إسلام ويب

مآخذ على طلبة العلمللشيخ : سلمان العودة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • تحتوي المادة على الآفات التي تعترض طالب العلم في علاقته مع ربه، ومع الناس. وقد ذكر موقف أهل البدع من علمائهم وموقف عامة أهل السنة من علمائهم.

    1.   

    كتب تحدثت عن مآخذ ومعايب على طلبة العلم

    الحمد لله، والصلاة والسلام على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

    سنتكلم إن شاء الله عن الآفات التي قد تصيب طالب العلم، وقبل الدخول فيها أشير إلى أن الآفات التي تعترض المسلم كثيرة، وهي تعترض طالب العلم وغيره، فالحديث عن هذه الآفات والعيوب والمداخل ليس من شأن هذه الدروس، بل له ميدان آخر، وإنما سوف يقتصر الحديث إن شاء الله تعالى في هذه الدروس على ذكر الآفات والأخطاء الذي يقع فيها طالب العلم، وخاصة مما هو شائع بين طلاب العلم في هذا العصر، وربما في عصور كثيرة، لكن كل واحد يدرك ما يعايشه أكثر مما يدرك غيره.

    فسيكون التركيز إن شاء الله على الآفات والمعايب الموجودة فينا إن صح أننا طلاب علم.

    ثم إنه حتى هذه العيوب يصعب حصرها والحديث عنها، ولذلك فإنني أكتفي بأن أشير في مقدمة هذه الدروس إلى بعض الكتب المهمة التي تحدث فيها مصنفوها عن هذه المثالب والمعايب، وأتوا فيها بالعجب العجاب.

    وأنصح نفسي وإخواني من الطلبة أن يحرصوا على مراجعة هذه الكتب والاتصال الدائم بها، فمن هذه الكتب كتاب العزلة للإمام الخطابي، ومنها كتب الإمام الغزالي وخاصة كتاب إحياء علوم الدين في الجزء الأول منه تحدث عن آفات طلب العلم، ومنها كتاب تذكرة السامع والمتكلم في آداب العالم والمتعلم لـابن جماعة وهو يذكر الآداب ويذكر مع كل أدب جوانب من الإخلال بهذا الأدب يصح أن تعتبر من الآفات.

    ومنها ما كتبه الإمام ابن القيم في عدد من كتبه من كتابات متفرقة في زاد المعاد مثلاً، وفي إغاثة اللهفان، وفي مدارج السالكين، بل وفي إعلام الموقعين وغيرها، ومنها ما كتبه الإمام الذهبي في رسالة صغيرة له نسبت إليه وبعضهم يشكك في نسبتها، لكن الظاهر أن نسبتها إليه صحيحه واسمها بيان زغل العلم، وكذلك ما كتبه الإمام ابن الجوزي في كتاب تلبيس إبليس وهو كتاب مهم جداً ومفيد لكل مسلم ولطالب العلم خاصة. وكذلك في كتابه صيد الخاطر في مواضع متفرقة منه، وكذلك ما كتبه الإمام ابن حزم في كتاب الأخلاق والسير أومداواة النفوس، وأخيراً ما كتبه ابن السبكي في كتاب له مطبوع اسمه معيد النعم ومبيد النقم، وقد استفاد كثيراً مما كتبه من قبله كـالغزالي وغيره. وعموماً فالكتب التي ألفت في آداب العالم والمتعلم كـجامع بيان العلم وفضله وغيرها تحدثت عن هذا الموضوع، وسأقسم الحديث عن هذا الموضوع إلى أربعة أقسام:

    القسم الأول: الحديث في الآفات التي تعترض طالب العلم في علاقته مع ربه.

    والثاني: في علاقته مع الناس.

    والثالث: في تعلمه وتعليمه.

    والرابع: في أمور متفرقة.

    1.   

    الآفات التي تعترض طالب العلم في علاقته مع ربه

    ولنبدأ بالحديث عن الآفات التي تعترض الطالب في سيره إلى الله -جل وعلا- ولا بد من الاختصار لطول الموضوع، وضيق المجال، وقد سبق أن القصد من العلم أصلاً هو إصلاح الظاهر والباطن، وإصلاح الباطن يترتب عليه إصلاح الظاهر، لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه عن النعمان بن بشير: {ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب}.

    الفقيه هو العابد الخائف من الله

    يجب على طالب العلم أن يحرص على صلاح قلبه، وتوجهه إلى الله تبارك وتعالى، وأن يكون مقبلاً على الله والدار الآخرة معرضاً عن الدنيا وزخرفها، ولذلك كان السلف يعتبرون أن الفقيه هو العابد الزاهد المقبل على الله.

    جاء فرقد السبخي إلى الحسن البصري فسأله عن مسألة فأفتاه فيها، فقال له فرقد: يا إمام! ما هكذا يقول الفقهاء، فقال له الحسن البصري: [[ثكلتك أمك، وهل رأيت في حياتك فقيهاً قط؟ إنما الفقيه المعرض عن الدنيا المقبل على الآخرة، الخائف من الله، الكاف عن أعراض الناس، المستعد للقاء الله...]] إلى آخر الصفات التي ذكرها رحمه الله.

    وهذا المعنى قد أخذه الحسن وغيره من السلف من كتاب الله تعالى فإنهم كانوا يعدون العلم الخشية، انظر إلى قول الله عز وجل: لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ [الحشر:13] فوصفهم بقلة الخشية من الله، وكثرة الخشية من المخلوقين لقلة فقههم وعلمهم، وكلما زاد فقه المرء زادت خشيته لله، فطالب العلم يجب أن يظهر أثر العلم في سمته، وهديه، وإقباله على الله عز وجل.

    من المعايب الانشغال بدقيق العلم على حساب القضايا المهمة

    وكثير من طلاب العلم في هذا العصر، بل ومن قبل يلامون ويذمون بضعف عبادتهم، وانشغالهم بكثير من المسائل الفقهية الدقيقة التي قد لا يحتاجون هم إليها، وقد لا يحتاجها الناس قروناً عديدة، وربما ضيع الواحد منهم عمره، وسافر، وجمع الكتب، وقرأ الأجزاء من أجل هذه المسألة.

    وفي مقابل ذلك قد يخل بقضية من القضايا المهمة في حياته، ويذكر الإمام السبكي في كتاب معيد النعم أن بعض طلبة العلم المعرضين عن القيام بالواجبات الدينية، وسلوك طريق الآخرة يحتجون بحجج، فإذا قلت للواحد منهم مثلاً: قد حانت الصلاة، قام وصلى أربعاً لا يذكر الله -تعالى- فيها إلا قليلا، فإذا قلت له: هل تنفلت بعد صلاة الظهر؟ قال لك: إن الإمام الشافعي يرى أن الاشتغال بالعلم، أولى من الاشتغال بنوافل العبادات، وبناءً على ذلك ترك الراتبة ليشتغل بالعلم، فإذا سألته عن نسيانه للقرآن قال لك: إن نسيان القرآن لم يعده أحداً من أهل العلم كبيرة من كبائر الذنوب، إلا صاحب العدة أو العمدة وهما كتابان في فروع الفقه الشافعي، أحدهما لـعبد الرحمن بن الحسين الطبري، والآخر لـأبي بكر الشاشي.

    وكذلك قال: أنا لم أنس القرآن كله فأنا أحفظ الفاتحة، ولعله أيضاً يحفظ معها قصار السور، ثم ما الدليل على أن هذا الأمر محرم؟ فتخلى عن حفظه للقرآن بهذه الحجج، فإذا سألته هل خشعت في صلاتك؟ قال لك: إن الخشوع في الصلاة ليس من شرائطها ولا من أركانها، وهكذا اتخذ هذا الإنسان ما يعلمه من بعض الأحكام مطية إلى التخلي عن كثير من الأشياء التي لا بد منها لطالب العلم.

    ولذلك عقب السبكي رحمه الله على هذا بقوله: " وهذه كلمة حق أريد بها باطل " ثم استطرد الإمام السبكي في هذه المسألة، وذكر أن كثيراً من الطلاب قد يريد أن يقول في الفاتحة: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] وهذه الكلمة فيها من التوكل، والإقبال على الله، وإفراده بالعبادة وبالاستعانة ما فيها، فربما يسبق إلى لسانه كلمة أخرى من كلمات الفروع الفقهية التي طالما اشتغل بها.

    قال: وبلغنا أن الإمام الغزالي صلى يوماً بأخيه أحمد إماماً، وفي أثناء الصلاة انفرد أخوه عنه، وقطع الاقتداء به، وصلى لوحده، فلما سلم من الصلاة سأله الإمام الغزالي لم فعلت هذا؟ فقال: لأنك في صلاتك متلطخ بدم الحيض، ففكر الغزالي ساعة، ثم تذكر أنه في أثناء الصلاة قد عرضت له فعلاً مسألة من مسائل الحيض، وأنه فكر فيها شيئاً من الوقت وهو يصلي!!

    ونقول: أولاً هذه مستبعدة من جهة أخيه، لأنه لا يعلم ما في السرائر إلا الله عز وجل، وهاهو الغزالي نفسه لم يتذكر أنه كان يفكر في هذا الأمر إلا بعد أن أدار ذهنه فما بالك بغيره، فهذا بعيد جداً من هذه الناحية، وبعيد أيضاً من الناحية الفقهية، لأنه ليس من حق المأموم أن يقطع ائتمامه بالإمام إلا لضرورة، أما أن يقطع ائتمامه به لعارض غير صحيح فهذا لا يجوز، فضلاً عن أن يكون قد سبق إلى ذهنه أنه قد يكون فكر في أمر من هذه الأمور، وإنما سقت هذه الحادثة؛ لأن من المفيد أن يتعلم ويتدرب الطالب على أن يقرأ في هذه الكتب بوعي، ولا يأخذ كل ما يقرأ مأخذ القبول والتسليم.

    وما يشكوه العلماء المتقدمون هو من الأسباب التي تقلل من تأثر الطالب بشيخه، فلو نظرت في العلماء الذين أثروا في تلاميذهم لوجدت أنه كان عندهم زهد ونسك وعباده، وإقبال على الله عز وجل، وقد ذكر ابن الجوزي في كتاب صيد الخاطر، بعد أن تحدث عن شيوخه الذين تلقى عنهم العلم، وعدد بعضهم، وأشار إلى أن بعضهم كانوا يشتغلون ببعض ما لا يسع العالم الاشتغال به، ذكر أن من أكثرهم أثراً عليه عالم يقال له عبد الوهاب الأنماطي، وقال: كان هذا العالم زاهداً مقبلاً على الله عز وجل معرضاً عن الدنيا، قال: وكنت اقرأ عليه أحاديث في الرقائق والوعظ فيبكي طويلاً حتى لا يستطيع أن يمنع نفسه من البكاء، قال: وكنت وأنا طفل صغير أتأثر حين أرى شيخي وهو يبكي خوفاً من الله عز وجل فتركت هذه أثرها في نفسي، وعلمت بعد أن التأثر بالحال أكثر من التأثر بالمقال، يعني: أن التأثر بالقدوة الحسنة، أكثر من التأثر بالنصيحة.

    وهكذا غيره من العلماء كان تأثرهم بأشياخهم الذين صدقوا مع الله، ولم يكن تعلمهم ولا تعليمهم من أجل الدنيا.

    والمطلوب من طالب العلم أن ينتبه إلى نفسه، ويحرص على إصلاحها، وعلى الحرص على التعبد وتليين قلبه بالقرب من الله عز وجل، وليس المعنى أننا نطالب كل واحد منا، أن يكون كعباد الصحابة كـعبد الله بن عمرو بن العاص مثلاً، أو كعباد التابعين كـالحسن البصري، أو كـالفضيل بن عياض، أو كفلان وفلان ممن اشتهروا بالزهد والعبادة، وإن كان هذا المطلب نفيساً وعزيزاً، ويمكن أن يصل إليه الإنسان بالجد والاجتهاد، لكن هناك مستوى عام، ينبغي لكل طالب علم ألاَّ يرضى لنفسه أن ينـزل عنه، وإذا انحط عنه فيجب عليه أن يعيد النظر في نفسه ويحاسبها، قبل أن يبغته الأجل وهو على حال لا ترضي.

    الحد الأدنى المطلوب من طالب العلم في عبادته

    وألخص هذه الأشياء المطلوبة من طالب العلم في أربعة أمور:

    الأمر الأول: وهو القيام بأداء ما افترضه الله عليه، من الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، وغيرها من الفروض وكذلك صلاة الجماعة، وخاصة صلاة الفجر، فإن صلاة الفجر فيصل يدل على إيمان العبد أو ضعف إيمانه، وفي حديث أنس الذي رواه ابن حبان قال: [[كنا إذا افتقدنا رجلاً في صلاة الفجر أسأنا به الظن]].

    الأمر الثاني: أن يقوم بقدر من النوافل وهي كالسنن الرواتب والوتر وصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وأن يكون له وردٌ من قراءة القرآن لا يتركه في جميع الظروف، وأن يكون له وردٌ من الأذكار في الصباح والمساء وفي تقلبات الأحوال وإن قل، فإن أحب الأعمال إلى الله أدومه وإن قل.

    الأمر الثالث: أن يحرص على تحقيق المعنى الذي شرعت من أجله هذه العبادات، فإن من المعلوم أن الله عز وجل لم يشرع هذه العبادات ليكلفنا أو ليعذبنا، فإن الله غني عن تعذيبنا، إنما شرعها لتهذيبنا، وإصلاح نفوسنا وسرائرنا، فيحرص العبد على أن يؤدي هذه الأشياء مع مجاهدة نفسه باستحضار ذهن، وحضور قلب، واحتساب، وصلاح نية.

    الأمر الرابع: أن يجتنب المحارم ما استطاع، ويحفظ نفسه من قول الزور والغيبة والنميمة، وأكل الحرام، وما أشبه ذلك من المحرمات المعلوم تحريمها، فيحرص على تجنبها والبعد عنها.

    هذه أربعة مطالب لا بد منها لطالب العلم حتى يحقق قدراً من سيره إلى الله تبارك وتعالى، وإذا أخل الطالب بهذه الأشياء فيجب عليه أن يبكي على نفسه، ويقول مع القائل:

    لنفسي أبكي لست أبكي لغيرها     لنفسي من نفسي عن الناس شاغل

    ويتذكر الكلمة التي قالها الإمام ابن الجوزي رحمه الله قال: إن طالب العلم إذا لم يرد وجه الله ويعبد الله بهذا العلم، فهو مسكين مسكين، لأنه خسر هذه الدنيا فلم يتمتع بلذاتها وزخارفها كما تمتع غيره من الفساق والمنحرفين، حيث كان مشغولاً بطلب العلم وتحصيله، ثم يقبل على الله عز وجل فيحرم من لذات الآخرة؛ لأنه لم يسع لها ولم يطلبها، ويقبل على الله عز وجل أصغر ما كان والحجة عليه أقوى ما كانت، فالحجة على العالم ليست كالحجة على الجاهل.

    هذا وأسأل الله عز وجل أن يرزقني وإياكم الإقبال عليه، واللهج بذكره، وأن يجعل ما نتعلمه من القرآن والسنة قربى وزلفى إليه في الدار الآخرة، وأن يعيننا على أنفسنا، وأن يهب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين ويجعلنا للمتقين إماماً، في الأقوال والأفعال والعلم والعبادة، وكل خير وألاَّ نكون ممن علمه حجة عليه.

    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآلة وصحبه أجمعين.

    1.   

    مثالب طالب العلم فيما يتعلق بالمجتمع

    الحمد لله رب العالمين، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم اجعلنا هداة مهتدين، اللهم اجعلنا من عبادك الصالحين وحزبك المفلحين، آمين يا رب العالمين.

    أيها الإخوة: في هذا الأسبوع والأسابيع القادمة وقد تستغرق إلى نهاية شهر شعبان، يكون الحديث إن شاء الله، عن بعض مثالب ومآخذ على الطالب وعلاقته بالمجتمع من حوله، وسأذكر بعض الملاحظات بدون ترتيب.

    العزلة عن الواقع

    فمن الملاحظات على كثير من طلاب العلم في هذا العصر، أنهم يعيشون عزلة عن الواقع الذي من حولهم؛ وذلك لأن طلب العلم له لذة يدركها من جربها.

    فطالب العلم إذا أكثر من البحث والمراجعة والقراءة؛ يصبح عنده تلذذ بالحصول على المعلومات، وإذا أشكل عليه مسألة من المسائل وبحث ولم نجدها، ازداد لهفه وشوقه إلى معرفتها، فإذا عثر عليها أصبح كأنه عثر على كنـز ثمين، وهذه اللذة عامة في العلوم الشرعية وغيرها، أي أنها قضية مغروزة عند المسلم، لكن قد يزيد طالب العلم الشرعي إذا حسنت نيته بأنه يفرح بمعرفته لحكم شرعي، يحتاج إلى أن يعرفه ويعرّفه غيره.

    فهذه اللذة من جهة، والراحة التي يجدها طالب العلم في التعامل مع الكتب، كما تعرفون الشاعر الذي يتغزل بقراءة الكتب ومعايشتها يقول:

    لنا جلساء لا يمل حديثهم     ألباء مأمونون غيباً ومشهداً

    يفيدوننا من علمهم علم ما مضى ………
    إلى آخر ما قال.

    وأبيات كثيرة منها:

    أعز مكان في الدنا سرج سابح     وخير جليس في الزمان كتاب

    أبيات كثيرة يتمدح فيها العلماء بالكتب والقراءة؛ لأن الناس قد يتضايقون من معاملة بعضهم لبعض، وكون فلان أخطأ عليك، وفلان أساء، وفلان قال فيك كذا، وفلان كذا، أما الكتب فهي صماء خذ ما شئت منها ودع ما شئت، فالإنسان إذا تضايق من واقعة لجأ إلى هذه الكتب، وبدأ يتعامل معها، لسهولة وراحة التعامل معها، كما أنه ليس في ذهاب ولا إياب ولا كلفه ولا مشقة، ولذلك ينجر كثير من الطلاب وراء هذه اللذة، ووراء هذه الراحة، ويشتغلون بالطلب والقراءة، وشيئاً فشيئاً يفرضون على أنفسهم طوقاً من العزلة عن الواقع.

    حتى يصح أن يوصف بعض طلاب العلم في هذا العصر، بأنهم ممن يعيشون في أبراج عاجية، كما كان الفلاسفة يعيشون في أبراج عاجية، فـالفلاسفة كانوا يعيشون في بروج، أي في أماكنهم في مكتباتهم والناس كانوا يعيشون في عذاب، من تسلط طغاة، ومن مشكلات قائمة فيما بينهم، وهم مشغولون بدراسة ما يسمى بالمدنية الفاضلة، فالفيلسوف مشغول يصور تصويراً خيالياً مدينة فاضلة فيها كمال مطلق من كل ناحية، والناس يعيشون في عذاب في واقعهم فليس له علاقة بهم، فقد يصل الحال ببعض الطلاب إلى هذا الحال، للأسباب السابقة.

    وربما يفتخر بعض الأحيان كثير من طلاب العلم الشرعي، بأنهم يجهلون هذا الواقع، ويجهلون ما يجري في حياة الناس، وما جد في هذه الحياة من أمور، وفي هذا العصر يصح أن نقول: إنه حصل في هذا العصر تغير تام في كثير من مجالات الحياة، لم يعهد الناس مثله، تفجر في المعلومات، وفي الحوادث الجديدة، والابتكارات، والعلوم والصناعات، وأمور لا عهد للناس بها.

    ومن جهة أخرى في هذا العصر جاءت أمواج من الفتن والانحرافات الفكرية والخلقية التي غزت واقع المسلمين، فكثير من طلاب العلم قد تأتيه بمصطلح ربما يعرفه عامة الناس في هذا العصر، فيفتخر بأنه لا يعرف هذا الاصطلاح، لأن معنى عدم معرفتي بهذا الاصطلاح أنني ممن هم فوق هذا الواقع! وممن هم بعيدون عنه، ومشغولون بما هو أهم، فأنا أفتخر بأني أسأل عن هذا الأمر، وهذا واقع، وأحياناً هو من تلبيس إبليس على الإنسان، كما قد يفتخر الإنسان بأنه لا يعرف الخطأ الفلاني.

    وأمثل بمثال واقعي، وهو كثيراً ما تجري -على سبيل المثال- مباريات رياضية طويلة عريضة تأخذ من أوقات الناس وأعمارهم وعقولهم ونظراتهم، ويحدث فيها ما الله به عليم، الله المستعان! فتجد كثيراً من طلاب العلم وقد يكون كثير منا منهم، قد يفتخر بأنه لا يعرف هذه الأشياء ولا يدري عنها شيئاً، والواقع أن انعزال الإنسان عن واقعه ليس فيه ما يدعو إلى الفخر، بل إن طالب العلم المحقق لعلمه يحرص على أن ينـزل بعلمه في واقع الحياة.

    مسألة من الشرع والدين، فتتعلمها، وتعمل بها وتعلمها غيرك وتدعو إليها، وتنكر ما خالفها، خيراً من أن تكون مليئاً بعلوم نظرية مجردة لا تفيد في واقع الناس شيئاً، لأن شرف العلم هو أن يدعو إلى العمل والمعرفة، فلماذا يشتغل طالب العلم في كثير من الأحيان بقضايا جزئية جداً في فروع العلم، وربما يتخصص فيها، ويكتب رسائل عليا في هذه القضية الجزئية التي -والله أعلم- قد لا يحتاج إليها الناس إلى قيام الساعة! ويخفى عليه ويتجاهل قضايا ملحة في واقع الناس، وفي واقع المسلمين اليوم.

    1.   

    مواقف علماء السلف من فهم الواقع

    أشير الآن إلى جانب من علاقة علماء السلف رضي الله عنهم بالواقع -ولعلي أكمل إن شاء الله في درس قادم- فعلماء السلف رضي الله عنهم اهتداءً واقتداءً بالرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يعايشون الواقع، والعلماء المشهورون كانوا يعيشون الواقع ويصح أن نقول: إنهم كانوا أوصياء على هذا الواقع، فهم يعدلون واقع الناس على ما تقتضيه شريعة الله عز وجل وانظروا إلى هذه القصص العجيبة التي لا تعدو أن تكون في الواقع أمثلة يسيرة جداً من الواقع.

    موقف المنذر بن سعيد البلوطي

    على سبيل المثال: يذكر المترجمون المنذر بن سعيد البلوطي وهو من شيوخ المالكية، ويذكر مترجموه أن له ميلاً إلى علم الكلام، وكأنه متأثراً ببعض أراء أهل الكلام، ولكن الشاهد من حياته أن الرجل كان قوياً في الحق، وكان ذو علاقة بالمجتمع وبالسلاطين في عصره، ليست علاقة استجداء، وإنما هي علاقة قوامة وأمر ونهي، فأحد ولاة الأندلس وأظنه عبد الرحمن الناصر، بنى قصراً فخماً مشيداً وزينه بالذهب والفضة، وأسرف فيه أيما إسراف، ثم دعا الوزراء والحاشية والعلماء وغيرهم، فنظروا في هذا القصر والكل يثني ويمجد.

    فحضر المنذر بن سعيد لصلاة الجمعة، وكان الخليفة يصلي معه، وتحت منبره، فوقف المنذر بن سعيد رحمه الله، وألقى خطبة عصماء تلا فيها قول الله عز وجل: وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ [الزخرف:33-35].

    ثم قال يخاطب الخليفة ويوبخه على ما فعل: ما كنت أظن أن يبلغ بك الشيطان إلى ما بلغ حيث أنـزلك منـزل الكافرين، فتشبهت بفرعون وهامان وقارون، وأسرفت في الأموال، وضيعت أموال المسلمين، وفعلت وفعلت، وخنت الأمانة التي أمنك الله عليها، وأهملت شأن الرعية، وظل يورد على السلطان من القول المتين القوي، والسلطان تحت منبره فما زاد السلطان على أن أقسم ألا يصلي معه مرةً أخرى، وذهب إلى مسجد آخر ليصلي معهم، ثم إنه كفر عن يمينه ورجع ليصلي مع هذا الخطيب، وهذا الموقف في أذهان الكثير منا أقرب ما يكون إلى الخيال والأسطورة.

    موقف العز بن عبدالسلام

    موقف آخر، بل مواقف لـعز الدين بن عبد السلام، المشهور بـالعز بن عبد السلام سلطان العلماء، إمام من أئمة المسلمين، اقرأ ترجمة هذا الإمام في طبقات الشافعية مثلاً أو غيرها، أو في الكتاب الذي كتبه الندوي عنه، وانظر نماذج من بطولات هذا الإمام.

    كان في دمشق، وكان حاكم دمشق الملك الصالح إسماعيل، فتعاون هذا الرجل مع أعداء الإسلام، وأسلم إليهم بعض المدن، فغضب عليه الإمام العز بن عبد السلام، وعاتبه وقطع الدعاء له في الخطبة، وحرض العلماء على ذلك، ثم خرج من دمشق وتركها مهاجراً إلى غيرها، فمر ببعض المدن الصغيرة في الشام، فطلب منه بعض أمرائها أن يبقى عندهم، فقال: إن مدينتكم صغيرة على علمي، والإنسان العالم كـالعز بن عبد السلام يجب أن يعرف قدر علمه، وذهب إلى مصر وكان فيها الملك الصالح أيوب، فاستقبله وأكرم مثواه.

    وكان للعز بن عبد السلام مواقف في منتهى القوة، وأقرب إلى العجب، ولعل منها الموقف المشهور له، والذي ذكره أيضاً السبكي في الطبقات، قال: إن الملك الصالح جاء في يوم عيد وكان يحف به الأعوان، والشرط، والخدم، والحشم، بل والأمراء الصغار وغيرهم يقبلون الأرض بين يديه كما جرت عادتهم بذلك.

    فلم يرض العز بن عبد السلام بهذا المشهد، وخاف على السلطان أن يتعاظم ويصيبه شيء من العجب والخيلاء، إضافة إلى أنه رأى منكراً يجب تغييره، فوقف بكل ثبات وقوة ورجولة في طريق السلطان، وقال له: يا أيوب! -هكذا كلمة مجردة ليس قبلها شيء ولا بعدها شيء، لا ألفاظ تفخيم وتبجيل، ولا دعاء ولا شيء، باسمه الذي سماه به أبوه- فالتفت السلطان، وقال: نعم يا سيدي أو نحو هذه الكلمة، فقال له: ما جوابك أمام رب العالمين إذا سألك وقال لك: إنني وليتك أمر عبادي ورقابهم وأموالهم فما قمت بما ائتمنتك عليه، فقال له السلطان: ما الأمر أيها الإمام؟ فقال العز بن عبد السلام: إن في مكان كذا وكذا حانوتاً يباع فيها الخمر، فقال له السلطان: يا سيدي هذه من عهد أبي -الحاكم قبله-. فهز العز بن عبد السلام رأسه، وقال: إذاً أنت من الذين يقولون: بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف:22] فقال: أعوذ بالله، أعوذ بالله، وأمر بها حالاً فغيرت وأزيلت.

    وخلا العز بن عبد السلام بتلاميذه بعد هذه الحادثة التي لا شك أن الناس كانوا يتناقلونها، وكانت تغرس للعز بن عبد السلام مكانه طيبة في نفوسهم، وتجعلهم يشعرون بأن هؤلاء العلماء يستحقون أن يقف الناس إلى جوارهم، سأله أحد تلاميذه وهو الباجي، فقال له: بعد أن دعا له قال له: أيها الشيخ، كيف جرؤت أن تخاطب السلطان بهذا الجفاء، وبهذه القوة؟!

    قال: يا بني! إني تخيلت عظمة الله عز وجل فصار السلطان أمامي كالقط، ورأيت ما حوله من الخدم والحشم فخشيت أن تغلبه نفسه، فأردت أن أضع من قدره، فالرجل ينظر إلى مصالح، فالمنكر الأعظم هو أن يزهو السلطان بنفسه وبمن حوله ممن يزينون له ما هو فيه، وقد عالجه العز بن عبد السلام بخطابه بهذا الأسلوب الذي يناسب الموقف، والمنكر الآخر هو وجود حانوت يباع فيه الخمر.

    وللعز بن عبد السلام مواقف كثيرة جداً مع السلاطين لا يتسع المجال لذكرها فأقرءوها في ترجمته وهي فعلاً أقرب إلى الأسطورة، ولذلك استحق أن يسميه المترجمون المتقدمون بسلطان العلماء.

    موقف شيخ الإسلام ابن تيمية

    لا يمكن أن نتجاهل في هذا المقام مواقف عظيمة لشيخ الإسلام ابن تيمية، وأخص منها في هذا المجلس ما يتعلق بإنكار المنكرات الكبرى التي يقف وراءها أناس ذووا قدر ويصعب على الدهماء أن يغيروها، فقد جاء التتر إلى بلاد الشام، وغزوها وأهلكوا الحرث والنسل، وخاف الناس منهم حتى العلماء، فذهب شيخ الإسلام ابن تيمية إلى الولاة في مصر، والتقى بالسلطان هناك، وأظنه محمد بن قلاوون، فتكلم معه بكلام قوي أعجب العلماء كـابن دقيق العيد وغيره، وكان من ضمن ما قال له، كما ذكر ابن كثير في البداية والنهاية وغيره، أنه قال له: لو قدر أنكم لستم أنتم حكام مصر، واستنجد بكم أهلها، وقد غزاهم هؤلاء الكفرة، لوجب عليكم إغاثتهم ونصرتهم، فكيف وأنتم حكامه وولاته وقال له: إذا تخليتم عن الشام فإننا نقيم له من يحوطه ويحميه في زمن الشدة، ويستغله في زمن الأمن، أما أن تكونوا يا أمراء المماليك تستغلون بلاد الشام في زمن الأمن وتأخذون خيراتها، فإذا جاءت الشدة ابتعدتم عنه، فهذا ما لا يكون.

    وحرض هذا السلطان على الغزو ووعده بالنصر حتى تحرك هذا السلطان وخرج بجنده، وانتصر المسلمون على التتار كما هو معروف، وكان لـابن تيمية مواقف كثيرة مع السلاطين غير هذه.

    الفائدة من ذكر هذه النماذج

    هذه نماذج تدل على المكانة التي كان يتبوؤها علماء السلف في مجتمعهم، وموقف الناس من مثل هذه الأحداث الشهيرة، التي يذكرها المؤرخون في سير العلماء، وموقف الناس وطلاب العلم يتفاوت، فمن طلاب العلم من يعتبر هذه الأشياء مجرد طرائف، وأشياء يتلذذ بذكرها وسردها وتزيين المجالس بها، وهذا حالنا وحال كثير من الناس.

    يكفي أن نذكر هذه القصص ونتلذذ بها ونهز الرءوس، وقد نعجب ونطرب لها، وهذا غاية الأمر! ومن الناس من يفكر بتطبيق هذه الأحداث والقصص بحذافيرها دون أن يتصور الظروف التي وقعت فيها هذه القصص، والشخصيات التي قامت بهذه الأعمال! فيقع في خطأ غير مناسب، ويكون أمر ونهى أمراً ونهياً في غير أوانه.

    ولعلكم تذكرون أن أحد الطلاب والشباب وقف في يوم من الأيام أمام رجل كبير في إحدى الدول، وتكلم أمامه بكلام قوي، سمعناه جميعاً في حينه، وقال له: كيف تدّعون العلم والإيمان، وقد طرد فلان وشرد فلان، وحصل كذا، وحصل كذا فهذا الإنسان ربما يقرأ سيرة فلان وفلان من العلماء، فيطبق ما يسمع تطبيقاً حرفياً كما يقال، والواقع أنه يجب أن ننظر إلى الظروف التي وقعت فيها هذه القصص.

    فمثلاً المنذر بن سعيد، أو العز بن عبد السلام، أو ابن تيمية ليسوا أناساً جاءوا من الشارع وفعلوا هذه المواقف، هذا خطأ أن تتصوره. بل ابن تيمية، والمنذر بن سعيد، والعز بن عبد السلام، وجميع علماء الإسلام المشهورين كانوا متغلغلين في المجتمع، وكان لهم تأثير، ووقع ومكانه لدى الخاص والعام، بحيث أن مكانتهم لا يمكن أن يتجاهلها أحد.

    ولذلك لما طلب العز بن عبد السلام من المماليك أن يبيعوا أنفسهم لأنه قال: أنتم أرقاء وعبيد ولا يمكن أن تحكموا المسلمين وأنتم كذلك، قالوا: فكيف نصنع؟ قال: لا بد أن تباعوا ويعلن عنكم في المزاد العلني، ثم إذا تم بيعكم فحينئذٍ لكم أن ترجعوا إلى مناصبكم، فحاولوا بكل وسيلة أن يثنوه عن هذا القرار فأصر، حتى إن منهم من حاول قتله فلما رآه سقط السيف من يده وبهت وتحير.

    فطلبوا منه أن يخرج من بلاد مصر، فخرج العز بن عبد السلام في موكب ليس فيه هيلمان ولا أبهة، جاء بحمار ووضع عليه رحله، ووضع أثاثه في جانبي المزادة، وركب هو، وأركب زوجته وأطفاله ومضى، ولمارأى الناس هذا الموكب البسيط المتواضع خرجوا كلهم وراءه، حتى أتى آت للمماليك، وقال: إذا خرج هؤلاء فمن تحكمون في بلاد مصر؟! فطلبوا منه أن يرجع وأن ينفذوا له ما طلب.

    والمقصود أن مما لا يختلف فيه -حتى لو فرض أن هناك مثلاً من لا يوافق على هذا الحدث والسياق- أن هؤلاء العلماء لم يكونوا نكرات مجهولين في واقعهم، بل كانوا منذ نعومة أظافرهم، منذ بداية طلبهم معروفين بالمشاركة في الحياة العامة، بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بالإصلاح، حتى بخدمة الناس في أمورهم الدنيوية.

    واقرأ ما قاله ابن رجب الحنبلي في الطبقات، أو ما قاله الذهبي في ترجمة الإمام ابن تيمية، إنه كان منتصباً لخدمة الناس ليلاً ونهاراً بلسانه وقلمه، وحتى الظلم الدنيوي يحاول أن يدفعه عن الناس، كإنسان يحتاج إلى عمل، أو إلى مال، أو زواج، أو وظيفة، أو إنسان ظلم، فيحاول أن يدفع عنهم حتى المظالم الدنيوية.

    واقرءوا كتب الشيخ تجدون كثيراً من الكتب كتبت في دفع المظالم عن الناس، لأنه كان مختلطاً بالناس مؤثراً فيهم، ولذلك كان يملك هو وأمثاله أن تكون له مواقف مؤثرة وشجاعة، فطالب العلم يسعى إلى أن يحقق من الاختلاط بالناس اختلاطاً واعياً مؤثراً؛ ما يجعله أهلاً لأن يكون قوياً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الوقت المناسب إن أعانه الله تبارك وتعالى على ذلك.

    اللهم إنا نسألك الهدى والتقى، والعفاف والغنى، اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، اللهم أصلحنا ظاهراً وباطناً، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

    1.   

    تطبيق تلك المواقف في الواقع الموجود

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

    أما بعد:

    تواصلاً مع حديثي السابق في الليلة الماضية أكمل ما بدأت في هذا الليلة إن شاء الله تعالى، والحديث وإن لم يكن ذو علاقة وطيدة بأصل الموضوع، إلا أنه استطراد ضروري لما سبق، فقد تحدثت في الليلة الماضية عن مواقف العلماء الشجاعة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والقوامة على المجتمعات الإسلامية، ومثلت في ذلك بمواقف لبعضهم، كمواقف المنذر بن سعيد، والعز بن عبد السلام، وابن تيمية، وهذه المواقف إنما هي غيض من فيض وقليل من كثير.

    ثم أشرت إلى أن هذه المواقف كان لها ملابسات معينة، حدثت فيها ولم تحدث صدفة، أو من أفراد مغمورين مجهولين، جاءوا من عرض الطريق ثم فعلوا هذه المواقف، ثم يأتي السؤال اليوم وهو سؤال يجب أن يطرح فعلاً وهو:

    ما هو الجانب المتعلق بواقعنا من هذا؟ أي: كيف نطبق هذه المواقف على الواقع الموجود والقائم اليوم؟ وكيف نعرف الأخطاء القائمة في واقع المسلمين عامة وخاصة طلاب العلم وحملته؟ وكيف نعرف ذلك؟

    تنازع الأمة وفشلها يبدأ بالتلاوم

    أقول: أولاً: يجب أن نعرف دائماً أن الأمة أو الجماعة أو الطائفة من الناس، إذا أصيبت بالفشل، ومُنيت بالنكبة، فإنها تبتلى حينئذٍ بالتنازع والاختلاف والتلاوم، ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى: حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمران:152] فأتبع ذكر الفشل بذكر التنازع؛ لأنه أثر من آثاره، فإذا فشلت المجموعة أو الأمة بدأ التنازع، ومن أسباب التنازع الاختلاف فيما بينهم في قدر المسئولية، فكل إنسان يلقي بالمسئولية على غيره، وهذا هو التلاوم.

    ولو نظرنا في القرآن الكريم لوجدنا أن الله عز وجل ذكر التلاوم في كتابه فقال: فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ [القلم:30] وانظر في القصة تجد فيها مصداق ما ذكر، فإن الله عز وجل قال: إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِين * وَلا يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ * فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ * أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ * فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ * وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ * فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ * قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ [القلم:17-31].

    فالمقصود أن أصحاب الجنة بعدما رأوا هذه الجنة، وما أصابها من الله عز وجل من احتراقها وذهاب ثمرتها، وبعدما نـزلت بهم هذه المصيبة أقبل بعضهم على بعض يتلاومون، أي: يلوم بعضهم بعضاً، فكل إنسان يلقي باللائمة، ويحمل الخطأ الآخر، وهذا مما يستفاد من هذه الآيات، ومن هذه السورة، أن الأمة والطائفة في حال فشلها وتنازعها تبدأ بالتلاوم.

    ولذلك إذا أتيت اليوم في هذا العصر إلى بعض العلماء المجاهدين المثابرين في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتعليم، والإخلاص، فحدثته عن بعض الأخطاء والانحرافات، تجد هذا العالم يلوم نفسه ويوبخها ويقرعها، ويقول: نحن مقصرون، ويجب أن نفعل، وسنفعل، ويحث غيره، فإذا أتيت إلى بعض القاعدين أو المقصرين قال لك: الواجب على أهل العلم، والواجب على الطلاب، والواجب والواجب، وصار كأنه يتبرأ من التبعة ويلقي بها على الآخرين، هذا هو الواقع اليوم في الأمة.

    فأنت إذا نظرت إلى موقف الأمة من علمائها، وموقف العلماء وطلاب العلم من الأمة؛ وجدت الأمر فيه نوع من تبادل اللوم، فأما بالنسبة لطلاب العلم فكثير منهم يلقي باللائمة على العامة، ويقول: إنهم لا قيمة لهم، ولا يلتفون حول علمائهم وما أشبه ذلك، وينتظر منهم دوراً يقومون به في ذلك، وهذا بحد ذاته صحيح لا إشكال فيه، حتى إنني أذكر أن الشيخ عبد الرحمن الدوسري رحمه الله وأسكننا وإياه فسيح الجنان عوتب مرة على التقصير في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقيام بذلك، فتكلم بكلام قوي، ثم استشهد بقول الشاعر:

    ولو أن قومي أنطقتني رماحهم     نطقت ولكن الرماح أجرت

    يعني لو أن الناس والمسلمين وأهل السنة كانوا ردءاً لعلمائهم لتكلموا وأمروا ونهوا، لكن تأخروا وتخلفوا فصار العالم يشعر أنه وحده في الميدان.

    ثم حين تنظر إلى العامة تجد الأمر نفسه موجوداً، فكثير من عامة الناس حتى من سفهاء الأحلام والعقول، حتى من الفساق ومن سائر الناس ممن هم مستقيمون بصفة عامة، تجد كثيراً منهم يتلذذون بنهش أعراض العلماء، والوقوع فيهم، وأن هؤلاء العلماء شبعوا من الأموال، وامتلأت بطونهم، وأنهم لم يأمروا بمعروف ولا نهوا عن منكر، وأن فيهم وفيهم، وأن فيهم نفاقاً إلى آخر ما تسمعه من كثير من الناس.

    فيحملون العلماء مسئوليات جسام، وكأن الأمر يبدأ منهم وينتهي إليهم، وكأن المتكلم من هؤلاء ليس عليه مسئولية، هذا فضلاً عن أنه لا يدري ما دور العلماء، وقد يكون من العلماء من يأمر وينهى في الخفاء، خاصة فيما يتعلق بأمر الناس الذين لهم مكانة، فإن هؤلاء غالباً الأنسب ألاَّ يعلم بأمرهم ونهيهم، بل يؤمروا وينهوا خفية لأن هذا أدعى للقبول.

    فتجد كثيراً من عوام المسلمين ومن أهل السنة والجماعة يتكلمون في علمائهم بهذه الصورة، ومن هنا حصل التلاوم، فالعالم أو طالب العلم ينتظر من الناس أن يكون لهم دور، والناس ينتظرون من العلماء أن يكون لهم كل الدور لا بعضه، وهكذا تضيع الأمور بين هؤلاء وأولئك.

    المخرج من مأزق التلاوم

    الحل في نظري لمثل هذا يكون في ثلاث نقاط:

    الأولى منها: هي ضرورة اعتراف المسلمين -وأخص أهل السنة؛ لأنهم هم المطالبون بأن يقوموا بالدور الصحيح في الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- وأن يكون لديهم جرءة في لوم النفس وتقريعها وتوبيخها، وبدلاً من أن نلقي باللائمة على غيرنا، لابد أن نتعود ونتجرأ على أن نعرف عيوب أنفسنا، ويكون لدينا إمكانية في نقد الذات كما يقولون.

    وهذه درجة من الشجاعة يعز وجودها خاصة لدى من يُنظر إليهم، ويعجبني في هذا المقام كلمة قرأتها للشيخ محمد أمين المصري رحمه الله في كتاب له اسمه سبيل الدعوة الإسلامية في (ص:154) يقول بعدما تكلم عن التعليم في البلاد الإسلامية وما وصل إليه، قال رحمه الله وهو يتكلم عن نفسه: لقد قضيت عمري بين قاعات المدرسة، معلماً ومتعلماً، وإني وايم الله أجد أيامي هزيلة، ونفسي رخيصة، لم ترتق عن مرحلة الطفولة، ولم تبلغ درجة الرشد، ولم تذق معاني الرجولة، ولو طلب إلي أن أكتب تقريراً بشأن نفسي لقلت:

    أ/ إنه -يعني نفسه- ليس براض عن مستواه الإيماني، ولا يرى أن مثل هذا المستوى يمكن أن يحدث تأثيراً واضحاً في طلابه.

    ب/ ليس براض عن عمله، ولا يؤديه وهو واثق أنه السبيل الذي يؤدي إلى نجاة الأمة، فلا المناهج، ولا الطرق، والنظم التي يتخرج بها الطلاب وبالتي تخرج للأمة رجالاً أبطالاً دعاةً، ولهذا -والكلام لا يزال للشيخ المصري رحمه الله- ولهذا فهو يعتبر نفسه -هو يقول عن نفسه هذا الكلام- أجيراً يعمل ما يرضي صاحب العمل في سبيل العيش، وربما يعجب كثيرون من هذا القول، إلى آخر ما قال رحمه الله.

    فالحقيقة أن هذا الكلام بغض النظر أن البعض قد يتساءل ما الفائدة منه؟ أو ما أشبه ذلك؟ لكن أقول بلا شك: إن هذه درجة من الشجاعة يعز نظيرها خاصة بين المفكرين وقادة الفكر والعلم، أن يتكلم إنسان أمام الملأ وفي كتاب أو صحيفة بمثل هذا الكلام الذي فيه إدانة لنفسه، وذلك لأن الشيخ رحمه الله كثيراً ما يطرق قضية وهي أن مشكلة الأمة في أن كل فرد يلقي باللائمة على غيره، فضاعت المسئولية في حين أن المشكلة أصلاً فينا في أفرادنا.

    نعيب زماننا والعيب فينا     وما لزماننا عيبٌ سوانا

    فلا بد أن يكون لدينا شجاعة على نقد أنفسنا؛ ونقد شخصياتنا، وتقويم مواقفنا، والاعتراف بالخطأ، وهذه الخطوة لا بد منها لتصحيح الخطأ، لأنه إذا كان الإنسان لا يعترف بخطئه فمن باب أولى أنه لن يصحح هذا الخطأ؛ لأنه صواب عنده، لكن إذا وصل إلى درجة الاعتراف بأنه مخطئ في الموقف الفلاني، ومقصر في المسألة الفلانية؛ حينئذٍ يمكن أن يصحح.

    وهذه القضية لها جانب عكسي موجود عند كثير من الطلاب اليوم، وهو أنه يبالغ في تقريع نفسه وتوبيخها، مبالغة يستغلها الشيطان في إقعاد الإنسان عن الأعمال والخير.

    وأعرف كثيراً من الإخوة الطلاب والمشايخ يقصر في كثير من الأمور؛ مع أنه مستعد لفعلها هذا، لكنه يقول: ليس أهلاً لذلك، وما وصل إلى هذا المستوى، ويشدد على نفسه حتى يحرم الناس من خير كثير، وهذا يصدق ما قاله بعض السلف، حين قال: ما من أمرٍ أمر الله به الإنسان إلا وللشيطان فيه نـزعتان: إما إلى إفراط، وإما إلى تفريط.

    إن قضية الاعتراف بالخطأ، والقدرة على تقويم النفس ومعرفة عيوبها هي في الأصل مطلوبة ولا بد منها، لكن قد تتحول إلى مرض إذا زادت عن حدها فتنقلب إلى ضدها.

    الحل الثاني: هو ضرورة التفاف أهل السنة حول علمائهم المخلصين.

    1.   

    عناية أهل البدع بعلمائهم

    إذا نظرنا إلى أهل البدع على مدار التاريخ، وجدنا أنهم يلتفون حول علمائهم التفافاً عجيباً، وذلك لأن البدعة في الغالب بل دائماً البدعة لا يعضدها عقل ولا نقل.

    أسلوب المبتدعة في كسب الناس

    زعماء البدعة يحرصون على كسب ثقة من حولهم؛ لأن ثقة هؤلاء بالشيخ المبتدع هي سبب التزامهم بالبدعة، لأنهم إذا فقدوا الثقة به، وصار عندهم إمكانية النظر، والتأمل والدراسة، اكتشفوا أن هذه البدعة بدعة فتركوها، لكن ما داموا يعظمون هذا الذي جاء بالبدعة فإن عقولهم مغلقة، وليس لديهم قدرة على النظر والتأمل.

    تقديس المعتزلة لمشايخهم

    انظروا على سبيل المثال إلى المعتزلة وتقديسهم لمشايخهم، وأضرب مثالاً واحداً لذلك وهو واصل بن عطاء شيخ من شيوخ المعتزلة بل هو زعيمهم، أو عمرو بن عبيد، هذا الرجل كان تلاميذه يلتفون حوله ويعجبون به أشد الإعجاب، ومن ضمن هؤلاء التلاميذ المعجبين به شاعر اسمه صفوان الأنصاري، وقد قال قصيدة يمدح فيها شيخه ذكرها الجاحظ في كتاب البيان والتبيين، والذي يظهر أن الجاحظ إن لم يكن من الزنادقة فهو من غلاة المعتزلة، ولذلك يسترسل في مديحهم، والثناء عليهم، واسترسل هاهنا في مديح عمرو بن عبيد والثناء عليه، ويذكر وينسب إلى هذا الشاعر قصيدة جميلة في مدح شيخه والثناء عليه، يقول من ضمن الأبيات يقول:

    له خلف بحر الصين في كل ثغرة     إلى سوسها الأقصى وخلف البرابرِ

    رجال دعاة لا يفل عزيمهم     تهكم جبار ولا كيد ماكرِ

    إذا قال مروا في الشتاء تطوعوا     وإن كان صيفاً لم يخف شهر ناجرِ

    فيمدح هذا الشيخ، ويصفه بأن له دعاة في أنحاء الدنيا، في بلاد المغرب، وفي بلاد الصين وفي غيرها فله دعاة في كل مكان، ويمدح هؤلاء الدعاة بأنهم رجال دعاة أقوياء، لا يؤثر في عزيمتهم سخرية الساخرين، ولا كيد الماكرين، وأن هؤلاء القوم إذا أمرهم شيخهم بالذهاب والسفر للدعوة والإصلاح في أي مكان أو في الشتاء في الصيف ذهبوا، ولم يؤثر فيهم وجود الحر أو جود البرد.

    ويضحون في سبيل ذلك بهجر الأوطان والتكلف، ولذلك مدحهم بقوله:

    بهجرة أوطان وبذل وكلفة     وشدة أخطار وكد مسافر

    فأنجح مسعاهم وأثقب زندهم     وأورى بثلج للمخاصم قاهر

    وأوتاد أرض الله في كل بلدة     وموضع فتياها وعلم التشاجر

    إلى أن يقول في آخر القصيدة واصفاً مجالس هؤلاء الطلاب عند شيخهم المبتدع يقول:

    تراهم كأن الطير فوق رءوسهم     على عمة معروفة في المعاشر

    وسيماهم معروفة في وجوههم     وفي المشي حجاجاً وفوق الأباعر

    إلى آخر ما قال.

    التفاف الرافضة حول مشايخهم

    هذا نموذج من التفاف أهل البدع حول شيوخهم.

    ومالنا نذهب بعيداً ونحن نرى اليوم ما يصنعه الرافضة من الالتفاف حول مشايخهم، التفافاً يصل إلى حد التقديس الأعمى والعبادة، حتى إن عامتهم إذا ناقشتهم في مسألة قال لك يا أخي: أنا لا أدري اذهب واسأل الملا أو السيد، أو الشيخ عن هذه المسألة.

    وترونهم وهم في الحج وفي غيره يمشون خلف هذا الرحل بعمته السوداء، وبعباءته السوداء، وبقلبه الأسود أيضاً، يمشون خلفه جماعات كثيرة أحياناً، ويأتمرون بأمره، وأي إشارة منه يلتزمون بها أي التزام! وهم يقصدون إظهار هذا لـأهل السنة، لأن هذا نوع من التهزيء والإحباط لـأهل السنة، أنه نحن إلى هذه الدرجة من الدقة والضبط والتقدير والتقديس لمشايخنا وعلمائنا.

    وقد يصل هذا الأمر إلى حد الغلو في شيوخهم، أما بالنسبة لأئمتهم فهم يؤلهونهم، وحدِّث ولا حرج عن الغلو، لكن حتى بالنسبة لشيوخهم فهم قد يعتبرون أحياناً هذا الشيخ الفقيه نائباً عن الإمام، فينظرون إليه هذه النظرة، وليس المطلوب من أهل السنة ذلك، بل إننا نعرف جميعاً أن أهل السنة يجب أن يكون تعبدهم على ما جاء في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وليس في تقليد الرجال وأقوالهم.

    موقف العامة وبعض طلبة العلم من علماء أهل السنة

    ولكن فرق بين هذا وبين كون كثير من أهل السنة اليوم لا يحترمون علماءهم، ولا ينظرون إليهم، تجد الطالب المبتدئ مثلاً يقف أمام العالم الذي قضى كثيراً من عمره في البحث والطلب والجهاد، يقف أمامه بلحيته البيضاء، وبورعه وزهده وجهاده، وتجد هذا العالم بسيطاً في ملبسه، ومركبه، ومنـزله، ولو كان عند أهل البدع لعظموه، واعتبروه آية من آياتهم، وحجة من حججهم، وما تركوه يمشي على الأرض.

    ومع ذلك تجد أهل السنة في الطرف الآخر، تجد شاباً في مقتبل العمر ما طر شاربه يقف أمام هذا العالم، فيرد عليه في مسألة من المسائل بعبارات ركيكة، وألفاظ نابية وقد يسب أو يحط من قدره، فالمطلوب من أهل السنة ليس أن يبالغوا في تعظيم أئمتهم وعلمائهم مبالغة أهل البدعة، فهذا أمر لا يقبله العلماء أنفسهم، ولا طلاب العلم، وإنما المطلوب أن يعرف للعلماء حقهم وقدرهم، وأن يلتف طلاب العلم والعامة حول المشايخ والعلماء، حتى يمكن للعالم أن يأمر وينهى، ويكون له ثقل في الواقع ومكانة.

    وبذلك يصبح كل واحد من المسلمين له مكانة، وله منـزلة، وله تأثير، فضلاً عن العالم الذي يعتبر قائداً لهؤلاء، ولو نظرنا اليوم في الواقع لوجدنا أن الله عز وجل قد امتن على المسلمين وأهل السنة بمشايخ وعلماء أجلاء، لا يوجد نظيرهم عند أي أمة من الأمم.

    وعلى سبيل المثال سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، هذا الرجل بتواضعه، وبحلمه وبحسن خلقه الذي وسع الخاص والعام على كثرة من يرتاد مجلسه ومكتبه، وكثرة التفاف الناس حوله، وكثرة ما يرد من الشكاوى، والإشكالات والأسئلة والإيرادات والخصومات وغيرها، وعلى رغم ما قضاه من السنين والعمر الطويل في هذا الصدد، وكثرة ما يلقى من العنت والمشقة إلى غير ذلك.

    هذا الرجل بهذه المواصفات ببعده عن الدنيا، بكرمه وجوده الذي هو مضرب المثل، هو أنموذج لما يراد من أهل السنة اليوم، وأقول بصراحة: لو كان مثل هذا الرجل عند غير هذه الأمة، عند أمة أخرى، أو عند طائفة من الطوائف لاعتبروه إماماً وحجة، وأشعلوا الدنيا كلها بالحديث عنه، لكن -لله الحمد- أن مشايخنا وعلماءنا بعيدون عن البهرج، والقيل والقال، وحب الثناء رغبة في التواضع وهضماً للنفس، وهذه من فضائلهم التي يمدحون بها، ولكن هذا لا يعفينا نحن المسلمين وأهل السنة من ضرورة احترام علمائنا، والالتفاف حولهم، وإشعار الآخرين بأننا نوقرهم ونقدرهم، لأنك إذا أشعرت الناس بأنك توقر وتقدر علماءك وقروهم وقدروهم أيضاً، وأصبح للعالم منطق ومكانة، وبإمكانه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر على كل مستوى.

    أما إذا كان أقرب الناس إلى العالم يتندرون في مجالسهم بنهش عرضه والنيل منه، وينسون ما قاله ابن عساكر رحمه الله حين كان يقول: اعلم أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك منتقصيهم معلومة، إذا كان هذا شأن أقرب الناس إليهم، فما بالك بالأبعدين؟! فكل واحد من أهل السنة عليه واجب ينبغي أن يؤديه، وأن تنتقل المسألة من مجرد اللوم والتقريع، وإلقاء التبعة على الآخرين من مسئولين وعلماء أو غيرهم، إلى أن يلقي كل إنسان باللوم والتبعة على نفسه، ويسأل نفسه بجد، ما هو الشيء الذي يجب أن أؤديه؟ وما هو الدور الملقى علي؟ وهل قمت بذلك؟ ويبدأ بداية صحيحة في القيام بهذا الواجب.

    وفقنا الله جميعاً لما يحب ويرضى، اللهم وفقنا لصالح القول والعمل، اللهم اغفر لنا الخطأ والزلل، اللهم ثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، اللهم أصلحنا وأصلح لنا وأصلح بنا، اللهم وفقنا لما تحب وترضى، اللهم ارزقنا حبك وحب من يحبك وحب العمل الذي يقربنا إلى حبك، اللهم طهِّر قلوبنا من النفاق، وألسنتنا من الكذب، وعيوننا من الخيانة، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

    سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين. سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك.

    1.   

    موقف العز بن عبد السلام مع الملك الصالح إسماعيل في بيت المقدس

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن والاه.

    مضى في حلقات عديدة الكلام عن عيب من عيوب طالب العلم في هذا العصر، وهو إيثار اعتزال الناس وتجنب مخالطتهم، واستطرد الحديث عن هذا الموضوع إلى ذكر مواقف علماء السلف رضي الله عنهم، وكيف كان الفرد منهم قيماً على المجتمع، آمراً ناهياً مصلحاً، واستعرضت في المجلس السابق، أو أشرت إلى واقع الناس اليوم، وما هم فيه من التلاوم، وأن الناس والعامة يلومون العلماء، وكذلك بعض العلماء أو طلاب العلم يلومون العامة، وأن الواجب على كل إنسان أن يتجه باللوم إلى نفسه، وأن يحرص على أن يقوم بالدور الذي يوجبه عليه كونه مسلماً.

    وذكرت جانباً من عناية أهل البدع بعلمائهم -إن صح أنهم علماء- وتعظيمهم لهم، وإظهارهم للناس إجلالاً لهؤلاء الأئمة، وأضيف في ذلك القصة الطريفة التي ذكرها ابن السبكي في الطبقاتفي ترجمة العز بن عبد السلام، في الجزء الثامن من طبقات الشافعية، حيث ذكر أن هذا الإمام الجليل حين خرج من دمشق بعد أن أغضب الملك الصالح إسماعيل، مشى حتى وصل إلى بيت المقدس، فخرج الملك الصالح إسماعيل ومعه بعض حاشيته إلى بيت المقدس، وأمروا بسجن العز بن عبد السلام، فسجن في خيمة بجوراهم، ففي أحد المرات كان الملك الصالح إسماعيل جالساً في خيمته، ومعه وفد من الصليبيين، وإلى جوارهم خيمة أخرى فيها العز بن عبد السلام.

    فكان العز يتمتم ويقرأ القرآن الكريم، فسمعه من في الخيمة الأخرى، فقال له الصليبيون: ما هذا الصوت الذي نسمع؟ قال: هذا صوت فلان وهو أحد العلماء الذين عارضوني حين حالفتكم وسلمتكم هذه الحصون والقلاع فسجنته، وكأنه يتقرب إليهم بذلك ويريد أن يبين لهم جانباً من التضحيات التي بذلها في سبيل موالاتهم ومناصرتهم.

    لكن هؤلاء القوم قالوا له كلمة تجرح قلبه إن كان له قلب، قالوا له: لو كان هذا القسيس عندنا لغسلنا رجليه، وشربنا مرقتها، تعظيماً له، وبعد فترة كأن الصالح إسماعيل أراد أن يسترضي العز بن عبد السلام، فبعث إليه رجلاً يقول له: لو ذهبت إلى الصالح إسماعيل واعتذرت منه وقبلت رأسه؛ لعله أن يصفح عنك ويعيدك إلى دمشق، فضحك العز بن عبد السلام ضحكة الساخر، وقال: أنتم مساكين، أنتم في واد وأنا في واد آخر، والله الذي لا إله إلا هو إني لا أرضى أن يأتي الصالح إسماعيل نفسه ليقبل رأسي، فكيف أذهب أنا لأقبل رأسه، فدعوني وما أنا فيه.

    هذا أيضاً جانب أو قصة تدل على إظهار هؤلاء النصارى وتبجيلهم وتعظيمهم لقساوستهم، وبطارقتهم، ورجال دينهم، وأنهم يتعمدون إظهار هذا الأمر للمسلمين من باب الإحباط، وإشعارهم بأننا على حال أحسن مما أنتم عليه.

    1.   

    محاولة التنصل من الواجبات

    أيها الإخوة: في هذا العصر قد ينتقد بعض الطلبة كثيراً من طلاب العلم أو بعض المشايخ في تقصيرهم في القيام بما أوجب الله عليهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن فلاناً بلغه كذا، وبلغه كذا، وقيل له كذا، واطلع على كذا فلم يحرك ساكناً، ولا بد من وقفه سريعة عند هذا الأمر، فهذا جانب من التلاوم الذي اتفقنا على ضرورة القضاء عليه، وأن نبدأ بلوم أنفسنا، حيث إن اللوم ينفع الآن، وإلا فقد نتلاوم أو نلوم أنفسنا في وقت لا ينفع فيه اللوم، كما في قوله تعالى حكاية عما يقوله الشيطان في يوم القيامة، حين قال: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ [إبراهيم:22].

    في ذلك الوقت لا ينفع اللوم، لكن الآن ينفع اللوم، فكونك تلقي باللوم على فلان وعلان هذا نوع من التخلص من التبعة، كما إننا كثيراً ما نتلذذ بأن نلقي بأخطائنا على الاستعمار وأعداء الإسلام واليهود والنصارى، فإذا وجدنا ما يضج به المجتمع المسلم اليوم من المفاسد، والمنكرات الظاهرة والباطنة، والبدع، والانحرافات، والتفسخ والانحلال الخلقي والفكري، قلنا هذا من كيد الاستعمار، والصهيونية العالمية، واليهود والنصارى!!

    صحيح وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا [البقرة:217] لكن لماذا نسينا أيضا قوله تعالى: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ [آل عمران:120] لماذا نسينا أن اليهود والنصارى لا يستطيعون أن يجتثوا شجرة الإسلام إلا بغصن من غصونها؟ اليهود ما استطاعوا أن يكيدوا في المجتمع المسلم إلا حين كان هؤلاء الناس الذين يحملون أسماءً إسلامية وثياباً عربية هم أخلص من الاستعمار لأهداف الاستعمار، وأصبح شأنهم كما قال أحد دعاة الإسلام، حين قال:

    ألفاظهم عرب والفعل مختلفٌ     وكم حوى اللفظ من زور ومن كذب

    إن العروبة ثوب يخدعون به     وهم يرومون طعن الدين والعرب

    فكما يقول العوام في المثل العامي: (دود الخل منه وفيه) فالدود في داخلنا موجود منا نحن، فعلينا ألاَّ نلقي باللوم على غيرنا، وننسى الخطأ الذي هو ضعف مقاومتنا واستعدادنا للتأثر بهذه الجراثيم، فالجسم القوي يمتلك المناعة ضد الأمراض بإذن الله، لكن الجسم الضعيف أو الذي فقد المناعة لو أصيب بالزكام لأدى إلى حتفه، كما هو معروف في المرض الجنسي المعاصر الذي هو مرض الإيدز -فقدان المناعة- جسم لا يملك المقاومة، فأدنى جرثومة تحل فيه تؤدي إلى الوفاة بإذن الله، وهكذا الحال في كثير من المسلمين.

    إذاً يجب أن ننهي قضية اللوم، ونبدأ بلوم أنفسنا وتصحيح أحوالنا، فهذا جانب يتعلق بإلقائنا للوم على غيرنا من المشايخ وكبار طلبة العلم.

    الجانب الثاني: أن كثيراً من هؤلاء العلماء يقومون بأدوار في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قد لا يعلمها كثير من الناس، ويرون من المصلحة ألا يذكروها.

    الجانب الثالث: وهو الذي أركز عليه الآن، أو أؤكد عليه الآن، هو أن الله عز وجل خلق الخلق، وقسم بينهم المواهب، والملكات، والأرزاق، والقدرات، فمن ترى من طلاب العلم أو المشايخ، هؤلاء أعطاهم الله عز وجل ما لم يعطِ غيرهم من العلم والمعرفة والتضلع بالشريعة، وأعني بذلك العلماء العاملين، الذين فعلاً يصدق عليهم أنهم علماء ومشايخ، وليس كل من أطلق عليه هذه اللفظة ممن يستحق أو لا يستحق، فإن هذه الكلمة أصبحت عند الناس مبذولة.

    فهؤلاء مَنَّ الله عز وجل عليهم بأن منحهم هذا العلم، لكن لا يلزم من ذلك أن يكونوا كاملين في كل شيء.

    1.   

    أصناف الصحابة

    انظر إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهم الجيل المثالي الذي يجب أن تسير على خطاه في كل مجال.

    من الصحابة من اشتهر بالعلم

    تجد من هؤلاء الصحابة من منّ الله عز وجل عليه بالعلم الغزير، كـعمر بن الخطاب، وابن مسعود، ومعاذ بن جبل، وأبي هريرة، وغيرهم.

    وفيهم نقول ونصوص عن السلف يهتز لها الإنسان طرباً كما في قول بعضهم: " إني نظرت في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فوجدتهم كالإخاذات، من الإخاذ يروي الفرد، ومن الإخاذ يروي الفردين، ومن الإخاذ يروي الثلاثة، ومن الإخاذ يروي الفئام من الناس، ومن الإخاذ لو ورد عليه أهل الأرض كلهم لوسعهم، وإن ابن مسعود من هؤلاء " وقال عمر رضي الله عنه عن ابن مسعود: [[كنيف ملئ علماً]] يعني زاوية أو ناحية ملأت علماً، وهذا في فضائل الصحابة للإمام أحمد وغيره.

    ومن الصحابة من منّ الله عز وجل عليهم بالزهد، والورع، والتعبد والبعد عن الدنيا، كـأبي ذر رضي الله عنه وأرضاه حتى بلغ به زهده رضي الله عنه وتقشفه أنه سلك مسلكاً ومذهباً أصبح لا يصلح فيه لمخالطة الناس، فقال له عثمان كما في صحيح البخاري: [[لو اعتزلت أو لو ذهبت إلى الربذة]] يقترح عليه، فرأى أبو ذر أن هذا الاقتراح من عثمان في مكانه، فذهب إلى الربذة، وأقام فيها حتى مات بها رضي الله عنه وأرضاه؛ وذلك لأنه يرى أنه لا يجوز للإنسان أن يدخر ما زاد عن القوت.

    وهذا مسلك يصلح أن يتزهد به الإنسان لنفسه، لكن أن يفرضه على المجتمع فهذا الأمر في غاية الصعوبة، وقد يؤدي إلى شيء من الخصام، ولذلك فقد حدث في الشام حين كان فيها أبو ذر ما حدث، فخاطبه معاوية رضي الله عنه، ثم أشخصه إلى عثمان بـالمدينة.

    من الصحابة من اشتهر بالجهاد

    ومن الصحابة من هو مشهور بالجهاد، والجلاد، والقتال كـخالد بن الوليد رضي الله عنه، والذي صح عنه أنه كان يقول: [[ما ليلة تهدى إلي فيها عروس أنا لها محب، بأحب إلى قلبي من ليلة شديدة البرد، أُصبِّحُ فيه اليهود مع سرية من المهاجمين]] نعم، يوجد من الناس من تكون لذته في الجهاد، والعلم، والعبادة، والأمر، والنهي، كما أن لذة أهل الدنيا في جمع المال والحطام، أو نيل الشهادة والرياسة والجاه وغير ذلك.

    من الصحابة من جمع الخصال

    ويوجد من الصحابة رضي الله عنهم من جمعوا هذه الفضائل بحذافيرها، وإن أبا بكر وعمر من هؤلاء، فلو نظرت إلى شخصية أبي بكر مثلاً لوجدته جمع الفضل من أطرافه، وكذلك عمر رضي الله عنه فإذا قرأت في ترجمته وجدته في العلم أعلم الصحابة، وفي السياسة أحذقهم، وفي الجهاد أشدهم وأقواهم، وهكذا هو أسبقهم إلى كل خير وفضيلة، لكن هؤلاء قليل.

    1.   

    اعتذار للعلماء

    وإذا كان ذلك كذلك فالأمر أيضا بالنسبة لأهل الخير والعلم في هذا العصر وفي كل عصر هو كذلك، فكفى هؤلاء العلماء العاملين فخراً أنهم حين اشتغل أقرانهم بجمع الدنيا، أو نيل الحطام، أو الرئاسة، اشتغلوا هم بتعلم العلم الشرعي، وتعليمه ونشره بين الناس، وهذه ثغرة عظيمة جداً نحن نحتاج في كل وقت إلى من يقوم بها، ولا يلزم أبداً أن يكون هذا العالم مثلاً المشتغل بهذا الأمر هو أيضاً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الغاية العليا، بل إن من حكمة الله عز وجل ولله الحكمة البالغة أن قد يكون بعضهم منشغلاً بالعلم عن غيره؛ لأنه لو اشتغل مثلاً بالأمر والنهي لقصر في جانب العلم.

    لابد من احترام التخصص

    والتخصص وارد، ونحن في عصر التخصص، فالإنسان يمكنه أن يتخصص في جانب معين فيفيد فيه، ويصل إلى نتائج محددة ومدروسة، ويقوم غيره بفروض أخرى من الفروض التي أوجبها الله على الأمة، فهذه من الأعذار التي يجب أن نلتمسها لهؤلاء الأئمة.

    لا يكلف الله نفسها

    كما أن من الأعذار أنه قد يكون هذا الشخص معذور بينه وبين الله عز وجل فقد لا يستطيع، وهل من شرط العالم أن يكون شجاعاً؟ ليس بشرط، بل قد يكون هذا العالم -وجزاه الله خيراً- أشغل نفسه بطلب العلم، وبذل ما استطاع، لكن فيه ناحية ضعف فطري جبلي لا سبيل له عليها، لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا [الطلاق:7] لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286].

    هذا في جانب الاعتذار.

    لكن حذار حذار أيها الإخوة أن تكون هذه الأعذار وسيلة للقعود بهذه الحجة، فقد يقعد الواحد منا مثلاً عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإصلاح والاختلاط بالناس، بقصد توجيههم بحجة أنني مشغول بطلب العلم، أو بحجة أنني مفطور على شيء من حب العزلة، أو بحجة أنني جبان لا أستطيع أن آمر وأنهى، خاصة إذا كنت في ملأ من الناس، لا.

    بل يجب أن يكون للإنسان ميزانان: ميزان فيما يتعلق بنفسه، وميزان فيما يتعلق بالناس، وانظر إلى قول الله -عز وجل: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ * يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين:1-6] فالله عز وجل توعد المطففين بالويل، ووصفهم بأنهم المطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون، وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون.

    فإذا كان الكيل لهم أخذوا حقهم وافياً، وإذا كان الكيل عليهم للناس بخسوا ونقصوا، والله عز وجل أمرنا بتجنب مشابهة أهل السوء واللعنة، فإذا أردت أن لا تكون من المطففين بوجه من الوجوه، فعليك أن تتجنب مشابهتهم في الحالين:

    فإذا كان الحق لك فاحرص على أن لا تأخذه مستوفى، وإن تفضل منه فضلاً، وإذا كان الحق عليك، فاحرص على أن تعطيه كاملاً بل أن تزيد وتتفضل، وهكذا الشأن في هذه القضايا المعنوية، كقضية القيام بالواجبات الشرعية، فإذا أردت أن تقوم أو تقيم الناس فلا تصف فلاناً بأنه مقصر، وفلاناً لم يقم بالواجب، بل عليك أن تبحث له عن عذر، لأن هذا من مخالفة المطففين أن تعذر الناس إذا كان لهم أعذار ظاهرة غير متكلفة.

    أما إذا كان الحق عليك، فعليك أن تعامل نفسك بالميزان الأقوى، فتطلب من نفسك أن تقوم بالواجب أمراً ونهياً وإصلاحاً، ولا تسمح لهذه الأعذار بالتسلل إليك.

    هذه تعليقة خفيفة على ما سبق، أما بقية الموضوع فسأتعرض له إن شاء الله في الأسبوع التالي والذي بعده إن كان في العمر بقية، فسوف أعرض فيهما العزلة، وفضائلها، وغوائلها، والخلطة، وفضائلها، وغوائلها، مع ذكر بعض النصوص والأحاديث والقصص في ذلك، وأذكر في نهاية تينك الحلقتين المذهب الصحيح المختار الملائم لطالب العلم في الاختلاط بالناس.

    أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك، وصلى الله وسلم على عبده ورسله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    768274887