السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، هذا هو الدرس السابع والثلاثون من سلسلة الدروس العلمية العامة، ينعقد في هذه الليلة ليلة الإثنين (16) من شهر صفر لعام ألف وأربعمائة واثني عشر للهجرة.
وقد أسلفت القول لكم عن عنوان حديثي إليكم في هذه الليلة " على سرير المـوت ".
أمتي هل لك بين الأمم منبر للسيف أو للقلم |
أتلقاك وطرفي مطرق خجلاً من أمسك المنصرم |
ويكاد الدمع يهمي عابثاً ببقايا كبرياء الألم |
أين دنياك التي أوحت إلى وتري كل يتيم النغم |
أمتي كم صنم مجدته لم يكن يحمل طهر الصنم |
فاحبس الشكوى فلولاك لما كان في الحكم عبيد الدرهم |
إلى آخر ما قال في قصيدته وكتبها لي الأخ الكريم.
خذي القلب مني مزقيه وقطعي خذي الدمع إني قد وهبتك أدمعي |
خذي الروح إن الروح تشتاق للقا تكاد تطير الآن من بين أضلعي |
خذي الليل والأحزان واليأس والرجا خذي كل ألحاني وغني ورجعي |
خذي العشق يبكي في حروف قصائدي خذيه وضميه إلى الصدر واهجعي |
خذي كل ما شئت ولا تترددي خذي كل ما عندي خذي كل ما معي |
فلسطين قام القلب يشكو مصابه بك فتعالي يا فلسطين واسمعي |
وأصغي لما قال الفؤاد فإنـــه إذا ما وعى شيئا يقول الذي يعي |
فلسطين ما أقسى الخطوب تجمعت تدوس على القلب الضعيف المزعزع |
وتسلب منه الأمن والحب والمنى وتلقيه في قيد من البؤس مفزع |
فلسطين جاءوا للسلام كأنهم يقولون قومي يا فلسطين ودعي |
فلسطين لا حي الإله سلامهم إذا كان يعطيهم بلادي وأربعي |
إذا كان يهدي لليهود منازلي ويمنحهم بيتي وحقلي ومصنعي |
فلسطين لا حي الإله سلامهم فقد أخذوا أرضي وروضي ومرتعي |
إلى آخر تلك القصيدة الطويلة فبارك الله في قلب ولسان هذا الشاعر الناشئ المبدع.
وفي الواقع أنني قد لا أملك وصف الدواء للداء الذي ذكرته في المجلس السابق وهو "جمود القلوب من الإحساس بهمِّ الإسلام والمسلمين" ولكنني مساهمة مني واستجابة لمجموعة كبيرة، من تلك الأسئلة أساهم في بعض هذه الحلول والواجب علينا جميعاً أن نشترك فيها.
إننا نجد أن صاحب الدنيا المنغمس في تجارته أو زراعته أو طموحاته الدنيوية أيا كانت، نجد أن هذه الدنيا تخايله في كل وقت وحين، حتى لربما قام يريد أن يصلي، يريد أن يكبر أو يسمع فسبقت كلمات الدنيا إلى فمه، ربما أراد أن يقول: (الله أكبر) فقال: ما عندي غير هذا السعر! لأن الدنيا تعيش في قلبه، ويتحدث الناس عن قصص من هذا القبيل كثيرة ويضحكون منها ويتناقلونها.
و بالمقابل يقول لي أحد الأحباب: والله إن قضية الإسلام والإيمان ومصاب المسلمين يؤرقني ويقلقني ويشغلني كثيراً؛ حتى إني ربما تقدمت لأصلي بالناس فخشيت أن يفضحني لساني فيسبق بكلمة بدلاً عن التكبير أو التسميع، ولا شك أن ما يعانيه الإنسان بيديه أو يعمله بجوارحه أو يشتغل به في حياته هو الذي يسكن في قلبه، وربما فرط في لسانه من غير قصد ولا إرادة منه.
إذاً فالحل الأول: هو أن تغرق نفسك بأعمال تقصد من ورائها إلى خدمة الإسلام والمسلمين.
ومن وسائل تربية النفس وتهذيبها ومجاهدتها على ذلك:
- كثرة القراءة عن أحوال المسلمين:
الوسيلة الأولى: كثرة القراءة عن أحوال المسلمين في كل مكان، سواء عن المسلمين في بلادهم أم في الأقليات الإسلامية التي تعيش تحت تسلط أكثريات كافرة من النصارى أو اليهود أو الشيوعيين أو غيرهم، وسواء كانت هذه القراءة في كتب تتحدث عن أحوال المسلمين أم في مجلات أم في غيرها مما يكتب هنا وهناك، ولتقرأ بقلب يريد أن يتأسي ويتعزى لما ينـزل بإخوانه المسلمين ولسان حالك يقول مخاطباً أولئك المسلمين:
ما قر جنبي وقد أقوت مضاجعكم كأن جنبي مطوي على قصب |
ماذا تعانون من عسر ومن رهق؟ ماذا تقاسون من سجن ومن حرب؟! |
يا أوفياء وما أحلى الوفاء على تقلب الدهر من معط ومستلب |
أفديكم عصبة لله قد خلصت فما تَغيَّروا في خصب ولا جدب |
وليكن في ذهنك أننا حين نتكلم عن مصاب المسلمين لسنا نقصد فقط الاضطهاد الذي يعانيه المسلمون هنا وهناك في بلد أو في آخر، لا ليس هذا هو المقصود فحسب، هذا جزء من مصاب المسلمين، ولكن الواقع أن مصاب المسلمين في كل مكان، بل كل مسلم في الواقع يعيش مصاب المسلمين، وذلك في أمور: في التخلف العقدي، في جهلهم بدينهم، تخلفهم عما يحبه الله تعالى لهم من الاستقامة على الدين الصحيح ومعرفة العقيدة الصحيحة، جهل المسلمين بالعبادة التي يجب أن يتعبدوا لله تعالى بها وبالسلوك الذي يجب أن يسلكوه في شئون حياتهم، هذا أعظم مصاب نـزل بالمسلمين.
وربما نستطيع أن نقول: إن كل مصاب آخر فهو قليل بالقياس إلى هذا وهو فرع عنه قال تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30].
أيضاً من مصاب المسلمين: التخلف العلمي والتقني الذي يعانونه، حيث أصبحوا في ذيل ومؤخرة الدول فيما يتعلق بالعلم والتصنيع والتقدم والتقنية وغير ذلك، بل أصبحت العقول المسلمة تخدم الدول الأخرى من حيث تشعر أو لا تشعر، وهو ما يسمى بهجرة العقول العربية أو العقول الإسلامية، التي تجد الإغراءات الكثيرة من الأمم الأخرى، فتقيم هناك وتصب جهودها وإمكانياتها وخدماتها في مجتمعات لا تؤمن بالله ولا باليوم الآخر، مصاب المسلمين في هذا الثالوث الخطير الذي أناخ بكلكله عليهم: الفقر الجهل، المرض.
السؤال الذي يطرح نفسه: ما دور التكتم الإعلامي في عدم إدراكنا لما يعيشه المسلمون؟
أقول: دور التكتم الإعلامي دور كبير سواء في ذلك التكتم عن المصائب والنوازل والكوارث التي تحل بالمسلمين، فإن الإعلام العربي مشغول في كثير من الأحيان بقضايا هامشية ثانوية، وما هو إلا صورة عما يقال في الغرب، ولا تعجب إذا رأيت في كثير من الإعلام العربي أخباراً مذهلة جداً، أخبار عن قطة ماتت هنا أو قطة ماتت هناك، أو أخبار عن ثرية أوصت لقطتها بالمال، أو أخبار عن اللاعبين أو المدربين أو غير ذلك، أو أخبار عن أمور يزعمون أنها أمور علمية وهي في الواقع أمور لا تمت إلى العلم بصلة، إنما يراد بها استفزاز أهل الإسلام، كالحديث مثلاً عن قضية اكتشافات علمية تؤكد أن الإنسان أصله يعود إلى القرد -مثلاً- لمجرد الاستفزاز، وإلا حاشا العلم الصحيح أن يثبت هذا أو يقول به، والعلم الصحيح لا يمكن أن يعارض النقل الصحيح في القرآن الكريم وسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فالإعلام العربي مشغول بهذه الأمور عن معالجة ومعاناة قضايا المسلمين، مشغول أولا عن مصائب المسلمين في كل مكان.
وربما مرت مصيبة فلم يتكلم عنها، وربما تكلمت عنها الصحف أو بعض المجلات أو بعض الإذاعات على استحياء، ومستها مساً خفيفاً من وراء وراء!! كما إنه مشغول عن معالجة مصائب المسلمين ومشاكلهم الحقيقية؛ لأنه لا يهمه إلا المدح والثناء والإعجاب وذكر الجوانب الإيجابية والغفلة عن الجوانب الأخرى، فهو مشغول عن هذا وذاك، ولذا لاشك أن للإعلام العربي وبالتالي للإعلام العالمي -لكننا لا نلوم الإعلام العالمي لأن هذا شأنه- دوراً كبيراً في تغفيل الناس وتهميشهم عن إدراك قضاياهم، لكن هذا لا يعفي المسلم عن ضرورة البحث عن المصادر الحقيقية من خلال الكتب الموثوقة أو الدراسات والمقالات والتقارير التي تكون أكثر دقة من غيرها.
- القراءة في تاريخ المسلمين:
الوسيلة الثانية من وسائل تربية النفس ومجاهدتها على ذلك هو: كثرة القراءة عن تاريخ المسلمين وأمجادهم، بحيث إن الإنسان يقارن بين هذا الواقع المر الذي يراه ويسمعه ويلمسه وبين ذلك التاريخ الذي عاشته الأمة يوماً من الأيام، وفي ذلك ضمان للإنسان أن يظل عنده تفاؤل وعنده أمل، وعنده ثقة بالله عز وجل أن هذه الأمة وإن آلت إلى ما آلت إليه إلا أنه كان لها تاريخ، وكان لها ماضٍ، ويجب أن تعود إلى ماضيها وتاريخها ولسان حالك أيضاً يقول كما قال الشاعر:
إني تذكرت والذكرى مؤرقة مجداً تليداً بأيدينا أضعناه |
أنى اتجهت إلى الإسلام في بلد تجده كالطير مقصوصاً جناحاه |
كم صرفتنا يد كنا نصرفها وبات يملكنا شعب ملكناه |
أين الرشيد وقد طاف الغمام به فحين جاوز بغداداً تحداه |
ماض تعيش على أنقاضه أمم وتستمد القوى من وحي ذكراه |
بالله سل خلف بحر الصين عن عرب بالأمس كانوا هنا واليوم قد تاهوا |
وإن تراءت لك الحمراء عن كثب فسائل الصرح أين العز والجاه |
وانـزل دمشق وسائل صخر مسجدها عمن بناه لعل الصخر ينعاه |
هذي معالم خرس كل واحدة منهن قامت خطيباً فاغراً فاه |
إني لأشعر إذ أغشى معالمهم كأنني راهب يغشى مصلاه |
والله يعلم ما قلبت سيرتهم يوماً وأخطأ دمع العين مجراه |
- القراءة عن جهود الكفر في خدمة كفرهم:
الوسيلة الثالثة هي: القراءة عن جهود النصارى واليهود وأعداء الدين في دعوتهم إلى دينهم ومذهبهم، وكيف بذلوا الغالي والنفيس وضحوا براحتهم وسعادتهم وتغربوا في الأمصار وبذلوا الأموال الهائلة الطائلة حتى حققوا ما حققوا! وفي ذلك قصص وأعاجيب سيكون عنها الحديث -بإذن الله تعالى- يوماً من الأيام.
جهود النصارى في الدعوة إلى دينهم: ربما قام راهب منصر أو كما يسمونه خطأ (مبشر) قام فتكلم إلى شعب من الشعوب يطلب منهم تبرعاً بأموال طائلة هائلة، ويكون التبرع عن طريق الكمبيوتر من أراد أن يتبرع فتجد أنه خلال ساعتين أو ثلاث يغلق الحساب، وقد وصل المبلغ كله مهما كان ارتفاعه.
وأيضاً أشكر ذلك الأخ الذي بعث إليَّ -وهذا على سبيل المثال أيضاً- بأوراق تتكلم عن بعض الإذاعات التي يملكها النصارى ويستخدمونها في نشر دينهم، وأقرأ عليكم على عجل شيئاً من ذلك يقول:- صارت برامج إذاعات التنصير تصل إلى شعوب هذه المجتمعات -يقصد مجتمعات كثيرة في العالم- بأوضح مما تصل إليه برامجها الوطنية المحلية، ويكفي أن نعلم أن الولايات المتحدة مثلاً تبث برامج دينية مسيحية من محطة الإذاعة الدولية لمدة تزيد على ثلاثمائة ساعة في الأسبوع، وذلك بلغات شتى مختلفة وتذيع باللغات الإنجليزية والأسبانية والبرتغالية والألمانية والروسية وتمتلك هذه الإذاعة التنصيرية محطات للتقوية في الفلبين واليابان وإندونيسيا وغيرها، مما يجعل برامجها تصل إلى مختلف أنحاء العالم.
وفي موناكو يوجد راديو جميع أنحاء العالم الذي تموله هيئة مسيحية ويبث برامج تنصيرية بخمس وثلاثين لغة إلى كافة مناطق العالم.
وفي الفلبين توجد خمس وعشرون محطة دينية مسيحية تبث برامجها إلى قارة آسيا، وتشمل هذه المحطات شركة الشرق الأقصى التي تبث برامج دينية لسبع مناطق في آسيا والاتحاد السوفيتي بست وأربعين لغة.
وفي أمريكا اللاتينية توجد شبكة وتتولى إدارتها الجماعة التنصيرية العالمية وهي هيئة أسستها الولايات المتحدة الأمريكية وتعتبر من أقوى الشبكات الإذاعية في أمريكا اللاتينية وتبث برامج مسيحية إلى الإكوادور لمدة عشرين ساعة يومياً وتبث برامج دينية دولية إلى جميع أنحاء العالم بعديد من اللغات بمعدل إرسال ستين ساعة في اليوم، بعدة لغات.
وقد استطرد في ذكر عدد هائل وكبير من محطات الإذاعة التي تبث للدعوة إلى النصرانية، وهذا نموذج ومثال، فقراءة الإنسان أو سماعه مثل تلك الأخبار التي يبذل فيها النصارى واليهود لدينهم ما يبذلون، تجعله يحس بالحرقة والغيرة على الأقل ومع ذلك ينبغي أن يكون نصب عينيه قول الله عز وجل: وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً [النساء:104] فلا يجوز أبداً أن يكون ما يبذله هؤلاء أو أولئك سبباً في قنوطنا وقعودنا وإحباطنا، فإن الله تعالى يبارك في القليل حتى يصبح كثيراً، ولو أن المسلمين بذلوا ما يستطيعون لوجدوا نتائج مذهلة، وهم الآن يجدون نتائج مذهلة على رغم أن البذل أقل بقليل مما يجب.
- تربية الأسرة والمجتمع وربطه بقضايا الإسلام:
الوسيلة الرابعة لتربية النفس هي: تربية المجتمع أيضاً على القيام بالواجب نحو الزوجة والأولاد كباراً كانوا أو صغاراً في ربطهم بقضايا المسلمين وأحوالهم وأوضاعهم، من خلال بعض القصص التي يذكرها الإنسان عن المجاهدين، والمضحين في سبيل الدين، وعن الدعاة والعلماء، بحيث ينشأ الصبي الصغير وقدوته ومثله الأعلى رجال الإسلام وأبطاله وزعماؤه وعلماؤه، وليسوا المغنين أو الفنانين أو المطربين أو الرياضيين أو غيرهم.
كذلك الحديث عن بعض الأخطار المتجددة من المصائب التي تنـزل بالمسلمين هنا وهناك، ومثله ربط الشباب ذكوراً أو إناثاً من الصغار بالأحلام والتطلعات إلى أن يقوموا بدورهم في خدمة الإسلام، فكم هو جميل أن تربي ولدك على أنه في المستقبل -إن شاء الله- سوف يجدد دور خالد بن الوليد أو صلاح الدين أو نور الدين أو فلان أو علان من رجالات الإسلام، وكم هو جميل أن يربي الرجل أو تربي المرأة بنتها على أنها سوف تقوم في مستقبلها بإذن الله تعالى بدور بعض أمهات المؤمنين، أو نساء الصحابة الفاضلات، أو النساء اللاتي تربى في حجورهن أولئك الأبطال الرجال من جهابذة الإسلام العظام، بحيث تكون نفوسهم وقلوبهم متعلقة بهذا.
وذلك فضلاً عن ضرورة المشاركة ولو بقليل، المشاركة المالية مثلاً، المشاركة من خلال الطبق الخيري كما يقال، من خلال معرض كتاب، من خلال نشر شريط، من خلال أي عمل يصرف ريعه لصالح قضايا الإسلام.
إننا نعلم معنى أن تكون الحياة لرب العالمين، لكن الكثيرين لا يعلمون معنى أن يكون الموت أيضاً: وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ [الأنعام:163].
ولما غادر أصحابه صلى الله عليه وسلم في معركة أحد قال: {وددت أني غودرت مع أصحابي بحصن الجبل}.
فتمنى صلى الله عليه وسلم أن يقتل شهيداً في سبيل الله، فإن الشهداء يروون شجرة الإسلام بدمهم الأحمر القاني.
ولكن ثمة وسائل وطرائق وصورٌ أخرى غير مجرد القتل في ميدان المعركة، وأضرب لك بعض الأمثلة السريعة: المثل الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث صهيب في صحيح مسلم عن ذلك الغلام الإسرائيلي الذي كان يتردد بين الساحر والراهب: (حبسني الساحر! حبسني أهلي، حبسني الساحر حبسني أهلي) حتى آمن هذا الغلام، ويوماً من الأيام وجد في الطريق دابة قد سدت الطريق فقال: الآن أعلم أمر الراهب أحب إلى الله أم أمر الساحر، اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك فأزل هذه، فماتت وزالت وذهب الناس يمشون، فآمن هذا الغلام، وبدأ الناس يتسامعون بخبره حتى وصل خبره إلى الملك، فأحضره الملك وعرض عليه أن يرتد عن دينه فأبى فبعث معه مجموعة إلى رأس جبل وقال: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا فإن ارتد عن دينه وإلا فألقوه من الجبل، فلما كانوا في رأس الجبل قال هذا الغلام: اللهم أكفنيهم بما شئت فتزلزل الجبل بهم فسقطوا وذهب الغلام إلى الملك، قال: ما صنع أصحابك؟! قال: الله كفانيهم بما شاء، فبعث مجموعة أخرى وقال: خذوا هذا الغلام فضعوه في قرقور - أي في سفينة صغيرة- فإذا توسطتم في البحر فأعرضوا عليه الردة عن دينه فإن ارتد وإلا فألقوه في البحر وأغرقوه، فلما كانوا في عرض البحر قال: اللهم اكفنيهم بما شئت فانكفأ بهم القرقور أو السفينة وغرقوا، ورجع هذا الغلام إلى الملك فقال: ما صنع أصحابك؟! قال: كفانيهم الله بما شاء.
ثم قال للملك: أيها الملك! إنك لا تستطيع قتلي إلا بطريقة واحدة، قال: وما هي؟ قال: أن تجمع الناس كلهم في صعيد واحد ثم تصلبني إلى جذع نخلة أو شجرة، ثم تأخذ سهماً من كنانتي وتصوبه إليَّ وتقول: بسم الله رب الغلام فإنك إذا قلت ذلك قتلتني، فجمع الملك رعيته كلها وصلب هذا الغلام ثم أخذ سهماً وصوبه إليه فقال: باسم الله رب الغلام، ثم أطلق السهم فأصاب صدغه، فوضع الغلام يده على صدغه فمات، ثم رجع الملك فقال الناس له: آمنا برب الغلام، فجاء من حوله وقالوا: إن الذي تخشاه قد وقع، فحفر لهم الأخدود وأحرقهم فيه، قال الله عز وجل: قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ [البروج:4-7] إلى آخر هذه القصة.
لقد مات هذا الغلام؛ لكن مماته كان لله رب العالمين، ولذلك مات فرد واحد وحيت أمة بأكملها، مات واحد ممن يقول: (لا إله إلا اله) فنطقت الأمة كلها وضجت بلا إله إلا الله، وهكذا يكون الممات لله رب العالمين، لم يمت في ميدان المعركة مقبلاً غير مدبر إنما مات أمام هذه الجموع الغفيرة التي شهدته وعرفت أن الله تعالى هو رب هذا الغلام، فآمنوا به وكفروا بالطاغوت، فهذا نموذج ممن ماتوا في سبيل الله فكان مماتهم لله رب العالمين.
ألم تعلم -يا أخي الحبيب- أن ساعة الموت إنما هي تلخيص للحياة الطويلة، أربعون أو خمسون أو ستون سنة قضيتها على ظهر هذه الدنيا تلخص لك في ساعة أو ساعتين وأنت على سرير الموت وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46].
ملخص موجز دقيق لا يختلف عما تعيشه في هذه الدنيا، فالإنسان يموت على ما عاش عليه، ولا تتصور مثلاً أن المؤمن الذي قضى حياته مؤمناً صادقاً عابداً قانتاً لله عز وجل مجاهداً في سبيله أنه يموت منحرفاً عن سواء السبيل، ولا تتصور أيضاً أن الذي قضى حياته منافقاً مخالفاً لله ورسوله عاصياً مجاهراً مضاداً للإسلام محارباً لـه، أن يموت وينطق بـ (أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله).
فالإنسان غالباً يموت على ما عاش عليه، والله تعالى على كل شيء قدير، والخواتيم بيد الله عز وجل، والأعمال بالخواتيم، لكن الغالب كما قرر ذلك أهل العلم كـابن القيم وغيره وهو الظاهر من النصوص الشرعية؛ أن ساعة الموت هي تلخيص أمين دقيق لما يكون عليه الإنسان في حالة حياته.
فرعون هذه الأمة أبو جهل روى الإمام أحمد في مسنده عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بسند فيه انقطاع ولكن رواه الطبراني بسند آخر متصل، وأصل الحديث في الصحيحين في صحيح البخاري وصحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لما انتهت معركة بدر قال: {من يذهب فينظر ماذا صنع
هذا أبو جهل الآن في رمقه الأخير وقد ضربه ابنا عفراء حتى برك، وأدركه ابن مسعود وبه رمق، فـأبو جهل الآن دماؤه -تسيل ورقبته قد قطعت أو كادت وهو يتشحط في أرض المعركة، فيم يفكر أبو جهل؟ فرعون هذه الأمة- قاتل الله من تكون حماسة أبي جهل لدينه أعظم من حماسته لدينه، فحماسة أبي جهل بالباطل وحماستك أنت بالحق، فـأبو جهل الآن مشغول يقول: لمن الدائرة اليوم؟ من الذي انتصر اللات والعزى أم محمد صلى الله عليه وسلم؟ ونقول: نحن صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقال ابن مسعود: لقد أخزاك الله يا عدو الله ونصر الله دينه وأولياءه وجنده وحزبه، فانـزعج أبو جهل لذلك.
هذا آخر سؤال تلفظ به، كان يفكر ويحمل هماً، لكن ما هو هذا الهم الذي يحمله فرعون هذه الأمة؟ إنه هم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، وما أطول العجب من هذا الموقف ما قرأته إلا تعجبت! سبحان الله! رجل كافر يعبد صنماً يعرف أن المسألة كلها كذب، وما منعه من الإيمان والإسلام إلا الغيرة، وإلا الحرص على مكانته ومكاسبه وسلطته ورياسته في قريش، فما الذي يجعله يقول: لمن الدائرة اليوم؟! ويتساءل وهو ميت الآن لا محالة!!
فكرت في ذلك طويلاً فلم أجد إلا أنني تذكرت أن اللاعبين الذين يتسابقون في ميدان الرياضة أحياناً إذا تسابقوا في السباق يسقط أحدهم ويكون شديد العناد والحماس، فإذا سقط تجد أن رجله تظل فترة طويلة وهي تتحرك حركة لا إرادية، كما لو كان يركض في الميدان وهو مسجى ملقى على ظهره، لماذا؟ إنها شدة العناد، إنها كبرياء الجاهلية وخيلاؤها وغرورها الذي اشتط بـأبي جهل حتى جعله على رغم ذلك الموقف الصعب الذي يعيشه يتساءل لمن الغلبة اليوم؟ لمن الدائرة؟ ألمحمد وأصحابه أم للات والعزى؟
فقام رجل ينظر ما فعل فكان يدور بين القتلى فرآه سعد بن الربيع فقال له: ماذا تفعل؟ قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعثني انظر ماذا فعلت؟ فقال: اقرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم مني السلام، وأخبره أني ميت، وأني قد طعنت اثنتي عشرة طعنة وأنفذت فيَّ فأنا هالك لا محالة، واقرأ على قومي مني السلام وقل لهم: يا قوم! لا عذر لكم إن خُلِصَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيكم عين تطرف، الله أكبر.
سعد بن الربيع يموت الآن ماذا يهمه من أمر الدنيا؟ ما سأل عن زوجته، ولا سأل عن أطفاله الصغار، إنما بلغ قومه هذه النصيحة وأن يسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول له: جزاك الله عنا خير ما جزى نبياً عن أمته، هذا من حقه علينا صلى الله عليه وسلم، وثانياً: يا معشر الأنصار والمهاجرين ليس لكم عند الله عذر إن تمكن المشركون من رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيكم واحد حي، وفيكم عين تطرف، قاتلوا دونه حتى تقتلوا عن آخركم وتستأصل شأفتكم.
فانظر كيف هو همّ سعد بن الربيع إنه همَّ الإسلام، لم يكن يربطه برسول الله صلى الله عليه وسلم نسب ولا قرابة إنما يربطه رابطة أنه يعلم أنه النبي الذي أنقذهم الله تعالى به من الضلالة، وبصرهم به من العمى، وهداهم به إلى طريق الجنة، فهو يعلم أن هذا النبي المختار له عليهم فضل أعظم من فضل الآباء والأمهات، وأن في بقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً للإسلام والمسلمين، فلذلك كان هذا همَّه وهذا شأنه حتى وهو يجود بنفسه رضي الله عنه وأرضاه.
فهذان شخصان: في معسكر الكفر أبو جهل وفي معسكر الإيمان سعد بن الربيع، وقد ظهرت همومهم وهم على فراش الموت ولا شك أن لكل منهما هم كبير يملأ قلبه ويؤرقه ويقلقه ويحركه.
أحدهما مؤمن تائب لكنه لا يزال يعيش بعض آثار الجاهلية، والآخر رجل جاهلي كافر قبل أن يبعث الله محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ولم يكن له خيلاء أبي جهل ولا غروره ولا غطرسته.
أما الأول منهما فهو: عبد يغوث الحارثي وكان في الجاهلية رجلاً شاعراً مشهوراً شجاعاً، أسرته قبيلة من القبائل المعروفة يقال لها قبيلة تيم الرباب، فلما أسروه هموا به فأمسكوا لسانه، وربطوه بنسعة خشية أن يهجوهم أو يقول فيهم شيئاً من الشعر، فلا يطلقونه إلا للأكل والشرب، فقال لهم: أطلقوا لساني حتى أهجو قومي فأطلقوا عنه لسانه، وقال: لهم اقتلوني قتلة كريمة، قالوا: ما هي القتلة الكريمة؟ قال: أن يسقوه خمراً، ويقطعوا أكحله فيدعوه ينـزف حتى يموت، ففعلوا به ذلك فلما بدأ دمه ينـزف وهو في غير صحوة وفي غير عقله تمثل أو قال أبياتاً من الشعر يقول:
ألا لا تلوماني كفى اللوم مابيا فما لكما في اللوم خير ولا ليا |
ألم تعلما أن الملامة نفعها قليل وما لومي أخي من شماليا |
فيا راكباً إما عرضت فبلغن نداماي من نجران ألا تلاقيا |
أبا كرب بني مالك والأيهمين كليهما وقيساً بأعلى حضرموت اليمانيا |
جزى الله قومي بالكلاب ملامة صريحهم والآخرين المواليا |
أقول وقد شدوا لساني بنسـعة أمعشر تيم أطلقوا لي لسانيا |
أمعشر تيم قد ملكتم فأسجحوا فإن أخاكم لم يكن من بوائيا |
والكلاب هو اسم تلك المعركة التي أسر فيها.
فهو يدعو على قومه سواء الذين هم صرحاء أو مواليه وموالي قومه.
بدأ هذا الرجل يتكلم عن مآثره، وعن الأشياء التي يفتخر بها في الجاهلية، هذا شعوره وهو الآن يلفظ نفسه ويغادر الدنيا، آخر فرصة قد ضاعت عليه الآن يقول:
وقد علمت عرسي مليكة أنني أنا الليث معدواً عليه وعاديا |
وقد كنت نحار الجزور ومعمل المطي وأمضي حيث لا حي ماضيا |
وأنحر للشَّرب الكرام مطيتي وأصدع بين القينتين ردائيا |
وكنت إذا ما الخيل شمصها القنا لبوقاً بتصريف القناة بنانيا |
مليكة هي زوجته.
مطيتي: يعني قومه ينحر لهم مطيته التي يركبها إذا لم يجد غيرها.
إلى آخر ما قال وأخيراً يقول مضى هذا كله وانتهى:
كأني لم أركب جواداً ولم أقل لخيلي كرى نفسي عن رفاقيا |
أو قال: "عن رجاليا".
فهذا نموذج لرجل كافر كل همه خمر وغانية وكأس وفخر بماضيه وتاريخه وشجاعته وكرمه إلى غير ذلك، انتهت حياته هكذا كأن لم يكن.
وفي مقابل هذا تجد الصورة الأخرى لرجل مسلم وهو مالك بن الريب، وكان لصاً أديباً بليغاً قاطعاً للطريق، فأبصره سعيد بن عثمان بن عفان رضي الله عنه وكان في غزوه إلى فارس، فأعجبه هذا الرجل في جماله وحسن أدبه وما أشبه ذلك، فسأله: لماذا تقطع الطريق؟ قال: ليس لدي مال، وأنا رجل كريم، ولا بد أن أكافئ الإخوان وأحيي الضيفان، فلذلك اضطر إلى السرقة وإلى قطع الطريق، فأكرمه وأعطاه مالاً كثيراً، فتاب الرجل وذهب معه إلى الغزو، فلما كان بـخراسان بات إحدى الليالي، فلما أراد أن يلبس خفه قيل إنه كان فيها حية فلدغته، فصار يتلوى ويتقلب من السم الذي في بدنه، ويقول هذه القصيدة المشهورة التي في مطلعها:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بجنب الغضى أزجي القلاص النواجيا |
ألم ترني بعت الضلالة بالهدى وأصبحت في جيش ابن عفان غازيا |
وأصبحت في أرض الأعادي بعيد ما أراني عن أرض الأعادي قاصيا |
فلله دري يوم أترك طائعا بَنِيَّ بأعلى الرقمتين وماليا |
إن الله يرجعني من الغزو لا أرى وإن قل مالي طالبا ما ورائيا |
يقول: إن نجوت لن أطلب شيئا حراماً، لن أطلب ما لا يرضي الله عز وجل.
فيظهر هنا مظهر من مظاهر توبته إلى الله عز وجل، وإنابته وصدقه وإيمانه ومعرفته بما يجب أن يكون عليه، ومع ذلك فثم مشاعر بشرية أخرى قالها في ذلك الموقف تدل على الآثار البشرية الموجودة عنده، وتدل على تعلقه ببعض أمور هذه الحياة، من ذلك مثلاً التعلق بالوطن وتذكر ذكريات الماضي في بلده، من ذلك ترديده لكلمة الغضى، وهو شجر موجودة في بلده كثيراً:
فليت الغضى لم يقطع الركب عرضه وليت الغضى ماشى الركاب لياليا |
لقد كان في أهل الغضى لودنا الغضى مزار ولكن الغضى ليس دانيا |
فكأنه يتلذذ بترديد هذه الكلمة لأنها ارتبطت في ذهنه وعاطفته ومشاعره، كما أنك تجده يقول:
دعاني الهوى من أهل ودي وصحبتي بذي الطبيسين فالتفت ورائيا |
أي: أنه تذكر بلاده وأرضه فحن إليها -هذا شعور بشري- لكن المسلم الحق يرتفع حتى على هذه المشاعر، كذلك التفكير فيمن يبكي عليها، هذا شعور يدل على ما يدل عليه يقول:
تذكرت من يبكي عليّ فلم أجد سوى السيف والرمح الرديني باكيا |
وأشقر محبوك يجر لجامه إلى الماء لم يترك له الموت ساقيا |
وبالرمل منا نسوة لو شهدنني بكين وفدين الطبيب المداويا |
فمنهن أمي وابنتاها وخالتي وباكية أخرى تهيج البواكيا |
وباكية أخرى: يقصد زوجته.
كذلك شعوره بالغربة والفراق وأن من حوله سوف يدعونه في قبره ويذهبون ولهذا يقول:
فيا صاحبي رحلي دنا الموت فانـزلا برابية إني مقيم لياليا |
أقيما عليّ اليوم أو بعض ليلة ولا تعجلاني قد تبين شانيا |
وخطا بأطراف الأسنة مضجعي وردا على جنبي فضل ردائيا |
ولا تحسداني بارك الله فيكما من الأرض ذات العرض أن توسعا ليا |
خذاني فجراني ببردي إليكما فقد كنت قبل اليوم صعباً قياديا< |
أخي الكريم إنك ميت لا محالة، أفيسرك أن تموت في حضن غانية على ما حرم الله؟ أم تحب أن تقبض روحك وأنت ساجد لله عز وجل وتقول: سبحان ربي الأعلى، يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك؟
هما طريقان ما للمرء غيرهما فانظر لنفسك ماذا أنت تختار |
الموت قدر الجميع يقول الله عز وجل: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185] ويقول سبحانه وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق:19].
تهرب منه وقال: قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الجمعة:8].
وقال: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [ق:22] لا مجال للعب واللف والدوران والخداع، الميت صادق واضح صريح لا يمكن أن يقول إلا الحق، لأن الأمور قد تكشفت له، فهو يرى الملائكة ويرى الحقائق التي كان ينكرها ويجادل فيها بالأمس، يراها اليوم عياناً لاشك فيها فيقال له: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [ق:22] حاد ظاهر لا إشكال فيه.
حكم المنية في البرية جار ما هذه الدنيا بدار قرار |
بينا يرى الإنسان فيها مخبرًا حتى يرى خبراً من الأخبار |
طبعت على كدر وأنت تريدها صفواً من الأقذاء والأكدار |
ومكلف الأيام ضد طباعها متطلب في الماء جذوة نار |
وإذا رجوت المستحيل فإنما تبني الرجاء على شفير هار |
والعيش نوم والمنية يقظة والمرء بينهما خيال سار |
والنفس إن رضيت بذلك أو أبت منقادة بأزمة المقدار |
فاقضوا مآربكم عجالاً إنما أعماركم سفر من الأسفار |
وتراكضوا خيل الشباب وبادروا أن تسترد فإنهن عوار< |
ومن وصيته صلى الله عليه وسلم وهو يموت: {أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم} وأمر بإنفاذ جيش أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنه وأرضاه وعمر رضي الله تعالى عنه كان من وصيته وهو يموت أن دخل عليه شاب فرأى في ثوبه طولاً كما في صحيح البخاري، رأى ثوبه مسبلاً فقال: [[ ردوا علي الغلام، فلما رجع قال: يا ابن أخي: ارفع إزارك فإنه أنقى لثوبك وأتقى لربك]] لم يلهه ما هو فيه عن مثل هذه النصيحة الثمينة الصادقة لوجه الله عز وجل أبو الدرداء رضي الله عنه لما نـزل به الموت تلفت إلى من حوله وقال: [[ ألا رجل يعمل لمثل ساعتي هذه، ألا رجل يعمل لمثل مصرعي هذا]] -يقول اعتبروا بي، وكأنكم معي فأنا وأنتم طلبنا الرجعة، فأنا لم أرجع وأنتم رجعتم فماذا أنتم عاملون؟- يقول: [[ ألا رجل يعمل لمثل مصرعي هذا، ألا رجل يعمل لمثل ساعتي هذه ]].
كما كان من دعائه صلى الله عليه وسلم أنه يقول:{ اللهم أعني على سكرات الموت، اللهم أعني على سكرات الموت} وقل مؤمن نـزل به كرب الموت إلا وهو يرفع رأسه بالدعاء لله عز وجل لأن الإنسان لا يكون في حال أفقر ولا أشد انكساراً وضعفاً وذلاً وعجزاً منه في ساعة الموت.
ومن عجيب ما يذكر في قضية تعزية الإنسان من وراءه بقوله أو بفعله، أنهم ذكروا عن الاسكندر الذي جاب الدنيا وملك الأرض أو كثيراً من بلدانها، أنه كتب إلى أمه رسالة يقول فيها: " إذا جاءك خبر موتي ونعيي فإنني أريد أن تكوني أماً لا كألامهات، كما أنني كنت ملكاً لا كالملوك، أريد أن تبني مدينة فإذا نـزل بي الموت فابعثي إلى الأمصار شرقها وغربها أن يوافوك في يوم معين في هذه المدينة للسرور والأكل والشرب، ليكون مأتمي سروراً حيث كان مأتم غيري حزناً وهماً، وقولي لهم: لا يوافيك في ذلك اليوم أحد أصابته مصيبة قط، لا يوافيك إلا المسرورون أما الحزانى فليبقوا حيث هم ".
فلما مات الاسكندر الأكبر أوصت أمه وكتبت إلى الأمصار أن يحضروا فجلست تنتظر فلم يحضر إليها أحد، فقالت: أين الناس؟ قالوا لها: إنك قلت: لا يحضر في هذا اليوم أحد قد أصيب بمصيبة وما من إنسان إلا ونـزلت به مصيبة أمس أو اليوم أو قبل أمس، فقالت لولدها: لقد عزيتني بعد موتك بموتك، أي: أنه قصد أن يقول لها: لست وحدك التي نـزلت بك مصيبة، كل الناس نـزلت بهم مصائب فاصبري وتعزي وكما كانت تقول الخنساء:
فلولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي |
وهذا حصل لكثير، منهم عبادة بن الصامت رضي الله عنه وأرضاه لما نـزل به الموت قال: [[أخرجوني إلى صحن الدار فأخرجوه، فقال: اجمعوا لي من هاهنا من أولادي وخدمي وجيراني وأهلي، فجمعوهم، فتحلل منهم، وقال: إنه قد يكون قد فرط مني إليكم إساءة بقول أو فعل، وهو والله الذي لا إله غيره يوم القيامة القصاص فمن كان له حق عليَّ فأقسمت بالله عليه إلا يأخذ حقه مني الآن قبل يوم القيامة فبكوا جميعاً وقالوا: بل والله كنت والداً، وكنت براً، وكنت مؤدباً فقال لهم: ألا تطالبوني بشيء؟قالوا: نعم، قال: اللهم فاشهد اللهم فاشهد]] وفاضت روحه رضي الله عنه وأرضاه وهو مطمئن إلى أنه لا أحد من الناس يطالبه بحق أمام الله تعالى يوم القيامة.
وكذلك الإمام الشافعي رحمه الله لما نـزل به الموت، استغفر الله تعالى، ثم قال ودموعه تتحادر على لحيته:
ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي جعلت الرجا مني لعفوك سلما |
تعاظمنى ذنبي فلما قرنته بعفوك رب كان عفوك أعظما |
فما زلت غفاراً عن الذنب لم تزل تجود وتعفو منَّةً وتكرما |
فلولاك لم يصمد لإبليس عابد فكيف وقد أغوى صفيك آدما |
فلله در العارف الندب إنه تفيض لفرط الوجد أجفانه دما |
يقيم إذا ما الليل مد ظلامه على نفسه من شدة الخوف مأتما |
فصيحاً إذا ما كان في ذكر ربه وفيما سواه في الورى كان أعجما |
ويذكر أياماً مضت من شبابه وما كان فيها بالجهالة أجرما |
فصار قرين الهم طول نهاره أخا السهد والنجوى إذا الليل أظلما |
يقول إلهي أنت سؤلي وموئلي كفى بك للراجين سؤلا ومغنما |
ألست الذي غذيتني وهديتني ولا زلت منانا عليَّ ومنعما |
عسى من له الإحسان يستر زلتي ويغفر أوزاري وما قد تقدما |
ثم فاضت روحه رحمة الله تعالى عليه.
ومن أعجب ما يكون للمؤمنين عند الموت الترحيب بالموت يقول محمد إقبال:
آية المؤمن أن يلقى الردى باسم الوجه سروراً ورضا |
هل رأيت أحداً يفرح بالموت؟! نحن ما رأينا لكننا قرأنا في الكتب وسمعنا بالأسانيد الجياد المتصلة؛ أولئك الرجال الذين ربطوا قلوبهم بالدار الآخرة، وتعلقت نفوسهم برفقة الحق التي طالما جاهدوا معها، وكابدوا وعاشوا الصعاب، فكان الواحد منهم يحن إلى لقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول: [[اليوم ألقى الأحبة محمداً وصحبه]].
هذا حذيفة رضي الله عنه لما نـزل به الموت قال: [[يا مرحبا بالموت حبيب جاء على فاقة، لا أفلح من ندم، لا أفلح من ندم، الحمد الله الذي سبق بي الفتنة قادتها وعلوجها، أعوذ بالله من يوم صباحه إلى النار]].
وهكذا تمنى الموت وفرح به وقال: لا أفلح من ندم، ولاشك أن الإنسان بطبعه يكره الموت، وقد قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، كلنا يكره الموت، كما في حديث عائشة وأبي هريرة رضي الله عنهما.
عبد الله بن عمر رضي الله عنه ندم عند الموت يقول: [[ما آسى من الدنيا على شيء إلا على ثلاثة أحدها: ظمأ الهوا جرا (صيام كان يصومه ولم يعد يصومه) ومكابدة الليل، ومراوحة الأقدام بالقيام لله عز وجل ولم يقاتل تلك الفئة الباغية التي نـزلت ]] ولعله يقصد الحجاج ومن معه، وهذه هي الثلاثة التي ندم عليها من الدنيا.
ودخل معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه على أبي هاشم بن عتبة وهو ضعيف فبكى أبو هاشم بن عتبة فقال له معاوية رضي الله عنه: ما يبكيك أوجع يشئزك -يعني يشدك- أم على الدنيا تبكي فقد ذهب صفوها وبقي كدرها، فلم يعد هناك ما يوجب أنك تبكي عليه، فقال أبو هاشم: لا أبكي على الدنيا ولا أبكي من وجع، إنما عهد إليَّ النبي صلى الله عليه وسلم عهداً فوددت أني كنت اتبعته، قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: {إنك لعلك أن تدرك أموالاً تقسم بين أقوام وإنما يكفيك من الدنيا زاد ومركب} قال: فأدركنا فجمعنا، يقول ما أبكي الآن على الدنيا، إنما جمعت مالاً تمنيت أني لم أكن جمعته.
ومما يذكر في الأسف أيضاً على ما فات: موقف حصل لشاعر وعالم وداعية معاصر وهو الشيخ مصطفى السباعي أحد دعاة الإسلام، وقد قال قصيدة طويلة قبل أن يموت بخمس دقائق حينما صارحه الأطباء باليأس من شفائه، وكان خلفه صبية صغار وأهل وأم وزوج؛ فقال قصيدة يبكي فيها نفسه ويتأسف على من وراءه:
أهاجك الوجد أم شاقتك آثار كانت مغاني نعم الأهل والدار؟! |
وما لعينك تبكي حرقة وأسى وما لقلبك قد ضجت به النار |
على الأحبة تبكي أم على طلل لم يبق فيه أحباء وسمار |
وهل من الدهر تبكي سوء عشرته لم يوف حقاً ولم يهدأ له ثار |
هيهات يا صاحبي آسى على زمن ساد العبيد به واقتيد أحرار |
أو أذرف الدمع في حِبِّ يفارقني أو في اللذائد والآمال تنهار |
فما سبتني قبل اليوم غانية ولا دعاني إلى الفحشاء فجار |
أَمَت في الله نفساً لا تطاوعني في المكرمات لها في الشر إصرار |
وبعت لله دنيا لا يسود بها حق ولا قادها في الحكم أبرار |
وإنما جزعي في صبية درجو غُفْلٍ عن الشر لم توقد لهم نار |
قد كنت أرجو زمانا أن أقودهم للمكرمات فلا ظلم ولا عار |
واليوم سارعت في خطوي إلى كفن يوماً سيلبسه بر وفجار |
هيهات يا صاحبي آسى: يقول لا آسي ولا أبكي ولا أحزن على الحياة نفسها.
فما سبتني قبل اليوم غانية، يقول: لم يسبق يوماً من الأيام أن سبتني امرأة جميلة أو أخذت عقلي أو لبي، من يستطيع أن يقول: هذا؟! جلست قبل أسبوع أو أسبوعين إلى شيخ كبير السن في الخامسة والتسعين من عمره تقريباً فقال لي: والله ما أذكر أن الله تعالى سوف يسألني عن ذنب ارتكبته، سبحان الله! رجل في مثل هذا السن يطمئن إلى أنه لم يرتكب ذنباً، كلنا ذوو أخطاء لكن المقصود الفواحش والذنوب الكبار، إلا أنه لا يذكر أن الله سوف يسأله أنه سرق أو ارتكب ما يسخط الله عز وجل، قليل من الناس من يستطيع أن يطمئن إلى هذا الأمر، بل كل واحد منا يذكر أنه قد تلطخ بذنوب وأوزار، نسأل الله تعالى أن يسترها علينا وألا يفضحنا في هذه الدار ولا في دار القرار.
وإنما جزعي: هاهنا يتكلم عن الأسى والأسف على شي وراءه.
ثم يخاطب هؤلاء الصبية الصغار معزياً ومسلياً ومثبتاً لهم فيقول:
بالله يا صبيبتي لا تهلكوا جزعاً على أبيكم طريق الموت أقدار |
تركتكم في حمى الرحمن يكلؤكم من يحمه الله لا توبقه أوزار |
وأنتم يا أهيل الحي صبيتكم أمانة عندكم هل يهمل الجار |
وما نصيب الأم والزوجة والإخوة:
أفدي بنفسي أُماً لا يفارقها هم وتنهار حزناً حين أنهار |
فكيف تسكن بعد اليوم من شجن يا لوعة الثكل ما في الدار ديار |
وزوجة منحتني كل ما ملكت من صادق الود تحنان وإيثار |
عشنا زماناً هنيئاً من تواصلنا فكم يؤرق بعد العز إدبار |
وإخوة جعلوني بعد فقد أبي أباً لآمالهم روض وأزهار |
أستودع الله صحباً كنت أذخرهم للنائبات لنا أنس وأسمار |
زينة الحياة الدنيا: جلساء صالحون.
الملتقى في جنان الخلد إن قبلت منا صلاة وطاعات وأذكار |
ثم مات رحمه الله بعد هذه القصيدة بقليل.
إن الإنسان إن ملأ حياته بالخير كان همه آنذاك هم خير، وإن ملأ حياته بهموم الدنيا ومشاغلها كان حاله كأولئك الذين والعياذ بالله ختم لهم بخاتمة السوء.
وقد ذكر العلماء منهم كثيراً لم أرد أن أذكر منهم شيئاً، فقد أحببت أن يكون جل ما ذكرته ما يعانيه المؤمنون وما يفكرون أو يشعرون به في مثل ذلك الموقف العصيب، لعل الله عز وجل أن يجعل هذا فألاً حسناً فنكون جميعاً ممن يختم الله تبارك وتعالى لهم بخاتمة السعادة، إنه على كل شيء قدير.
الجواب: من قال لك أن حزنك وألمك لن يغير شيئاً من مآسي المسلمين ومصائبهم، أصلاً لن تتغير مآسي المسلمين ومصائبهم إلا إذا وجدت قلوب تحزن فتملي على العقول أن تفكر، وتدفع الأبدان إلى أن تعمل، فالقلب هو المحور الذي يحرك العقل، ويحرك البدن إلى التفكير وإلى العمل، وما لم نملك القلوب التي تحزن بمصاب المسلمين، فمعناه أننا لن نملك قلوباً تفكر، ولن نملك أبداناً تعمل، إذاً مطالبتنا بالحزن ليس لذات الحزن، ولكن لأنه يحركك إلى التفكير الصحيح وإلى العمل الصحيح.
الجواب: الذي ذكرته ليس من الشرع، فليس إحياء الموالد من الشرع، ولا كذلك تعليق التمائم التي في كثير من الأحيان تكون تمائم بدعية غير شرعية وإنما مقصودي أن هذا الفهم هو فهم كثير من المسلمين، وهذا تصورهم ونصيب الإسلام منهم في ظنهم، وإلا فإن هذا وذاك ليس من الإسلام في شيء، أما بالنسبة للموالد فلا شك أنها بدعة، أما بالنسبة لتعليق التمائم ففيه كلام طويل معروف لأهل العلم.
الجواب: شعورك نحو الإسلام جيد هذا أمر مطلوب، لكن لا شك أن بر الوالدين والإحسان إليهما هو من الإسلام ومن برهما أن يحبهما الإنسان من كل قلبه، فإن حق الوالدين هو من أعظم الحقوق، وقد قرن الله تعالى حقهما مع حقه فقال: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ [لقمان:14] وقال تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً [الإسراء:23] وعلى الإنسان لكي يعرف حق الوالدين ويملأ قلبه بحبهما أن يتلطف مع والديه في المعاملة، ويعرف أنهما كبيران في السن، وربما يكونان من جيل آخر غير الجيل الذي هو منه، تفكيرهم غير تفكيره وتصوراتهم غير تصوراته، آراؤهم مختلفة، وأحياناً لغتهم قد تكون مختلفة في بعض الأمور.
فلا ينتظر الإنسان من والده أو من أمه أن تكون مثله في النظر والتفكير والتصور والتصرف وما أشبه ذلك، فلا يطلب من والديه إلا ما يناسبهما وما هو في طوقهما، ثم إن على الإنسان أن لا يُرادَّ والديه في الكلام والجدل والخصومة، بل أن يأخذ منهما ما أتى عفواً ويرد عليهما بالكلام الطيب مثل: جزاكم الله خيراً، عفا الله عنك، أحسن الله إليك، وفقك الله، وغفر الله لك، وما أشبه ذلك، ثم عليك بالكلام الطيب: صبحك الله بالخير ومساك الله بالخير.
كيف أصبحت كيف أمسيت مما يغرس الود في فؤاد كريم |
كما قال تعالى: وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الإسراء:53]
فلو أن الإنسان عود نفسه {والخير عادة} -كما جاء في الحديث- عود نفسك أنك تقول الكلام الطيب لوالديك، كلمة طيبة تنفعك في الدنيا والآخرة وتحسّن علاقتك بوالديك؛ بحيث أنه يعتاد لسان الإنسان أن لا يقول لوالديه إلا الخير، ولا يرفع صوته عليهما بحال من الأحوال.
وكذلك يحسن إليهما، يقبل رأس الوالد أو الوالدة، يقدم لهما من الطعام ما يستطيع، يخدمهما، ويحقق لهما ما يطلبانه، يكون رهن إشارة والديه، هذا جزء من الواجب الذي يمليه عليك دينك.
الجواب: في الواقع أن هذا هو نفس الكلام الأول، فالبنت عمرها سبع عشرة سنة أو ثماني عشرة سنة، والأم في الخمسين أو الستين، تفكير الأم غير تفكير البنت، ونشأة الأم غير نشأة البنت، قد ترى الأم شيئاً خطأ والبنت تراه صواباً، وقد ترى البنت شيئاً خطأ وتراه الأم صواباً، فليس معقولاً أن تطلب البنت من أمها أن توافقها على رأيها وعلى تصرفها، بل عليها أن تتنازل لها عن أشياء كثيرة، تمرر بعض الأمور بطريقتها الخاصة وبالحكمة وباللطف، ولا تكون القضية قضية جدل ومواجهة؛ لأن الإنسان إذا واجه والديه بالجدل والخصومة والكلام يفرط منه لسانه، وقد يقول ما لا يرضى أن يقوله وقد يندم على ذلك فيما بعد، لكن لو عوَّد نفسه أن لا يطلق للسانه العنان بكلام مع والديه فإنه يرتاح حينئذٍ كثيراً.
الجواب: في الواقع أنه لا تعارض، والوقت فيه بركة، وفيه خير كثير متى اغتنمه الإنسان وحرص على أن يملأه بالجليل المفيد من الأعمال، فالعمل للدين والدعوة إلى الله عز وجل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يمكن أن يخصص لها الإنسان وقتاً.
أريد أن أسأل نفسي وأسألكم: من هو منا الذي قرر أن يخصص يومياً ساعة ونصف للعمل للإسلام أو ساعتين فقط للعمل للإسلام؟ وهذا يكفي، وخير كثير أي لو فرضنا أنك خصصت للدعوة إلى الله ساعتين من أربع وعشرين ساعة، بمعنى أنه يكفينا منك واحد من إثنى عشر، أي أقل من عشر حياتك تخصصها للدعوة إلى الله تعالى، فتملؤها بدعوة، بزيارة، بأمر بمعروف، بنهي عن منكر، بمقالة، بشيء تعتقد أنه ينفع الإسلام والمسلمين، هذا العمل ليس بالسهل؛ لأنه إذا خصص الواحد منا ساعتين بمعنى أنه إذا كان عندنا عشرة آلاف كلهم خصصوا ساعتين؛ أننا خصصنا في اليوم والليلة عشرين ألف ساعة لخدمة الإسلام، رقم خيالي مع أنه بالنسبة لكل واحد منا ممكن.
الجواب: لا شك أن هذا أيضاً من واجبنا جميعاً، فهؤلاء الشباب الصغار أو حتى الشباب المنحرفون على قارعة الطريق وفي أماكن تجمعات الشباب- كما جاءني في سؤال آخر- الشارع الأصفر أو الأخضر أو الأبيض أو الأزرق أو غيرها من الشوارع التي تأتي غداً أو بعد غد، هؤلاء الشباب الذين يفترشون تلك الشوارع أو يجلسون في مخيمات أو غيرها، أو في الأندية من لهم؟ غير صحيح أن الإنسان يشتغل أحياناً بفضول العلم ويتنطع ويتوسع ويدقق في أمور قد لا يجتاج إليها طول عمره، وقد لا يحتاج إليها المسلمون أيضاً؛ ويغفل عن واجب القيام بالدعوة إلى الله سبحانه وتعالى.
ومثل ذلك ما يقع في المراكز الصيفية: -مثلاً- فيها كثير من الشباب على سبيل الهداية مبتدئون أو صغار السن، أو ربما يكون عند بعضهم انحراف، فهم محتاجون لمن يأخذ بأيديهم ويوجههم، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول لـعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: {والله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حُمْر النعم}.
وإنسان عنده علم قليل نفع الله به كثيراً من الناس خير وأحب إلينا من إنسان عنده علم كثير ولكن لم ينتفع الناس بعلمه ذاك، شأنه في ذلك شأن إنسان عنده مال كثير ولكن هذا المال موجود في البنوك لا يخرجه أبداً؛ فهذا لا ينفعنا، وأحسن منه وأبر وأجود إنسان آخر عنده مال قليل ولكنه يبذله بقدر المستطاع في أعمال الخير.
الجواب: لا شك أن الإنسان ينبغي أن يبدأ بما يعلم، فلا يهجم على أمور لا يحسنها في الدعوة إلى الله تعالى، أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإنما يبدأ بما يعلم، وتكون بدايتة بقدر علمه، ويحسن بالإنسان حينئذٍ أن يكون مع آخرين يساعدونه على التعرف على طرق الدعوة وأساليبها؛ لكي لا يقع أو تزل به قدم أو يدعو إلى أمر يظن بأنه خير وليس كذلك.
ومن أساليب الدعوة: المصاحبة، أي: أن تدعو زميلك وصديقك إلى الله سبحانه وتعالى، وتأمره بالخير وتنهاه عن الشر، تدعو أخاك في المنـزل وتأمره بإقامة الصلاة، وتقرب له أسباب الخير، تعطيه الكتاب النافع والشريط النافع، تدعو أختك حتى الصغار من إخوانك أبناء تسع سنوات وعشر سنوات، تجعل لهم درساً في البيت أو حلقة، تعلمهم كيف يُصلَّون كيف يتوضئون، تخبرهم ما هو عذاب القبر، ما هو عذاب الآخرة، مَنْ الذين يعذبون، مَنْ هم أهل الجنة، مَنْ هم أهل النار، تذكر لهم أخبار الصحابة الصحابيات وغير ذلك، يستفيدون من وراء ذلك شيئاً عظيماً، فالدعوة أمر ميسور كل إنسان بحسبه.
الجواب: هذا من الأسئلة القيمة العميقة وفي الواقع أنه يتفق مع هذا المفكر في أشياء كثيرة واختلف في أشياء أخرى، أما بالنسبة لكتاب مشكلة الثقافة فيحتاج إلى قراءة متأنية.
الجواب: إذا لم تكن أنت المسئول فمن المسئول إذاً؟ وإذا كنت تعلق الأمل على بقية المسلمين فما رأيك أن المسلمين أنفسهم يعلقون الأمل عليك وعلى أمثالك؟ ولو أن كل واحد منا علق الأمل على غيره ما صنعنا شيئاً، وما لم نتخلص من هذه المشاعر المحبطة التي ترمي بالمسئولية على غيرهما، فلن يقوم للمسلمين قائمة ولن يتغير للمسلمين حال.
الجواب: بالنسبة للآباء الذين يسمعون ويدركون، لا شك أن واجبهم أن يساعدوا أبناءهم على القيام بالدعوة إلى الله، فأي توفيق يوفق إليه الأب أن يكون ابنه مستقيماً، حين ينحرف الشباب، وأن يكون ابنه داعية إلى الله في حين يكون أبناء بعض جيرانه أو أقاربه دعاة على أبواب جهنم، هذا من توفيق الله تعالى للأب، ومن الخير والبر الذي ساقه الله تعالى إليه، وأقل واجب عليه هو أن يدع الابن وسبيله، بل واجبه أعظم من ذلك، أن يساعد ويسدد ويؤيد الابن في طريقه ذاك.
لكن إذا كان الأب لايدرك هذا الأمر هنا يأتي دور الابن نفسه؛ أنه عليه أن يتلطف مع والده ويتحيل في الوصول إلى ما يريد وأن يبتعد عن مواجهة الأب قدر المستطاع، فإن الإنسان إذا كان حكيماً واسع الصدر هادئ النفس لين الكلمة ذا أخلاق فاضلة يستطيع أن يحصل على كل ما يريد، وهذا أقوله من خلال تجارب كثيرة جداً، وكثيراً ما يكون الإنسان نفسه هو الذي حال بين نفسه وبين ما يريد؛ بسبب سوء خلقه أو قسوته في قول أو فعل أو عبارة أو تصرف غير جيد، ليس من الحكمة أن تقول لوالدك: والدي يمنعني من الذهاب إلى الجهاد؛ إذاً الجهاد فرض عين ولن أستشيره في ذلك، وبعد يومين تتصل بوالديك من بيشاور تقول له: أنا هنا سوف أجاهد في سبيل الله، ترضى أو تسخط ليس هذا من حقوق أبيك وأمك عليك، وغداً تقول: طلب العلم من الواجب وفرض العين ولا استشير فيه والدي، فتذهب هنا أو هناك دون أن يعلم والدك بذلك أصلاً فضلاً عن أن تكون استشرته، وبعده تقول: الدعوة واجب لا استشيره.
فصار الأب يشعر بأنك ليس لك به أي علاقة وربما عرف بعض أسرارك وأحوالك عن طريق الناس، هذا ليس صحيحاً بحال من الأحوال.
الجواب: كيف لا، سواء كانت هذه مقالة أم قصيدة كما قرأت عليكم نموذجاً، فإنه يحتذى بالقصائد التي تعبر عن هموم المسلمين ومآسيهم، كل ذلك من المشاركة في محاولة خروج المسلمين مما هم فيه.
الجواب: لا بد أن يوجد في هذه المدينة داعية نذر نفسه لإحياء تلك المدينة أو هذه المنطقة، لا مانع أن يسكن فيها، فإن لم يمكن أن يسكن فيها فليتردد عليها بين وقت وآخر، ويجعل فيها درساً للعلم، درساً للقرآن، درساً لتعليم الكبار، ودرساً لتعليم الصغار.
وإن أمكن أن يكون خطيباً، وينشر بينهم الكتب الصغيرة والرسائل الصغيرة، والأشرطة المفيدة، وليتخصص في هذه المنطقة إن كان من أهلها أو كان قريباً منها حتى يكتب الله تعالى له أجر من اهتدوا فيها، وإذا انتفع الناس به هناك، ورأى إيمانهم وعلمهم وانتشار الخير لا مانع أن ينتقل بعد ذلك إلى منطقة أخرى، ويترك أمر هذه المنطقة لأهلها.
الجواب: لا أعتقد أن هذا الأسلوب هو الأسلوب الذي تستطيع أن تفعله الآن، فالمسلمون في حال ضعف وليس هذا الأسلوب لائقاً ومناسباً لهم، ولو كان في المسلمين قوة لمنعوهم من القيام بمثل هذا، ولكن الأسلوب الذي تستطيع به أن تواجههم هو أن تقوم أنت بالدعوة المضادة، فإن البيئة إسلامية، والناس هنا وهناك أصلهم مسلمون، وهم إجمالاً من أهل لا إله إلا الله، والشرك والكفر الموجود عند بعضهم دخيل عليهم، ومتى سمعوا داعي الله تعالى وجدوا من يستجيب لهم، وهذا أمر مجرب لست أنت أول من جربه، ولذلك عليك أن تقوم بالدعوة المضادة، تدعو إلى الله عز وجل بالحكمة والموعظة الحسنة، وتجمع الشباب على كلمة لا إله إلا الله، وعلى طلب العلم النافع، وعلى دعوة الناس، وعلى وعظهم وترغيبهم فيما عند الله عز وجل، وستجد بعد ذلك أن هؤلاء النصارى وغيرهم يرحلون، ليس لأنك أحرقت مساكنهم وآذيتهم، ولكن لأنهم شعروا بأن الجو غير مناسب لهم ولا أحد يستجيب لهم هناك.
الجواب: كلا، ليس هذا من النفاق، فإن الإنسان إذا سمع الوعظ والتذكير كانت هذه أشبه ما تكون بالسياط التي تحمي ظهره فهي تحرك قلبه وتدفعه إلى الخير، فإذا ذهب بعد ذلك تغيرَّ حاله، وضعف بعض الشيء، ولكن عليه أن يجاهد نفسه وأن يكون دائماً وأبداً على حال من الحماس للإسلام والرغبة في خدمته.
الجواب: نعم، يجب أن يكون مع شعورك علم وإخلاص لله عز وجل، يجب أن تكون متخلصاً من العقد النفسية، وأعني بالعقد النفسية: كل ألوان التعصب لغير الحق، لا تكن متعصباً إلا للحق، يجب أن يكون ولاؤك لله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يكون رائدك الكتاب والسنة لا غير، فحبك للناس بقدر قربهم من الكتاب والسنة، وبغضك لهم بقدر بعدهم عنهما، وقبولك لشيء لأنه يوافق الكتاب والسنة، وردك له لأنه يخالف الكتاب والسنة، وعملك فيما يوافق الكتاب والسنة، وتركك لما نهى الله عنه ورسوله صلى الله عليه وسلم، وتقيس كل الأشخاص والأعمال والأفكار والمؤسسات والجمعيات والجماعات والنشاطات والأمور كلها دقيقها وجليلها وكبيرها وصغيرها قريبها وبعيدها، تقيسه بمقياس واحد لا تقبله إلا بشاهدي عدل من الكتاب والسنة أو من أحدهما، لا تتعصب لشخص، ولا لراية، ولا لاسم، ولا لبلد، ولا لقبيلة، ولا لشيء، ينبغي أن تتحرر من كل ألوان التعصب، والكلام في هذا الموضوع لعل له مناسبة أخرى.
الحكمة في رد الفعل لسماع خبر أو موقف مضاد للإسلام والمسلمين؛ فليست القضية قضية ردود أفعال، قد يسمع إنساناً خبراً فيكون عنده ردة فعل مباشرة وقد يكون قوياً؛ لكن سرعان ما ينتهي الأمر ويعود هذا الإنسان كما كان.
نحن نريد قلباً يحمل شعوراً طويلاً مستمراً للإسلام والمسلمين وليس شعوراً وقتياً ولو كان هذا الشعور قوياً.
الجواب: فيها الكتاب الذي ذكرته هذا، وهناك كتاب آخر له رؤية إسلامية في أوضاع العالم الإسلامي المعاصر، وهي من الكتب القليلة التي تتحدث عن هذا الموضوع وللأستاذ محمد محمد حسين رحمه الله كتب مفيدة، منها كتاب حصوننا مهددة من داخلها وكتاب الإسلام والحضارة الغربية وكتاب الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر، وهناك بعض الكتب لا تحضرني الآن.
الجواب: هذا الأخ قام بمشاركة إيجابية في تنبيه الأخوات على خطأ ينبغي ألا يظهر ولا يوجد مرة أخرى، وينبغي أن لا يكون هناك ما يدعو إلى مثل هذه الملاحظة، أي أن الأخوات ينبغي عليهن عند خروجهن أن يكن متحفظات متسترات فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان}.
وما أجمل بالفتاة أن تحرص إن خرجت لما لا بد من الخروج له، أن تكون متسترة بلباس لا يكون هو بذاته زينة، فربما بعض الفتيات تلبس العباءة أو ما يسمى بالكاب، وقد رأيت نماذج منها أحضرها لي بعض الشباب، فيها من ألوان التطريز والفتنة والإثارة الشيء الكثير؛ حتى ربما يكون عدمها خير من وجودها، والمقصود من لبس العباءة أو غيرها مما يستر المرأة، المقصود به البعد عن الإثارة وليس الإثارة، فليس صحيحاً أن تتستر الأخت المسلمة بثوب يكون هو زينة في نفسه، وقل مثل ذلك بالنسبة للكعب العالي؛ فإن الكعب إذا كان خارجاً عن المألوف عن حد الاعتدال؛ فإنه لا يصلح ولا يجدر بالفتاة المسلمة لبسه، وقد ذكرت كلاماً لبعض الأديبات والمربيات في فتوى سئلت فيها عن هذا ربما يطلع عليها في غير هذا الموضع.
الجواب: هو يستطيع أن يعمل شيئاً كما ذكرنا ولو بكلمة طيبة ولو بدعوة صادقة، يستطيع أن يعمل ولا أحد لا يستطيع أن يعمل؛ اللهم إلا الموتى.
الجواب: يا أخي تقول: إنك مقصر في العبادة وترى ذلك عائقاً عن الدعوة إلى الله، ألا تعرف أن الاهتمام بشؤون المسلمين عبادة، والاشتغال بقضاياهم من أهم العبادات بل هو من العبادات التي يتعدى نفعها إلى غيرك، والعبادات التي يتعدى نفعها إلى غيرك هي أعظم أجراً وبراً عند الله تعالى متى قارنها الإخلاص من العبادات المقصورة على صاحبها، فينبعي أن يكون في اهتمامه بقضايا المسلمين يشعر بأنه متعبد في محرابه لله عز وجل، وأنه يقوم بعبادة من أعظم وأجلّ العبادات، كما أن عليه أن يسدد نقصه إن كان مقصراً في نوافل العبادات من صلاة وصيام وزكاة وحج وغير ذلك.
الجواب: ينبغي أن تجاهد نفسك على هذا الأمر، وإنه ليسرني بأن تحس أن هذا خطأ يجب عليك أن تتخلص منه، ولا شك أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر أن التخلف عن صلاة الفجر ليس من سيما المؤمنين، بل يخشى على الإنسان إذا تخلف أن يساء به الظن، ولذلك عليك أن تعتبر من همك وشعورك تجاه الإسلام والمسلمين أن تصلي الفجر مع الجماعة، لأن من حسن أحوال المسلمين أن تمتلئ مساجدهم في صلاة الفجر بالمصلين، ومن سوء أحوالهم وأوضاعهم أن يكون المصلون في مسجد من المساجد أربعة أو خمسة صفوف ثم لا يصلي الفجر منهم إلا صف أو أقل من ذلك، أو نحوه بقليل أو قريباً منه، هذا من سوء أحوال المؤمنين؛ فإنك إن أحسست بهموم المسلمين وأحزانهم وآلامهم أدركت أن من أسباب تخلفهم تقصيرهم فيما أوجب الله تعالى عليهم، ومن ذلك تقصيرهم في الصلاة، فيا ليتك -أخي الحبيب- تجعل من الأعمال التي تقدمها لنفسك ولغيرك أن تحرص على صلاة الفجر في جماعة ما استطعت، وتبكر في النوم ليلاً إن كان ذلك يساعدك وتضع المنبه وتطلب من أهلك إيقاظك على ذلك وتنام على طهارة، وتقرأ الأوراد المذكورة في الأحاديث في أوراد النوم، حتى تغلبك عينك وأنت تذكر الله عز وجل وتصدق النية حتى يعينك الله تعالى على ذلك.
الجواب: هذا في الواقع من الأسئلة التي سرتني؛ لأننا نريد مثل هذا النمط من التفكير، ومثل هذا النوع من التفكير، ومثل هذه الأسئلة، نعم، أنا لا أستطيع أن أرتب الأولويات في محاضرة فضلاً أن أرتبها في دقيقة، ولكنني أقول: وجود هَمٍّ عندك لقضايا الإسلام لا يعني أنك سوف تشتغل بكل هذه القضايا، لكن يعني أنك أدركت أن هناك واقعاً ينبغي تغييره ثم وضعت قدمك في الطريق، فالذي يدرس القرآن اعتبر أنه نفع المسلمين، والذي يعلم العلم الشرعي أعتبر أنه نفع الإسلام والمسلمين، والذي يؤم الناس في صلاة الجماعة نفع المسلمين، والذي يخطب بهم في يوم الجمعة نفع المسلمين، والذي يدرس أبناءهم الدروس النافعة من العلوم الشرعية نفع المسلمين، والذي يتبرع بماله نفع المسلمين، والذي يأمر بالمعروف نفع المسلمين، والذي يكون في مجلس فيدافع عن أعراض المسلمين، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويرشد إلى الخير نفع المسلمين، وهكذا أبواب الخير لا تتناهى يا أخي.
الجواب: من قال لكم إن هناك قائماً بالدعوة، أبداً، نحن دعونا عشرة أو مائة ألف، والثاني والثالث لكن هناك أعداد -والله العظيم- كثيرة من المسلمين، وقد كتب لي أحد الإخوة في المجلس السابق ورقة، بل أوراقاً يقول: إن هناك أعداداً غفيرةً ربما -هو قد بالغ- قال ربما تكون (90%) ما بلغتهم الدعوة الإسلامية الحقيقية، ولا أمروا بمعروف ولا نهوا عن منكر ولا حركت قلوبهم بالخير، فعلاًً ربما أنت تجلس مع الطبيبين فيخيل إليك أن الناس كلهم طيبون، لكن لو ذهبت إلى أماكن أخرى لوجدت أن الأمر بخلاف ذلك، وأننا بحاجة إلى أعداد غفيرة جداً ممن يقومون ويحملون لواء الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى.
الجواب: السفر إلى الشرق أو الغرب ممكن وليس بلازم، هناك جمعيات ومؤسسات وهيئات الآن تتيح الفرصة لبعض الشباب أن يسافروا بغرض الدعوة، أو الإغاثة، أو التطبيب أو التعليم أو أي عمل خيري، وهذا جيد لكن ليس هذا بلازم، فمثلاً: سافر مائة أو ألف وبقي الباقون، بلاد المسلمين أنفسهم بحاجة إلى أن نقوم بدعوة الناس فيها، بتوعيتهم، بإرشادهم، بالمشاركة في المجالات الخيرية بنشر الدعوة، بحيث لا تكون الدعوة وقفاً على فئة معينة، بل تكون الدعوة في كل بيت وفي كل عقل، وما من إنسان إلا وسمع من يدعوه إلى الله تعالى وإلى كلمة الحق، فإن كان شريراً من أعداء الدين سمع من ينغص عليه ويكدر عليه ويعارضه على أقل تقدير.
الجواب: أولاً: هذا يؤكد لنا أهمية تأمين الجبهة الداخلية في البيت، وأهمية أن يكون الدعاة والصالحون وطلبة العلم أن تكون بيوتهم آمنة بالخير والصلاح والاستقامة والسعادة والأنس والراحة، حتى لا تكون هذه الهموم تشغل الإنسان.
أمر آخر: أن هذه الأمور وإن وجدت في قلبك وهو -أمر طبيعي- قد لا يخلو منه أحد أو بيت -إلا أنها لا ينبغي أن تملأ قلبك، فاجعلها في زاوية من القلب ويكون بقية القلب للهموم الأخرى.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر