أما بعد...
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
العالم: هو من خير البرية ويتبوأ منـزلة دونها منازل الناس أجمعين، كما ذكر الله تعالى في كتابه، وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم في سنته: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28] و{العلماء هم ورثة الأنبياء} وإنما يقصد بالعالم في هذا، العالم بالشرع أصوله وفروعه، أما غيرها من العلوم الدنيوية فليس لها هذا الشرف مهما يكن نفعها ومهما تكن ثمرتها.
وقد كان علماء هذه الأمة من السلف الصالح رضي الله عنهم ترجمة واقعية حقة لما كان الإسلام يريده من العالم، في مظهره ومخبره في علمه وعمله ودعوته وسائر تقلباته.
وكلما تقادم العهد بهذه الأمة، وبعدت عن المنابع الأصلية، وطال عليها الأمد، ضعف هذا الأمر، وقل العلماء العاملون المخلصون، وبهتت الصورة التي كان عليها العالم المسلم في عهود السلف الصالح رضي الله عنهم أجمعين.
ولذلك تحتاج الأمة بين كل آونة وأخرى إلى أن تستعيد صورة ما كان عليه أولئك العلماء، ليكون ذلك حافزاً لها على السير على خطاهم وتقفي آثارهم.
ولا شك أن الصورة المثالية للعالم التي جاءت في القرآن والسنة بشكل نظري، وطبقت في واقع الحياة في العصور الأولى بشكل عملي، هذه الصورة المتكاملة لاشك أن مقاييسها بالصورة الحالية لطلاب العلم أمر يطول، فإن الفرق ليس محصوراً في جانب واحد حتى يمكن استقصاؤه والحديث عنه، بل الفرق في المنهج، في طريقة التعلم، والتعليم في الأسلوب، وفي الهيئة الظاهرة والباطنة وفي كل شيء،؛ولهذا فإنني سوف اقتصر في هذه الدقائق على الحديث عن ثلاثة جوانب مع بيان الفرق فيها بين ما كان عليه علماء السلف الصالح وما آل إليه الأمر في هذا الزمان، وهذه الجوانب الثلاثة هي:
الجانب الأول: فيما يتعلق بموضوع المواصلة في طلب العلم.
والجانب الثاني: ما يتعلق بموضوع التأثر بالعلم والعمل به.
والجانب الثالث: فيما يتعلق بموضوع القوة في الحق.
وقبل أن أدخل في هذه الجوانب الثلاثة أحب أن أشير إلى أن هناك ميزات وإمكانيات أصبحت في مقدور طالب العلم اليوم لم تكن ميسورة لطلاب العلم في المرحلة الماضية.
وعلى النقيض من ذلك كان علماء السلف رضي الله عنهم يلاقون المشاق والصعاب في حياتهم بسبب ضيق ذات اليد.
ولعلي أكتفي بالإشارة إلى القصة المعروفة التي حدثت لأربعة من كبار الأئمة والعلماء، وهم محمد بن جرير الطبري، ومحمد بن نصر المروزي، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة صاحب الصحيح، ومحمد بن هارون الروياني، فقد كان هؤلاء العلماء الأربعة ممن جمعتهم الرحلة وذهبوا إلى مصر في طلب العلم، فهناك أصابهم من شظف العيش ما أصابهم حتى كانوا يبيتون الليالي الطويلة بلا غداء ولا عشاء.
حتى إنهم اتفقوا على أن يضربوا القرعة فيما بينهم ومن وقعت عليه القرعة فإنه يذهب ليسأل لهم طعاماً، فلما أداروا القرعة وقعت على ابن خزيمة -رحمه الله- فما بالك إمام الأئمة كما يسمى ابن خزيمة صاحب المصنفات الشهيرة سوف يضطره ما يلقاه من ضيق ذات اليد إلى أن يسأل غداء أو عشاء لـه ولأصحابه؟!
فكأنه رحمه الله استثقل ذلك الأمر، وقال: دعوني حتى أصلي صلاة الخيرة، أي: صلاة الاستخارة، فذهب يصلي ركعتين، ولعله دعا الله تعالى فيها، فما انتهى من صلاته إلا والباب يطرق، وإذا برسول من عند الأمير يقول: أين محمد بن نصر المروزي؟! فقال: هاأنا! فأعطاه خمسين ديناراً ثم قال: أين الروياني؟! فجاء فأعطاه خمسين ديناراً، ثم قال: أين محمد بن جرير الطبري؟! فأعطاه خمسين ديناراً، فقال: أين محمد بن إسحاق بن خزيمة؟! فجاء فأعطاه خمسين ديناراً، وقال: إن الأمير كان نائماً فرأى في المنام خيالاً يقول له: إن المحاميد قد طووا كشحهم من الجوع! فاستيقظ وعرف أن المقصود هؤلاء الأئمة الأربعة؛ لأن كل واحد منهم اسمه محمد، فأرسل إليهم ذلك، وسألهم بالله إذا انتهت واحتاجوا أن يبعثوا أحدهم إلى الأمير ليأخذ مثلها.
وما من عالم من العلماء المشهورين إلا ومرت به مواقف تشبه هذا الموقف وقد تزيد عليه، فلم يكن لدى أولئك العلماء من سعة ذات اليد وتوفر هذه الأمور الضرورية ما هو موجود لدى طالب العلم اليوم.
كذلك لم يكن لديهم من توفر وسائل الاتصال، فقد كان الواحد منهم يضطر إلى الرحلة من الحجاز إلى مصر أو إلى اليمن أو إلى الشام أو إلى العراق في طلب حديث واحد، وقد يرحل رحلات عدة في طلب حديث واحد، ولهم في ذلك قصص وطرائف ويمكن أن تراجعوا مثلاً كتاب الرحلة في طلب الحديث للخطيب البغدادي أو غيرها.
وأما اليوم فإن وسائل الاتصال أصبحت ميسرة؛ فإن الإنسان عندما يريد السفر يستطيع أن يقطع آلاف الأميال في ساعات وبكل راحة وهدوء، وخلال سفره يستطيع أن يستثمر وقته في قراءة، في طلب علم، في مراجعة، في حفظ، في أي أمر من الأمور، وقد لا يحتاج إلى السفر في كثير من الأحيان لتوفر وسائل الاتصال الأخرى أيضاً، فهذه ميزة متوفرة اليوم لم تكن متوفرة من قبل.
وبالمقابل نلاحظ أن هناك أشياء كثيرة تميزوا بها رحمهم الله، وهي أمور أساسية إذا وجدت عند طالب العلم، فإنه يستطيع أن يتجاوز الصعاب والعقبات في طلب العلم، وإذا لم توجد فلا ينفع الطالب أن تكون الأمور كلها ميسرة، فماذا ينفع الطالب إذا كانت كتب العلم كلها بين يديه، وهو لا يجد الرغبة في تحصيل العلم؟! أولا يملك الدأب على تحصيله؟! لا يستفيد شيئا من هذه الأمور، ولو كان العلم بالكتب لصار أصحاب المكتبات أعلم الناس.
فمن ميزاتهم رضي الله عنهم التي امتازوا بها: الإخلاص، فقد كان دافعهم أو دافع كثير منهم ابتغاء وجه الله تعالى فيما يعلمون، ولم يكن قصد أحدهم مثلاً أن يُحَصِّلَ علماً ليباري به العلماء أو يصرف به وجوه الناس إليه أو يتصدر به في المجالس أو ليقال هو قارئ، إنما كان قصدهم معرفة ماذا يريد الله منهم ليعملوا، وقصدهم حفظ الشريعة وتعليم الناس وما أشبه ذلك من المقاصد المشروعة، وهذا الأمر يصبح يسيرُ العلمِ معه كثيراً مباركاً.
ومن الميزات التي امتازوا بها رحمهم الله ورضي عنهم: قوة الهمة، فقد كانوا يمتلكون من الهمم العالية القوية ما يسهل كل صعب، وما قطعهم للمسافات وتحملهم للمشاق في تحصيل العلم إلا لوجود الهمة القوية، أما اليوم فأنت تجد طالب العلم إذا تعسر عليه فهم باب من أبواب العلم تشرح له مرة فلم يفهمه يلقي بالأمر ويقول:
إذا لم تستطع شيئاً فدعه وجاوزه إلى ما تستطيع |
ويخيل إليه أنه بذل وسعه في التحصيل فلم يفلح!.
من ميزاتهم التفرغ لطلب العلم، ولذلك كان الإمام الشافعي - رحمه الله - يقول: لو كلفت شراء بصلة ما فهمت مسألة، وهذا ليس معناه كما قد يتبادر أن طالب العلم في عصرهم أصبح عالة على غيره لا يأتي ولا يذهب، وإنما هو متفرغ، والمحسنون ينفقون عليه، لا! لكن المقصود أن طالب العلم لديه جو مناسب لتحصيل العلم، ولديه تفرغ قلبي من الشواغل، لكن لو تنظر لطالب العلم اليوم تجد عنده مزرعة يشتغل فيها، وتجد عنده دكاناً، وتجد لـه أصحاباً وخلاناً يأخذون وقته، ولذلك فرحمة الله على السلف حين كانوا يقولون: " من أراد تحصيل العلم فليهجر دكانه، وليخرب بستانه، وليفارق خلانه " أي أن يوجد قدراً من التفرغ في طلب العلم وتحصيله.
فالجيل الأول كانوا يقتدون بالرسول صلى الله عليه وسلم، والجيل الثاني على جلالة أقدارهم وثناء رسول الله صلى الله عليه وسلم بل ثناء الله تبارك وتعالى عليهم كانوا يقتدون بالرسول صلى الله عليه وسلم، لكن الأشخاص الذين عايشوهم وأخذوا عنهم كانوا من الصحابة، كـمعاذ بن جبل وابن مسعود وعمر بن الخطاب وفلان وفلان، الجيل الثالث كان مشايخهم من التابعين … وهكذا، فكلما تقدم الزمن ضعفت القدوة.
ولذلك ذكر الإمام الذهبي في التذكرة قول بعضهم: " إن الإمام أبا داود صاحب السنن كان أكثر الناس شبهاً بالإمام أحمد، والإمام أحمد كان أكثر الناس شبهاً بـوكيع، ووكيع كان أكثر الناس شبهاً بـسفيان، وسفيان كان أكثر الناس شبهاً بـمنصور، ومنصور كان أكثر الناس شبهاً بـإبراهيم، وإبراهيم كان أكثر الناس شبهاً بـعلقمة، وعلقمة كان أكثر الناس شبهاً بـعبد الله " يعني ابن مسعود رضي الله عنه.
إذاً: كلما تقدم الزمن ضعفت القدوة، فكانوا يجدون في واقع حياتهم قدوةً حسنة في الدأب في تحصيل العلم، وفي العمل، وفي تحمل المشاق والصعاب وغير ذلك، وهذه لا تزال موجودة ولكنها لاشك ليست كما كانت موجودة عندهم، لا من حيث الكم والعدد ولا من حيث الكيف، فهذه مقارنة عامة لا أقول إنها مستوعبة لكل الفروق بين هؤلاء وأولئك لكنها إشارة إلى بعض الجوانب التي تحضرني الآن.
أما فيما يتعلق بالأمور الثلاثة التي ذكرت أنني سوف أقارن فيها بين ما كان عليه السلف الصالح وبين ما نحن عليه اليوم فإن الأمر الأول منها هو:
- استمرارهم في تحصيل العلم، واستمرارهم في تحصيل العلم هو امتثال لقول الله عز وجل وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99] فإن الله عز وجل أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالعبادة وحدد وقتا ينتهي فيه هذا العمل الذي كلف به وهو الموت حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99] أما قبل ذلك فلا يزال في عبادة ومجاهدة.
ولا شك أن العلم من أجل الطاعات وأعظم العبادات، بل ذكر عدد من أهل العلم أنه أفضل من نوافل العبادات من وجوه عديدة، فكان العالم منهم يعتبر أنه طالب عالم حتى الموت، ولهم في ذلك قصص وحكايات كثيرة لعل منها ما هو معروف عن الإمام أحمد، وقد رأى بعضهم معه محبرة في آخر عمره وعلى كبر سنه، فاستغرب ذلك وسأل الإمام أحمد فقال: الإمام أحمد: مع المحبرة إلى المقبرة وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99] لا يلقي عصا التسيار والترحال في طلب العلم حتى يأتيه الموت.
- عبد الله بن المبارك كذلك تعجب الناس من كثرة علمه وتحصيله ومع ذلك، يغشى المجالس ويسمع الحديث، وسألوه عن ذلك فقال: "لعل الكلمة التي أنتفع بها لم أسمعها بعد" ربما تكون الكلمة التي فيها حياة قلبه -هكذا كلمته- ما زال بحاجة إليها، ولعله لم يسمعها حتى الآن.
ومثل ذلك ما رواه ابن عساكر عن أبي القاسم الصوفي أنه خرج إلى الحج وهو شيخ كبير، فكان معه مقلمة ومحبرة وبياض -أي ورق بياض- وكانوا يسمونه "الكاغد" وأجزاء، فكان كلما نـزل في مكان قرب قرية أو بلد قال لأحد تلاميذه: هلم! فيذهبون ويحضرون مجالس الحديث ويسجلون الفوائد، فإذا مر به أحد سأله إن وجد عنده فائدة قيدها، حتى ذكر أنه كان في وادي محسر، والناس يحاولون أن يخففوا من أحمالهم التي معهم، فكان في هذا المكان الضيق المزدحم معه المقلمة والمحبرة والبياض والأجزاء فقال له تلميذه: يا إمام في هذا المكان الضيق المزدحم والناس يتخففون من أمتعتهم معك هذه الأشياء، فقال: لعلي أسمع فائدة من جمال أو غيره فأقيدها!
صورة معبرة من صور الدأب في تحصيل العلم وعدم الوقوف عند حد معين.
وفيما يبدو أن المعرفة بعلوم الشريعة وعلوم اللغة العربية كانت قاسماً مشتركاً بين كافة العلماء في ذلك العصر، ثم يتخصص الواحد منهم في علم من العلوم يبرز فيه أكثر من غيره.
إذا نظرنا إلى الصورة المقابلة في واقعنا وجدت أن كثيراً من طلاب العلم يعتبر أن تخرجه من الكلية مثلاً هو آخر عهده بطلب العلم، فهو يخيل إليه أنه بعد أن حصل على هذه الشهادة أنه قد حصل على العلم المطلوب وتوجه إلى عمل أو تدريس أو وظيفة أو غيرها، وتوقفت بذلك جهوده في طلب العلم وتحصيله، مع أننا ندرك جميعاً أن أي علم يمكن أن يحصله الطالب في كليات الشريعة أو أصول الدين أو غيرها، لاشك أنه علم لا بأس به، ولست أقلل من شأنه، لكن هو علم يمكن أن يفتح أبواب العلم الواسعة على الطالب، وييسر له سبيل الوصول إلى العلوم، أما أن يكون هو العلم الذي يكفي الطالب فليس الأمر كذلك.
ومنهم من يعتقد أن إنهاء ما يسمى بمرحلة الماجستير أو الدكتوراة هو آخر عهده بالعلم، مع أن من المعلوم أن هذه الرسالة قد تكون في موضوع واحد، مهما أجاد فيه الطالب إلا أنه يبقى معزولاً عن غيره من الموضوعات، بل عن غيره من الفنون التي قد يجهلها بأكملها أحياناً.
ولعل من أبرز ما يدلل على هذا ما نلحظه اليوم في هذه النهضة العلمية، كم من مخطوط كان كثير من العلماء المشهورين يتمنون الحصول عليه في وقت من الأوقات أصبح الآن في متناول كل طالب، وتجده مطبوعاً محققاً مخدوماً رخيص الثمن، وكم من كتاب كانت المعلومات فيه غير مرتبة ككتب المسانيد مثلاً أو بعض كتب الثقات ككتاب الثقات لابن حبان وكتب التراجم أو غيرها، فكان العالم يجتهد في البحث عن طلبته وبغيته فلا يحصل عليها، وأصبح هذا اليوم ميسراً لطلاب العلم، عن طريق هذه الفهارس التي أصبحت تعد بالمئات، بل ربما أكثر من ذلك.
كم من مسألة كانت مفرقة بين بطون الكتب في الماضي، فقيض الله في هذا العصر من يجمع أشتاتها وأطرافها في بحث واحد ويقربه للناس، وهذا لا يعني التزكية المطلقة لهذه الأشياء.
قد يقول بعضكم: ولكن كثيراً من هذه التحقيقات والبحوث والفهارس فيها نقص وفيها وفيها؟
أقول: هذا صحيح، وليس المجال مجال توثيق أو تقويم لهذه الأعمال العلمية، إنما المقصود فقط الإشارة إلى أن حركة العلم في هذا العصر في تزايد مستمر ووسائل تحصيل العلم أصبحت ميسورة، فالتوقف عند حد معين ليس لـه ما يسوغه أو يبرره كما يقولون.
نلحظ قضية أخرى وهي: في موضوع التخصص، وإذا كان السلف على ما وصفت فإننا نلحظ أن التخصص أخذ بعداً آخر في هذا العصر، فنجد الطالب أحياناً قد يتخصص في سن مبكرة حتى إنهم الآن أوجدوا التخصص حتى على مستوى المدارس الثانوية، فقد يتخصص الطالب في المرحلة الثانوية أحياناً في علوم شرعية أو علوم لغة عربية أو في غيرها، ثم إذا انتقل إلى الجامعة استمر في تخصصه نفسه.
وقد نفترض أن إنساناً أنهى أعلى المراحل الدراسية في تخصص معين كالفقه مثلاً ماذا سيكون؟ ربما يأخذ في المدرسة الثانوية قولاً واحداً هو المشهور من المذهب في بعض المسائل دون بعض وهو موزع على سنوات، ويختلف تحصيله بحسب جودة الأستاذ وجودة ذهن الطالب وإمكانياته، وهناك ظروف كثيرة تؤثر في التحصيل.
ينتقل إلى كلية الشريعة مثلاً فيقرأ في كتاب ككتاب الروض المربع شرح زاد المستقنع، وحينئذٍ يكون الطالب أيضاً أخذ قولاً في المذهب ومعه دليله في أحيان وتعليله في أحيان أخرى، وينتهي من الكلية بهذه الصفة، وإذا تخصص في مرحلة الماجستير أخذ موضوعاً واحداً، ولنفترض مثلاً أنه بحث في موضوع أحكام الطهارة في الماجستير، وجمع الأقوال المختلفة وقارن بينها، وجمع الأدلة وخرج منها بنتائج محددة، ولكنها تبقى في موضوع واحد، ثم انتقل إلى ما يسمى بمرحلة الدكتوراة، فكذلك تخصص في موضوع واحد آخر، وليكن لا أقول الصلاة لأنه لا يمكن أن يأخذ دكتوراه في موضوع الصلاة كلها، لكن يأخذها في جزء مثلاً: في صلاة النوافل، أو في أحكام المسافر، أو في أحكام المريض، أو في أحكام الإمام وما أشبه ذلك.
يبقى الطالب فيما سوى ذلك من العلوم أشبه بالأمي!
فهذه من سلبيات التخصص المبكر، خاصة من الإنسان الذي لا يجد في نفسه رغبة شخصية في متابعة العلم وتحصيله، وإلا فالذي يجد الرغبة والهمة والإقبال سوف يُحَصِّلُ -بإذن الله- العلم، حتى لو لم يتخرج من الجامعة وحتى لو لم يحصل على شهادة، إنما الكلام في جمهور المتفقهين والقراء وهم الذين يسلكون هذا الطريق الذي أشرت إليه.
هل إنذار الناس يكون فقط بالأحكام الفرعية؟! هل إنذار الناس يكون بأن تبين لهم مثلاً أحكام الحيض أو أحكام النفاس أو أحكام سجود السهو؟! كلا! إنما الإنذار يكون بالعلم الذي ينفذ إلى القلب، العلم بالله تعالى، العلم باليوم الآخر، وكذلك معرفة هذه الأحكام الفرعية الشرعية على سبيل العمل بها والدعوة إليها وعبادة الله تعالى بامتثالها، هكذا كان العلم.
ولذلك روى الخطيب البغدادي في كتابه المفيد الذي سماه الجامع لآداب الراوي وأخلاق السامع عن ابن سيرين أنه قال: "كانوا يتعلمون الهدي كما يتعلمون العلم" يتعلمون الهدي -وهو السمت والخلق والسلوك- كما يتعلمون العلم! وذكر الخطيب أيضاً في كتابه المشار إليه عن أبي زكريا العنبري أنه كان يقول: "علم بلا أدب كنار بلا حطب، وأدب بلا علم كروح بلا جسم" أما قوله: "علم بلا أدب كنار بلا حطب" فمعناه والله أعلم: أن العلم يقتبس منه فلا ينقص، مثل النار الذي يوضع عليها الحطب يقتبس الناس منها فلا تنقص، فالعلم الذي ليس معه أدب هو كالنار التي ليس معها حطب، وما هو مصير النار إذا لم يكن معها حطب؟ أن تخبو وتنطفئ، وكذلك طالب العلم إذا لم يتحل بالأدب والخلق الحسن، فسرعان ما يعرض عن العلم ويشتغل بالدنيا.
وروى الإمام الدارمي في سننه أن الحسن البصري -رحمه الله- تكلم في مسألة من مسائل الفقه في مجلس من المجالس، فقال له رجل اسمه عمران المنقري: يا إمام! ما هكذا يقول الفقهاء! كأنه رأى أن ما قرره الحسن البصري مخالف لما يقرره أهل العلم والفقه فقال: لـه الحسن البصري: [[وهل رأيت فقيهاً قط- أي هل سبق أنك رأيت فقيهاً في حياتك- إنما الفقيه: العالم بأمر الله، الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة، المداوم على عبادة ربه تبارك وتعالى]] فهكذا كانوا يفهمون العلم، وكانت حياتهم تطبيقاً لهذا الفهم.
ولذلك لو نظرتم في سير السلف الصالح، لوجدتهم أنهم يسلمون من الأمراض التي تصاحب طلب العلم عادة، وذلك كمرض العجب والغرور، فإنه من الأمراض التي تسرع إلى طالب العلم، فما أن يتصدر للتعليم ويلتفَّ الناس حوله ويطؤون أعقابه إلا ويصيبه شيء من الزهو والعجب والخيلاء ويخرج عن طوره، وكذلك الحسد الذي قد يجعل طالب العلم يحسد غيره على ما آتاه الله من فضله، فإذا تعب في تحصيل العلم، ثم رأى أن غيره حصَّل أكثر مما حصل بتعب أو بغير تعب، وإن كان العلم لا يستطاع براحة الجسم كما قال يحيى بن أبي كثير، المهم إذا رأى غيره فاقه أصابته الغيرة والحسد، إضافة إلى غير ذلك من الأمراض الكثيرة، فلو نظرت في سير السلف وجدت الغالب عليهم السلامة من هذه الأمراض، لأنهم فهموا العلم كما ذكرت.
المقصود أن هذه المدارس بشكل عام التي تدرس اليوم العلوم الشرعية سواء كانت مدارس رسمية أو كانت غير رسمية تعنى بحشو المعلومات في ذهن الطالب، وإعطائه أكبر قدر ممكن من المعارف والأحكام والأدلة؛ ولذلك تربي الطالب على أن الفائدة والعلم هو تحصيل هذه المعارف الفرعية، فإذا جلس الطالب إلى شيخ وقال له الشيخ: المسألة الفلانية فيها عدة أقوال هذا قولُ فلان ودليله كذا، والراجح كذا، وبدأ يعطيه بعض الفوائد، فإنك تجد الطالب يسارع بتقييد الفوائد، وإذا خرج قال: أنا والله استفدت من هذه المحاضرة أو من هذا الدرس.
لكن حين يجلس الطالب فيسمع ترقيقاً للقلب أو تذكيراً بالله عز وجل أو بناءً لشخصيته في جانب من الجوانب المهمة أو تحذيراً من خلق ذميم، فقد لا يشعر بأنه استفاد، فهذا أثر التربية التي تلقاها الطالب في المدارس التي قصرت همها على حشو ذهن الطالب بالمعلومات فقط دون القيام ببناء شخصيته وسلوكه وتربيته تربيةً إسلاميةً متكاملةً.
تصدر للتدريس كل مهوس جهول يسمى بالفقيه المدرسِ |
فحق لأهل العلم أن يتمثلوا ببيت قديم شاع في كل مجلسِ |
لقد هزلت حتى بدا من هزالها كلاها وحتى سامها كل مفلسِ |
ومع الأسف فإن ابن كنانة -رحمه الله - كان يهجونا جميعاً بمثل هذه الأبيات وله الحق في ذلك وإن كان هذا لا يمنع من استثناء العلماء الأفاضل والفقهاء المخلصين والدعاة العاملين، الذين نجزم ونقطع بموعود رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم أن هذه الأمة لا يمكن أن تخلو منهم حتى يأتي أمر الله عز وجل.
ومن العجيب أن بعض العلماء ذكروا عن الإمام أبي عمرو بن الصلاح الفقيه الشافعي المشهور، أنه كان إذا جاء إلى مجلسه أحد من الطلاب ليس عليه عمامة أو قد فتح أزاريره فإنه يطرده من مجلسه!
وكانوا يراقبون الطالب: من يجالس من الأصدقاء؟
وكيف يعيش؟
ومع من يمشي؟
فإذا رأوا مثلاً أن طالب علم مبتدئاً صغيراً يماشي سفهاء وكبار سن وغير ذلك، فإنهم يحذرونه مرة وثانية وثالثة، فإذا لم يستجب فإنهم يطردونه من هذه المدارس والحلق التعليمية.
كذلك برزت الأمراض والآفات التي تخشى على طالب العلم فأصبح التنافس في مجالات العلم على أشده تنافساً غير شريف، لأنه لو كان تنافساً في مجال تحصيل العلم فلا بأس، لكن قد يأخذ التنافس في هذا العصر صورة أن يأتي طالب علم أو محقق إلى كتاب اشتغل به غيره، وتعب في تحقيقه ومقارنة نسخه وضبط نصوصه وتخريج أحاديثه، فيسرق جهد غيره ويطبعه باسمه، دون مراعاة خوف من الله ولا حياء من الناس، وفي كثير من الأحيان تجد في المكتبة عدداً من الكتب والمحققون لها عدد، أي أن كل طبعة لها محقق يختلف عن الآخر، وحين تقارن الهوامش تجدها متطابقة!
وأضرب لكم مثالين بأسماء الكتب فقط دون الحديث عمن حقوقها: الكتاب الأول كتاب غياث الأمم في التياث الظلم للإمام الجويني، والكتاب الثاني هو كتاب تحريم النرد والشطرنج والملاهي للآجري.
وكذلك برز الحسد بين طلاب العلم أو بعضهم بسبب التنافس الدنيوي، فأصبحت تجد الطالب يقع في غيره بل قد يقع في شيوخ لهم قدم صدق ومكانة وثقة، وكم من كتاب صدر في النيل من علماء أجلاء أطبقت الأمة على تقديرهم، ولعله لا يغيب عن الأذهان مثلاً ما يلقاه الشيخ الألباني من هجوم ذريع من عدد من الكتاب وطلاب العلم، بل وربما من العلماء أو من بعض العلماء، ولا يبعد أبداً أن يكون الحسد هو أحد الدوافع في كثير من الأحيان، إضافة إلى العجب والغرور والزهو والخيلاء بما عند الإنسان وفرحه بما أوتي من العلم، كل هذا بسبب غياب الفهم السلفي للعلم الذي يعتبر أن العلم هو التقوى والخشية والورع والعمل.
النقطة الثالثة: هي مسألة القوة في ا لحق، كان علماء السلف رضي الله عنهم يعتبرون أنفسهم قوامين على المجتمعات الإسلامية، وهكذا المفهوم الشرعي فالله عز وجل يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59] من هم أولو الأمر؟ هم العلماء والحكام، والعلماء والأمراء، هؤلاء هم أولو الأمر، فكان العالم له مكانته وثقله وتأثيره، ولم يكن غريباً أن الوالي والعامل على المصر يهاب العالم ويخشى منه ويمشي إليه.
المهم أن العلماء كان لهم شأن أي شأن وتأثير في المجتمعات، وسوف أُبِرزُ هذا التأثير من خلال عدد من القصص الغريبة التي هي أحياناً أشبه ما تكون بالخيال لشدة بعدها عن واقعنا اليوم.
منها القصة التي رواها البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ولا شك أن الصحابة هم أعلم العلماء بعد الأنبياء، فـأبو سعيد الخدري رضي الله عنه ذكر أن مروان بن الحكم وكان والياً على المدينة خرج لصلاة العيد في يوم أضحى أو فطر، فلما خرج اتجه إلى المنبر ليخطب، فجذبه أبو سعيد وجره، فجر مروان نفسه من أبي سعيد، وارتقى المنبر وخطب، فقال له أبو سعيد: خالفت السنة! قال: يا أبا سعيد قد ترك ما هنالك! -أو قال: قد ترك ما تعلم- قال أبو سعيد: والله! لما أعلم خير مما لا أعلم، فقال مروان: إن الناس كانوا لا يجلسون لنا، أي: إذا صلوا العيد خرجوا ولم يستمعوا الخطبة، فقدم الخطبة حتى يضمن جلوس الناس لاستماعها، والمهم أن أبا سعيد اتخذ هذا الموقف القوي من مروان.
وبعد ذلك تكرر الموقف مرة أخرى -والله أعلم- من مروان، فخرج في يوم عيد وذهب إلى المنبر، فقام له رجل يبدو أنه معتز بعشيرته وقوي منيع، ونهى مروان عن ذلك، وقال: الصلاة قبل الخطبة! فقال له مروان: قد ترك ما هنالك! فقام أبو سعيد وقال: أما هذا فقد قضى ما عليه -وهذه الرواية في صحيح مسلم- أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: {من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان}.
وهذا النص كان وراء تصرفات عدد من العلماء العاملين في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، منهم محمد بن المنكدر رحمه الله، ذكر الإمام المالكي ابن أبي زيد القيرواني في كتاب الجامع، أن محمد بن المنكدر كان يخرج إلى السوق مع طلابه فيأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وقد أوذوا في ذلك من السلطان.
ومن أعجب المواقف ما ذكره أبو نعيم في الحلية، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد عن عالم يقال له أبو الحسن الزاهد وهي أشبه بالخيال كما أسلفت:
أن أبا الحسن الزاهد عِلمَ بما يفعله حاكم مصر أحمد بن طولون من البطش بالرعية وقهرهم والتنكيل بهم؛ حتى إنه قتل -كما يقال- ثمانية عشر ألف إنسان صبراً، أي: بحبسه حتى يموت أو يحبسه ويرميه بشيء حتى يموت، فتبرم الناس منه وضاقوا ذرعاً بقهره واضطهاده لهم، فجاء إليه أبو الحسن وأمره ونهاه وأنكر عليه، فتميز هذا الطاغية غضباً عليه، وأمر بسجنه وأن يلقى إلى أسد جائع حتى يفتك به، فجيء بأسد قد جوع أياماً، ووضع أبو الحسن وهو أعزل في فناء أو ساحة وجيء بهذا الأسد الضخم العظيم الذي مجرد زئيره يقطع نياط القلوب، فكيف بمرآه وهو طليق؟! فكان هذا الأسد يزأر والناس ينظرون خائفين فزعين، أما أبو الحسن الذي يعنيه الأمر، فإنه كان جالسا مطرقاً كأن الأمر لا يعنيه من قريب أو بعيد، فما إن اقترب منه الأسد حتى تغير حاله، أي حال الأسد، وهدأ وأقعى على الأرض، ثم اقترب قليلاً قليلاً من هذا الإمام وبدأ يمسحه، ولم يصبه بأذى بل انصرف عنه!
فوسط تهليل الناس وتكبيرهم جاء ابن طولون هذا الطاغية، وأخذ هذا العالم وأخذ يسأله: ماذا كان في قلبك؟ وماذا كنت تقول حين أقبل عليك الأسد؟ ربما تصور الناس أن هذا العالم عندما كان جالساً ساكناً أنه قد أصابته القشعريرة والرعدة وأصابه الخوف، فأعجزه عن القيام أو الفرار مثلاً أو أنه كان ساحراً أو مشعوذاً كما يلبس كثير من الجهال على بعض الناس، فلذلك سأله ابن طولون: ماذا كان في قلبك؟ وماذا كنت تقول؟ قال: ليس عليَّ منه بأس، إنما كنت أفكر هل لعاب الأسد طاهر أم نجس، أي هو مشغول بمسألة فقهية فرعية هل لعاب الأسد طاهر أم نجس؟! أما قضية الأسد وفتكه به فهو كان يثق بالله عز وجل، ويدري أنه موقف لله، والله يدافع عن الذين آمنوا، وقد حصل مثل هذا مواقف كثيرة لكثير من العلماء، حين كانوا يقفون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مواقف شجاعة، كان الله تعالى يحفظهم ويرعاهم.
والأمثلة كثيرة منها: المنذر بن سعيد البلوطي العالم الأندلسي له مواقف شجاعة مشهورة، العز بن عبد السلام في الشام ثم في مصر له مواقف مشهورة، ابن تيمية رحمه الله لـه مواقف: منها أنه كان يخرج بتلاميذه إلى السوق فيكسرون أواني الخمور، ويكسرون آلات الغناء والطبول وغيرها، ويهرقون الخمور في الشوارع، ويؤدبون المعتدين، حتى إنهم خرجوا إلى جبل كسروان وأدبوا النصيرية وفرضوا عليهم أحكام الإسلام، وتعدى الأمر إلى أن هذا العالم حين جاء التتار إلى الشام خرج إلى حكام مصر وكانوا من المماليك، وخاطبهم بأسلوب عجيب كان يقول للحاكم: إن كنتم أعرضتم عن الشام وأهله، فإننا نجعل له من يحوطه ويحميه في زمن الخوف، ويستغله في زمن الأمن، أي نجعل للشام ولاةً وحكاماً يدافعون عنه في الشدة ويستفيدون منه في الرخاء، ثم قال: لهم لو قدر أنكم لستم حكام الشام ولا ملوكه، ثم استنصركم أهله وجب عليكم النصر، فكيف وأنتم حكامه وملوكه؟! وتلا عليهم القرآن الكريم، حتى خرجوا من مصر إلى الشام، والتقوا مع التتار، فنصرهم الله تعالى نصراً مؤزراً، كما هو معروف.
وليست هذه المواقف مقصورة على ذلك العصر حتى حين نأتي للعصور المتأخرة نجد مثلاً أمثال الشيخ العقاد وكان من علماء الشام، والشيخ عبد العزيز البدري كان من علماء العراق، لهم مواقف مع الطغاة مشهورة معروفة، ولعلماء نجد في ذلك القدح المعلى، فقد كان لهم مواقف مشهورة محمودة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على المستوى الخاص وعلى المستوى العام، لكن في المقابل مع كثرة طلاب العلم والمنتسبين إليه والفقهاء، فإننا نجد كثيراً منهم قد آثروا السلامة، واشتغلوا إما بالعلم الذي لا تعلق لـه بواقع الحياة، وإما بأمور دنيوية من وظائف ومناصب يتنافسون فيها ويحرصون عليها ومن وقع في هذه الأشياء فإن لسانه يعقد عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
والمجتمعات الإسلامية اليوم تتعرض لغزو خطير من أعداء الإسلام، يستهدف لا أقول بعض أحكام الإسلام بل يستهدف اجتثاث الإسلام من أصوله، عن طريق نشر الإلحاد والعلمانية والإباحية والفجور في الأمة كلها، فما أحوج الأمة إلى العلماء العاملين والدعاة المخلصين.
في ختام هذا الحديث الموجز أشير إلى أن الأمة محتاجة إلى نهضة إصلاحية، مدرسة تخرج الطلاب الذين يتميزون بالصفات التالية:
أولاً: العلم المربوط بالدليل الشرعي من الكتاب والسنة أو الإجماع الصحيح، وليس العلم الذي ليس له زمام ولا خطام.
ثانياً: الجمع بين العلم والعمل، بحيث يشعر الطالب، وهو يحصل العلم أنه إنما يعلم ليعمل بنفسه ويعمل غيره.
ثالثاً: معرفة الواقع ومعايشته، ومعرفة أسلوب تغييره، ومعرفة حكم الله ورسوله في كثير من النوازل التي ألمت بالناس اليوم، فلا يكادون يجدون في عدد من البلدان من يبين لهم حكم الله ورسوله فيها.
رابعاً: أن يتربى طالب العلم على الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويدرك أن طالب العلم لا يليق به أن يكون معتزلاً عن الناس، بل ينبغي أن يخالطهم ويدعوهم ويصبر على أذاهم، فالمؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم.
وإن كان بقي وقت فأترك المجال لبعض الأسئلة المتعلقة بالموضوع.
السؤال: يتعلل كثير من الشباب ممن تفرغوا لطلب العلم عن ترك الدعوة ومخالطة الناس، بأن ذلك يشغلهم عن طلب العلم، فما توجيهكم لهؤلاء؟
الجواب: فيما يظهر لي أن الإنسان يجب ألا يضرب أمور الدين بعضها ببعض، فالذي أمرنا بالعلم هو الذي أمرنا بالدعوة، هو الذي أمرنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذه الأشياء يزكي بعضها بعضا، فإن زكاة العلم نشره والدعوة إليه، ومن دعا إلى الله تعالى احتاج إلى العلم فطلبه، ثم إن الإنسان يستطيع أن يوفق بين هذه الأشياء بأساليب كثيرة جداً، فإنه إذا حدد لنفسه منهجاً في التعلم واستمر عليه، واقتصر على نوع من مخالطة الناس فيه فائدة ونفع لهم، فإن الوقت يتسع لهذا وذاك.
لكن ينبغي أن يعرف أن الإنسان إذا اعتزل في فترة طلب العلم وطال هذا الأمر، فإنه يصعب عليه فيما بعد أن يحتك بالناس، أي لا يجب أن تتصور أن الإنسان هو عبارة عن آلة إن شئت أن توجهها هاهنا أو توجها هاهنا، إن شئت تشغلها أو توقفها، لا! الإنسان ليس كذلك، الإنسان لحم ودم ومشاعر، فالذي ما تعود على مخالطة الناس اكتفاءً بطلب العلم وتحصيله، حين يشعر بالحاجة إلى مخالطتهم، تخونه نفسه أحوج ما كان إليها، ولذلك بعض الناس لا يستطيع أن يتحدث مع الآخرين، إذا دخل على صاحب بقالة مثلاً لا يستطيع أن يماكسه في الثمن، إذا قال له: هذه السلعة بكذا أخذها ولو كانت بضعف الثمن، لا يستطيع أن يماكسه في الثمن، لماذا؟ لأنه ما تدرب على الاحتكاك بالناس ومخالطتهم، فإذا ما ربى الإنسان نفسه على هذا الأمر فقد لا يطيقه إذا ما احتاج إليه.
السؤال: أسئلة كثيرة يريدون تفسيراً جلياً للكلمة التي أوردتها، وهي قول بعضهم: "من أراد طلب العلم فليهجر دكانه، وليخرب بستانه، وليفارق خلانه" ويخصون الكلمة الأخيرة، إذ كيف نوفق بين الدعوة إلى الله عز وجل ومخالطة الناس وبين قول هذا العالم: وليفارق خلانه"؟
الجواب: كما ذكرت حين إيراد هذه الكلمة أنه ليس المقصود منها ظاهر لفظها، لأننا نعلم مثلاً أن الأمة والعلماء لم يكونوا رهباناً في صوامعهم، بل حتى الأنبياء عليهم السلام، ولماذا نضرب المثل بالعلماء؟ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كان لهم أزواج وذرية كانوا يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، ويحتكون بالناس ويخالطونهم ويأمرونهم وينهونهم، وهذا نوح عليه السلام يقول: قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائي إِلَّا فِرَاراً * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً [نوح:5-9] فليس المقصود من هجر الخلان وتوابعه حقيقة معناه، لأن السلف كان يعبرون عن المعنى بالرمز أحياناً، هذه قضية يجب أن تعرف، أحياناً، عندما يقولون: فلان لا يعرف الدرهم من الدينار! هل يقصدون حقيقة معناها أنه -فعلاً- لو جاءه درهم ودينار لا يعرف، لا! ليس الأمر كذلك.
لكن هذه أمثال تضرب وكلمات تنقل، يقصد منها أن الطالب عليه أن يعلم أن العلم لا يستطاع براحة الجسم، فالطالب مثلاً الذي ينام بعد صلاة الفجر حتى يأتي وقت دراسته أو عمله، ثم يذهب إلى الدراسة والعمل، ثم يأتي بعد الظهر متعباً فيتغدى ثم ينام، ثم بعد العصر يجلس يشرب الشاي مع أهله حتى الغروب، ويقول: وقت العصر في هذه الأيام قصير بعد المغرب يجلس يتعشى مع أهله، وبعد العشاء يسهر مع أصدقائه، وهذا برنامجه! هذا لن يحصل علماً ولا عملاً ولا دعوة ولا غير ذلك، لكن على الإنسان أن يضحي ببعض راحته فلا يكثر من الجلوس في المجالس التي لا فائدة منها.
ربما لو حسب بعض الإخوة وقت النوم لوجد أنه يزيد على تسع ساعات في يومه وليلته، لو حسب وقت الأكل والشرب لوجد أنه أضعاف ما يكفي لهذا الأمر، ثم تجد البعض يقول: أنا عجزت عن التوفيق بين طلب العلم وبين الدعوة وبين القيام بحقوق الأهل، نعم! عجزت لأنك أمضيت وقتك في نوم وأكل وشرب وأحاديث لا فائدة منها، لكن لو ضبطت وقتك فالوقت فيه بركة، فلو ضبطت وقتك استطعت أن توفق بين هذه الأشياء جميعها.
طالب العلم يحتاج إلى أقران يعينونه على العلم ويشجعونه ويقوون همته والرسول عليه الصلاة والسلام قال في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة: {وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه فيما بينهم إلا نـزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله تعالى فيمن عنده} فهذا وعد لمن اجتمعوا {وما اجتمع قوم} فلا يناله الفرد بكامله إنما يناله القوم، والله تعالى يقول في الحديث القدسي: {من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم} فذكر الله وطلب العلم والدعوة وسط مجموعة من القرناء الذين يعينون الإنسان على هذا السبيل يبينون لـه أخطاءه ويوقفونه عند حده أمر مهم جداً.
من أبسط الأمور التي اضرب بها المثل: طالب العلم أحياناً يخيل إليه أنه -ما شاء الله- حصل من العلوم ما لم تستطعه الأوائل! هذا يحصل وهو شعور طبيعي، لكن إذا جالس الآخرين ممن لديهم علوم ليست عنده، وسمع منهم، واطلع على ما لديهم، عرف قدر نفسه وتذكر أنه ليس عنده من العلم إلا النـزر اليسير، وأن غيره قد فاته في ذلك بكثير فدفعوا عنه شراً كاد أن يقع فيه.
السؤال: ما هو تفسير كلمتين إحداهما مشهورة وهي قول أبي حامد، أو يزيد بن هارون كما يقول السائل تعلمنا العلم لغير الله فأبى إلا أن يكون لله، والكلمة الثانية ما ينقلها عن ابن الجوزي وهذه الكلمة هي: "وأما ما في العلم من حب الرياسة فإنما أوجد لحكمة كما أوجد النكاح لحكمة الولد"؟
الجواب: أما الكلمة الأولى وهي كلمة "تعلمنا العلم لغير الله، فأبى إلا أن يكون العلم لله" فهذه نقلت عن جمع من السلف، وذكرها عنهم الذهبي في السير وغيره، ومقصودهم فيها -والله أعلم- أن الطالب في بداية الطلب قد لا يكون قصده ظاهراً ولا نيته خالصة، خاصة وأنهم كانوا يتعلمون العلم على صغر أعمارهم، ربما بدأ الواحد منهم في طلب العلم في صغر سنه، وقبل أن يتميز لـه قصد ونية، وقبل أن يشعر بأهمية الإخلاص، فلما كبر وحصل العلم ورأى العلم بين يديه دعاه هذا إلى الإخلاص وأن يكون العلم لله، دعاه من عدة جوانب:
أولاً: أن الاشتغال بالعلم وقال الله وقال رسوله يرقق القلوب ويقربها إلى الله تعالى، فتكون قابلة للخير والإخلاص.
ثانياً: أن طالب العلم يسمع الوعيد على من قصد الدنيا بعلمه، فيورثه هذا كراهية هذا الأمر ومجاهدة النفس عليه حتى ينجو منه، ومن المزالق التي يقع فيها بعض الطلاب في هذا الباب أنه إذا خشي من سوء القصد والنية ترك طلب العلم، وهذا مدخل ربما يجعل الإنسان يترك حتى أمور الخير.
فمثلاً: شاب يبكر إلى الصلاة فقال له الشيطان: أنت ربما تبكر بقصد الرياء وأن يمدحك الناس، فترك المبادرة إلى المسجد، وربما يترك الجماعة لهذا الغرض أيضاً، فهذا الأمر لا ينتهي ولذلك على الإنسان السالك في هذا السبيل أن يدرك أن النجاة من ذلك هي بمجاهدة هذا المقصد السيئ ومدافعته عن القلب، والحرص على الإخلاص والدعاء في ذلك وتوبيخ النفس عليها على عدمه وما أشبه ذلك.
أما كلمة ابن الجوزي فإن ظاهر العبارة الإشارة إلى أن كل أمر من الأمور يوجد الله تعالى في النفس من الحوافز الطبيعية ما يكون داعياً لبقائه واستمراره، فكما أن النكاح الذي هو سبب في بقاء الأمة وتكاثرها هو أمر فطري غريزي جبلي عند الإنسان، فلو لم يوجد عند الإنسان شهوة النكاح لربما عزف عنه، فحصل بذلك انتهاء الأمة أو نقص أفرادها وقلتهم، فكذلك العلم ربما يوجد عند بعض العلماء من حب الرئاسة ما يدعوه إلى طلب العلم، وقد يكون هذا في بداية الأمر، ثم إذا طلب العلم صار -كما ذكر في الكلمة السابقة- صار لله بعد أن كان لغير الله، أي ربما كان من وسائل التوظف مثلا حتى في العصور السابقة، بعض الناس يتصورون هذه قضية حادثة، حتى الأقدمون كان الإنسان منهم الذي يريد أن يكون في الديوان أو في الكتاب أو ما أشبه ذلك، يحتاج إلى أن يتعلم العلوم ليكون قاضياً أو عالماً أو مقدماً عند السلطان أو ما أشبه ذلك، فإذا تعلم العلم لهذا الغرض أبى العلم إلا أن يكون لله، إذا فحسنت في ذلك نيته وحسن قصده، هذا محمل كلمة ابن الجوزي رحمه الله.
الجواب: كلاهما! كان العلماء يشتغلون بالتأليف ويشتغلون بالتعليم، والذين خلد ذكرهم في التاريخ هم من هذين الصنفين أو من أحدهما، وكثير منهم جمعوا بين الأمرين، فإن كثيراً من مؤلفات هؤلاء العلماء كانت دروساً يلقيها في مجلس الإملاء، فيسجلها طلابه ويأخذونها عنه، سواء كانت حديثاً يحدثهم به أو علماً يلقيه إليهم، فكلا الأمرين مهم ومفيد، وإن كان التأليف والله أعلم أبقى؛ لأن المؤلفات تبقي على القرون والأجيال، ولذلك هناك علماء ليس لهم تلاميذ، ولم يعرفوا بنشر العلم، لكنهم ألفوا، فبقي ذكرهم وبقيت مؤلفاتهم وانتفع الناس بها.
الجواب: النصوص الواردة في فضل العلم جملتها، في فضل العلم الشرعي وأهله وحملته، بما في ذلك النص الذي ساق السائل، أما العلوم الأخرى فمنها ما هو علوم آلة ووسيلة كعلوم اللغة العربية وهذه تابعة وعالم الشرع لا يستغني عنها بحال من الأحوال، ومنها علوم يحتاج إليها المسلمون، وهي فرض كفاية إذا لم يقم بها من يكفي أثم الجميع، وكثير من العلوم التي يدرسها الطلاب اليوم هي من هذا الباب، فالطالب الذي يتعلم بنية صالحة ويقصد أن يسد ثغرة عن المسلمين فهو لا شك مأجور، وقد يقوم بفرض كفاية ما قام به غيره، ولعل من الأمثلة على ذلك مثلاً: علم التربية، والنفس، والتاريخ، والإدارة، والاقتصاد، بل الاقتصاد لـه جانب شرعي، هذه العلوم أصبحت اليوم تدرس في الجامعات الإسلامية ولأولاد المسلمين كما هي في نظريات الغربيين، لعدم وجود العالم المسلم المتخصص الذي يستطيع أن يصيغ هذه العلوم صياغة إسلامية، حتى أصبح بعض الناس ينفرون منها؛ لأن فيها أشياء ليست منسجمة مع التعاليم الإسلامية، فما أحوج الأمة إلى علماء في هذه المجالات وغيرها يصوغون تلك العلوم صياغة إسلامية، لأنها علوم لابد للناس منها، ومن قام بهذا وكان هذا قصده ونيته، فلا شك أنه على ثغرة، وله في هذا أجر عظيم بقدر نيته.
السؤال: إن مشكلة الكثيرين وأنا منهم أنني أقرأ وأحب القراءة، ولكنني أنسى كثيراً مما يجعلني أنتهي إلى طريق مسدود قد أيأس معه من القراءة بعد فترة؟ وآخر يقول: أنا أشتغل بتعليم القرآن وتدريسه، وهذا يشغلني عن طلب العلم، فهل أستمر في هذا أم انصرف إلى طلب العلم؛ لأن رغبتي في أن أحصل لنفسي ولإخواني العلم؟
الجواب: أما بالنسبة للجانب الأول من السؤال، أنه عندما يقرأ بعض الكتب تضيع منه هذه المعلومات، ومن ثم ييأس، فهذا أمر طبيعي، فلو كان الواحد منا كلما قرأ شيئاً حفظه، لأصبح الواحد منا أمة في رجل، فأنت بوسعك مثلاً أن تقرأ تراث شيخ الإسلام ابن تيمية كاملاً وابن القيم وابن حجر والنووي والذهبي وابن كثير، فتصبح أنت كأنك هؤلاء كلهم، لكن الأمر أن الإنسان يقرأ ويقرأ ويقرأ وينسى، ثم إذا قرأ بعد ذلك حفظ، أي قد تقرأ المسألة أو العلم في موضع فتنساها، لكن لو سمعتها مرة أو قرأتها قلت: والله هذه مرت معي لكن لا أدري أين، فبقيت في ذهنك أكثر، يمكن أيضاً أن تنساها، لكن تمر مرة ثالثة فترسخ في الذهن، وهذا هو الأمر الموجود، فلا تظن أن الإنسان عندما يحفظ ويذكر ويستشهد، يكون حفظها من المتون كذا وكذا وكذا أنه حفظها من خلال مرة أو مرتين أو عشر.
ذكر عن الإمام أبي إسحاق الشيرازي صاحب المهذب وغيره وهو من فقهاء الشافعية أنه كان إذا أراد أن يلقي الدرس كما ذكر في ترجمته في مقدمة كتاب المعونة في الجدل، كان يقرؤه أو يلقيه مائة مرة، وأعتقد أن أقلنا حفظاً وأكثرنا شكوى لا يردد المسألة التي يريد أن يحفظها مائة مرة، يرددها مرتين أو ثلاثة أو عشر ثم يريد أن يحفظها لأننا نريد أن نطلب العلم بسرعة.
أما مسألة من يشغله القرآن عن طلب العلم، فإن القرآن هو العلم يقول الله تعالى عن القرآن الكريم: بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [العنكبوت:49] وأنت حين تتأمل هذه الآية تجد أن الله تعالى وصف الذين يحفظون القرآن في صدورهم وصفهم بأنهم أوتوا العلم، فالقرآن هو العلم، ومن حفظ القرآن فقد أخذ من العلم بحظ وافر، لكن عليه أن يفهم القرآن ويعمل به ويدعو إليه، وفهم القرآن هو على ضوء السنة النبوية، ولذلك ذهب بعض العلماء كـالشافعي إلى أن أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم كلها مستنبطة من القرآن الكريم، فالقرآن هو أساس العلم ولبه والانشغال به انشغال بجزء مهم من العلم.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر