقع في المعصية مرة أخرى، لا تنتقض توبته السابقة، بل توبته بحالها، ولا يكتب عليه إلا الذنب الذي فعله بعد التوبة، وهكذا، ولعل الإنسان أن يكتب له توبة نصوح، ولعله أن يموت على توبة.
وقد يجر الإنسان لنفسه بسبب العهد، والنذر، واليمين، حرجاً عظيماً لا يستطيعه، فعلى الإنسان أن يتجنب مثل هذه الطريقة، بل يحرص على تقوية عزيمته، بالوسائل الأخرى، ولكن قوة العزيمة من أعظم الوسائل المعينة على التوبة.
وفي مثل هذه الحال، يُذكَّر العاصي بقول الرسول صلى الله عليه وسلم، في حديث أبي هريرة، الذي رواه مسلم: {لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، وجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم} وبمثل قوله صلى الله عليه وسلم، في الحديث السابق {كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون} وكيف يقنط الإنسان من رَوْح الله ورحمته؟! والله عز وجل يقول: إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً [الفرقان:70-71].
على العاصي أن يتذكر أنه بتوبته أبدل الله سيئاته حسنات، والمعنى والله أعلم: أن الله تعالى كتب له في كل ذنبٍ كان يفعله توبةً من هذا الذنب، والتوبة حسنة، يثاب عليها، فيكون له يوم القيامة بكل ذنبٍ فعله توبةُُ يؤجر عليها، ولذلك، جاء في حديث مسلم عن أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إني لأعلم آخر أهل النار خروجاً من النار، وآخر أهل الجنة دخولاً إلى الجنة. ثم ذكر عليه الصلاة والسلام، أنه يؤتى برجل، فيقول الله عز وجل: اعرضوا عليه صغار ذنوبه، ونحُّوه أو ارفعوا عنه كبارها فيقال له: أتذكر يوم كذا ذنب كذا وكذا؟ أتذكر ذنب كذا؟ وكذا؟ وهو يقول: نعم، نعم. لا يستطيع أن يُنكر شيئاً من ذلك، فيقول الله عز وجل له: فإنني قد غفرتها لك، وأبدلتها حسنات -أو كما قال عز وجل، وهذا الإنسان يتذكر أن له ذنوباً عظيمة، فعندما كانت الذنوب عليه وهو ساكت، لكن لما رأى أن ذنوبه قد أبدلت حسنات- قال: يا ربِ عملت ذنوباً، لا أراها هاهُنا، أين المعاصي الكبار؟! التي عملتها، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى بدت نواجذه}. هذا مما يدل على طبيعة الإنسان، الذي يفرح بالغُنْمِ، ويطالب به، ويسكت عن الغرم، فيوم كانت الذنوب عليه وهو ساكت، لكن لما صارت له، صار يطالب بها، وله بكل سيئة حسنة، كما رجح ابن القيم في طريق الهجرتين، وكما نقل عن الزجاج وغيره، أن المعنى: له بكل سيئةٍ حسنةٌ لتوبته من هذه السيئة، وإلا فالسيئة بذاتها، لا تكونُ حسنة.
قد يكون الإنسان باراً بوالديه، محسناً لأقاربه، حريصاً على صلاة الجماعة، حريصاً على الصدقة، مبسوط اليد بالإنفاق، كثير الاستغفار، سريع الدمعة، رقيق القلب، ولكن عنده عيب: وهو أنه عنده اندفاع في شهوته، فربما يقع في المعاصي، فيما يتعلق بالشهوات، وباب التوبة مفتوح من هذه المعاصي، لكن من الوسائل التي أشير إليها الآن، التي تساعد الإنسان على التوبة، أن يحرص على مضاعفة الأعمال الصالحة الموجودة في نفسه، وتكثيرها حتى تغلب على حياته وقلبه، والله عز وجل يقول: َأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [هود:114].
خاتمة:
إخوتي الكرام.. أسأل الله عز وجل، في هذا المجمع الطيب المبارك، بأسمائه الحسنى، وصفاته العليا، وهو الجواد، الكريم، المنان، الحنان، المتفضل، أن يمن عليَّ، وعليكم جميعاً، بتوبةٍ نصوح، وأن يكتبنا في هذه الساعة من التائبين المنيبين إليه، المقبولين لديه، وأن يقينا شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، إنه على كل شيءٍ قدير، اللهم تب علينا، اللهم تب علينا، اللهم تب علينا، إنك أنت التواب الرحيم، سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك، ونتوب إليك، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
الجواب: في الواقع أن التوبة تَتَبَعَّض، فقد يتوب الإنسان مثلاً من الكفر، ولكنه يظل مصراً على شرب الخمر كما هي الحال فيما سبق في قصة أبي محجن، وإن كان تاب أخيراً من كل ذلك، وقد يتوب المسلم من بعض المعاصي دون بعض، فالتوبة تجب ما قبلها، فمن تاب تاب الله عليه، وعفا عنه ما عفا من هذه المعصية، لكنه يؤاخذ بجرمه في معصيةً أخرى.
الجواب: أولاً: الواقع أن هناك قضية خطيرة أيها الإخوة، لا تقل خطورة عن المعصية ذاتها، وهي مسألة المجاهرة، والرسول عليه الصلاة والسلام، يقول في الحديث -الذي أشرتُ إليه فيما سبق-: {كل أمتي معافى إلا المجاهرين وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل عملاً بالليل، ثم يصبح وقد ستره الله عز وجل، فيقول: يا فلان عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، وأصبح يكشف ستر الله عليه} والمجاهرة من أخطر ألوان المعاصي، المستتر يدل استتاره -غالباً-: على أنه يدرك أنها معصية، ويستحيي من إظهارها، وأما المجاهر: فهو يدل على وقاحته، وقلة دينه، وربما دل على عدم إيمانه بتحريم هذه المعصية، ولذلك حكم الرسول عليه الصلاة والسلام، بأن المجاهر غير معافى، فكيف يتصور أن إنساناً تاب من معصية، يفتخر بها!! حقيقة هذا الافتخار يدل على أن هذا الرجل مجاهر بالمعصية، فالواقع أن التائب يكره ذكرها، بل إذا مر ذِكرها في قلبه أسود وجه، وأظلمت الدنيا في عينيه، أما من يتبجح بالمجالس بأنه فعل كذا وفعل كذا، وفعل كذا، فهذا في توبته نظر، وكلامه في هذا المجلس هو في حد ذاته معصية عظيمة، يجب التوبة منها.
الجواب: الذي أنصح به الأخ، ألا يُقْصِر صحبته على هؤلاء القوم من أصحابه، فإنهم ماداموا فيهم خير وأهل خير، لا ينبغي تجنبهم والبعد عنهم، لكن لا ينبغي للإنسان أن يقصر نفسه عليهم، بل ينبغي أن يتجه إلى من ذكر ممن يعتقد أنهم أهل خير وصلاح، وأنهم أقرب إلى الله تعالى زلفى، ويستفيد مما عندهم، وينبغي أيضاً أن يدرك أنه مسئول عن نفسه، إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً [مريم:93-95] وقال تعالى: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:7-10] فالعبد محاسب يوم القيامة وحده، ليس معه زملاء، ولا إخوان ولا أصدقاء.
الجواب: الصحيح الذي أعلمه أن الذنوب لا تضاعف، لأن الله من كرمه وعدله، أنه إذا عمل عبده ذنباً كتبه عليه سيئةً واحدة، كما في الحديث القدسي: {إذا هَمَّ عبدي بسيئة، فعملها، فاكتبوها عليه سيئةً واحدة} وهو في صحيح مسلم وغيره، وأما في البلد الحرام، فإن المعصية وإن لم تضاعف، إلا أن المعصية قد تكون أعظم من حيث الكيفية لا من حيث الكمية من المعصية في غير الحرم، فإن العاصي في الحرم، إضافة إلى وقوعه في المعصية انتهك حرمة البلد الحرام، ولذلك قال الله تعالى: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج:25].
الجواب: الصحيح في العبارة: "استبدلت أهل الخير بأصدقاء السوء" فالباء تدخل على الذاهب لا على الذي جاء، ولذلك قال الله عز وجل: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ [البقرة:61]. وكذلك قول الأخ إنني فعلت وفعلت، فهنا نكتة يذكرها بعض الإخوان، لما ذكر سؤالاً كهذا، قال: لكنه لم يذكر أنه شهد بدراً! فلا ينبغي للإنسان أن يبالغ في الثناء على نفسه في مثل هذه الأوصاف، فهذا قد يكون نوعاً من تزكية النفس، وإن كان على الإنسان أن يذكر بعض حاله بأسلوبٍ آخر.
الجواب: مما لا شك فيه: أن توبة الناس تتفاوت تفاوتاً عظيماً، كما أن أعمالهم الصالحة تتفاوت، بحسب قوة النية ووازعها، والذي يظهر لي أن هذا الإنسان -إن شاء الله- تائب، ولكن توبته تحتاج إلى مزيد تقوية، وصدق، حتى يصبح عنده كرهٌ للمعاصي، ويصبح ممن قال الله عز وجل فيهم: وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [الحجرات:7-8].
إن كون هذا الأخ يسأل هذا السؤال، يدل على أن عنده -فعلاً- كراهية لهذه المعاصي، وشعوراً بوجود كراهيتها، وحسرة أو شيئاً في قلبه على ما يجده، وهذا بشيرُ خير، لكن عليه أن يضاعفه ويزيد، لأن من عنده ضعيف، ينبغي أن يزاد لا أن ينقص.
الجواب: الذي يظهر لي أن الأولى في حقه، أن يستر نفسه، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم لـماعز، كما سبق، وقد ورد في بعض الأحاديث؛ أنه قال: {من وقع في هذه القاذورات بشيءٍ فليستتر، فإنه من يُبدِ لنا صفحته، نقم عليه كتاب الله} والحديث السابق: {كل أمتي معافى إلا المجاهرين } فما دام أنه تاب إلى الله عز وجل وأناب، فأرى أن يستر على نفسه.
الجواب: وهذا السؤال قد يرد وأمثاله كثير، لكنه من الأسئلة، التي لا طائل تحتها، ولا جدوى من ورائها، فإننا جميعاً نحس بوسوسة الشيطان، ونلمسها في واقعنا، وفي قلوبنا، وفي كونه يحاول أن يثنينا عن أعمالنا الصالحة، ولذلك تجد الواحد منا إذا وقف يصلي، فأطال الإمام في الصلاة، فقرأ -مثلاً- في صلاة المغرب -ولا أقول أطال إطالة غير مشروعة، لكن أطال عن غير المعتاد- فقرأ في صلاة المغرب، والسماء والطارق، والشمس وضحاها، خرج كل واحد منا، وهو يقول هذا الإمام هداه الله، يبدو أنه أخطأ وظن أننا في قيام رمضان، استثقلنا واستطلنا خمس دقائق بين يدي الله عز وجل، لكن حين يخرج الواحد منا من باب المسجد، يقف مع صديقه يتحدث معه في أحاديث طويلة وعريضة، وقصص وذكريات، وأمور دنيوية، فربما تمر عليهم ساعة أو ساعتان، فإذا نظر الإنسان إلى الساعة، فقال: -سبحان الله!- منذُ ساعة ونصف ونحن هنا، فقد مضى عليهم الوقت وهم لا يشعرون! فهذا من أعظم الأدلة على شدة وسوسة الشيطان للإنسان، تخلى عنك حين كنت خارج المسجد، لكن عند أن كنت واقفاً في الصف وسوس إليك، كيف يوسوس؟
هل هو ينفث في قلبك، حتى تصل الوسوسة، أم غير ذلك؟
هذا كله علمه عند الله عز وجل، وعليك أن لا تشتغل بذلك، لكن تشتغل بدفع هذه الوسوسة، بقدر ما تستطيع.
الجواب: هذا مستحبٌ وهي في السنن، لحديث علي رضي الله عنه، أنه كان يقول: [[كنتُ إذا سمعتُ من النبي صلى الله عليه وسلم، حديثاً نفعني الله به، وإذا حدثني أحدٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً استحلفته، فإن حلف لي صدقته، وقد حدثني
الجواب: الاستغفار للوالدين أن يقول: ربنا اغفر لي ولوالديَّ، وللمؤمنين يوم يقوم الحساب، وقد يدعو لأحدهما، فيقول: اللهم اغفر لأبي، وإن كان ميتاً، فلا بأس، فيقول: اللهم أغفر لأبي، اللهم ارفع درجته في المهديين، وبارك له في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، اللهم أفسح له في قبره، ونور له فيه، إلى غير ذلك من الأدعية.
الجواب: مسألة الصلاة شأنها عظيم، والله عز وجل وصف المشركين بأنهم: هم الذين لا يصلون، فقالوا: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الروم:31] وفي الحديث عند مسلم، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة} وقال: الشرك والكفر، فعرفه بأل، ولذلك ذهب كثير من أهل العلم، إلى أن كفر تارك الصلاة، حتى من غير جحود، ولا إنكار لوجوبها كفر أكبر ناقلٌ عن الملة، وفي السنن يقول صلى الله عليه وسلم: {العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر} وعند الترمذي، من قول عبد الله بن شقيق والحاكم من قول أبي هريرة: [[لم يكن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر، غير الصلاة]] فمن كان مسلماً لا بد أن يصلي، وإذا كان يريد ديناً آخر غير الإسلام فهو وما أراد لنفسه.
الجواب: سبق أن بينت خلال هذه المحاضرة، من أولها إلى آخرها، ماذا عليه أن يفعل، والتوبة في الإسلام ليس فيها طقوس، كل ما في الأمر، أن تقبل على الله عز وجل، بقلبٍ صادقٍ نادم، وتقول: ربي إني أذنبت فاغفر لي، وتترك هذه المعصية، ولا تعود إليها، وتعمل على إزالة الأسباب التي توقعك في هذه المعصية، فإذا كانت معصية شهوة، اترك النظر الحرام، سماع الغناء، مشاهدة المسلسلات، والأفلام، النظر إلى المردان، النظر إلى النساء، صحبة الأشرار، وأقبل على الطاعات، حتى يمتلئ قلبك من حب الله ورسوله.
الجواب: الكتب كثيرة فمن كتب العقيدة، كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وكتب الشيخ الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب، وكتاب معارج القبول للشيخ حافظ الحكمي، وكتب الأشقر في العقيدة، فهذه كتب كلها طيبة، وينبغي أن يحرص المسلم والمسلمة على قراءتها، أما الفقه، فمن الكتب المفيدة: كتاب الروضة الندية، لـصديق حسن خان، والدراري المضيئة للشوكاني، وكتاب فقه السنة لـسيد سابق، وكتب وأشرطة الفقه لعلمائنا المعاصرين كالشيخ ابن باز، والشيخ ابن عثيمين وغيرهم، وأما الحديث فمن الكتب الجامعة في الحديث النبوي: كتاب رياض الصالحين، في المواعظ والآداب والرقائق، والأحكام العامة، وهو من أكثر الكتب فائدة وأكثرها قبولاً، ولا يستغني عنه بيت، ومن الكتب الموسعة في ذلك: جامع الأصول الذي جمع فيه مصنفه الكتب الستة، يعني الصحيحين وأبى داود والترمذي والنسائي، والموطأ للإمام مالك، وكذلك مجمع الزوائد للهيثمي الذي جمع فيه زوائد الطبراني في الكبير والصغير والأوسط والبزار، وأبي يعلى والإمام أحمد، وهذه الكتب جامعة وشاملة ومن أراد الاختصار، فيعليه كما أسلفت بـرياض الصالحين، وهناك كتب في الأحكام، جمعت أحاديث الأحكام، كـعمدة الأحكام للمقدسي، والمنتقى للمجد ابن تيمية، وبلوغ المرام لـابن حجر، وغيرها من الكتب، أما في السيرة فإن عمدة أهل السير، سيرة ابن هشام، ولذلك كان محمد بن إسحاق أمير المؤمنين في السيرة لسعة علمه بها، وقد تُلُقِّيت عنه بالقبول، وقد اختصرت سيرة ابن هشام، في مختصرات عديدة، أحدها لـعبد السلام هارون، بعنوان تهذيب سيرة ابن هشام، وهو تهذيبٌ طيب مفيد، وهناك مختصرات أخرى يمكن الاستفادة منها، وهناك الفصول في اختصار سيرة الرسول للحافظ ابن كثير.
الجواب: هذا يدل على أن هذه المرأة معدن خير، وفيها خير وقابلية، ولذلك ينبغي عليها أن تحرص على أن تلقي بنفسها في وسط مؤمنات، كما ذكرت وكررت، وأكدت، ولا أمل من تكرار ذلك، إن الذي يتوب عليه أن يغير بيئته، كل من تاب إلى الله عز وجل، نقول: غادر بيئتك، فإنها أرض سوء، أو بيئة سوء، إلى بيئةٍ أخرى، ولا أعني بمغادرة البيئة أن يترك البلد إلى بلد آخر، لا. قد يترك الزملاء والأصدقاء الذين هم سبب في وقوعه في المعصية، وينتقل إلى زملاء يكونون عوناً له على طاعة الله عز وجل، فالمرء من جليسه، كما أن على هذه المرأة أن تكثر من قراءة الكتب وسماع الأشرطة، فالحسنات، تجر الحسنات، والسيئات تجر السيئات، وأنت إذا رأيت عند هذا الإنسان المعصية، فاعلم أن عنده أخوات لها، وإذا رأيت عنده طاعة، فاعلم أن لها أخوات، وكلما أكثر الإنسان من الطاعات، هربت المعاصي، وإذا أكثر من المعاصي، هربت الطاعات، إذا كَثُرَ دخول الملائكة في بيت، تضايق الشياطين وخرجوا، وإذا كثر تردد الشياطين عليه، تضايقت الملائكة وخرجت، فهذه المواد المتقابلة المتضادة، لا تكاد تجتمع في قلب إلا يتغلب أحدها على الآخر فيطرده.
أسأل الله لي ولكم القبول، وصلاح القول والعمل، اللهم لا تؤاخذنا بذنوبنا، اللهم لا تؤاخذنا بسيئاتنا، اللهم لا تؤاخذنا بخطايانا، اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، إن هي إلا فتنتك تظل بها من تشاء، وتهدي بها من تشاء، أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا، وأنت خير الغافرين، واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، اللهم صلِّ وسلم، وزد وبارك، وأنعم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله، وأصحابه أجمعين، سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر