أيها الإخوة الأفاضل! السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، وأكرمَ الله هذه الوجوه، وهي تحبس نفسها في بيت من بيوت الله! وأكرم بهذه القلوب وهي تجلس جلسة في ذات الله تعالى، وأسأل الله تعالى أن يجعلني وإياكم ممن يشملهم الله تعالى بعفوه ورحمته، وممن تظلهم الملائكة بأجنحتها، وممن يذكروا عند الله تعالى في الملأ الأعلى.
أيها الإخوة الأفاضل! وأقبل اعتذار الإخوة عن الخطأ في العنوان، وما كنت قد حددت "النبي العربي" وإنما حددت "النبي الأمي أحداث وعبر"، ولكنني إذ أقبل الاعتذار، فإنني أتيح لنفسي أن أغير العنوان مرة أخرى، فإذا كان الإخوة قد غيروا في العنوان، فإنني أتيح لنفسي مرة أخرى أن أغير العنوان، وعسى أن يكون في ذلك خير، وليكن عنواننا الجديد (السيرة النبوية لماذا وكيف تدرس؟).
وليس بخافٍ عليكم -معاشر الإخوة والأخوات- أن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم حرية بالدراسة والبيان، بل إن من العبادة أن يقرأ الإنسان سيرة النبي صلى الله عليه وسلم! بل ومن الحكمة والأناة ومن التعقل أن يفقه الإنسان في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، ذلكم لأنه يتعامل مع رجل أدبه ربه فأحسن أدبه، ويتعامل مع رجل هو صفوة الله تعالى من خلقه، يتعامل مع رجل أنقذ الله به الدنيا من دياجير الظلمات وفتح الله به أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً.
وإذا كان ذلكم في سائر الأنبياء، فإن الأمر بالنسبة لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم أولى وأحرى، لقد كان أتباع الأنبياء عليهم السلام أو على الأقل معظم أنبياء الله تعالى كان أتباعهم آحاداً! آحاداً من الناس ينقرضون بعد جيل أو جيلين، وما أن انتصف القرن السادس الميلادي -وهو الذي بُعِثَ فيه النبي صلى الله عليه وسلم- حتى كانت شقوة الجاهلية تلف العالم بأسره، وتسقيه كئوس الظلم والتخلف والوثنية، لقد أُطْفِئَتْ مشاعل التوحيد، وعمَّ الفساد إلى كل واد، ولجأ الحنيفيون الذين بقوا متمسكين بالحنيفية الإبراهيمية إلى الكهوف وإلى قمم الجبال، ليس لشيء إلا فراراً بدينهم، واستبقاءً على ما بقي لديهم من حنيفية يستضيئون بنورها ويتعبدون على منوالها.
ومن خصائص الأنبياء أنهم يقبرون حيث يموتون، فلا يقبر نبي إلا في الموضع الذي مات فيه، وفي الحديث الصحيح: {لم يقبر نبي إلا حيث يموت} كما روى ذلك أحمد في مسنده بإسناد صحيح، ولهذا فإن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم دفنوا الرسول صلى الله عليه وسلم في حجرة عائشة رضي الله عنها، حيث قبضت روحه فيها.
هذه أبرز الخصائص التي تميز الأنبياء والمرسلين، أو التي ميز الله بها الأنبياء والمرسلين عن غيرهم.
وهم ذكور أحرار، فلم يكن في الأنبياء عليهم السلام امرأة كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ [الأنبياء:7] ولم يكن فيهم كذلك عبد أو رقيق.
وهم بالجملة أحسن الناس خُلُقاً وأطهرهم قلوباً وأكثرهم صبراً، وما بالهم لا يكونون كذلك؟! وقد أدبهم ربهم فأحسن أدبهم، ورعاهم فأحسن رعايتهم، وتولاهم وحفظهم.
بل تجاوز ذلك إلى مجال التعليم والتدوين للأجيال اللاحقة،فكانت السيرة النبوية تعقد لها الحلقات والدروس، ويروي ابن سعد في طبقاته أن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كان له مجلس يدرس فيها السيرة النبوية، وكان ابن عباس يجلس في إحدى عشياته يعلم الناس المغازي والسير.. وهذا نموذج لاهتمام السابقين بسيرة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، بل بلغ الاهتمام بالسير والمغازي أنهم كانوا يتعلمونها كما يتعلمون السورة من القرآن، كما نقل ذلك ابن كثير عليه رحمة الله.
فما هي أبرز خصائص سيرة النبي صلى الله عليه وسلم؟ ولعله غير خاف أن سير الأنبياء عليهم السلام تتميز عن سير الخلق بشكل عام، ذلكم لأن الله اصطفاهم كما سمعتم، ولأن الله تعالى أعدهم لحمل رسالته إلى العالمين، ولهذا فإن سيرهم بشكل عام نموذج للطهر والعفاف، ومثل أعلى للعبودية والتقوى، وهي أيضاً مثال يحتذى في الخلق والعطاء والدعوة والجهاد والصبر على المحن والبلوى... إلى غير ذلك من خصائص الأنبياء عليهم السلام.
ومع ذلك فإن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم تنفرد عن سائر الأنبياء والمرسلين قبله بسمات وخصائص أهمها ما يلي:
أما سيرة النبي صلى الله عليه وسلم فما لم نجده في القرآن الكريم نجده في السنة النبوية، وما لم تحط به كتب السنة نجد كتب السيرة قد أحاطت به وفصلت القول فيه، ومع كون هذه النصوص في كتب السيرة تشمل نصوصاً قد لا تثبت أمام النقد، فبإمكاننا أن نجمع من هذه النصوص مادةً نكتب بها عن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم بدقيقها وجليلها وبروايات موثقة لا مطعن فيها.
أما النصوص التي تروي أخبار المرسلين السابقين فيما عدا القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة، فيغلب عليها الإسرائيليات وتكثر فيها الاختلافات، ليس ذلك محض افتراء أيها الإخوة، وليس ذلك تزيداً أو افتراءً أو جنايةً على الكتب المتقدمة، بل هو الواقع نشهد به نحن، ويشهد به أرباب الديانات المحرفة كذلك.
وأسوق لكم نصاً من رجل نصراني يعترف بهذه الحقيقة، ويقول: إنه لم يكن يعرف إلا حوالي خمسين يوماً من حياة المسيح عليه السلام، فأين بقية أيام المسيح، بل يعترف صراحة حينما يقول، وهو القس الدكتور كارلوس أندرسون يقول في مقال نشره في دائرة المعارف البريطانية: ينبغي أن يتنازل الإنسان عن محاولة وضع كتاب في سيرة المسيح بكل صراحة، فإنه لا وجود للمادة والمعلومات التي تساعد على تحقيق هذا الغرض، والأيام التي توجد عنها بعض المعلومات لا يزيد عددها على خمسين يوماً.
إذاً ليس بمقدورنا أن نكتب سيرة عن المسيح عليه السلام، وإذا كان هذا آخر أنبياء بني إسرائيل، وليس بمقدورنا أن نكتب عنه السيرة، فإن من مضى من أنبياء الله ورسله من باب أولى وأحرى؛ لأنه كلما تقادم العهد كلما كثر التحريف والتأويل والانتحال.
بل إن الشمول في سيرته عليه الصلاة والسلام يمتد ليغطي مناحي الحياة كلها، فيخرج المطلع عليها بتصور كامل عن النواحي العبادية وأمور المعاملة، وتتسع هذه السيرة المحمدية لتشمل الأمور السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية وغيرها، بل إن الشمول في سيرته صلى الله عليه وسلم يعني كذلك اهتمامها بأمر الدنيا والآخرة.
لكن هذه الآيات كانت وقتية ذهبت آثارها مع الذين رأوها، ولم تبق الآيات شاهداً حياً تراه الأجيال المتلاحقة كدليل على نبوة هؤلاء المرسلين، هذا في حق أنبياء الله ورسله السابقين.
أما في حق النبي صلى الله عليه وسلم فالأمر مختلف جداً؛ فقد كان من أعظم دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم القرآن الكريم، بل هو المعجزة الخالدة لهذا النبي العظيم، والقرآن شاهد حي منذ نـزل وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وعلى الرغم من محاولات التحريف والتأويل التي تعاقبت عليها أيدي البشر جيلاً بعد جيل، فما يزال كتاب الله يتحدى البشر، بل ويعترفون بتحديهم وعجزهم عن التحريف فيه.
فهذا القرآن معجز ودليل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لما يحويه من آيات الإعجاز العقلية والعلمية، فضلاً عن إخباره عن الأمم الغابرة، وحديثه عن المغيبات، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: {ما من نبي إلا وقد أوتي ما على مثله آمن البشر، أما الذي أوتيته أنا فهو وحي من السماء} كما روى ذلك البخاري في صحيحه.
ولهذا فمن يقرأ القرآن الكريم في زماننا هذا يدرك كما أدرك من سبقه، أن هذا القرآن الكريم لا يمكن أن يكون من عند محمد صلى الله عليه وسلم بل هو من عند الله، هذا فضلاً عن دلائل نبوته الأخرى، كالإسراء والمعراج وانشقاق القمر وحنين الجذع ونحوها، وإنما أكدت على القرآن الكريم لبقائه معجزاً إلى هذا اليوم، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وإذا كان أصحاب عيسى عليه السلام حكى الله تعالى كفرهم وحكى تحذير عيسى عليه السلام إياهم من الكفر، كما قال تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ [المائدة:72] إذا كان هذا حصل من أصحاب عيسى عليه السلام، فلم يحصل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كفر به بعد إيمان.
وليس بخافٍ عليكم -أيها الإخوة- كذلك موقف النصارى أو بني إسرائيل من المائدة التي سألوا عيسى أن يسأل ربه أن ينـزلها عليهم من السماء، وأخذ عليهم العهود، فسأل الله تعالى بعد أن أخذ عليهم من العهود والمواثيق ما أخذ أن يشكروا الله ولا يكفروه، إلا أنهم بدلوا وحرفوا وكفر بعضهم وجحدوا هذه النعمة، حتى قال بعض المفسرين: إنها لم تنـزل عقوبة لهم، وقال الحافظ ابن كثير: وقد روي ذلك بأسانيد حسان، بل قال: بأسانيد صحيحة إلى مجاهد والحسن وإن كان قال: إن الجمهور على أن المائدة نـزلت، المهم أن أصحاب عيسى كذلك حصل لهم ما حصل مع نبيهم عيسى عليه السلام.
فبنو حنيفة حي من أحياء العرب، وقد روى ابن قتيبة في معارفه وهو يشير إلى ضحالة وإلى خرافة أديان العرب وإلى تفاهة ما كانوا عليه في المعتقد، يقول عن بني حنيفة: إنهم اتخذوا صنماً من حيس فعبدوه دهراً طويلاً ثم أصابتهم مجاعة فأكلوه، فقال رجل من بني تميم يعيرهم بذلك:
أكلت حنيفة ربها من جوع قديم ومن اعواج |
وقال آخر فيهم:
أكلت حنيفة ربها زمن التقحم والمجاعة |
لم يحذروا من ربهم سوا العواقب والتباعة |
أما وفد سليم، وما أدراك ما وفد سليم؟! فقد روى ابن سعد في طبقاته خبراً عجيباً وهو يذكر وفادة سُلَيم، وجاء في الخبر أنه كان من ضمن الوفد رجل يسمى راشد بن عبد ربه وهذه تسمية من النبي صلى الله عليه وسلم أسلم الوفد وبات هذا الرجل وهو راشد بن عبد ربه يقص على النبي صلى الله عليه وسلم بعضاً من أخبارهم في بني سليم، ويقول: يا نبي الله كنت سادن صنمٍ لبني سليم، يعني: يحرسه ويحفظه وما إلى ذلك، يقول: فرأيت يوماً ثعلبين يبولان عليه، فقلت:
أربٌّ يبول الثعلبان برأسه؟! لقد ذل من بالت عليه الثعالبُ |
يقول: ثم شددت عليه فكسرته، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره خبره، وقال: ما اسمك؟ قال: غاوي بن عبد العزى -وانظروا إلى الانتكاس حتى في الأسماء- اسمه غاوي بن عبد العزى، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: بل أنت راشد بن عبد ربه، فأسلم وحسن إسلامه وشهد الفتوح، وقال فيه النبي: {خير بني سليم
وهو ترسيخ للإيمان، يجده من يقرأ القرآن الكريم، فهو مثلاً حينما يقرأ أخبار عاد وثمود، أو قوم نوح أو قوم صالح، أو قوم لوط أو حكايات بني إسرائيل وأخبارهم، حينما يقرأ هذه الأخبار كلها، وهو يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أمي لا يقرأ ولا يكتب، يعلم أن ذلك من وحي السماء؛ ولهذا قال الله تعالى لنبيه وهو يعقب على قصة موسى عليه السلام، وانظروا إلى دقة التعبير، قال الله تعالى: وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ * وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ [القصص:44-45].
إذاً بسبب الرسالة وبسبب الوحي علم محمد صلى الله عليه وسلم ما لم يكن يعلم، وقص عليه من الأخبار ما لم يكن شاهداً أو حاضراً له.
وفي موطن آخر وبعد أن يخبر الله تعالى أو يقص من أخبار مريم البتول وابنها عيسى عليه السلام يقول الله تعالى: وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ [آل عمران:44] وحين يفصل الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم قصة يوسف عليه السلام مع إخوته يوحي الله تعالى إلى نبيه في نهاية المطاف ويقول: ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ [يوسف:102].. إلى غير ذلك من آيات تشير إلى نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وتؤكد إخباره بأخبار الماضين.
ماذا يعني ذلك؟ يعني هذا: شمولَ رسالة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وعظمته وحاجته إلى هذه المعارف، فهي رسالة خاتمة، ولذلك فهي محتاجة إلى كل رصيد من تجارب الأنبياء قبله.
أن الله تعالى أخذ العهد على الأنبياء قبله لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه، وطلب إليهم أن يأخذوا من أممهم العهد والميثاق لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه.
ذلك يعني أيها الإخوة تقدم نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فقد يخيل لبعضنا أن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم تبدأ منذ أنـزل عليه اقرأ وهو في مكة وعمره أربعون عاماً، والحق أن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم سبقت هذا التاريخ بعدة قرون، يؤكد ذلك الحديث الصحيح الذي سأل فيه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: {منذ متى كنت نبياً يا رسول الله؟ قال: وآدم منجدل في طينته} وفي رواية: {وآدم بين الجسد والروح} حديث حسن.
بل إن الآية القرآنية في سورة آل عمران لتؤكد هذا العهد وتؤكد سابق نبوته صلى الله عليه وسلم: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران:81].
لقد بشرت به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كما سمعتم، وآخر الأنبياء عيسى عليه السلام بشر به صراحة وقال: وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف:6] وشهدت على صحة نبوته كتب السماء، واعترف أهل الكتاب بذلك، وسأسوق لكم نموذجين اثنين لتتأملوا كيف اعترف اليهود أو النصارى بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
من هذه النصوص ما أخرجه الحاكم في مستدركه وصححه ووافقه الذهبي، عن عوف بن مالك قال: {انطلق نبي الله صلى الله عليه وسلم وأنا معه حتى دخلنا كنيسة اليهود، فقال: أروني يا معشر يهود اثني عشر رجلاً يشهدون أن محمداً رسول الله يحط الله عنكم الغضب، فأُسكتوا، ثم أعاد عليهم فلم يجبه أحد، قال: فوالله لأنا الحاشر وأنا العاقب وأنا المصطفى آمنتم أو كذبتم، فلما كاد يخرج قال رجل: كما أنت يا محمد، أي رجل تعلمونني فيكم -وهو يشير إلى قومه من اليهود- قالوا: ما فينا أعلم منك! قال: فإني أشهد بالله أنه نبي الله الذي تجدونه في التوراة، فقالوا: كذبت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل كذبتم، قال
أما النص الآخر فهو عن كعب الأحبار، رواه ابن حجر في الإصابة، وقال: العباس لـكعب [[ ما منعك أن تسلم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم و
أيها الإخوة؛ ونص ثالث يؤكد فيه يهودي يحتضر أن محمداً يجدون صفته في كتبهم المنـزلة، {وقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى شاب يحتضر، وأبوه عند رأسه، وقد فتح التوراة يقرؤها عليه، فقال: يا هذا -أي اليهودي- أتجد في هذا الكتاب صفتي وصفة مخرجي؟ قال: لا، وأشار برأسه، وابنه كان في لحظات الموت الأخيرة، فرفع الابن رأسه، وقال: نعم! إنا نجد صفتك وصفة مخرجك في كتابنا هذا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أقيلوا أخاكم عن اليهودي أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم} فتولى المسلمون دفنه؛ لأنه أصبح في عداد المسلمين... إلى غير ذلكم.
وقصص عبد الله بن سلام وأمثاله من أحبار اليهود أو من رهبان النصارى تؤكد اعترافهم بهذا الدين وبوجوده في كتب الله المنـزلة من التوراة والإنجيل قبل أن تدخلها أيدي التحريف والتضليل.
بل إن هذه الشهادات وهذه الاعترافات تترى حتى يومنا هذا، وهل أشد حقداً من المستشرقين على الإسلام، وهم الآخرون يعترفون بعظمة محمد صلى الله عليه وسلم وبنبوته لا على أنه رجل مصلح، وإنما على أنه نبي شملت رسالته العالمين، وارتاح الكون بهديها.
وأنقل لكم بعضاً من نصوصهم، فهذا أحدهم وهو تشيلل يقول: إن البشرية لتفتخر بانتساب كمحمد صلى الله عليه وسلم لها، إذ أنه رغم أميته استطاع قبل بضعة عشر قرناً أن يأتي بتشريع سنكون نحن الأوروبيين أسعد ما نكون لو وصلنا إلى قمته بعد ألفي سنة، ويقول كارليل: ولولا ما وجدوا -يعني قومه أو المسلمون- فيه من آيات النبل والفضل لما خضعوا لإرادته ولما انقادوا لمشيئته، وفي ظني --والكلام لا يزال لـكارليل- أنه لو وضع قيصر بتيجانه وصولجانه وسط هؤلاء القوم بدل هذا النبي، لما استطاع قيصر أن يجبرهم على طاعته كما استطاع هذا النبي في ثوبه المرقع، ثم ينهي كلامه قائلاً: هكذا تكون العظمة! وهكذا تكون البطولة! وهكذا تكون العبقرية!
ويقول ويليام موير: لم يعهد التاريخ مصلحاً أيقظ النفوس وأحيا الأخلاق ورفع شأن الفضيلة في زمن قصير كما فعل محمد صلى الله عليه وسلم.
ويقول القس ميشون في كتابه سياحة دينية في الشرق: إنه لمن المحزن أن يتلقى المسيحيون عن المسلمين روح التسامح وفضائل حسن المعاملة وهما أقدس قواعد الرحمة والإحسان عند الشعوب والأمم.
أما المؤرخ الفرنسي جوزيف فيقول: بينما أهل أوروبا نائمون في ضلال الجهالة لا يرون الضوء إلا في سَم الخياط، إذ سطع نور قوي من جانب الأمة الإسلامية، وهو يشير إلى بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته.
ويقول المؤرخ سيديو: وبعد ظهور محمد النبي صلى الله عليه وسلم رفعت أعلام التمدن في أقطار الأرض أيام كانت أوروبا مظلمة بجهالات أهلها.
أما غوستاف لوبون فيقول: إن العرب هم سبب انتشار المدنية في أوروبا ويا ليت قومي يعلمون!
وأخيراً يقول الدكتور موريس: إن القرآن أفضل كتاب أخرجته العناية الأزلية لبني البشر، هذا على حد تعبيره.
أكتفي بهذه النصوص التي تؤكد اعتراف اللاحقين والسابقين بعظمة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، لأنتقل بعد ذلك إلى أهداف دراسة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا كنا قد علمنا هذه العظمة، وهذا الشمول وهذه الخصائص؛ فما هي أهداف دراسة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم.
وأذكر هنا بعضاً من أهداف دراسة السيرة، عساها أن تكون مفتاحاً للطريق:
وعلى سبيل المثال: تحفظ لنا نصوص السيرة قصته مع عبد الله بن أم مكتوم، وقصته في زواجه لـزينب بنت جحش، فالأولى قال الله تعالى عنها عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى [عبس:1-3]... إلى آخر الآيات، والأخرى قال الله عنها:وَإِذْ تَقُولً لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ [الأحزاب:37].
وهكذا كان في كل هذه الأحوال ينهج نهج الاستقامة والعدل، ويتعامل مع النفس البشرية بشكل واقعي، يتيح لمن بعده أن يقتدي به في كل حال من أحوال الحياة، وفي هذا المجال يجد الدارس للسيرة تلازماً بين القول والعمل، والمبدأ والسلوك، فلا يأمر الناس بالبر والخير وينسى نفسه، والذين لا تتاح لهم دراسة السيرة دراسة واعية تظهر في سلوكياتهم التناقضات، وتكثر في حياتهم المنغصات.
ولذا فإن على الذين يمارسون الدعوة أن يقرءوا هذه السيرة العطرة، وسيجدون فيها ما يجيب على تساؤلاتهم، ويلبي حاجياتهم، ويفي بمتطلبات دعوتهم، مهما اختلفت الأزمان وتنوعت البقاع، أجل! لقد حوصر النبي صلى الله عليه وسلم وشرد، ونفي وأهين، وواجهته ضغوط نفسية واجتماعية ومؤامرات وخيانات، وتعرض لكيد المنافقين وكيد الكفار والطغاة والمجرمين، وتعرض لمساومات سياسية وعقد مصالحات، وواجهته مشكلة بناء أمة وإقامة مجتمع على أسس جديدة، فما وهن ولا استكان، بل ترك في هذه وتلك توجيهات كريمة وأسساً رشيدةً، وعلى قدر المسيرة عليها تصلح الدعوة وينجح الدعاة.
وليس بمقدور الدعوة، بل وليس بمقدور الدعاة أن يعيدوا منهج الدعوة بغير معرفة سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم.
فالآيات مثلاً في أسرى بدر يصعب فهمها وإدراك دلالتها دون الرجوع إلى أحداث السيرة، وهكذا الشأن في آيات غزوة أحد حين وقعت الهزيمة، ومثل ذلك يقال في توجيهات القرآن حول النفاق والمنافقين، وحول أهل الكتاب والمشركين.. إلى غير ذلك، بل نستطيع من خلال معرفتنا بأحداث السيرة تحديد الآيات الناسخة والمنسوخة، وهي قضية يترتب عليها كثير من الأحكام الشرعية، والأمر كذلك بالنسبة للأحاديث النبوية، حيث تعين دراستنا للسيرة على معرفة زمن القول وظروفه، وهو ما يسمى ببيان أسباب ورود الحديث.
نعم! إنه قد يشكل علينا أمر، ونختلف في حله وحرمته وقربه من روح الإسلام أو بعده، ولكنا حينما نعود إلى السيرة ينحسم هذا الأمر، ويوضح لنا الطريق سيرتُه وهديُه صلى الله عليه وسلم، وقد يرى راءٍ في الإسلام جزئية لا تعجبه، ولا يدرك مغزاها ومرماها، فما عليه إلا أن ينظر كيف طبق الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الجزئية؟ ومتى؟ ولماذا؟ وكيف؟! ليدرك موقعها من مجموع البناء الإسلامي، ولا يستعجل الأمور، فيلتمس التعليلات الباردة ليرد بها الأحكام الصريحة الواضحة، أو النقول الصحيحة الجلية كما يفعل بعض الناس.
إن الأمة أيها الإخوة حينما تمر بمرحلة ضعف فلا منقذ لها إلا الاعتصام بالكتاب والسنة، والتزام شرع الإسلام منهجاً ودليلاً، وهل السيرة النبوية إلا منهج لهذا وذاك؟! وحين تبصر الأمة حائرة مترددة تلتفت هنا مرة وهناك أخرى، فاعلم أن علتها غياب المنهج والجهل بسيرة النبي المعلم صلى الله عليه وسلم.
واعلم أن حاجتها إلى هذه السيرة العطرة أشد من حاجتها إلى الطعام والشراب، ومن هنا تأتي أهمية دراسة السيرة في حالة غياب الأمة وأفول نجمها، لتكون معلماً تهتدي به في حوالك الظلمة، وإذا كانت حاجتها إلى السيرة في هذه المرحلة مهمة -أعني مرحلة الضعف والهوان- فحاجة الأمة إلى السيرة النبوية في حال النصر والتمكين أشد، إذ ليس الهدف من النصر والتمكين مجرد الاستعلاء أو التكبر والبطر، كلا! فالهدف استخراج العباد من عبودية بعضهم لبعض إلى عبودية رب العالمين، ونقلهم من وضع مهين مزرٍ إلى وضع يستشعرون معه الراحة والسعادة والأمن والطمأنينة والأمان.
هدف المسلمين تحقيق العدالة وتمكين شرع الله وإزالة الظلم، وكل هذا وذاك لا يمكن أن يكون لقوم يجهلون سيرة النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا خير إلا دل الأمة عليه، ولا شر إلا حذرها منه.
معاشر الإخوة؛ إننا اليوم -ونحن نستشف بوادر النصر والتمكين لهذا الدين- مدعوون لقراءة سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، حتى يُحكم الناس بالعدل والقسط، وحتى تكون القيادة راشدة والمنهج سليماً، وثمة أمر آخر يؤكد أهمية دراسة السيرة، فالباحثون في التربية والاجتماع والسياسة والاقتصاد ونحوها من العلوم، عادوا يعترفون أنهم بعد جهد كبير ومشوار طويل في دراسة النظريات واستيعاب الطروحات، عادوا يعترفون بكون السيرة النبوية منهلاً عذباً يردون فيه فيجدون بغيتهم، ومورداً زلالاً يروي ظمأهم، بل إن العسكريين وهم يخططون لمعارك اليوم لا يجدون غُنْيَةً عن تجربة الرسول صلى الله عليه وسلم العسكرية، فضلاً عن أهل الإدارة والتخطيط، وهذا وذاك يحتم دراسة السيرة النبوية وفهمها.
وهذا يستدعي قراءة السيرة النبوية وتحقيقها ليجتمع المسلمون على كلمة سواء، واجتماع المسلمين هدف جليل ينبغي أن يُسْعَى له، وينبغي أن يُفَكِّر في وسائله، وينبغي أن يفكر كذلك في الأمور المعينة عليه، وفي ظني أن فقه السيرة النبوية مدخل أساسي، ووسيلة مهمة لجمع كلمة المسلمين على الحق والهدى.
أسأل الله أن يجمع كلمة المسلمين على الحق والهدى، وأن يؤلف قلوبهم وأن يصلح ذات بينهم، وأن ينصرهم على عدوهم وعدوه، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وأعتذر عن إعطاء هذا الموضوع حقه، فثمة إشارات ينبغي أن يتحدث بها لمن يريد أن يفي الموضوع حقه، لكنني أكتفي بهذه العجالة تقديراً للزمن واعترافاً بالتقصير، وأسأل الله تعالى أن ينفعني وإياكم بما نسمع، وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
الجواب: على أية حال أشكر الإخوة على ثقتهم، وأسأل الله تعالى أن يغفر ويتجاوز، وأعدهم خيراً، بل إنني أفكر كثيراً في تخصيص درس للسيرة النبوية، فأنا المستفيد الأول من هذا الدرس، أرجو الله تعالى أن يعجل بقيامه وأن يعينني على إتمامه، ولعل هذا اللقاء يكون بداية طيبة بإذن الله تعالى، وأعد الإخوة إن شاء الله بإقامة درس، لكنه إن كان فسيكون بمشيئة الله في المسجد الذي أصلي فيه وهو في حي السلطان، وأرجو أن يعينني الله تعالى على إعلانه قريباً.
الجواب: ليس معنى التخيير الحياة إلى الأبد، وإنما هو المد في الأجل والفسحة فيه، وقد ورد في الصحيح { أن موسى عليه السلام لما جاءه ملك الموت صكه على وجهه، فرجع ملك الموت، وقال لله تعالى -وهو أعلم بما حصل-: إن عبدك لا يريد الموت، فقال: ارجع إليه وقل له: ضع يدك على ظهر ثور، فما وقع تحت يدك من شعراته فلك به عدد السنين، فرجع الملك إلى موسى عليه السلام، وقال له ذلك، فقال موسى: وماذا بعد ذلك؟ قال: الموت -لأنه ليس هناك أحد مخلد كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [الأنبياء:35] لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ [الرعد:38]- فقال موسى عليه السلام: إذا كان لا بد من الموت فليكن من الآن} فليس المقصود البقاء إلى الأبد، وإنما المقصود الفسحة في الأجل، ولذلك خير النبي صلى الله عليه وسلم -كما جاء في الحديث الصحيح- فاختار الرفيق الأعلى على مزيد المكث في الحياة الدنيا، والله أعلم.
الجواب: أولاً: هذا كان قبل النبوة، ثم إن الآيات القرآنية تشير إلى أن الله تعالى غفر له، وكان هذا خطأ من موسى عليه السلام فغفر الله تعالى له بعد أن سما في طريق القرآن الكريم، علماً بأن العصمة بالنسبة للأنبياء قبل النبوة هي محل خلاف بين العلماء، وقد ألف الرازي رحمه الله كتاباً خاصاً في عصمة الأنبياء، وعلى أية حال فهم متفقون على عصمتهم من الشرك ومن العبودية لغير الله أو السجود لصنم حتى قبل النبوة.
الجواب: هذا سؤال يحتاج إلى درس خاص به، نتحدث فيه أو نتحاور فيه عن مصادر السيرة النبوية وعن أهميتها، فمن المعلوم -وهذه ميزة ألمحت إليها- تميز سيرة النبي صلى الله عليه وسلم عن سائر الأنبياء والمرسلين بأنها وفرة المصادر كثيرة المراجع، فأول مصادرها القرآن الكريم، وأنا أنصح بداية أن يقف المرء على بعض الآيات التي تتحدث عن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد يجد فيها معلومات لا يجدها في غيرها من كتب السير، أولاً أن المعلومة من القرآن الكريم هي من الصحة بحيث لا تحتاج إلى نقاش؛ لأن القرآن الكريم كلام الله، ثم إن كتب التفسير تعتبر عاضداً مهماً في تجلية هذه الآيات، فأحياناً تقرأ آيات قرآنية ولا تعلم المقصود بها، وكم من قارئ يقرأ: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ [الأحزاب:37] ولكنه لا يدري ما المقصود، لكنه عندما يرجع إلى كتب التفسير، أو حتى كتب السير الموثوقة، ويجد تفسير الحادثة فإنه يطمئن لذلك.
على أية حال إضافة إلى التأمل في آيات القرآن الكريم مع تفسيرها من كتب التفسير الموثقة، هناك كتب السيرة الموثقة، وفي مقدمتها الصحيحان صحيح البخاري وصحيح مسلم: في كتاب الفضائل، وفي كتاب المغازي، وفي كتاب المبعث، وفي كتب أخرى مفرقة في صحيح البخاري وصحيح مسلم فيها مادة طيبة وجميلة، وأما المصدر المتوفر فهو سيرة ابن هشام، وهي يغلب عليها الصحة، وإن كان فيها معلومات دون ذلك، وعلى أية حال فمن بين كتب السيرة أرشح للقارئ السيرة النبوية للإمام ابن كثير عليه رحمة الله وهي منتزعة من البداية والنهاية، ففيها تحقيق يندر وجوده في غيرها، بالإضافة إلى الشمول، وإلا فهناك كتاب للذهبي، وهناك كتاب لـابن القيم، لكن ميزة سيرة ابن كثير أن فيها تحقيقاً، هذا لمن يستطيع أن يقرأ المطولات، أما من لا يستطيع ذلك، وخاصة المبتدئين الشباب، فهناك كتب ميسورة يستفيد منها أمثال كتاب الندوي في السيرة النبوية ودراسات في السيرة لـمحمد بن سرور، وكتابات أكرم العمري في السيرة النبوية، وهي كتب حديثة، ومحمد رسول الله لـصادق عرجون.. إلى غير ذلكم من الكتب التي يمكن أن يستفاد منها في هذا المجال.
الجواب: وقف أهل السير عند تعبده شهراً كاملاً كل سنة في غار حراء، فقال بعضهم: إنه كان يصوم فيه، وقال بعضهم: إنه كان يتصدق على الفقراء والمساكين، وقال بعضهم: إنه كان يتأله أي ينظر في هذا الكون، ويتأمل فيه، وكأنه ينظر إلى قومه من علو، وهو في غار حراء، وغار حراء كما هو معلوم في القمة، فهو ينظر إلى هذا الكون، وكأنه يسفه أحلامهم، ويأخذ عليهم عباداتهم، وبالتالي فأهل السير مختلفون، لكنهم مجمعون على أنه يخرج من أجل أن يروح عن نفسه، ومن أجل أن يصقل فكره، ومن أجل أن يتأمل في هذا الكون، وعلى أية حال فأقرب الروايات أو أقرب شيء في حياة النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يتعبد بالحنيفية، وإن لم يكن هناك نصوص واضحة وصريحة تحدد كيف كانت عبوديته، لكنَّ هناك نصوصاً أخرى تؤكد أنه كان يخالف قومه في عبادة الأصنام وفي عباداتهم من أمثال الطواف بالبيت وهم عراة، أو من أمثال الوقوف بـمزدلفة حين يقف الناس بـعرفة، فقد خالف قومه في هذه الأشياء، وكانت هذه إرهاصاً لنبوته، فكان يتأله ويتعبد بهذه الأشياء كلها، أو يبتعد عن المعبودات الوثنية والأصنام، دون أن يمسها أو يقربها، وينظر في ملكوت الله تعالى وعظمته وقد هداه الله تعالى.
الجواب: الواقعية حينما نقول الواقعية هي بخلاف المثالية أو على عكس المثالية، فهذا الدين أيها الإخوة ليس ديناً مثالياً، ومن ميزة النبي صلى الله عليه وسلم أنه واقعي، بمعنى أن سيرته حوت حياته وهو في أعلى الدرجات، وذكرت بعض الأمور التي فعلها النبي صلى الله عليه وسلم وما وقع فيها من الخطأ الذي عالجه الله تعالى، فهو يصيب ويخطئ، يغضب ويرضى، يجاهد في حال السلم وفي حال الحرب.
وأعني بالواقعية أنها أمور قريبة للنفس البشرية، فليس بمقدور الإنسان أن يقرأ السيرة، ويقول: إني لا أستطيع أن أطبق هذه السيرة، بل نقول له إذا حصلت له حالة ضعف أو حالة خطأ أن النبي صلى الله عليه وسلم حصل له شيء من ذلك، إذا حصل له حالة هزيمة في معركة ينبغي ألا يحبط نفسه، ويقال له: حصل للنبي صلى الله عليه وسلم قبلك ما حصل، إذا اشتدت عليه حالة العزبة فكان النبي صلى الله عليه وسلم عزباً، إذا اشتدت عليه حالات الغربة تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم عاش غريباً.. وهكذا بمجملها، فهي تؤكد الواقعية، وليست نموذجاً لملك نـزل من السماء لا يفتر عن التسبيح والتهليل، بل النبي صلى الله عليه وسلم عايش النساء وعاش في الدنيا فافتقر واغتنى، وسالم وحارب، إلى غير ذلك من الأمور التي تؤكد الواقعية، وهي ضد المثالية التي لا يمكن وقوعها، أما المثالية ومعالي الأمور التي يمكن أن يوصل إليها لكن يجهد فهذا أمر مطلوب، لكن حينما نقول: الواقعية فهي بخلاف اللاواقعية بتعبير أدق.
الجواب: نعم! من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم ومن دلائل نبوته إخباره عن المغيبات، والمغيبات منها أمور وقعت بعد موته، من أمثال حديثه عن الفتن والحروب التي حصلت في عهود الصحابة رضي الله عنهم، ومن أمثال حديثه عن نشأت كذلك الفرق التي نشأت بعد موته، ومن أمثال حديثه صلى الله عليه وسلم عن كثرة المال، وقد كثر المال اليوم، وهناك أحداث أخبر عنها ولم تقع وستقع، وهذه معجزة وتعد من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم.
الجواب: أنصح الإنسان أن يستخير الله تعالى قبل أن يدخل أي قسم وأن يستشير، فما خاب من استخار ولا ندم من استشار، وسواء كان ذلك في قسم التاريخ أو في قسم الشريعة وأصول الدين، أو قسم اللغة العربية أو في سواها من الأقسام، هذه أقسام كلها فيها خير، والمهم أن يتوفر عند الإنسان حين الدخول نية طيبة وهدف نبيل يسعى من ورائه إلى خدمة الأمة الإسلامية، حتى ولو كان في قسم العلوم والأحياء أو غيره من الأقسام كالهندسة والطب، أو نحوها من الأقسام الأخرى، فالقضية مربوطة بالهدف الذي يسعى الإنسان من أجله، فإذا كان الهدف نبيلاً والنية طيبةً، ويقصد من وراء ذلك تقديم خدمة لهذه الأمة، فإنني أنصحه بدخول أي قسم يرى فيه بغيته، ويجد فيه ما يتفقُ مع طبيعتَه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر