السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ * أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ * وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ [هود:1-3].
ويقول الله عز وجل: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الزمر:53-55] ويقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ [التحريم:8] ويقول سبحانه: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31] ويقول عن أبينا آدم عليه السلام: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى [طه:121-122].
ويقول تعالى على لسان نوح عليه السلام وهو يخاطب قومه: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً [نوح:10-12].
وفي صحيح مسلم أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها}.
وفي الحديث عن ابن مسعود، والبراء بن عازب، والنعمان بن بشير، وأبي هريرة، وأنس بن مالك وغيرهم رضي الله عنهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {والله! لله أشد فرحاً بتوبة عبده من أحدكم كان بأرض فلاة، ومعه راحلته عليها زاده وطعامه وشرابه، ففقد هذه الراحلة وضاعت منه حتى أيس منها، ونام تحت شجرة ينتظر الموت، فلما استيقظ وجد أن راحلته عند رأسه، وعليها زاده وطعامه وشرابه، فقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح} فبدلاً من أن يقول: اللهم أنت ربي وأنا عبدك، قال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، فالله يفرح بتوبة عبده أو توبة أمته أشد وأعظم مما يفرح هذا الرجل براحلته وقد وجدها بعد أن أيس منها.
مع أن الله عز وجل غني عن عباده.. يقول الله عز وجل: {يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم، ما نقص ذلك من ملكي شيئاً.. يا عبادي!لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئاً}.
سبحانه! لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصين، لكنه رحيم ومن صفاته الرحمة، وهو الرحيم الرحمن الحنان المنان، الرءوف بعباده اللطيف بهم، ولذلك يحب لهم الطاعة، ويكره لهم المعصية، يقول عز وجل: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرضى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ [الزمر:7].
النوع الأول: توبة مستحبة، وهي التوبة من ترك المستحبات أو فعل المكروهات.
والنوع الثاني: توبة واجبة، وهي التوبة من فعل المعاصي، أو التوبة من ترك الواجبات.
بل تلك المسلمة التي تؤخر الصلاة، أو لا تقوم بالسنن الرواتب، أو تنام على غير طهارة؛ هي أيضاً مطالبة بالتوبة من هذه الأشياء، وإذا كانت المسلمة التي تنام على غير طهارة، أم لا تتنفل السنن الرواتب مطالبة بالتوبة، فما بالنا بمن ينام على أصوات المغنيين والمغنيات، والعياذ بالله؟!
وما بالنا بمن يسهر على مشاهدة المسلسلات الهابطة المدمرة للدين، والأخلاق، والعفاف، والطهارة؟! ما بالنا بمن لا يصلي الفريضة حتى يخرج وقتها انشغالاً بالتوافه من الأمور؟! أو لأنه نائم، ولم يستعد لهذه الصلاة، ولم يرفع بها رأساً؟! أو لغير ذلك من الأسباب؟!
فكل واحد منا محتاج إلى التوبة، وفي سنن الترمذي وغيره عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {كل بني آدم خطَّاء، وخير الخطائين التوابون}.
وآدم وحواء يقولان: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:23] ونوح عليه السلام يقول ذلك، ومحمد صلى الله عليه وسلم يستغفر الله في اليوم والليلة أكثر من مائة مرة؛ ويقول في صلاته: {اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد} ويقول: {سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي}.
ويقول: {اللهم اغفر لي هزلي وجدي وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي} ويقول: {اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت، أنت المقدم وأنت المؤخر أن إلهي لا إله إلا أنت} وهو سيد العابدين، وإمام المرسلين، وأفضل الخلق أجمعين، ومع ذلك يتوب إلى الله هذا المتاب، ويستغفر الله هذا الاستغفار.
فما بالكِ أيتها الأخت المسلمة! بأمثالنا من العصاة الذين يُخطئون بالليل والنهار؟! والله عز وجل يفتح لهم أبواب رحمته ويقول لهم: {يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعا؛ فاستغفروني أغفر لكم} ليس بينكِ وبين الله عز وجل إلا أن ترفعي رأسك إليه بصدق، وتقولي: "اللهم إني أذنبت فاغفر لي"؛ فيغفر الله عز وجل لكِ. وفي الحديث الصحيح: {أن رجلاً من بني إسرائيل أذنب ذنباً، فقال: اللهم إني أذنبت فاغفر لي، فغفر الله له، ثم وقع في الذنب مرة أخرى فقال: اللهم إني أذنبت فاغفر لي، فغفر الله له، ثم أذنب مرة ثالثة، فقال: اللهم إني أذنبت فاغفر لي، فغفر الله عز وجل له، وقال: عبدي علم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، افعل ما شئت فقد غفرت لك!}.
فأين العصاة من باب الله عز وجل، هذا الباب الذي لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها.
انظري أيتها المسلمة! المؤمن يخاف الله عز وجل، ويحافظ على الصلاة، ويقرأ القرآن، ويحفظ عرضه، ويحفظ لسانه، ويحفظ جوارحه من المعاصي، ومع هذا كله إذا وقع في ذنب ولو يسيراً؛ أحس بأن هذا الذنب كالجبل العظيم يخشى أن يقع على رأسه في كل لحظة؛ وذلك لأن قلبه حي وروحه مشرقة، وهو يعرف عظمة الله عز وجل وعظيم حق الله، ويعرف ما أعد الله للطائعين من الجنان والنعيم، وما أعد للعاصين من النكال والجحيم، فيخاف من ذنوبه مهما قلَّت، وعلى الضد من ذلك المنافق، الذي لا يخاف الله عز وجل، ولا يستحي من الناس؛ فإن هذا المنافق يرى ذنوبه مهما عظمت، -ومهما كبرت حتى لو وقع في الفواحش والجرائم والموبقات- يرى أنها يسيرة، فهي مثل ذباب وقع على أنفه، فدفعه بيده فطار هذا الذباب، فكل من أحس بالتوبة ووجوبها وخطرها، فهو أقرب إلى الإيمان وكل من قال: ماذا فعلت حتى أتوب؟! فهو أقرب إلى النفاق.
وفي صحيح البخاري أيضا عن ابن أبي مليكة أنه كان يقول: [[أدركت ثلاثين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه]].
اسألن -أيتها المسلمات- أنفسكن: من منكن تخاف النفاق على نفسها؟ قليل، وربما لا يوجد، لكن أبو بكر، وعمر، وعثمان بن عفان، وعلي، وسعد بن أبي وقاص، وأبو عبيدة، وابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر وفلان وفلان.. من الذين يحيون الليل في القيام ويحيون النهار في الجهاد والصيام، ومن الذين شُهد لهم بالجنة يخافون على أنفسهم النفاق، ومهما يكن الإنسان قد فعل من الأعمال الصالحة، فيجب أن يدرك حاجته إلى التوبة؛ ولذلك علمنا الله عز وجل إذا انتهينا من الحج أن نستغفره: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:198-199] ويقول سبحانه: وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ [آل عمران:17] قال أهل العلم: هؤلاء قوم أحيوا الليل بالعبادة والقيام، فإذا كان السحر استغفروا الله عز وجل، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن ينصرف من صلاته يقول قبل أن يلتفت إلى المأمومين: {أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله، اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام!} كما في حديث عائشة وثوبان رضي الله عنهما في صحيح مسلم فكان يستغفر بعد الفعل الصالح، وإذا كان الإنسان مطالباً بالاستغفار بعد الطاعة: بعد الحج، بعد الصوم، بعد الصلاة، بعد قيام الليل، بعد الصدقة، فما بالكِ أيتها المسلمة بمن يقع في المعصية؟! في التقصير، في النظر الحرام، في الكلمة الحرام، في الخطوة الحرام.. في الكتابة الحرام، في القراءة الحرام، في المشاهدة الحرام، لا شك أنه أحوج وأحوج إلى أن يكون موصولاً بالله عز وجل ويكثر من الاستغفار؛ فإن الشيطان يقول: أحرقت بني آدم بالمعاصي، وأحرقوني بالاستغفار.
ويقول سبحانه وتعالى: قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى [طه:123-127].
فيقول سيدنا نوح عليه السلام: قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ [هود:47] فيتوب الله عز وجل عليه.
ثم أدرك داود أنه تعجل في الحكم قبل أن يسمع كلام الطرف الآخر: فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ [ص:24] قال الله عز وجل: فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ [ص:25].
وهذا نبينا وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يكون من شأنه مع التوبة والاستغفار ما سمعتم قبل قليل.
وبدأ يسأل الناس: أيها الناس! هل تعلمون أحداً من أهل العلم أسأله عن حالي؟ فدُل على راهب من الرهبان، فجاء إليه وقال له: إني قتلت تسعة وتسعين نفسا فهل لي من توبة؟ قال له: أنّى لك التوبة؟! اخرج لا تلوث صومعتي، وأراد أن يطرده، فغضب هذا الرجل وقت الراهب فأكمل به المائة، ثم بدأ يسأل مرة أخرى: هل لي من توبة؟ فدل على عالم، وهو أعلم أهل الأرض يومئذٍ، فجاء إليه وقال له: إني قتلت مائة نفس، فهل لي من توبة؟ قال: من يحول بينك وبينها؟! ولكن لا تعد إلى أرضك؛ فإنها أرض سوء فلا ترجع إلى البلد الذي جئت منه المدينة التي خرجت منها؛ بل اذهب إلى قرية كذا، وكذا؛ فإن لها قوماً يعبدون الله عز وجل فاعبد الله تعالى معهم، فخرج من بيت هذا العالم فمات في الطريق، وأوحى الله عز وجل إلى القرية التي هاجر إليها أن تقاربي -اقتربي إلى الرجل- وأوحى إلى القرية التي هاجر منها أن تباعدي، فلما قاسوا ما بين القريتين وجدوه أقرب إلى القرية التي هاجر إليها بشبر، وفقبضت روحه ملائكة الرحمة، وقبض عبداً تائباً صالحاً منيباً إلى الله عز وجل.
ولكني أذكر توبة أبي محجن الثقفي رضي الله عنه، وكان أبو محجن رجلاً لا يتورع عن شرب الخمر مع أنه مسلم، حتى إنه كان وهو في الجاهلية يتغنى بالخمر ويقول:
إذا متُّ فادفني إلى جنب كرمة تروي عظامي بعد موتي عروقُها |
ولا تدفـنني بالفلاة فإنـني أخاف إذا مـا مـت أن لا أذوقُـهـا |
أي أنه يريد إذا مات أن يدفنوه إلى جنب كرمة، أي: شجرة عنب حتى تروي عروقُها عظامَه بعد الموت حنيناً إلى الخمر، حتى وهو ميت، وظل هذا الرجل مصراً على شرب الخمر بعد الإسلام مع أنه أسلم، فكانوا يجلدونه في الخمر، ثم سجنوه لما لم يفد فيه الجلد، وكان مسجوناً في بيت سعد بن أبي وقاص في العراق قرب القادسية، فثارت معركة القادسية بين جند المسلمين وجند الفرس، واحتدم وطيس المعركة، وكان أبو محجن فارساً قوياً غيوراً على الإسلام، وإن كانت فيه هذه المعصية، فكان ينظر إلى المتقاتلين ويتحرق على القتال في سبيل الله عز وجل، ثم ينظر بين قدميه، فيجد هذه السلاسل والقيود التي أثقلته، فلا يستطيع أن يتحرك بها، فحزن حزناً شديداً على عدم استطاعته أن يقاتل، وقال وكان شاعراً قوياً قال:
كفى حزناً أن تطرد الخيل بالقنا وأترك مشدودا علي وثاقيا |
إذا قمت عناني الحديد وغلقت مصاريع دوني قد تصم المناديا |
وقد كنت ذا مالٍ كثير وإخوةٍ فقد تركوني واحدا لا أخا ليا |
ولله عهد لا أخيس بعهده لئن فرجت ألا أزور الحوانيا |
أي أنه يعاهد الله عزوجل إذا فرجت عنه هذه الضائقة، ألا يزور الحانات، ولا يشرب الخمر مرة أخرى، وكانت زوجة سعد بن أبي وقاص واسمها سلمى قريبة منه تسمعه، فناداها وقال لها: اسمعي مني قد اشتدت المعركة بين المسلمين والفرس، ففكي وثاقي وسلميني هذه الفرس التي تسمى البلقاء، وهي فرس سعد بن أبي وقاص، وقد كانت مربوطة، ودعيني أقاتل مع المسلمين، فإن قتلت فما أنا بأول من قتل، وإن نجوت فإني أعاهدك بالله عز وجل أن أعود حتى أجعلك تضعين القيد في رجلي ويدي مرة أخرى، فقالت: إني أخاف ألا تعود فقال: أعاهدك أن أعود إن نجوت. ففكت وثاقه، وأعطته البلقاء فرس سعد، فركبها وذهب إلى الفرس، فبدأ يصول ويجول فيهم يمنة ويسرة، ويقتل فيهم قتلاً ذريعاً، وينتقل من الميمنة.. إلى الميسرة.. إلى القلب، وهو لا يعرض له أحد من الفرس إلا قتله حتى بدءوا يهابونه، ويتحامون منه، والمسلمون ينظرون إليه، ويقولون: من هذا؟! من هذا الفارس الذي لا نعرفه؟! وكان سعد وهو قائد المعركة يقول: والله لولا أن أبا محجن في الأسر لقلت: إن هذا أبو محجن، ولولا أن فرسي البلقاء مربوطة، لقلت: إن هذا فرسي البلقاء. فلما انتهت المعركة، رجع أبو محجن إلى سلمى، وجعلها تضع القيد في رجله مرة أخرى، فلما جاء سعد كان يحدث زوجته عن أخبار المعركة وقال لها: لقد ظهر فارس عجيب على فرس عجيبة، لولا أن أبا محجن في الأسر، لقلت: هو أبو محجن، ولولا أن فرسي مربوطة، لقلت: هي فرسي، فقالت له: هو والله أبو محجن، وهي والله فرسك، وأخبرته بالقصة، فذهب سعد إلى أبي محجن، وفك وثاقه بيديه، وقال له: لا جرم والله لا جلدناك في الخمر أبداً، ولا حبسناك فيها أبداً، فقال أبو محجن: وأنا والله أيضاً لا شربت الخمر أبداً، ثم تاب إلى الله عز وجل توبة نصوحاً.
وفي أحد الأيام كان واقفاً عند باب بيته، ومعه سكين كالعادة، فمر به رجل على حمار وحوله مجموعة من الشباب الذين يظهر من سيماهم الصلاح والاستقامة والاشتغال بطلب العلم، فقال القعنبي لمن حوله: من هذا الرجل الذي أقبل؟ قالوا: هذا شعبة بن الحجاج، قال: ومن هو شعبة بن الحجاج؟ وكانوا بـالبصرة، وشعبة إمام علم، لا يخفى على أحد من أهل البصرة، إلا أن القعنبي لم يكن يعرفه لانشغاله بأمور أخرى، كما يجهل كثيرٌ من الشباب الضائعين في هذا العصر أخبار العلم والعلماء والدعاة وغير ذلك، فقالوا له: هذا شعبة بن الحجاج قال: ومنشعبة؟ قالوا: إمام من أئمة المحدثين، فتقدم هذا الغلام السفيه إلى شعبة، وقال له: حدثني، اقرأ علي حديثاً حتى أرويه عنك، فقال: لستَ من أهل الحديث، أنت سفيه لا تستودع العلم والحديث، وغضب هذا الغلام ورفع السكين، وقال له: حدثني وإلا ضربتك بهذا السكين!
فلما رأى شعبة هذا الموقف؛ حدثه حديثاً يناسب المقام، فقال: حدثني منصور عن ربعي عن أبي مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إذا لم تستح فأصنع ما شئت} وهذا الحديث مناسب لحال هذا الغلام الذي لم يستح، فأقدم على تهديد هذا العالم الجليل بأن يحدثه وإلا جرحه بالسكين التي كانت في يده، فقرأ عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: {إذا لم تستح فاصنع ما شئت}.
ورجع هذا الشاب إلى بيته، وقد أثر فيه هذا الحديث الذي سمعه أعظم التأثير، وقَلَبَ شخصيته قلباً تاماً، فرجع إلى البيت شخصية أخرى، وكأنه ليس هو الشاب الذي خرج قبل خمس دقائق، رجع تائباً إلى الله عز وجل خجلاً من الله تعالى، فأراق الخمور التي كانت موجودة في بيته، وكسر أوانيها، وكسر آلات اللهو والطرب التي كانت عنده موجودة وكان على موعد مع بعض جلسائه وندمائه من الفساق، فقال لأمه: إذا جاء زملائي فأدخليهم في البيت وأكرميهم وأخبريهم بما حصل مني، حتى لا يعودوا إلي مرة أخرى، ثم خرج من البصرة إلى المدينة، ولازم الإمام مالك بن أنس، حتى كان من أخص تلاميذه، وروى عنه كثيراً من الحديث، ثم رجع إلى البصرة ليروي الحديث عن شعبة وغيره من العلماء بمدينته الأولى البصرة، ولكنه حين رجع إلى البصرة، وجد أن شعبة قد مات، وهكذا لم يرو القعنبي عن شعبة إلا ذلك الحديث الذي تحمله عنه وهو في زمن فسقه وسفاهته: {إذا لم تستح فاصنع ما شئت}.
الشرط الأول: الإخلاص، ولذلك يقول الله عز وجل:تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً [التحريم:8] أي: خالصة من القلب، فتلك المرأة وتلك الأخت التي تتوب توبة مؤقتة بسبب مصيبة عارضة نـزلت بها، أو ظرف طارئ، أو بسبب الاستعداد للامتحانات، أو بسبب أنها بلغت سناً معيناً، وفي نيتها أن تعود إلى ما كانت عليه، هذه التوبة ليست توبة نصوحاً ولا خالصة، فلابد أن تكون التوبة نصوحاً لله عز وجل.
الشرط الثاني: الإقلاع عن المعصية، فلابد أن يقلع الإنسان عن الذنب الذي يفعله، أما من يقع في الذنب ويقول: أستغفر الله، فهو كالمستهزئ، ولذلك يقول الشاعر:
أستغفرُ الله من أستغفر الله من كِلْمَةٍ قُلْتُها لم أَدْرِ معناها |
الذي يستغفر وهو مصر على المعصية هو كالمستهزئ بالله عز وجل، فلابد من الإقلاع عن الذنب.
الشرط الثالث: الندم على ما مضى بحيث أن الإنسان كلما تذكر ما حصل منه في الماضي، احترق قلبه ندماً وأسفاً على ما فرط وعلى ما قصر في حق الله عز وجل، وفي الحديث الصحيح يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {الندم توبة} ومن الطبيعي أن الإنسان التائب يندم على ما مضى.
الشرط الرابع: العزم على ألا يعود: أن يصمم الإنسان على ألا يرجع إلى المعاصي مرة أخرى.
الشرط الخامس: أن تكون التوبة في وقت القبول، وما هو وقت القبول؟ وقت القبول هو أن يكون قبل طلوع الشمس من مغربها، وفي الحديث في صحيح مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه} وفي حديث مسلم السابق: {إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها} فإذا طلعت الشمس من مغربها -وهذه علامة من علامات الساعة الكبرى- فحينئذٍ لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً، فلابد أن تكون التوبة قبل أن تطلع الشمس من مغربها، ولابد أيضاً أن تكون قبل الاحتضار والغرغرة، فإذا تاب الإنسان قبل أن تغرغر روحه في حلقه، تاب الله عليه، أما إذا احُتضِرْ ونـزل به الموت، وجاءت الملائكة لقبض روحه، وغرغرت روحه للخروج، فحينئذٍ لا تنفعه التوبة؛ لأن كل إنسانٍ قد يتوب حينئذٍ، ولذلك في الحديث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر الذي رواه الترمذي، وهو صحيح: {إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر} ويقول الله عز وجل: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً [النساء:17] وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ [النساء:18] فهذا لا تنفعه التوبة إذا حضره الموت وغرغرت روحه قال: إني تبت الآن.
الشرط السادس: إن كانت المعصية إساءة للآخرين، سواء بانتهاك أعراضهم، أو الكلام فيهم، أو أخذ أموالهم، أو ظلمهم، أو تنقصهم، فيجب أن يستسمح التائب ممن أساء إليه أو يرد الحق إليه ما استطاع.
العامل الأول: قوة العزيمة؛ بحيث لا يكون الإنسان متردداً؛ يتوب اليوم ويعصي غداً، ويتوب غداً ويعصي بعد غد، بل يحاول أن يقوي عزيمته: بالاتكال على الله عز وجل، بكثرة فعل الأعمال الصالحة، بكثرة الصيام، وبغير ذلك من الوسائل التي تقوي عزيمته.
العامل الثاني: كثرة الدعاء؛ فإن الله عز وجل يقول: فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي [البقرة:186] فهو قريب مجيب، قال تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم [غافر:60] ويقول صلى الله عليه وسلم: {من لم يسأل الله يغضب عليه} فلابد من الدعاء الحار إلى الله الملك الجبار.
العامل الثالث: تجنب أسباب المعصية، فانظري أيتها الأخت! لماذا تقعين في المعصية؟ لأنك تصاحبين -مثلاً- فلانة وفلانة ممن يجرك إلى المعصية؛ لأنك تخرجين إلى السوق -مثلاً- لأنك تقتنين المجلات؛ لأنك تشاهدين المسلسلات.. فتجنبي أسباب المعصية، اتركي قرينات السوء، ممن يحرضك على المعصية ويدعوك إليها، واعملي بنصيحة ذلك العالم من بني إسرائيل الذي نصح التائب ألا يعود إلى قريته؛ لأنها أرض سوء وأن ينتقل إلى قرية أخرى يعبد الله عز وجل بها، فأنتِ غَيِّري البيئة، اتركي القرينات المنحرفات، وابحثي عن أخوات طيبات صالحات.
العامل الرابع: عدم القنوط: لا تقنطي من رحمة الله؛ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53] مهما بلغت معاصيك، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي هريرة في صحيح مسلم: {لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، وجاء بقوم يذنبون فيستغفرون، فيغفر الله عز وجل لهم} ويقول الله عز وجل: إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ [الفرقان:70].
فإذا تبتِ إلى الله عز وجل توبةً نصوحاً أبدلكِ الله تعالى بكل سيئة عملتها حسنات، ويوم القيامة يعرض الله عز وجل عليك سيئاتك واحدةً واحدةً، فيقول: إنها قد بُدِلت لك حسنات فافرحي أيتها الأخت التائبة بأن الله عز وجل واسع المغفرة.
العامل الخامس: أخيراً من العوامل التي تساعد على التوبة: أن تحرص الأخت المسلمة على أن تكثر من الأعمال الصالحة، ومن أعمال الخير؛ فإن كل إنسان فيه قابلية للخير؛ فتكثر من الصلاة، ومن قراءة القرآن، ومن الاستغفار، ومن الصيام، من الذكر، ومن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بر الوالدين، الإحسان إلى الناس، عدم ظلم الآخرين، وغير ذلك من الأمور التي يستطيعها الإنسان، والله عز وجل يقول: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ * وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [هود:114-115]. والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر