إسلام ويب

السيرة النبوية لماذا وكيف تدرس؟للشيخ : سلمان العودة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • قدم الشيخ لهذا الدرس بنبذة يسيرة عن حالة البشرية قبل مبعثه صلى الله عليه وسلم ثم بين أن النبوة اختيار واصطفاء، وذكر بعض خصائص الأنبياء التي تميزوا بها عن سائر الخلق، وشرع بذكر خصائص السيرة النبوية بعد التنويه إلى اهتمام العلماء بدارستها، وختم بذكر أهداف دراسة السيرة النبوية.

    1.   

    أهمية دراسة السيرة النبوية

    الحمد لله رب العالمين،وصلى الله وسلم وبارك على المبعوث رحمةً للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين.

    أيها الإخوة الأفاضل! السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، وأكرمَ الله هذه الوجوه، وهي تحبس نفسها في بيت من بيوت الله! وأكرم بهذه القلوب وهي تجلس جلسة في ذات الله تعالى، وأسأل الله تعالى أن يجعلني وإياكم ممن يشملهم الله تعالى بعفوه ورحمته، وممن تظلهم الملائكة بأجنحتها، وممن يذكروا عند الله تعالى في الملأ الأعلى.

    أيها الإخوة الأفاضل! وأقبل اعتذار الإخوة عن الخطأ في العنوان، وما كنت قد حددت "النبي العربي" وإنما حددت "النبي الأمي أحداث وعبر"، ولكنني إذ أقبل الاعتذار، فإنني أتيح لنفسي أن أغير العنوان مرة أخرى، فإذا كان الإخوة قد غيروا في العنوان، فإنني أتيح لنفسي مرة أخرى أن أغير العنوان، وعسى أن يكون في ذلك خير، وليكن عنواننا الجديد (السيرة النبوية لماذا وكيف تدرس؟).

    وليس بخافٍ عليكم -معاشر الإخوة والأخوات- أن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم حرية بالدراسة والبيان، بل إن من العبادة أن يقرأ الإنسان سيرة النبي صلى الله عليه وسلم! بل ومن الحكمة والأناة ومن التعقل أن يفقه الإنسان في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، ذلكم لأنه يتعامل مع رجل أدبه ربه فأحسن أدبه، ويتعامل مع رجل هو صفوة الله تعالى من خلقه، يتعامل مع رجل أنقذ الله به الدنيا من دياجير الظلمات وفتح الله به أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً.

    سمو رسالة المصطفى صلى الله عليه وسلم

    لقد كان الناس قبل بعثته عليه الصلاة والسلام يعيشون في جاهلية جهلاء وضلالة عمياء، وكان أكثر الأنبياء في أقوامهم كرؤيا جميلة في نوم طال أمده، أو كومضة برق في ليل حالك ظلامه.

    وإذا كان ذلكم في سائر الأنبياء، فإن الأمر بالنسبة لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم أولى وأحرى، لقد كان أتباع الأنبياء عليهم السلام أو على الأقل معظم أنبياء الله تعالى كان أتباعهم آحاداً! آحاداً من الناس ينقرضون بعد جيل أو جيلين، وما أن انتصف القرن السادس الميلادي -وهو الذي بُعِثَ فيه النبي صلى الله عليه وسلم- حتى كانت شقوة الجاهلية تلف العالم بأسره، وتسقيه كئوس الظلم والتخلف والوثنية، لقد أُطْفِئَتْ مشاعل التوحيد، وعمَّ الفساد إلى كل واد، ولجأ الحنيفيون الذين بقوا متمسكين بالحنيفية الإبراهيمية إلى الكهوف وإلى قمم الجبال، ليس لشيء إلا فراراً بدينهم، واستبقاءً على ما بقي لديهم من حنيفية يستضيئون بنورها ويتعبدون على منوالها.

    حالة الناس في القرن السادس

    لقد تفنن الناس في هذا القرن -أعني القرن السادس وبالذات في منتصفه- في صناعة الأصنام والأوثان، واتخذوها آلهة تعبد من دون الله، وكانت الأمم الكبيرة تستعمر الشعوب الصغيرة وتستذلها، بل كان القوي بشكل عام يستعبد الضعيف ويستغله، وإزاء هذا وذاك كان الكون أحوج ما يكون إلى رسالة تنير دياجير الظلمة، تنير دياجير هذا الكون، وتبدد حوالك الظلمة وكانت بعثة النبي صلى الله عليه وسلم هي السراج الوضاء الذي أنار لهذا الكون كله.

    النبوة اختيار واصطفاء

    يطيب لنا -معاشر الإخوة- ونحن نتحدث عن سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، أن نشير إلى أن النبوة بشكل عام -سواء أكانت في شخص محمد صلى الله عليه وسلم أو في شخص غيره من أنبياء الله ورسله- أنما هي اصطفاء واختيار إلهي، وليست رغبة بشرية اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [الأنعام:124] اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ [الحج:75] إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ [آل عمران:33] إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي [الأعراف:144] إذاً الرسالة والنبوة اصطفاء واختيار ليس غير ذلك، والله أعلم حيث يجعل رسالته.

    1.   

    خصائص الأنبياء

    والرسل بشكل عام أدبهم ربهم فأحسن أدبهم، ولذا تختلف حياتهم عن حياة الآخرين من غيرهم، في فكرهم وفي سلوكياتهم وفي تعاملهم إلا من نهج منهجهم، والأنبياء بشكل عام -معاشر الإخوة- لهم خصائص تميزهم، وحين شاء الله تعالى أن يكونوا من جنس البشر فقد اصطفاهم كما أسلفت واختارهم، فهم ليسوا ملائكة من السماء، وقد اقتضت حكمة الله تعالى ذلك؛ لأن الذين أرسل الأنبياء إليهم بشر، ولو أنـزل الله تعالى ملائكة لهؤلاء البشر لصعب التفاهم بينهم، ولربما كان هناك عذر لمن لم يلتزم سبيلهم، وهو أنه لا طاقة له بهم لاختلاف سلوكياتهم، ولكن اقتضت حكمة الله أن يكون الأنبياء والمرسلون بشراً من الناس.

    اختصاص الأنبياء بالوحي

    الأنبياء ببشريتهم مميزون وبأشخاصهم مختصون، فهم أولاً مختصون بوحي السماء؛ فمنهم من كلمه الله تعالى مباشرة أو من وراء الحجاب، ومنهم من أرسل إليه ملائكة بالوحي، كما قال تعالى وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ [الشورى:51].

    اختصاص الأنبياء بالعصمة

    من خصائص الأنبياء العصمة؛ فقد عصم الله تعالى أنبياءه من الشرك والضلال، سواء أكان ذلك قبل النبوة أم بعدها، وبرَّأهم من الزيغ والأهواء، وهم معصومون في تحمل الرسالة، فلا ينسون شيئاً مما أوحاه الله إليهم إلا شيئاً قد نسخ، وهم معصومون كذلك في نقل الوحي والرسالة للناس، فلا يزيدون ولا ينقصون ولا يكتمون شيئاً مما أوحاه الله تعالى إليهم: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ [الحاقة:44-45] ولو كان محمد صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً مما أوحى الله تعالى إليه لكتم أمثال: عَبَسَ وَتَوَلَّى [عبس:1] وأمثال: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ [الأحزاب:37].

    اختصاص الأنبياء بيقظة القلوب

    من خصائص الأنبياء عليهم السلام أن أعينهم تنام ولكن لا تنام قلوبهم، قال عليه الصلاة والسلام: {إنا معاشرَ الأنبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا} وقال صلى الله عليه وسلم في حديث الإسراء: {وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم}.

    اختصاص الأنبياء بالتخيير بين الموت والبقاء

    من خصائص الأنبياء عليهم السلام تخييرهم عند الموت، فهم يُخَّيرون بين الموت وبين البقاء في الحياة الدنيا، وفي الحديث الصحيح: {ما من نبي يمرض إلا خُيِّر بين الدنيا والآخرة} ولكنهم عليهم السلام يختارون الآخرة ونعيمها على الدنيا ومتاعها كما قال صلى الله عليه وسلم وهو في مرضه الأخير، وهو يختار الآخرة: { مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ [النساء:69] تقول عائشة رضي الله تعالى عنها: فعلمت أنه خُيِّر} أي: حينما قال هذه الكلمات، علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خُيِّر بين الحياة والممات، فاختار الرفيق الأعلى دون الحياة الدنيا، كما أخرج ذلك البخاري في صحيحه.

    اختصاص الأنبياء بالحياة في القبور وأن الأرض لا تأكل أجسادهم

    من خصائص الأنبياء عليهم السلام أنهم أحياء في قبورهم، كما صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومن خصائصهم كذلك أن الأرض لا تأكل أجسادهم، وهذا إكرام من الله تعالى لهم، فمهما طال بهم الزمن وتقادم بهم العهد فأجسامهم محفوظة من البِلَى، وفي الحديث: {إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء} كما روى ذلك أبو داود والنسائي وصححه ابن خزيمة وغيره كما في الفتح.

    ومن خصائص الأنبياء أنهم يقبرون حيث يموتون، فلا يقبر نبي إلا في الموضع الذي مات فيه، وفي الحديث الصحيح: {لم يقبر نبي إلا حيث يموت} كما روى ذلك أحمد في مسنده بإسناد صحيح، ولهذا فإن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم دفنوا الرسول صلى الله عليه وسلم في حجرة عائشة رضي الله عنها، حيث قبضت روحه فيها.

    هذه أبرز الخصائص التي تميز الأنبياء والمرسلين، أو التي ميز الله بها الأنبياء والمرسلين عن غيرهم.

    خصائص أخرى للأنبياء

    ينبغي أن نعلم أن الأنبياء عليهم السلام أكمل البشر خَلْقاً وخُلُقاً، فهم أسلم الناس في هيئاتهم وفكرهم، مبرؤون من كل عيب خَلْقي، وإن كان يصيبهم ما يصيب غيرهم من الأمراض والأسقام، وهم كذلك أكمل الناس خُلُقاً، وهم أشرف الناس كذلك نسباً، وهذا محمد صلى الله عليه وسلم وهو آخرهم يتحدث عن شرف نسبه ومن سبقه من آبائه المرسلين، فيقول: {بعثت من خير قرون بني آدم قرناً فقرناً، حتى كنت من القرن الذي كنت أنا فيه}.

    وهم ذكور أحرار، فلم يكن في الأنبياء عليهم السلام امرأة كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ [الأنبياء:7] ولم يكن فيهم كذلك عبد أو رقيق.

    وهم بالجملة أحسن الناس خُلُقاً وأطهرهم قلوباً وأكثرهم صبراً، وما بالهم لا يكونون كذلك؟! وقد أدبهم ربهم فأحسن أدبهم، ورعاهم فأحسن رعايتهم، وتولاهم وحفظهم.

    1.   

    اهتمام العلماء بدراسة السيرة النبوية

    أيها الإخوة.. ونعود إلى السيرة النبوية سيرة محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، فنقول: إن السابقين قد اهتموا بها،ولا يزال اللاحقون تشكل السيرة عندهم محل اهتمام، أما اهتمام السابقين فقد تجاوز لدى الرعيل الأول مجال العلم بها، إلى مجال العمل بها والتأسي.

    بل تجاوز ذلك إلى مجال التعليم والتدوين للأجيال اللاحقة،فكانت السيرة النبوية تعقد لها الحلقات والدروس، ويروي ابن سعد في طبقاته أن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كان له مجلس يدرس فيها السيرة النبوية، وكان ابن عباس يجلس في إحدى عشياته يعلم الناس المغازي والسير.. وهذا نموذج لاهتمام السابقين بسيرة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، بل بلغ الاهتمام بالسير والمغازي أنهم كانوا يتعلمونها كما يتعلمون السورة من القرآن، كما نقل ذلك ابن كثير عليه رحمة الله.

    من دواعي اهتمام السلف بالسيرة

    وما بالهم لا يهتمون بها؟! وقد روي عن الزهري عليه رحمة الله أنه قال: في علم المغازي علم الآخرة والدنيا، ويقول الحافظ ابن كثير عليه رحمة الله: وهذا الفن -يعني السير أو السيرة- مما ينبغي الاعتناء به والاعتناء بأمره والتهيؤ له، ثم نقل عن الواقدي بسنده عن عبد الله بن عمر بن علي سمعت علي بن الحسين يقول: [[كنا نعلم مغازي النبي صلى الله عليه وسلم كما نعلم السورة من القرآن]] وهذه إشارة كافية إلى اهتمام السابقين بسيرة النبي الكريم.

    1.   

    خصائص السيرة النبوية

    لماذا الاهتمام بالسيرة ولماذا دراستها؟ وهل من ميزة أو ميزات تتميز بها سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وتستدعي هذا الاهتمام وأكثر؟ نعم -إي وربي- إنها ذات قيمة وذات اعتبار، ولها خصائص تميزها، وهذه وتلك تدعو إلى الاهتمام بها وإلى دراستها وإلى تدوينها وإلى تعليمها وإلى العمل بها.

    فما هي أبرز خصائص سيرة النبي صلى الله عليه وسلم؟ ولعله غير خاف أن سير الأنبياء عليهم السلام تتميز عن سير الخلق بشكل عام، ذلكم لأن الله اصطفاهم كما سمعتم، ولأن الله تعالى أعدهم لحمل رسالته إلى العالمين، ولهذا فإن سيرهم بشكل عام نموذج للطهر والعفاف، ومثل أعلى للعبودية والتقوى، وهي أيضاً مثال يحتذى في الخلق والعطاء والدعوة والجهاد والصبر على المحن والبلوى... إلى غير ذلك من خصائص الأنبياء عليهم السلام.

    ومع ذلك فإن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم تنفرد عن سائر الأنبياء والمرسلين قبله بسمات وخصائص أهمها ما يلي:

    صحة المصادر وتكاملها

    أولاً: الصدق والتكامل في مصادرها؛ وإذا كان القرآن الكريم أول مصدر لهذه السيرة فهو نموذج للصدق والحفظ من الزيادة والنقصان، قال الله تعالى إِنَّا نَحْنُ نـزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9] ويتضح الفرق حين المقارنة بين القرآن الكريم وبين سائر الكتب المنـزلة قبله كالتوراة والإنجيل، والتي لم تعد صالحة للاعتماد نظراً لما شابها من التحريف، ولو لم يحفظ القرآن، لنا نبذاً من سير الأنبياء السابقين وكذا نصوص السنة الصحيحة لم يبق شيء يعتمد عليه ويوثق به في معرفة سيرهم.

    أما سيرة النبي صلى الله عليه وسلم فما لم نجده في القرآن الكريم نجده في السنة النبوية، وما لم تحط به كتب السنة نجد كتب السيرة قد أحاطت به وفصلت القول فيه، ومع كون هذه النصوص في كتب السيرة تشمل نصوصاً قد لا تثبت أمام النقد، فبإمكاننا أن نجمع من هذه النصوص مادةً نكتب بها عن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم بدقيقها وجليلها وبروايات موثقة لا مطعن فيها.

    أما النصوص التي تروي أخبار المرسلين السابقين فيما عدا القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة، فيغلب عليها الإسرائيليات وتكثر فيها الاختلافات، ليس ذلك محض افتراء أيها الإخوة، وليس ذلك تزيداً أو افتراءً أو جنايةً على الكتب المتقدمة، بل هو الواقع نشهد به نحن، ويشهد به أرباب الديانات المحرفة كذلك.

    وأسوق لكم نصاً من رجل نصراني يعترف بهذه الحقيقة، ويقول: إنه لم يكن يعرف إلا حوالي خمسين يوماً من حياة المسيح عليه السلام، فأين بقية أيام المسيح، بل يعترف صراحة حينما يقول، وهو القس الدكتور كارلوس أندرسون يقول في مقال نشره في دائرة المعارف البريطانية: ينبغي أن يتنازل الإنسان عن محاولة وضع كتاب في سيرة المسيح بكل صراحة، فإنه لا وجود للمادة والمعلومات التي تساعد على تحقيق هذا الغرض، والأيام التي توجد عنها بعض المعلومات لا يزيد عددها على خمسين يوماً.

    إذاً ليس بمقدورنا أن نكتب سيرة عن المسيح عليه السلام، وإذا كان هذا آخر أنبياء بني إسرائيل، وليس بمقدورنا أن نكتب عنه السيرة، فإن من مضى من أنبياء الله ورسله من باب أولى وأحرى؛ لأنه كلما تقادم العهد كلما كثر التحريف والتأويل والانتحال.

    الشمول في وصف الرسول صلى الله عليه وسلم

    الخاصية الثانية التي تمتاز بها سيرة النبي صلى الله عليه وسلم بعد تكامل مصادرها: الشمول في وصف الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذه النسخ التي نجدها عن المرسلين السابقين على الرغم من قلتها لا نجد فيها وصفاً شاملاً وجامعاً لمراحل حياتهم، وتفصيلاً كاملاً لمواقفهم مع أممهم، الأمر الذي نجد عكسه في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ حيث يمكن للمطلع عليها الوقوف على مولده، ونشأته، وحياته قبل البعثة -أعني محمداً صلى الله عليه وسلم- وكيف بعث؟ وموقف قومه من بعثته، وهجرته، ودعوته، وبناء دولته، وتربية أصحابه... إلى غير ذلك من الأمور التي يتعذر معرفتها في بقية أنبياء الله ورسله عليهم السلام، وليس ذلك بقادح فيهم، ولكنها حكمة الله جلت قدرته جعلت سيرة هذا النبي المصطفى تحفظ؛ فهو آخر الأنبياء والمرسلين.

    بل إن الشمول في سيرته عليه الصلاة والسلام يمتد ليغطي مناحي الحياة كلها، فيخرج المطلع عليها بتصور كامل عن النواحي العبادية وأمور المعاملة، وتتسع هذه السيرة المحمدية لتشمل الأمور السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية وغيرها، بل إن الشمول في سيرته صلى الله عليه وسلم يعني كذلك اهتمامها بأمر الدنيا والآخرة.

    عموم الرسالة المحمدية وختمها للرسالات

    الخاصية الثالثة: أن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم رسالة خاتمة وعامة، وهذه خاصية للنبي صلى الله عليه وسلم، فرسالته عليه الصلاة والسلام هي خاتمة الرسالات، وقد أكمل الله بها الدين وأتم بها النعمة على العالمين، ومع كونها خاتمة انقطع الوحي من السماء بموت صاحبها عليه أفضل الصلاة والسلام، فهي كذلك عامة لكل زمان ومكان، ومكلَّف بها الإنس والجان، وهذا العموم والشمول لا يوجد في سيرة الأنبياء قبله، إذ كان النبي يبعث إلى قومه خاصة في إطار زمني ومكاني محددين، ومع ذلك تقف حدود رسالته بموته، بل أُخِذَ العهد على كل نبي إن بعث محمد صلى الله عليه وسلم وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه كما سيأتي بيان ذلك.

    بقاء الدلائل والمعجزات النبوية

    رابعاً: من خصائص سيرة النبي صلى الله عليه وسلم بقاء دلائل نبوته، فقد أعطى الله كل نبي من الأنبياء أموراً خارقة للعادة تؤكد نبوتهم، وتدعو الناس للإيمان بهم وبرسالتهم، والتصديق بما جاءوا به من عند الله، فأعطى الله تعالى صالحاً الناقة، وسخر مع داود الجبال يسبحن والطير، ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر، وآتى موسى تسع آيات بينات، آمن السحرة حين رأوا بعضها، ومكن عيسى عليه السلام من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله تعالى، إلى غير ذلك من دلائل النبوة.

    لكن هذه الآيات كانت وقتية ذهبت آثارها مع الذين رأوها، ولم تبق الآيات شاهداً حياً تراه الأجيال المتلاحقة كدليل على نبوة هؤلاء المرسلين، هذا في حق أنبياء الله ورسله السابقين.

    أما في حق النبي صلى الله عليه وسلم فالأمر مختلف جداً؛ فقد كان من أعظم دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم القرآن الكريم، بل هو المعجزة الخالدة لهذا النبي العظيم، والقرآن شاهد حي منذ نـزل وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وعلى الرغم من محاولات التحريف والتأويل التي تعاقبت عليها أيدي البشر جيلاً بعد جيل، فما يزال كتاب الله يتحدى البشر، بل ويعترفون بتحديهم وعجزهم عن التحريف فيه.

    فهذا القرآن معجز ودليل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لما يحويه من آيات الإعجاز العقلية والعلمية، فضلاً عن إخباره عن الأمم الغابرة، وحديثه عن المغيبات، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: {ما من نبي إلا وقد أوتي ما على مثله آمن البشر، أما الذي أوتيته أنا فهو وحي من السماء} كما روى ذلك البخاري في صحيحه.

    ولهذا فمن يقرأ القرآن الكريم في زماننا هذا يدرك كما أدرك من سبقه، أن هذا القرآن الكريم لا يمكن أن يكون من عند محمد صلى الله عليه وسلم بل هو من عند الله، هذا فضلاً عن دلائل نبوته الأخرى، كالإسراء والمعراج وانشقاق القمر وحنين الجذع ونحوها، وإنما أكدت على القرآن الكريم لبقائه معجزاً إلى هذا اليوم، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

    تواصل حمل الرسالة والدعوة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم

    أيها الإخوة.. ومن خصائص هذه السيرة أنها لم تنته بموته، بل بقي جيل بل أجيال تحمل منهجه، وتؤدي رسالته، فالرجال الذين كانوا حول النبي صلى الله عليه وسلم لم يتوفر مثلهم عدداً وعدة لنبي قط، وإذا كان أصحاب موسى عليه السلام قالوا له حينما اشتدت الأمور: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24] فإن الأمر يختلف بالنسبة لجيل محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته فهم الذين قالوا له: والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكن نقول لك: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، والله لو خضت بنا البحر لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد.

    وإذا كان أصحاب عيسى عليه السلام حكى الله تعالى كفرهم وحكى تحذير عيسى عليه السلام إياهم من الكفر، كما قال تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ [المائدة:72] إذا كان هذا حصل من أصحاب عيسى عليه السلام، فلم يحصل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كفر به بعد إيمان.

    وليس بخافٍ عليكم -أيها الإخوة- كذلك موقف النصارى أو بني إسرائيل من المائدة التي سألوا عيسى أن يسأل ربه أن ينـزلها عليهم من السماء، وأخذ عليهم العهود، فسأل الله تعالى بعد أن أخذ عليهم من العهود والمواثيق ما أخذ أن يشكروا الله ولا يكفروه، إلا أنهم بدلوا وحرفوا وكفر بعضهم وجحدوا هذه النعمة، حتى قال بعض المفسرين: إنها لم تنـزل عقوبة لهم، وقال الحافظ ابن كثير: وقد روي ذلك بأسانيد حسان، بل قال: بأسانيد صحيحة إلى مجاهد والحسن وإن كان قال: إن الجمهور على أن المائدة نـزلت، المهم أن أصحاب عيسى كذلك حصل لهم ما حصل مع نبيهم عيسى عليه السلام.

    النقلة التي أحدثها صلى الله عليه وسلم

    إن سمات وخصائص هذه السيرة، بل مما يثير العجب فيها أن هذه النوعية -أعني بهم الصحابة جيل محمد صلى الله عليه وسلم ورجاله وأصحابه- قد استخرجها الله تعالى بهذا النبي من أوحال الكفر وظلمات الجاهلية، وأحياهم الله تعالى به بعد أن كانوا في عداد الموتى، لقد كانوا أمة في الحضيض في قيمها بل وفي تصوراتها وسلوكها، وسألمح لكم نماذجاً تكشف عن هذا الضياع وهذا الانحراف وهذا التيه الذي وجده محمد صلى الله عليه وسلم.

    فبنو حنيفة حي من أحياء العرب، وقد روى ابن قتيبة في معارفه وهو يشير إلى ضحالة وإلى خرافة أديان العرب وإلى تفاهة ما كانوا عليه في المعتقد، يقول عن بني حنيفة: إنهم اتخذوا صنماً من حيس فعبدوه دهراً طويلاً ثم أصابتهم مجاعة فأكلوه، فقال رجل من بني تميم يعيرهم بذلك:

    أكلت حنيفة ربها من      جوع قديم ومن اعواج

    وقال آخر فيهم:

    أكلت حنيفة ربها           زمن التقحم والمجاعة

    لم يحذروا من ربهم سوا      العواقب والتباعة

    أما وفد سليم، وما أدراك ما وفد سليم؟! فقد روى ابن سعد في طبقاته خبراً عجيباً وهو يذكر وفادة سُلَيم، وجاء في الخبر أنه كان من ضمن الوفد رجل يسمى راشد بن عبد ربه وهذه تسمية من النبي صلى الله عليه وسلم أسلم الوفد وبات هذا الرجل وهو راشد بن عبد ربه يقص على النبي صلى الله عليه وسلم بعضاً من أخبارهم في بني سليم، ويقول: يا نبي الله كنت سادن صنمٍ لبني سليم، يعني: يحرسه ويحفظه وما إلى ذلك، يقول: فرأيت يوماً ثعلبين يبولان عليه، فقلت:

    أربٌّ يبول الثعلبان برأسه؟!     لقد ذل من بالت عليه الثعالبُ

    يقول: ثم شددت عليه فكسرته، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره خبره، وقال: ما اسمك؟ قال: غاوي بن عبد العزى -وانظروا إلى الانتكاس حتى في الأسماء- اسمه غاوي بن عبد العزى، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: بل أنت راشد بن عبد ربه، فأسلم وحسن إسلامه وشهد الفتوح، وقال فيه النبي: {خير بني سليم راشد}.

    اطلاع صاحب السيرة على أحوال الأنبياء السابقين

    ومن خصائص سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وهو أمر يدعو إلى الاهتمام بها وإلى دراستها، أن الله تعالى أطلع نبيه على أحوال الأنبياء السابقين وعرفه بقصص الماضين، فكان ذلك رصيداً له ولأمته من بعده، وكان ذلك دليلاً على صدق نبوته عليه الصلاة والسلام، أجل! إن ذلك من إعجاز القرآن الكريم، وإلا فكيف يخبر محمد صلى الله عليه وسلم عن أمم غبرت في سالف الأيام، وبينه وبينهم آلاف الأعوام؟!

    وهو ترسيخ للإيمان، يجده من يقرأ القرآن الكريم، فهو مثلاً حينما يقرأ أخبار عاد وثمود، أو قوم نوح أو قوم صالح، أو قوم لوط أو حكايات بني إسرائيل وأخبارهم، حينما يقرأ هذه الأخبار كلها، وهو يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أمي لا يقرأ ولا يكتب، يعلم أن ذلك من وحي السماء؛ ولهذا قال الله تعالى لنبيه وهو يعقب على قصة موسى عليه السلام، وانظروا إلى دقة التعبير، قال الله تعالى: وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ * وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ [القصص:44-45].

    إذاً بسبب الرسالة وبسبب الوحي علم محمد صلى الله عليه وسلم ما لم يكن يعلم، وقص عليه من الأخبار ما لم يكن شاهداً أو حاضراً له.

    وفي موطن آخر وبعد أن يخبر الله تعالى أو يقص من أخبار مريم البتول وابنها عيسى عليه السلام يقول الله تعالى: وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ [آل عمران:44] وحين يفصل الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم قصة يوسف عليه السلام مع إخوته يوحي الله تعالى إلى نبيه في نهاية المطاف ويقول: ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ [يوسف:102].. إلى غير ذلك من آيات تشير إلى نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وتؤكد إخباره بأخبار الماضين.

    ماذا يعني ذلك؟ يعني هذا: شمولَ رسالة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وعظمته وحاجته إلى هذه المعارف، فهي رسالة خاتمة، ولذلك فهي محتاجة إلى كل رصيد من تجارب الأنبياء قبله.

    قدم نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وبشارة الأنبياء بها

    ويعني هذا أن الله تبارك وتعالى أخذ على الأنبياء قبله أو هذه خاصية أخرى من خصائص محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته.

    أن الله تعالى أخذ العهد على الأنبياء قبله لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه، وطلب إليهم أن يأخذوا من أممهم العهد والميثاق لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه.

    ذلك يعني أيها الإخوة تقدم نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فقد يخيل لبعضنا أن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم تبدأ منذ أنـزل عليه اقرأ وهو في مكة وعمره أربعون عاماً، والحق أن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم سبقت هذا التاريخ بعدة قرون، يؤكد ذلك الحديث الصحيح الذي سأل فيه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: {منذ متى كنت نبياً يا رسول الله؟ قال: وآدم منجدل في طينته} وفي رواية: {وآدم بين الجسد والروح} حديث حسن.

    بل إن الآية القرآنية في سورة آل عمران لتؤكد هذا العهد وتؤكد سابق نبوته صلى الله عليه وسلم: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران:81].

    لقد بشرت به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كما سمعتم، وآخر الأنبياء عيسى عليه السلام بشر به صراحة وقال: وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف:6] وشهدت على صحة نبوته كتب السماء، واعترف أهل الكتاب بذلك، وسأسوق لكم نموذجين اثنين لتتأملوا كيف اعترف اليهود أو النصارى بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم.

    من هذه النصوص ما أخرجه الحاكم في مستدركه وصححه ووافقه الذهبي، عن عوف بن مالك قال: {انطلق نبي الله صلى الله عليه وسلم وأنا معه حتى دخلنا كنيسة اليهود، فقال: أروني يا معشر يهود اثني عشر رجلاً يشهدون أن محمداً رسول الله يحط الله عنكم الغضب، فأُسكتوا، ثم أعاد عليهم فلم يجبه أحد، قال: فوالله لأنا الحاشر وأنا العاقب وأنا المصطفى آمنتم أو كذبتم، فلما كاد يخرج قال رجل: كما أنت يا محمد، أي رجل تعلمونني فيكم -وهو يشير إلى قومه من اليهود- قالوا: ما فينا أعلم منك! قال: فإني أشهد بالله أنه نبي الله الذي تجدونه في التوراة، فقالوا: كذبت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل كذبتم، قال عوف: فخرجنا ونحن ثلاثة، وأنـزلت: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الأحقاف:10]}

    أما النص الآخر فهو عن كعب الأحبار، رواه ابن حجر في الإصابة، وقال: العباس لـكعب [[ ما منعك أن تسلم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر؟ قال: إن أبي كان كتب لي كتاباً من التوراة، فقال: اعمل بهذا وختم على سائر كتبه، وأخذ علي بحق الوالد على الولد ألا أفض الختم عنها، فلما رأيت ظهور الإسلام، قلت: لعل أبي غيب عني علمها ففتحتها، فإذا صفة محمد وأمته، فجئت الآن مسلماً]] وقد حسَّن ابن حجر إسناد هذه الرواية.

    أيها الإخوة؛ ونص ثالث يؤكد فيه يهودي يحتضر أن محمداً يجدون صفته في كتبهم المنـزلة، {وقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى شاب يحتضر، وأبوه عند رأسه، وقد فتح التوراة يقرؤها عليه، فقال: يا هذا -أي اليهودي- أتجد في هذا الكتاب صفتي وصفة مخرجي؟ قال: لا، وأشار برأسه، وابنه كان في لحظات الموت الأخيرة، فرفع الابن رأسه، وقال: نعم! إنا نجد صفتك وصفة مخرجك في كتابنا هذا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أقيلوا أخاكم عن اليهودي أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم} فتولى المسلمون دفنه؛ لأنه أصبح في عداد المسلمين... إلى غير ذلكم.

    وقصص عبد الله بن سلام وأمثاله من أحبار اليهود أو من رهبان النصارى تؤكد اعترافهم بهذا الدين وبوجوده في كتب الله المنـزلة من التوراة والإنجيل قبل أن تدخلها أيدي التحريف والتضليل.

    بل إن هذه الشهادات وهذه الاعترافات تترى حتى يومنا هذا، وهل أشد حقداً من المستشرقين على الإسلام، وهم الآخرون يعترفون بعظمة محمد صلى الله عليه وسلم وبنبوته لا على أنه رجل مصلح، وإنما على أنه نبي شملت رسالته العالمين، وارتاح الكون بهديها.

    وأنقل لكم بعضاً من نصوصهم، فهذا أحدهم وهو تشيلل يقول: إن البشرية لتفتخر بانتساب كمحمد صلى الله عليه وسلم لها، إذ أنه رغم أميته استطاع قبل بضعة عشر قرناً أن يأتي بتشريع سنكون نحن الأوروبيين أسعد ما نكون لو وصلنا إلى قمته بعد ألفي سنة، ويقول كارليل: ولولا ما وجدوا -يعني قومه أو المسلمون- فيه من آيات النبل والفضل لما خضعوا لإرادته ولما انقادوا لمشيئته، وفي ظني --والكلام لا يزال لـكارليل- أنه لو وضع قيصر بتيجانه وصولجانه وسط هؤلاء القوم بدل هذا النبي، لما استطاع قيصر أن يجبرهم على طاعته كما استطاع هذا النبي في ثوبه المرقع، ثم ينهي كلامه قائلاً: هكذا تكون العظمة! وهكذا تكون البطولة! وهكذا تكون العبقرية!

    ويقول ويليام موير: لم يعهد التاريخ مصلحاً أيقظ النفوس وأحيا الأخلاق ورفع شأن الفضيلة في زمن قصير كما فعل محمد صلى الله عليه وسلم.

    ويقول القس ميشون في كتابه سياحة دينية في الشرق: إنه لمن المحزن أن يتلقى المسيحيون عن المسلمين روح التسامح وفضائل حسن المعاملة وهما أقدس قواعد الرحمة والإحسان عند الشعوب والأمم.

    أما المؤرخ الفرنسي جوزيف فيقول: بينما أهل أوروبا نائمون في ضلال الجهالة لا يرون الضوء إلا في سَم الخياط، إذ سطع نور قوي من جانب الأمة الإسلامية، وهو يشير إلى بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته.

    ويقول المؤرخ سيديو: وبعد ظهور محمد النبي صلى الله عليه وسلم رفعت أعلام التمدن في أقطار الأرض أيام كانت أوروبا مظلمة بجهالات أهلها.

    أما غوستاف لوبون فيقول: إن العرب هم سبب انتشار المدنية في أوروبا ويا ليت قومي يعلمون!

    وأخيراً يقول الدكتور موريس: إن القرآن أفضل كتاب أخرجته العناية الأزلية لبني البشر، هذا على حد تعبيره.

    أكتفي بهذه النصوص التي تؤكد اعتراف اللاحقين والسابقين بعظمة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، لأنتقل بعد ذلك إلى أهداف دراسة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا كنا قد علمنا هذه العظمة، وهذا الشمول وهذه الخصائص؛ فما هي أهداف دراسة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم.

    1.   

    أهداف دراسة السيرة النبوية

    لا شك أن هناك فرقاً بين أن ندرس سيرة عظيم من العظماء أياً كانت هذه العظمة، وبين دراستنا لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا ينبغي علينا ونحن نقرأ السيرة أن نضع في حسباننا أننا لا نقرؤها لمجرد المعرفة الباردة، أو التسلي بأحداثها المختلفة، لمجرد زيادة رصيد المعرفة، بل علينا أن تكون الأهداف واضحة في أذهاننا؛ حتى نستمتع بقراءتها، ونستفيد من عبرها ودروسها، وبغير هذه النظرة لا نستفيد من هذه السيرة، بل ربما أغلقت نصوصها أمام ناظرينا.

    وأذكر هنا بعضاً من أهداف دراسة السيرة، عساها أن تكون مفتاحاً للطريق:

    فهم الإسلام وتريعاته

    أولاً: السيرة النبوية تجسيد حي لتعاليم الإسلام، فلا بد لمن يريد أن يفهم الإسلام وتشريعاته، أن يقرأ سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، فسيرته هي التجسيد الحي، بل هي الصورة المشرقة لتعاليم الإسلام؛ فإن الإسلام منذ أن نـزل لم يكن نصوصاً جامدة لا وجود لها ولا أثر في الحياة، وإنما نـزل ليكون منهجاً للبشر، ولهذا تمثل النبي صلى الله عليه وسلم كل تعاليمه سلوكاً واقعياً في الحياة، ومجموع هذا السلوك هو سيرته عليه الصلاة والسلام، فالنبي صلى الله عليه وسلم يمثل الإسلام في كل أحواله، سواء أكان ذلك في حال النوم أم في حال اليقظة وسواء أكان على مستوى الفرد أم على مستوى الجماعة، في حال الرضا أم في حال الغضب، في حال السلم أم الحرب، وفي حال الجد أو المداعبة، وميزة الرسول صلى الله عليه وسلم أنه في كل هذه الأحوال -وهو البشر الذي يمكن أن يقع منه فعل خلاف الأولى- ميزته أنه يلقى التوجيه من ربه إذا ما قدر له ذلك، فينبه إلى الأولى ولا يكتم شيئاً مما أوحى الله إليه، فتستمر سيرته على الهدى والحق.

    وعلى سبيل المثال: تحفظ لنا نصوص السيرة قصته مع عبد الله بن أم مكتوم، وقصته في زواجه لـزينب بنت جحش، فالأولى قال الله تعالى عنها عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى [عبس:1-3]... إلى آخر الآيات، والأخرى قال الله عنها:وَإِذْ تَقُولً لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ [الأحزاب:37].

    تأكيد الواقعية في هذا الدين

    ثانياً من أهداف دراسة السيرة تأكيد الواقعية في هذا الدين، فإن من سمات الدين الإسلامي أنه دين الواقعية يتعامل مع النفس البشرية بكل ملابساتها وبمختلف أحوالها وظروفها، وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم تأكيد لهذه الواقعية، فهو مع كونه صورة مشرقة وقمة سامقة للإسلام، إلا أنه لم ينسلخ عن بشريته يوماً من الأيام، ولم يكن وهو يزاول تعاليم الإسلام ملكاً مقرباً؛ بل كان بشراً سوياً، فعاش مع نفسه حالة الخوف والرجاء، وعانى من الفقر، وعرض له الغنى، وعاش ظروف الغربة كما عايش الأمن والاستقرار، كما مرت حياته بظروف العزلة والاختلاط، والعزوبة والزواج، وكان قائداً حربياً ومخططاً سياسياً، وأحست نفسه بآمال النصر كما أحست بآلام الهزيمة، ففرح وحزن وغضب ورضي، وهكذا كان في كل هذه الأحوال ينهج نهج الاستقامة والعدل، والذين يقرءون هذه السيرة يتبينون هذا الأمر، ويسيرون في حياتهم على نهج سيرة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.

    وهكذا كان في كل هذه الأحوال ينهج نهج الاستقامة والعدل، ويتعامل مع النفس البشرية بشكل واقعي، يتيح لمن بعده أن يقتدي به في كل حال من أحوال الحياة، وفي هذا المجال يجد الدارس للسيرة تلازماً بين القول والعمل، والمبدأ والسلوك، فلا يأمر الناس بالبر والخير وينسى نفسه، والذين لا تتاح لهم دراسة السيرة دراسة واعية تظهر في سلوكياتهم التناقضات، وتكثر في حياتهم المنغصات.

    التعرف على مراحل الدعوة وأساليبها

    ثالثا: التعرف على مراحل الدعوة وأساليبها، فدراسة السيرة -معاشر الإخوة والأخوات- تكشف عن مراحل دعوته صلى الله عليه وسلم المختلفة، وترسم المنهج الأمثل للدعوة، ومن المعلوم أنه صلى الله عليه وسلم أسر في دعوته بـمكة فترة من الزمن، كان لهذه الفترة ظروفها وملابساتها، وكان له صلى الله عليه وسلم فيها أسلوب مميز للدعوة شاد فيها أسس البناء، واختار العناصر الصالحة للعطاء، وأبعد عن الدعوة مخاطر الأعداء، ثم جهر بالدعوة وأعلنها على الملأ، وكان له ولصحابته مع الكفار مواقف وأحداث استطاع خلالها أن يرسم الأسلوب الأمثل للمواجهة، ثم هاجر إلى المدينة فاحتاجت الدعوة إلى أسلوب آخر، فما جمد الرسول صلى الله عليه وسلم وما تردد، ورسم منهجاً ومارس وسائل الدعوة التي تناسب هذه المرحلة، وهكذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته لا يمل ولا يكل، ولا يتوقف عند أسلوب يرى أن غيره أنسب للدعوة منه.

    ولذا فإن على الذين يمارسون الدعوة أن يقرءوا هذه السيرة العطرة، وسيجدون فيها ما يجيب على تساؤلاتهم، ويلبي حاجياتهم، ويفي بمتطلبات دعوتهم، مهما اختلفت الأزمان وتنوعت البقاع، أجل! لقد حوصر النبي صلى الله عليه وسلم وشرد، ونفي وأهين، وواجهته ضغوط نفسية واجتماعية ومؤامرات وخيانات، وتعرض لكيد المنافقين وكيد الكفار والطغاة والمجرمين، وتعرض لمساومات سياسية وعقد مصالحات، وواجهته مشكلة بناء أمة وإقامة مجتمع على أسس جديدة، فما وهن ولا استكان، بل ترك في هذه وتلك توجيهات كريمة وأسساً رشيدةً، وعلى قدر المسيرة عليها تصلح الدعوة وينجح الدعاة.

    وليس بمقدور الدعوة، بل وليس بمقدور الدعاة أن يعيدوا منهج الدعوة بغير معرفة سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم.

    توضيح المجمل في القرآن

    رابعاً: توضيح المجمل في القرآن: فمن أهداف دراسة في السيرة أنها توضح ما أجمله القرآن الكريم من إثارات قد لا يفهم المقصود منها إلا بالرجوع إلى أحداث السيرة، وفي السيرة تحديد للإطار العام للآيات القرآنية ومواضع نـزولها ومواقع دلالتها، وبهذا نفهم المقصود بآياته، ويستفاد من توجيهاته.

    فالآيات مثلاً في أسرى بدر يصعب فهمها وإدراك دلالتها دون الرجوع إلى أحداث السيرة، وهكذا الشأن في آيات غزوة أحد حين وقعت الهزيمة، ومثل ذلك يقال في توجيهات القرآن حول النفاق والمنافقين، وحول أهل الكتاب والمشركين.. إلى غير ذلك، بل نستطيع من خلال معرفتنا بأحداث السيرة تحديد الآيات الناسخة والمنسوخة، وهي قضية يترتب عليها كثير من الأحكام الشرعية، والأمر كذلك بالنسبة للأحاديث النبوية، حيث تعين دراستنا للسيرة على معرفة زمن القول وظروفه، وهو ما يسمى ببيان أسباب ورود الحديث.

    تحقيق وحدة الأمة

    خامساً: وحدة الأمة وعدم التنازع: وهذا هدف سام وجليل من أهداف دراسة السيرة، فمعرفتنا بمراحل الدعوة وأساليبها المختلفة ومعرفتنا بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم بشكل مجمل، يجعل في صدر كل واحد منا متسعاً للآخرين في أسلوب دعوتهم، ما دام أصحابها يلتزمون بهدي الإسلام، ويراعون أصوله، ولا يؤثرون الهوى على الهدى، ولا يقصدون تقليد الخلق، بل هدفهم الوصول إلى الحق، ولا تؤدي بنا الاختلافات الفرعية إلى التناحر والنـزاع والقطيعة، بل نجعل السيرة هي أداة التحكيم عند اختلافنا امتثالاً لقول الحق تبارك وتعالى: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء:59] ولقوله تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7].

    نعم! إنه قد يشكل علينا أمر، ونختلف في حله وحرمته وقربه من روح الإسلام أو بعده، ولكنا حينما نعود إلى السيرة ينحسم هذا الأمر، ويوضح لنا الطريق سيرتُه وهديُه صلى الله عليه وسلم، وقد يرى راءٍ في الإسلام جزئية لا تعجبه، ولا يدرك مغزاها ومرماها، فما عليه إلا أن ينظر كيف طبق الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الجزئية؟ ومتى؟ ولماذا؟ وكيف؟! ليدرك موقعها من مجموع البناء الإسلامي، ولا يستعجل الأمور، فيلتمس التعليلات الباردة ليرد بها الأحكام الصريحة الواضحة، أو النقول الصحيحة الجلية كما يفعل بعض الناس.

    توضيح المنهجية الإسلامية

    نحن نحتاج إلى دراسة السيرة في كل أحوالنا، في حالة السراء وفي حال الضراء وفي حال النصر أو حال الهزيمة، في حال الضعف أو حال القوة.

    إن الأمة أيها الإخوة حينما تمر بمرحلة ضعف فلا منقذ لها إلا الاعتصام بالكتاب والسنة، والتزام شرع الإسلام منهجاً ودليلاً، وهل السيرة النبوية إلا منهج لهذا وذاك؟! وحين تبصر الأمة حائرة مترددة تلتفت هنا مرة وهناك أخرى، فاعلم أن علتها غياب المنهج والجهل بسيرة النبي المعلم صلى الله عليه وسلم.

    واعلم أن حاجتها إلى هذه السيرة العطرة أشد من حاجتها إلى الطعام والشراب، ومن هنا تأتي أهمية دراسة السيرة في حالة غياب الأمة وأفول نجمها، لتكون معلماً تهتدي به في حوالك الظلمة، وإذا كانت حاجتها إلى السيرة في هذه المرحلة مهمة -أعني مرحلة الضعف والهوان- فحاجة الأمة إلى السيرة النبوية في حال النصر والتمكين أشد، إذ ليس الهدف من النصر والتمكين مجرد الاستعلاء أو التكبر والبطر، كلا! فالهدف استخراج العباد من عبودية بعضهم لبعض إلى عبودية رب العالمين، ونقلهم من وضع مهين مزرٍ إلى وضع يستشعرون معه الراحة والسعادة والأمن والطمأنينة والأمان.

    هدف المسلمين تحقيق العدالة وتمكين شرع الله وإزالة الظلم، وكل هذا وذاك لا يمكن أن يكون لقوم يجهلون سيرة النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا خير إلا دل الأمة عليه، ولا شر إلا حذرها منه.

    معاشر الإخوة؛ إننا اليوم -ونحن نستشف بوادر النصر والتمكين لهذا الدين- مدعوون لقراءة سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، حتى يُحكم الناس بالعدل والقسط، وحتى تكون القيادة راشدة والمنهج سليماً، وثمة أمر آخر يؤكد أهمية دراسة السيرة، فالباحثون في التربية والاجتماع والسياسة والاقتصاد ونحوها من العلوم، عادوا يعترفون أنهم بعد جهد كبير ومشوار طويل في دراسة النظريات واستيعاب الطروحات، عادوا يعترفون بكون السيرة النبوية منهلاً عذباً يردون فيه فيجدون بغيتهم، ومورداً زلالاً يروي ظمأهم، بل إن العسكريين وهم يخططون لمعارك اليوم لا يجدون غُنْيَةً عن تجربة الرسول صلى الله عليه وسلم العسكرية، فضلاً عن أهل الإدارة والتخطيط، وهذا وذاك يحتم دراسة السيرة النبوية وفهمها.

    إزالة الخلاف والتقريب بين وجهات النظر

    أما الأمر الأخير والمهم في دراسة السيرة فهو أنها مادة للاجتماع وأسلوب للتقارب الحق بين المسلمين المختلفين، والواقع يشهد أنه لم يحدث أن اجتمعت كلمة المسلمين في بقاع الأرض على مذهب من المذاهب، أو حزب من الأحزاب، أو على كتب ومؤلفات عالم من العلماء، ولكنهم اجتمعوا واتحدوا على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم سلفاً ويمكن أن يتحدوا خلفاً على ذلك.

    وهذا يستدعي قراءة السيرة النبوية وتحقيقها ليجتمع المسلمون على كلمة سواء، واجتماع المسلمين هدف جليل ينبغي أن يُسْعَى له، وينبغي أن يُفَكِّر في وسائله، وينبغي أن يفكر كذلك في الأمور المعينة عليه، وفي ظني أن فقه السيرة النبوية مدخل أساسي، ووسيلة مهمة لجمع كلمة المسلمين على الحق والهدى.

    أسأل الله أن يجمع كلمة المسلمين على الحق والهدى، وأن يؤلف قلوبهم وأن يصلح ذات بينهم، وأن ينصرهم على عدوهم وعدوه، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وأعتذر عن إعطاء هذا الموضوع حقه، فثمة إشارات ينبغي أن يتحدث بها لمن يريد أن يفي الموضوع حقه، لكنني أكتفي بهذه العجالة تقديراً للزمن واعترافاً بالتقصير، وأسأل الله تعالى أن ينفعني وإياكم بما نسمع، وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

    1.   

    الأسئلة

    الأسئلة التي وردت كثيرة، ولعلنا نأخذ ما تيسر منها، ونرجو أن نجيب على أكثرها ولو باختصار، والأسئلة على قسمين قسم منها يطالب الشيخ بدرس في السيرة؛ لأن الساحة خالية من هذا الموضوع، وكانت المطالبات كثيرة، وإن قلت: إن نصف الأسئلة تطالب الشيخ بهذا الموضوع، فلست مبالغاً، وأرجو من الشيخ أن يعلق على هذا الموضوع، وأن يعد الحضور وعداً يثلج الصدور في طرق مثل هذه الدروس القيمة التي نحن في أمس الحاجة إليها.

    الجواب: على أية حال أشكر الإخوة على ثقتهم، وأسأل الله تعالى أن يغفر ويتجاوز، وأعدهم خيراً، بل إنني أفكر كثيراً في تخصيص درس للسيرة النبوية، فأنا المستفيد الأول من هذا الدرس، أرجو الله تعالى أن يعجل بقيامه وأن يعينني على إتمامه، ولعل هذا اللقاء يكون بداية طيبة بإذن الله تعالى، وأعد الإخوة إن شاء الله بإقامة درس، لكنه إن كان فسيكون بمشيئة الله في المسجد الذي أصلي فيه وهو في حي السلطان، وأرجو أن يعينني الله تعالى على إعلانه قريباً.

    إشكالية التخيير بين الموت والبقاء مع إخبار الله بموت جميع الخلائق

    السؤال: كيف يخير الأنبياء بين الموت والبقاء؟ والله عز وجل أقسم ألا يبقى عليها أحد، كيف التوفيق بين ذلك؟

    الجواب: ليس معنى التخيير الحياة إلى الأبد، وإنما هو المد في الأجل والفسحة فيه، وقد ورد في الصحيح { أن موسى عليه السلام لما جاءه ملك الموت صكه على وجهه، فرجع ملك الموت، وقال لله تعالى -وهو أعلم بما حصل-: إن عبدك لا يريد الموت، فقال: ارجع إليه وقل له: ضع يدك على ظهر ثور، فما وقع تحت يدك من شعراته فلك به عدد السنين، فرجع الملك إلى موسى عليه السلام، وقال له ذلك، فقال موسى: وماذا بعد ذلك؟ قال: الموت -لأنه ليس هناك أحد مخلد كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [الأنبياء:35] لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ [الرعد:38]- فقال موسى عليه السلام: إذا كان لا بد من الموت فليكن من الآن} فليس المقصود البقاء إلى الأبد، وإنما المقصود الفسحة في الأجل، ولذلك خير النبي صلى الله عليه وسلم -كما جاء في الحديث الصحيح- فاختار الرفيق الأعلى على مزيد المكث في الحياة الدنيا، والله أعلم.

    عصمة الأنبياء

    السؤال: نعلم أن الأنبياء معصومون فماذا نقول في موسى عندما قتل نفساً قال كما حدث عنه القرآن قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ [القصص:16]؟

    الجواب: أولاً: هذا كان قبل النبوة، ثم إن الآيات القرآنية تشير إلى أن الله تعالى غفر له، وكان هذا خطأ من موسى عليه السلام فغفر الله تعالى له بعد أن سما في طريق القرآن الكريم، علماً بأن العصمة بالنسبة للأنبياء قبل النبوة هي محل خلاف بين العلماء، وقد ألف الرازي رحمه الله كتاباً خاصاً في عصمة الأنبياء، وعلى أية حال فهم متفقون على عصمتهم من الشرك ومن العبودية لغير الله أو السجود لصنم حتى قبل النبوة.

    الكتب المؤلفة في السيرة النبوية

    السؤال: ما أهم الكتب التي تنصحنا بقراءتها في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم؟ وما أهم المؤلفين الذين ينصح باقتناء كتبهم في هذا المجال؟

    الجواب: هذا سؤال يحتاج إلى درس خاص به، نتحدث فيه أو نتحاور فيه عن مصادر السيرة النبوية وعن أهميتها، فمن المعلوم -وهذه ميزة ألمحت إليها- تميز سيرة النبي صلى الله عليه وسلم عن سائر الأنبياء والمرسلين بأنها وفرة المصادر كثيرة المراجع، فأول مصادرها القرآن الكريم، وأنا أنصح بداية أن يقف المرء على بعض الآيات التي تتحدث عن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد يجد فيها معلومات لا يجدها في غيرها من كتب السير، أولاً أن المعلومة من القرآن الكريم هي من الصحة بحيث لا تحتاج إلى نقاش؛ لأن القرآن الكريم كلام الله، ثم إن كتب التفسير تعتبر عاضداً مهماً في تجلية هذه الآيات، فأحياناً تقرأ آيات قرآنية ولا تعلم المقصود بها، وكم من قارئ يقرأ: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ [الأحزاب:37] ولكنه لا يدري ما المقصود، لكنه عندما يرجع إلى كتب التفسير، أو حتى كتب السير الموثوقة، ويجد تفسير الحادثة فإنه يطمئن لذلك.

    على أية حال إضافة إلى التأمل في آيات القرآن الكريم مع تفسيرها من كتب التفسير الموثقة، هناك كتب السيرة الموثقة، وفي مقدمتها الصحيحان صحيح البخاري وصحيح مسلم: في كتاب الفضائل، وفي كتاب المغازي، وفي كتاب المبعث، وفي كتب أخرى مفرقة في صحيح البخاري وصحيح مسلم فيها مادة طيبة وجميلة، وأما المصدر المتوفر فهو سيرة ابن هشام، وهي يغلب عليها الصحة، وإن كان فيها معلومات دون ذلك، وعلى أية حال فمن بين كتب السيرة أرشح للقارئ السيرة النبوية للإمام ابن كثير عليه رحمة الله وهي منتزعة من البداية والنهاية، ففيها تحقيق يندر وجوده في غيرها، بالإضافة إلى الشمول، وإلا فهناك كتاب للذهبي، وهناك كتاب لـابن القيم، لكن ميزة سيرة ابن كثير أن فيها تحقيقاً، هذا لمن يستطيع أن يقرأ المطولات، أما من لا يستطيع ذلك، وخاصة المبتدئين الشباب، فهناك كتب ميسورة يستفيد منها أمثال كتاب الندوي في السيرة النبوية ودراسات في السيرة لـمحمد بن سرور، وكتابات أكرم العمري في السيرة النبوية، وهي كتب حديثة، ومحمد رسول الله لـصادق عرجون.. إلى غير ذلكم من الكتب التي يمكن أن يستفاد منها في هذا المجال.

    كيفية تعبد النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة

    السؤال: فضيلة الشيخ! ذكرت أنه قبل البعثة كان هناك من يتعبد على دين إبراهيم الحنيفية، فماذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعبد في غار حراء حيث كان يتعبد شهراً كاملاً؟ من كل سنة؟

    الجواب: وقف أهل السير عند تعبده شهراً كاملاً كل سنة في غار حراء، فقال بعضهم: إنه كان يصوم فيه، وقال بعضهم: إنه كان يتصدق على الفقراء والمساكين، وقال بعضهم: إنه كان يتأله أي ينظر في هذا الكون، ويتأمل فيه، وكأنه ينظر إلى قومه من علو، وهو في غار حراء، وغار حراء كما هو معلوم في القمة، فهو ينظر إلى هذا الكون، وكأنه يسفه أحلامهم، ويأخذ عليهم عباداتهم، وبالتالي فأهل السير مختلفون، لكنهم مجمعون على أنه يخرج من أجل أن يروح عن نفسه، ومن أجل أن يصقل فكره، ومن أجل أن يتأمل في هذا الكون، وعلى أية حال فأقرب الروايات أو أقرب شيء في حياة النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يتعبد بالحنيفية، وإن لم يكن هناك نصوص واضحة وصريحة تحدد كيف كانت عبوديته، لكنَّ هناك نصوصاً أخرى تؤكد أنه كان يخالف قومه في عبادة الأصنام وفي عباداتهم من أمثال الطواف بالبيت وهم عراة، أو من أمثال الوقوف بـمزدلفة حين يقف الناس بـعرفة، فقد خالف قومه في هذه الأشياء، وكانت هذه إرهاصاً لنبوته، فكان يتأله ويتعبد بهذه الأشياء كلها، أو يبتعد عن المعبودات الوثنية والأصنام، دون أن يمسها أو يقربها، وينظر في ملكوت الله تعالى وعظمته وقد هداه الله تعالى.

    الواقعية والمثالية

    السؤال: ذكرت أن من أهداف دراسة السيرة النبوية تأكيد الواقعية لهذا الدين، فكيف يكون ذلك؟

    الجواب: الواقعية حينما نقول الواقعية هي بخلاف المثالية أو على عكس المثالية، فهذا الدين أيها الإخوة ليس ديناً مثالياً، ومن ميزة النبي صلى الله عليه وسلم أنه واقعي، بمعنى أن سيرته حوت حياته وهو في أعلى الدرجات، وذكرت بعض الأمور التي فعلها النبي صلى الله عليه وسلم وما وقع فيها من الخطأ الذي عالجه الله تعالى، فهو يصيب ويخطئ، يغضب ويرضى، يجاهد في حال السلم وفي حال الحرب.

    وأعني بالواقعية أنها أمور قريبة للنفس البشرية، فليس بمقدور الإنسان أن يقرأ السيرة، ويقول: إني لا أستطيع أن أطبق هذه السيرة، بل نقول له إذا حصلت له حالة ضعف أو حالة خطأ أن النبي صلى الله عليه وسلم حصل له شيء من ذلك، إذا حصل له حالة هزيمة في معركة ينبغي ألا يحبط نفسه، ويقال له: حصل للنبي صلى الله عليه وسلم قبلك ما حصل، إذا اشتدت عليه حالة العزبة فكان النبي صلى الله عليه وسلم عزباً، إذا اشتدت عليه حالات الغربة تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم عاش غريباً.. وهكذا بمجملها، فهي تؤكد الواقعية، وليست نموذجاً لملك نـزل من السماء لا يفتر عن التسبيح والتهليل، بل النبي صلى الله عليه وسلم عايش النساء وعاش في الدنيا فافتقر واغتنى، وسالم وحارب، إلى غير ذلك من الأمور التي تؤكد الواقعية، وهي ضد المثالية التي لا يمكن وقوعها، أما المثالية ومعالي الأمور التي يمكن أن يوصل إليها لكن يجهد فهذا أمر مطلوب، لكن حينما نقول: الواقعية فهي بخلاف اللاواقعية بتعبير أدق.

    معجزات الرسول غير القرآن

    السؤال: هل هناك معجزة للرسول صلى الله عليه وسلم باقية إلى هذا الوقت غير القرآن الكريم؟

    الجواب: نعم! من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم ومن دلائل نبوته إخباره عن المغيبات، والمغيبات منها أمور وقعت بعد موته، من أمثال حديثه عن الفتن والحروب التي حصلت في عهود الصحابة رضي الله عنهم، ومن أمثال حديثه عن نشأت كذلك الفرق التي نشأت بعد موته، ومن أمثال حديثه صلى الله عليه وسلم عن كثرة المال، وقد كثر المال اليوم، وهناك أحداث أخبر عنها ولم تقع وستقع، وهذه معجزة وتعد من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم.

    الدراسة الجامعية

    السؤال: هل تنصح بالالتحاق بقسم التاريخ في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وهل هناك تعليق على هذا القسم؟

    الجواب: أنصح الإنسان أن يستخير الله تعالى قبل أن يدخل أي قسم وأن يستشير، فما خاب من استخار ولا ندم من استشار، وسواء كان ذلك في قسم التاريخ أو في قسم الشريعة وأصول الدين، أو قسم اللغة العربية أو في سواها من الأقسام، هذه أقسام كلها فيها خير، والمهم أن يتوفر عند الإنسان حين الدخول نية طيبة وهدف نبيل يسعى من ورائه إلى خدمة الأمة الإسلامية، حتى ولو كان في قسم العلوم والأحياء أو غيره من الأقسام كالهندسة والطب، أو نحوها من الأقسام الأخرى، فالقضية مربوطة بالهدف الذي يسعى الإنسان من أجله، فإذا كان الهدف نبيلاً والنية طيبةً، ويقصد من وراء ذلك تقديم خدمة لهذه الأمة، فإنني أنصحه بدخول أي قسم يرى فيه بغيته، ويجد فيه ما يتفقُ مع طبيعتَه.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    768248319