أيها الأحبة.. عنوان هذه الكلمة هو: (فضائل آخر الزمان) ولعل الكثيرين منا لم يسمعوا عن آخر الزمان إلا الذم والعيب، حتى صارت هذه الكلمة عذراً كبيراً لتقبل وتسويغ كل الأخطاء والمخالفات، والقعود عن أداء الواجبات، فحسبنا أننا في آخر الزمان، ولعل سامعاً يسمع هذا العنوان، فيقلب رأسه يمنة ويسرة، ويقول: الله المستعان! هذه من موضوعات آخر الزمان.
المعنى الأول: أن يكون بمعنى: قبض أهل العلم، وموت العلماء، حتى لا يبقى في الأرض عالم، وحتى يقل بين الناس نشر العلم وتداوله.. وهذا هو المعنى الأقرب، بل لعله المعنى الصحيح، ولذلك جاء في رواية أخرى، في الحديث نفسه: {أن يقل العلم} بدل من قوله: {أن يرفع العلم} ويؤيده قوله -أيضاً-: ويظهر الجهل، فكلما رفع العلم وزال حل الجهل محله.
وهناك معنى آخر للحديث: أن يكون المقصود برفع العلم: (رفع مكانة أهله)، وأن يعظم حملته، وأن يعلى قدرهم، وما ذلك -أيضاً- إلا لقلتهم وندرتهم بين الناس.. فإن الناس كلما قل العلم والعلماء، احتاجوا إلى من يكون في المرتبة الثانية أو الثالثة.
ولهذا جاء بعض الشباب إلى بعض السلف يسألونه، فقام فزعاً ينفض ثوبه، ويقول: احتيج إلي، احتيج إلي، إن زماناً يحتاج إلي فيه لزمان سوء.
وقال آخر يعاتب نفسه ويخاطبها:
وما سدت فيهم أن فضلك عمهم ولكن الحظ في الناس يقسم |
يعني: ما كان سؤددك لفضلك، وإنما لقلة وندرة العلماء العاملين والدعاة والمصلحين.. فهذا -أيضاً- معنىً محتمل، وكلا المعنيين يعودان إلى الإشارة إلى قلة العلم وندرته في آخر الزمان، وقبل قيام الساعة.
فالغني الذي أعطاه الله تعالى مقاليد المال، ليس المطلوب منه في العطاء كالمطلوب من الفقير الذي لا يملك إلا قوت يومه وليلته.. وهكذا العلم في شأن العالم، فالعالم غزير العلم يطالب بما لا يطالب به طويلب العلم، وطويلب العلم يطالب بما لا يطالب به العاميون من الناس، وهكذا الأمر بالنسبة للمجتمع أو المجموعة أو الأمة، وإن شئت فقل: إن الأمر الذي يطالب به الناس في القرون التي كثر فيها العلم والعلماء، وذاع واشتهر وشاع، ليس كالزمان الذي تقلص فيه العلم وقل حملته ودعاته، لكن مع هذا، ومع اعترافنا بالتفاوت بين هذا العصر وغيره من العصور، وبين مكان ومكان، إلا أن ذم الزمان وعيبه، لا يجوز أن يكون تكئة للقعود وترك العمل، ونشر العلم والدعوة والجهاد في سبيل الله تعالى، هذه مسألة.
كما أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يحدد في ذلك الحديث: هل يكون بعد الغربة الثانية تمكين للإسلام وعزٌ لأهله أم لا؟ وإن كان قوله: {وسيعود غريباً كما بدأ} يومئ ويوحي بأن الغربة الأخيرة التي تكلم عنها الرسول صلى الله عليه وسلم، غربة لا عز بعدها للمسلمين.
والكثير من الناس لا يفقهون من معنى أحاديث الغربة إلا أن الإسلام سيعود غريباً، وأن هذا الأمر عذرٌ لهم في القعود، وعذر لهم في ترك العمل، وعذر لهم في ترك الجهاد، ولا يفقهون، ولا يطمعون؛ أن يكونوا من الغرباء.. من النـزاع من القبائل.. من الذين يأمرون بالقسط من الناس، فيعصيهم من يعصيهم ويطيعهم من يطيعهم.. من الموعودين بطوبى: وهي الخير الكثير الطيب المبارك في الحياة الدنيا، بالتوفيق والتسديد والتصبير والتثبيت، وفي الآخرة بشجرة في الجنة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها.
أولاً: أنه -مع ذلك- هناك بقية من أهل الخير والهدى يدعون إلى الأمر الأول وينهون عن الفساد في الأرض، ولمثل هؤلاء جاء التوجيه النبوي أن تقبل على خاصتك، وتذر العامة، وأن تأخذ ما تعرف، وتذر ما تنكر.
ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن هناك خاصة للمؤمنين وللدعاة، وهؤلاء الخاصة هم القريبون منهم الذين انتفعوا بعلمهم ودعوتهم وجهادهم، فهداهم الله تعالى وبصرهم وأرشدهم، فكانوا دعاة يقيمون الحجة على العالمين، وهؤلاء يجدون من الروح والسعادة والإيمان واليقين في قلوبهم، ما لا يجده حتى المجاهدون في ميادين المعارك -أحياناً- فإن الله تعالى ينـزل عليهم من برد اليقين، ولذة العيش في الدنيا ما يعوضهم خيراً مما فقدوه من الناس، فهم وإن كانوا قلة في عددهم إلا أنهم كثرة في قوة إيمانهم وصبرهم ويقينهم وتعززهم بالإيمان، قال الله تعالى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24].
وهي أن الكثيرين يسوغون ما هم عليه من قعودٍ عن الدعوة والجهاد، ويكثرون من عيب الزمان وذمه، وينحون باللائمة على الأيام والليالي، معتمدين على هذه النصوص وعلى ما أشبهها.. وقد أكثر الأدباء والشعراء، بل وبعض المحدثين، وبعض الفقهاء من ذم الزمان وعيبه، قال محمد بن الحسين اللخمي:
دهرنا دهر افتراقٍ ليس ذا دهر تلاقي |
قَلَّ من يلقاك إلا بسلام واعتناق |
فإذا وليت عنه بِنْتَ منه بطلاق |
وهذه الأبيات نقلها الإمام الخطابي، مستحسناً لها مقراً، ومثله -أيضاً- الإمام ابن حبان في كتابه نـزهة العقلاء، فإنه نقل أبياتاً منها قول بعضهم:
كنا على ظهرها والعيش ذو مهل والدهر يجمعنا والدار والوطن |
ففرق الدهر بالتصريف ألفتنا فاليوم يجمعنا في بطنها الكفن |
كذلك الدهر لا يبقي على أحدٍ تأتي بأقداره الأيام والزمن< |
ومثله -أيضاً- أنه نقل عن جعفر بن محمد -وهو جعفر الصادق- أنه قال: [[ إذا كانت السنة ثلاثين ومائة، فخير أولادكم البنات، وخير نسائكم العقر ]].
فأما البنات فيا حبذا ميلاد البنات! فلسنا من أهل الجاهلية الذين إذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم، بل نحن نفرح بميلاد البنات؛ لأن فيهن من العون والتوفيق والتسديد في الدار الآخرة لمن رباهن وقام عليهن الكثير، وهن ممن يتقرب الإنسان إلى الله تعالى بحفظهن ورعايتهن والقيام عليهن، وقد قال صلى الله عليه وسلم: {هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم} وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يفرح ببنته فاطمة، ويقوم لها إذا أقبلت، ويقبلها بين عينيها ويجلسها في مكانه، وكانت من أشبه الناس به صلى الله عليه وسلم في حركاتها ومشيتها وكلامها وسلوكها وهديها وغير ذلك.. فيا حبذا أمر البنات!! ويا حبذا ميلاد البنات، والتشاؤم من البنات من شأن الجاهلية؛ لكن -أيضاً- المؤمن يفرح بالذكور، لأنهم المرابطون على الثغور، ولأنهم المجاهدون في سبيل الله، ولأنهم المنكَبُّون على حلق العلم؛ ولأن فيهم من الخير الشيء الكثير، وأيضاً المؤمن يفرح -عموماً- بالذرية، ويدعو الله عز وجل: رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ [الفرقان:74].
ولو لم يكن له ذرية لم يكن لهذا الدعاء معنى، وقد حبب وبين النبي صلى الله عليه وسلم فضيلة المرأة الولود الودود، وكان أفضل هذه الأمة أكثرها نساء، وكان عليه الصلاة والسلام يفرح بالأولاد، ويؤتى بهم إليه فيضعهم في حجره ويقبلهم، وربما مضغ شيئاً من التمر، فوضعه في أفواههم وحنكهم به ودعا لهم وبارك عليهم، وسماهم... إلى غير ذلك من المظاهر التي تدل على فرح الرسول صلى الله عليه وسلم بولادة أو ميلاد أحد من المسلمين ذكراً أو أنثى؛ وأن ذلك تكثير للأمة، وإرغام للكافرين، وهذا حكم باقٍ إلى قيام الساعة.
ومثله -أيضاً-: أن الإمام الخطابي، نقل عن ابن أبي ليلى، أنه قال: سيأتي على الناس زمان يقال له (زمن الذئاب)، فمن لم يكن في هذا الزمان ذئباً أو كلباً؛ أكلوه.
وهذا الكلام هو من علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله عز وجل، ولم يأتِ فيه نص من كتاب الله، ولا حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو من الظن والتوقع الذي لا دليل عليه. ومثل ذلك: أنه رحمه الله نقل عن علي بن خالد الضبي، أنه كان يقول لزوجته أو غيرها:
أقلي علي اللوم يا أم مالكٍ وذمي زماناً ساد فيه الفلافس |
وساع مع السلطان ليس بناصحٍ ومحترس من مثله وهو حارس |
ويقصد بالفلافس هذا: رجلاً كان مديراً للشرطة في وقته، وكان رجلاً سكيراً عربيداً مشهوراً بالفساد، فيقول: كيف آل الأمر إلى أن يكون هذا الرجل سيداً يمشي مع الأمير ومع السلطان، ويظهر النصيحة، وفي الواقع أنه ليس بناصح. فذكر الإمام الخطابي مثل هذه النصوص وغيرها كثير، مما يدل على فساد الزمان.
فبين الله عز وجل أن فساد السلطان من فساد الرعية، وأن الله تعالى بحكمته جعل الوالي منسجماً مع الرعية في قدر صلاحه أو فساده، أو عدله أو ظلمه، أو علمه أو جهله، وغير ذلك من الصفات والخلال. فلما كان الناس في العصور الأولى أهل صلاح واستقامة وهداية، سخر الله تعالى لهم أمثال أبي بكر الصديق وعمر وعثمان وعلي، فلما اختلفوا اختلفت ولاتهم عليهم: وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونََ [الأنعام:129]. وأما الحديث المشهور: {كما تكونوا يولى عليكم}؛ فإن هذا الحديث ضعيف رواه الديلمي في مسند الفردوس عن أبي بكرة ورواه البيهقي في شعب الإيمان عن أبي اسحاق السبيعي مرسلاً، ولا يصح، لكن تغني عنه الآية، فإنها دليل صريح على أن هناك تناسباً بين وضع الحكام وبين وضع الشعوب.
فلو نظرنا إلى مستوى الشعوب؛ لوجدنا أنه منطبقٌ تماماً مع الحكام، نعم.. وهذا أمرٌ لا يشك فيه عاقل؛ لأن الشعب -أي شعب- لو كان قوياً فطناً فهماً عادلاً راسخاً، لكان يؤثر تأثيراً يقينياً في نوع الذين يحكمونه، ولم يكن يتمكن أحد -ممن هو مخالف لهذه الخصال- أن يصل إلى مستوى عالٍ في الإدارة والحكم في تلك الشعوب؛ لكن عندما تكون الشعوب شعوباً ضعيفة مستخذية ذليلة جاهلة، فإنها تستسلم لكل حاكم، وتقر له، وتذعن له، ولا تؤثر فيه، ولا تغير من قراراته؛ لأنها قد رضيت بالهوان والصغار؛ ولأنها رضيت بالحياة الدنيا من الآخرة.
وفي رواية قال الله تعالى في الحديث القدسي: {لا تسبوا الدهر؛ فإني أنا الدهر} وليس المعنى: أن الدهر اسم من أسماء الله تعالى -كما فهم الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى! مخالفاً في ذلك رأي كافة أهل العلم- وإنما المقصود بقوله تعالى: {أنا الدهر } ما فسره قوله: {بيدي الأمر أقلب الليل والنهار }، وإلا فالدهر ليس من أسماء الله تعالى. ولهذا كان بعض الشعراء مفصحاً عن الحقيقة، منكراً على الذين يعيبون على الدهر؛ حين قال:
يا لائم الدهر إذا ندى لا تلم الدهر على غدره |
الدهر مأمورٌ له آمرٌ ينصرف الدهر إلى أمره |
كم كافرٍ بالله أمواله تزداد أضعافاً على كفره |
ومؤمنٍ ليس له درهماً يزداد إيماناً على فقره |
لا خير في من لم يكن عاقلاً يبسط رجليه على قدره |
وقال آخر:
ما الدهر إلا ليلة ويوم ما العيش إلا يقظة ونوم |
يعيش قوم ويموت قوم والدهر قاض ما عليه لوم |
أو: والدهر ماضٍ ما عليه لوم.
فإنما هو مسيرٌ بيد الله عز وجل الذي يقلب الليل والنهار.
إذاً: نسبة الأمور إلى الزمان، وعيب الدهر وذمه وسبه، هو خطأ شرعي من جهة أنه نسبة الشيء إلى غير فاعله الحقيقي وهو الله عز وجل.
هذا الزمان الذي كنا نحاذره في قول عمر وفي قول ابن مسعود |
إن دام هذا ولم يحدث له غيرٌ لم يُبك ميتٌ ولم يفرح بمولد |
والشرع صريح في مسئولية الإنسان، وعتابه وتكليفه بكل شيء من الأمور الاختيارية، والزمان ما هو إلا وعاءٌ وإناءٌ وظرفٌ لأعمال الناس؛ سواء كانوا أفراداً أم جماعات أم دولاً أم شعوباً أم غير ذلك، يقول الله عز وجل: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:7-10] ويقول الله سبحانه وتعالى: إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً [الانسان:2] ويقول: يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ * فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ [الانشقاق:6-7] وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ [الانشقاق:10].
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم، في الحديث المتفق عليه: {كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته...الحديث} وفي حديث أبي الدرداء عند أهل السنن
{لن تزول قدما عبدٍ يوم القيامة؛ حتى يسأل عن أربع...} الحديث.
على سبيل المثال: الأمراض الوبائية التي تنتشر في كثير من الأحيان: لو تأملت؛ لوجدت أن سبب هذه الأمراض. ربما كان الحروب المدمرة التي ألقت بكثير من الجثث على سطح الأرض، دون أن يمكن مواراتها في التراب، أو أن السبب في ذلك: تلوث البيئة بدخان المصانع، أو تلوث البحار بالمخلفات الصناعية وغيرها التي تلقى فيها، حتى ثقب الأوزون الذي يتكلم عنه العلماء، والذي يقولون: أنه يهدد الكرة الأرضية، وقد يكون سبباً في كثرة أو ارتفاع منسوب المياه، وفي تغيرات كثيرة، ويتحدثون عنه بشيء من المخاوف، حتى هذا الثقب -حين يتكلمون عنه- تشير كثير من الدراسات العلمية إلى مسئولية الدول الصناعية وغيرها، وإلى أن كثيراً من الأشياء التي يستخدمونها كانت سبباً لها.
إذاً: الشرع واضح وصريح في مسئولية الإنسان عن أفعاله، فردية كانت أو جماعية، على مستوى الشعوب أو على مستوى الحكومات.
نعم.. كانت عائشة رضي الله عنها وأرضاها تتمثل بقول لبيد:
ذهب الذين أعيش في أكنافهم وبقيت في جلد كجلد الأجرب |
يتحدثون مخافة وملاذةً ويعاب قائلهم وإن لم يشغب |
كانت تقول ذلك؛ لكن! من يكون في مثل عائشة، ومن يكون في عيار عائشة؛ فضلاً وتقوىً ونبلاً وعلماً وفصاحةً وعبادةً وإيماناً، وإخلاصاً لله عز وجل؟! فحين يقول الواحد منا مثل هذا؛ كأنه يزكي نفسه ويمدح نفسه، والله تعالى يقول: فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ [النجم:32] ويقول: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ [النساء:49].
كما أن كثيرين قد أصابهم داء التعاظم وداء العجب، فهم يزكون أنفسهم ويدَّعون صلاح قلوبهم ونياتهم ومقاصدهم، فيقول الواحد منهم: علم الله تعالى صدق نيتي، وسلامة مقصدي، وحسن ما في قلبي؛ فرزقني كذا، وأعطاني كذا، ووفقني بكذا.. ثم يزكون آراءهم، وأعمالهم، واجتهاداتهم، فيقولون: لما علم الله تعالى منا الصدق؛ بارك في علمنا وإن كان قليلاً، وبارك في عملنا وإن كان قليلاً، وينسون أنهم مدحوا أنفسهم بشيء قد لا يكونون تحققوا به.. وهكذا يظن الإنسان في نفسه خيراً كثيراً، ثم يلجأ -بعد ذلك- إلى اعتزال الناس ومباعدتهم وتركهم.. لا لأنه يرى في نفسه عيباً ونقصاً، ولا لأنه يقول: عجزت عن التأثير في الناس أو خفت على نفسي من الفساد، لا لهذا ولا ذاك؛ ولكن لأنه يرى أن الناس ليسوا أهلاً بأن يجالسهم، ولا أهلاً ليصحبهم، ولا أهلاً ليكون بينهم.. وهكذا... ترى أنه أصابه نوع من التعاظم، وهذا الذي حذر منه الإمام ابن قتيبة رحمه الله، حين كان يقول: أحببت لك أن تجري على عادة السلف، في إرسال النفس على سجيتها، والرغبة بها عن لبس الرياء والتصنع، ولا تستشعر أن القوم قارفوا وتنـزهت أنت، ولا أن القوم ثلموا وتورعت أنت، يعني: إياك إياك أن تظن أن الناس تلطخوا وأنت بريء، ووقعوا وأنت سالم، وارتكبوا بعض الموبقات والذنوب وأنت بعيدٌ عنها؛ فإن هذا داء العجب والكبر الذي ربما كان محبطاً للأعمال!!!
هذا داعية يخطئ في أسلوب الدعوة، ولا يملك التسلل إلى قلوب الناس، ويتجاوز الصفات والأخلاق الشرعية، فإذا رُدَّتْ دعوته، هز رأسه يمنة ويسرة، وقال: (هذا زمان الغربة)، وهذا آخر: ينكر المنكر بشدة وقسوة وتعسف، ويتعدى ما أمر الله تعالى وما نهى، فإذا وقع عليه لومٌ أو عتابٌ أو تقريعٌ، أو ذمه الناس أو عابوه، أظهر التصبر والتجلد، وقال: (هذا زمان الغربة)، وهذا ثالث: يخوض معركةً جهادية مع أعداء الإسلام أياً كان لونهم، وأياً كانت مذاهبهم، ولم يعد لهذه المعركة عدتها ولم يحمل لها سلاحها، فإذا لم يتجاوب الناس معه أو لم يجرِ النصر سريعاً؛ قال: (هذا زمان الغربة)!.
بل ربما رأى الإنسان من ولده انحرافاً؛ لأنه قصر في تربيته، أو من زوجته سوء خلق؛ لأنه لم يعتنِ بها، ولم يؤدِ حقها؛ فحينئذٍ يعزي نفسه عن ذلك كله، بقوله: (هذا زمان الغربة)، وقد نسي أنه قصر في حق الزوجة، أو قصر في تربية الولد، أو قصر في إعداد العدة للجهاد، أو قصر في القيام بأمر الدعوة، أو قصر في التزام الشريعة -بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- وستر ذلك التقصير كله بهذه الكلمة، بل ربما أخطأ في حق صديقه أو زميله، فإذا رأى منه إعراضاً أو جفوة، تعذر بأن (هذا زمان الغربة)، وهكذا يظهر جلياً أننا نتذرع بهذه الكلمة، ونتترس بها -أحياناً- لنستر بها عيوبنا وأخطاءنا، ونفر من الاعتراف بذلك، وحاشا أن يكون سلفنا الصالح قصدوا هذا المعنى أو أشاروا إليه.
أولاً: أنها جماعة مجتمعة على الحق داعية إليه، لم تجتمع على قبيلة، ولا على أسرة، ولا على وطن، ولا على دنيا، وإنما اجتمعت على الحق الذي تنادي به وتدعو إليه، وتنافح عنه وتجاهد في سبيله.
ثانياً: أنها قائمة على الحق، فهي تحمل الحق المجرد الذي يشاب بشائبة من باطل، ولا ينتمي إلى فكرٍ غربي أو شرقي مستورد، وإنما ينبع من صميم هذه الأمة وسر وجودها، وهو الإسلام (القرآن والسنة).
وثالثاً: أنها ظاهرة على الناس.. فهي ليست مجموعة مستترة خفية لا يعلم بها إلا آحاد الناس أو أفرادهم، وليست -أيضاً- فئة قليلة نادرة توجد في بلد، ولا توجد في بلد آخر، وإنما هي ظاهرة معلنة معروفة منصورة مؤيدة من الله.
رابعاً: أنهم يدعون إلى الله تعالى، ويقاتلون في سبيل الله، وإذا كنا نعلم أن الجهاد ذروة سنام الإسلام، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، في حديث معاذ: {وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله} وهذه الطائفة تقوم بهذه الشعيرة العظيمة، وهذه الفريضة الكبيرة، وهي فريضة الجهاد في سبيل الله، فمعنى ذلك: أن غيرها من الفرائض والشعائر والشرائع قد قاموا بها من باب الأولى والأحرى والأجدر.. فمن قام بأمر الجهاد؛ فقد قام بما دونه من الدعوة والعلم والتعليم وغير ذلك من ألوان الفروض، سواء كانت فروضاً عينية، أم كانت فروضاً كفائية، قال الله عز وجل: وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ [الأعراف:181].
إنه لا يخلو عصرٌ من قائمٍ لله تعالى بحجة، ينفي عن هذا الدين تحريف الغالين، وتأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين، كما جاء في بعض الأحاديث عن سيد المرسلين عليه الصلاة والسلام: {إن الله تعالى يقيض لهذا الدين من كل خلفٍ عدوله} ففي ذلك توثيق وتعديل لأهل العلم، ولهذا أقول لنفسي ولغيري: ينبغي علينا مع استفراغنا للجهد في القيام بأمور الإسلام وتكاليفه وتبعاته، ينبغي مع ذلك كله أن نعمل ونحن قريرو الأعين، مطمئنو النفوس، واثقون أن الله تعالى لم يكل هذا الدين إلينا، وأن الله تعالى لا يزال يحفظ دينه بمن ينتدبهم لذلك ويخلقهم له، كما وعد عز وجل في محكم التنـزيل، فقال: أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ [الأنعام:89] وقال عز وجل: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد:38] وقال سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [المائدة:54].
إذاً: وعد الله تعالى أن يبعث من تقوم بهم الكفاية في أمر كبيرٍ جليلٍ خطير وهو: تجديد أمر الدين لهذه الأمة.. لم يقل تجديد الدين لبلد معين، أو لفئة معينة، أو لمنطقة معينة، أو لقبيلة معينة، وإنما قال: لهذه الأمة.. كل الأمة من أقصاها إلى أقصاها.. الأمة التي رضيت بالله رباً، وبالإسلام دينا، وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم نبيا.
كن ابن من شئت واكتسب أدباً يغنيك محموده عن النسب |
إن الفتى من يقول هأنذا ليس الفتى من قال كان أبي |
إذاً: فالخيرية لا تكون بمجرد الانتساب، ولسنا نحمل نظرية كنظرية بني إسرائيل، الذين يزعمون أنهم شعب الله المختار، وأن لهم فضيلة، بمجرد كونهم يهوداً، كلا! إن هذه الأمة إنما كانت أفضليتها وخيريتها بقيامها بأمر الله عز وجل، واتباعها للرسول صلى الله عليه وسلم، وأمرها بالمعروف، ونهيها عن المنكر، وشهادتها على الأمم كلها.
إن معنى الشهادة: هو أن نشهد على الناس بحسن القول والعمل إن أحسنوا، وبضد ذلك إن أساءوا أو فرطوا.. معناه: أن هذه الأمة.. أمة العدالة.. أمة الحق.. أمة الإنصاف.. لا تنساق وراء الهوى، ولا وراء العواطف، ولا وراء القرابات، ولا وراء المجاملات؛ وإنما تشهد للمحسن بأنه محسن، حتى ولو كان بعيداً، وتشهد على المسيء بأنه مسيء، ولو كان من أقرب الأقربين. ولذلك: إذا رأيت هذه الأمة قد شهدت شهادة الزور، وغيرت وبدلت؛ فاعلم أن هذه الأمة قد انحرفت عن سواء السبيل، ولم تعد جديرة بالوعد الإلهي والتمكين الذي وعده الله للذين آمنوا وعملوا الصالحات...
حين ترى هذه الأمة تضلل الصالحين، فتصفهم -أحياناً- بأنهم من المتطرفين، وأحياناً بأنهم من الأصوليين، وأحياناً بأنهم من الإرهابيين، أو أنهم من أهل الفساد والإفساد، كما نجده في الإعلام العربي في جميع بلاد الإسلام؛ فإن هذا آية على أن هذا الإعلام ومن يقف وراءه على الأقل؛ قد انسلخوا عن حقيقة الانتماء إلى هذه الأمة، وغيروا وبدلوا، وأتوا بمذاهب ونظريات، ونظم غريبة دخيلة على هذه الأمة.. وحين ترى هذه الأمة قد أصبحت تلهج صباح مساء بالثناء على من غيروا شريعة الله تعالى، وحكموا بغير هديه، واستنوا بغير سنة محمد صلى الله عليه وسلم، وحكموا بالجبت والطاغوت، ووالوا أعداء الله تعالى، ومدوا أيديهم إلى الكفار من اليهود والنصارى؛ فإن ذلك آية ودليلٌ على أن الشهادة التي أؤتمنت عليها هذه الأمة، لم تعد جديرة بها؛ فقد وضعتها في غير محلها، وشهدت شهادة الزور على أولئك المغيرين المبدلين.
ومثله: حين ترى هذه الأمة قد أبرزت المشبوهين فكرياً من أهل الحداثة، وأرباب العلمانية وغير ذلك من المذاهب الأدبية، أو المذاهب الفكرية، وقدمتهم على أنهم نماذج للجيل، يحتذى بفكرهم، ويتبع علمهم، وتقرأ مؤلفاتهم، وتدرس نظرياتهم، وتحفظ نصوصهم، فإن ذلك دليل على تغيير هذه الأمة للشهادة الذي أؤتمنت عليها.. وحين ترى هذه الأمة قد مدحت أهل الدنيا، ومدحت أهل الانحراف وأهل الفن، وأهل الكرة، وأهل الرياضة، وغير ذلك، ومدحتهم بما لم يكونوا جديرين به، وقدمتهم للشعوب والأجيال على أنهم هم الأسوة والقدوة الذين ينبغي أن يتربى الجيل على نمطهم، فإن ذلك نوعٌ من الانحراف في الشهادة.
ومثله: حين تركض الأمة وراء رايات الجاهلية، الراية اليهودية: المتمثلة في السلام العالمي الذي ينادي به اليهود، ومن يدور في فلكهم؛ لجعل المنطقة الإسلامية -خاصة- منطقة نفوذ إسرائيلية، وتطويع الشعوب المسلمة، والثروات المسلمة، والعمالة المسلمة، للسيطرة اليهودية، والخبرة اليهودية، والإدارة اليهودية، أو تركض الأمة أحياناً وراء الرايات النصرانية: المتمثلة بما يسمى بالنظام الدولي الجديد الذي أصبح مفضوحاً -من يومه وليلته- في مواقفه السوداء من المسلمين المضطهدين، في البوسنة والهرسك، أو المضطهدين في أي بلدٍ في العالم، أو من مأساة المسلمين في الصومال، أو من موقفه من اليهود، أو من مواقفه الأخرى، التي أصبح مفضوحاً بها للقاصي والداني.
إذاً: حين تشهد الأمة شهادة الزور؛ يتبين أنها قد بدلت وغيرت، وانحرفت عن سواء السبيل.. ومثله -أيضاً-: حين تتأخر الأمة عن موقعها، وعن مركزها في القيادة والتوجيه والريادة، وتصبح في آخر القائمة، وفي ذيل الشعوب والأمم، لا تشهد أصلاً، ولا تستشهد بل أمرها كما قيل:
ويقضى الأمر حين تغيبُ تيمٌ ولا يستأمرون وهم شهودُ |
لأنه لا وزن لها، ولا قيمة لها، مع أنها أكثر الأمم عدداً وعدة.. فهم كعدد الرمل والحصى والتراب، وهم أكثر الشعوب إمكانيات اقتصادية وثروات طبيعية، وهم يحتلون أفضل المواقع الجغرافية والاستراتيجية، ويملكون من الإمكانيات التي منحت لهم من الله عز وجل، ما هو مصداقٌ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: {بينا أنا نائم إذ أُتيت بمفاتيح الأرض أو مفاتيح خزائن الأرض، فوضعت في يدي} ولكنهم -مع ذلك- لم يكونوا جديرين بإنسانيتهم، وبعلمهم وبمواقفهم وبرجولتهم وبقدرتهم على اغتنام الفرص، وبتمسكهم بدين الله تعالى، وبطاعتهم لله عز وجل، وبالتزامهم بشريعته، وباتباعهم لسنة محمد صلى الله عليه وسلم؛ فلم يكونوا جديرين بذلك كله حتى يجعل الله تعالى لهم قيادة الشعوب والأمم، كما جعلها للذين من قبلهم.
إن من المعلوم أن دخول الجنة يكون بفضل الله تعالى ورحمته، كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث المتفق عليه: {لن يدخل أحدكم الجنة بعمله...} الحديث، ثم يكون بعمل الإنسان الصالح الذي هيأه لرحمة الله تعالى، كما قال الله تعالى: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [النحل:32].
هذا دليل على أن الأمة قد عملت الصالحات من الطاعات.. من الصلاة والصيام، والشهادتين، والحج، والعمرة، والنسك، والخير، والصدقة، والبر، والإحسان، والجود، والكرم، والعدل، إلى غير ذلك -ومع ذلك- فينبغي أن نعلم أن لفظ الصالحات ليس مقصوراً على هذه الأمور فحسب، بل لفظ الصالحات أوسع من ذلك وأشمل.. فمن الصالحات -مثلاً- نَفْعُ الناس في دينهم ودنياهم، ومن الصالحات: تحقيق المكاسب للمسلمين، ومن الصالحات: القيام بفروض الأعيان، كتعلم العلوم التي يحتاج إليها في هذا الزمان، كالطب -مثلاً- أو الهندسة، أو الصناعات التي يحتاج إليها المسلمون إلى غير ذلك مما يدخل في إطار الإعداد الذي أمر الله تبارك وتعالى به: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ [الأنفال:60].
إذا مات فينا سيدٌ قام سيدٌ قؤول لما قال الكرام فعول |
إذا ما راية رفعت لحرب تلقاها عرابة باليمين |
فنحن أمة باقية، أمة ضاربة في مجاهل التاريخ، وباقية إلى آباد الزمان وأحقابه، وإلى أن يشاء الله عز وجل، وكلما فَرَط جيلٌ وذهب؛ خلفه جيلٌ آخر يحمل عنه الراية، ويجاهد عنه الجهاد ذاته، هذه الأمة: هي التي سوف تفتح بيت المقدس مرة أخرى -كما وعد الصادق المصدوق- وهي التي سوف تقاتل اليهود -كما في الصحيح أيضاً- وهي التي ستقتل الدجال، وهي التي ستفتح القسطنطينية مرة أخرى، كما فتحت أول مرة، بل هي التي سوف تفتح روما، كما وعد النبي صلى الله عليه وسلم، وهي التي سوف تحقق الملاحم الكبرى وتقاتل الروم وتنتصر عليهم بإذن الله عز وجل.
ومن ذلك -أيضاً- ما جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: {من أشد أمتي لي حباً ناسٌ يكونون بعدي يودُ أحدهم لو رآني بأهله وماله}، فهؤلاء الناس الذين أحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى ود الواحد منهم أن يكون رأى الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى لو اقتضى ذلك أن يتخلى عن أهله وماله؛ لشدة محبتهم له، فهؤلاء: من أشد أمته حباً له، ومن أفضل أمته عليه الصلاة والسلام، فلو قارنت هؤلاء بأقوام عاشوا معه صلى الله عليه وسلم.. فما نشطوا بصحبته، وما ذهبوا إليه، وربما أسلموا وبقوا في قبائلهم، وبقوا في ديارهم، وربما جلسوا معه ثم غادروه بعد ذلك.. فلم يقتبسوا منه علماً، ولم يرووا من حديثه، ولم يهاجروا معه، ولم يجاهدوا معه، ولم يحجوا معه، ولم يشهدوا معه المشاهد؛ لأدركت أن في آخر هذه الأمة فضلاً كثيراً، كما هو في أولها.
ومن ذلك ما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى المقبرة فقال: {السلام عليكم دار قومٍ مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، وددت أنّا رأينا إخواننا، قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟! قال: أنتم أصحابي، وإخواني هم الذين لم يأتوا بعد، قالوا: يا رسول الله، كيف تعرف من لم يأتِ بعد من أمتك؟! قال عليه الصلاة والسلام: أرأيتم لو أن رجلاً له خيل غرٌ محجلة بين ظهري خيل دُهْم بُهْم ألا يعرف خيله؟! قالوا: بلى، قال: فكذلك هم، يأتون يوم القيامة غراً محجلين من أثر الوضوء، قال: وأنا فرطهم على الحوض وليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال، فأقول: ألا هلم ألا هلم، أناديهم، فيقال: إنهم قد غيروا -أو قد بدلوا- بعدك، فأقول: سحقاً سحقا} فهذا دليلٌ على أن النبي صلى الله عليه وسلم تمنى أن يكون رأى من لم يأتِ من أمته من الأخيار والصالحين، وأهل الوضوء، وأهل الصلوات، وأهل الذكر، وأهل الأوراد، وأهل التسبيح، وأهل الجهاد، وأهل الصبر، وأهل الصدقة، حسبهم شرفاً وفخراً أن النبي صلى الله عليه وسلم تمنى أن يكون رآهم: {وددت أنّا رأينا إخواننا} وحسبهم شرفاً أن النبي صلى الله عليه وسلم وسمهم بوسم الأخوة، فهم إخوة النبي صلى الله عليه وسلم، وإخوة أصحابه في الإسلام والتوحيد والاتباع، الذي جمعهم عليه جميعاً.
وفي حديث آخر، أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكرهم، وقال: {للصابر منهم أجر خمسين، قالوا: أمنا يا رسول الله، أم منهم؟ قال: بل منكم} فذكر أن الإنسان من آخر هذه الأمة إذا عمل عملاً أُجِرَ عليه أجر خمسين من الصحابة لو عملوا العمل ذاته.. فإذا تصدق بصدقه ضوعفت له خمسين ضعفاً عما يكتب للصحابي -مثلاً- لو تصدق بالصدقة ذاتها، وإن كان الصحابة يتميزون بفضل الصحبة، وأنهم قد اقتربوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحبوا أنفاسه، ورأوا وجهه الشريف الطاهر المنور، وسمعوا الوحي من فمه، وجاهدوا معه وصبروا، كما قال الله عز وجل: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى [الحديد:10].
فلهم جميعاً فضل الصحبة، ولكن من جاء بعدهم فإنه يضاعف له الأجر، وإن قلت أعماله بالقياس إلى أعمال الصحابة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، ومن ذلك حديث أبي عنبة الخولاني وهو ممن صلى إلى القبلتين، وشرب الدم في الجاهلية أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {لا يزال الله تعالى يغرس في الدين غرساً يستعملهم في طاعته} وهذا الحديث رواه أحمد وابن ماجة وابن حبان في صحيحه، وصححه، وقال الإمام البوصيري في زوائد ابن ماجة: إسناده جيد، ورجاله كلهم ثقات.. فهذا الحديث دليل على أن الله تعالى يغرس للدين والتوحيد والدعوة غرساً في كل زمان يستعملهم في طاعته، ويوفقهم في مرضاته، ويجعل همهم وديدنهم وسرورهم وقرة عيونهم في الجهاد في سبيل الله، والصبر على ما يلقون في ذات الله تعالى، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم.
الخاتمة:
وأخيراً: فإن الأحاديث الواردة في الفتن فيها افتتاح القسطنطينية، وفيها قتال الدجال، وفيها قبض أرواح المؤمنين قبيل قيام الساعة، وفيها فتح بيت المقدس، وفيها قتال اليهود، وفيها قتال الروم، وفيها فتح روما، وكل هذه لن تتم إلا على أيدي الرجال الكبار الكرام الأشاوس الأبطال المخلصين، بل إنني أقول: إن الذين يقاتلون إلى جانب المهدي ويقاتلون إلى جانب المسيح بن مريم لم يكونوا إلا رجالاً أقوياء أشداء، ولم تكن إلا أمة تقوم بقادتها، وتقوم برجالها، وتقوم بأبطالها.. ولو أن قائداً عظيماً محنكاً وجد في أمة ذليلة مهزومة مقهورة محطمة؛ لم يستطع أن يقوم بشيء ولا يصنع شيئاً قال الشاعر:
ولو أن قويماً أنطقتني رماحهم نطقت ولكن الرماح أجرت |
فكيف ترى في هذه الأمة؛ التي هذا أولها وهذا آخرها إنها ولا شك أمة خير.
الجواب: أما أخبار البوسنة فالأمر مداولة ومحاولة ومصاولة بين هؤلاء وأولئك، فهناك انتصارات للمسلمين في مواقع عدة، وسيطرت على بعض مناطق النفوذ والإمداد التي كان يحتلها الصرب، وهناك قتلى -في أوساط الصرب- كثيرون، وهناك تخوف غربي كبير من استقرار وقيام حكومة إسلامية في تلك البلاد، وبالمقابل هناك انتصارات للصرب، وهناك -أيضاً- خيانة من الكروات في أكثر من موقع ومناوشات بين المسلمين، وبين الكروات، وهذا من الأخبار الجديدة.
هناك من المبشرات قيام جبهة إسلامية اسمها (القوات المسلمة) وصل عددها إلى ما يزيد على خمسة آلاف مقاتل من العرب والترك والأفغان، ومن أهل تلك البلاد، وهي جبهة إسلامية يشترط أن يكون المنتمي إليها: من المقيمين للصلاة، ومن المحافظين على شعائر الإسلام، ومن المتجنبين للكبائر وللمنكرات.. وهذه الجبهة أصبحت تنمو وتزداد وتحقق انتصارات، وقد قرأت في بعض الصحف الغربية وصفاً لـأبي عبد العزيز أحد القادة في تلك الجبهة؛ كأنه وصف لبعض أبطال الأساطير، وكيف أن رجال تلك البلاد ونساءها وأطفالها إذا ظهر أبو عبد العزيز بسيارته الجيب في الشوارع، ظهروا إليه من النوافذ والأبواب والسطوح؛ يصوتون له ويلوحون ويشيرون إليه، ويدعون له، ويحبونه، ويطوقون المنطقة المحيطة به.. فهناك انتصارات كبيرة، ولعل من أكبر الانتصارات -أيضاً- هي بوادر عودة صحوة إسلامية في وسط ذلك الشعب، الذي طالما عانى من الجهل والتضليل، ولأول مرة -منذ قرون- يبدأ هذا الشعب في اليقظة والوعي، والإقبال على العلم، فهناك رسائل كثيرة وصلتني تطالب بأحجبة للنساء، وتطالب بالوسائل والكتب التي تساعدهم على فهم الإسلام، والمصاحف التي تعينهم على القراءة، وهناك مدارس كثيرة قد أقيمت، والأولاد والبنات يتعلمون، وهناك ظاهرة كبيرة في إقبالهم والتزامهم.. وهذا -أيضاً- هو أحد الأشياء التي أصبحت تخيف الغرب، وتجعله يسعى حثيثاً إلى محاولة إنهاء تلك الحرب بأي وسيلة.
أما ما يتعلق بـالصومال فليس في الأمر جديد، وأرجو أن يكون هناك بعض التحسن في أوضاع المسلمين.
وأما أفغانستان فهناك بعض التقدم -أيضاً- حيث التقى رئيس الدولة رباني برئيس الحزب الإسلامي حكمتيار، واتفقوا على بعض الأمور، وهناك مسودة -ما يسمى- بمجلس الشورى قد وضعت واتفق عليها، وقد يتم إجراء بعض الاتفاقيات خلال شهور، ونسأل الله تعالى أن يجمع كلمتهم، وأن يكفيهم شر أعدائهم.
أما فيما يتعلق بفضيلة الشيخ عائض: فقد كان في هذه المنطقة في الأسبوع الماضي، وودت أن الأخ التقى به وسأله -وعلى كل حال- فالشيخ بخيرٍ، وهو في الرياض وسماحة الوالد الشيخ عبد العزيز يعد إن شاء الله أن الأمر سينتهي خلال فترة قصيرة.
الجـواب: -لا شك- أن هذا هو أحد الأمور المشكلة، أولاً: أن الناس يراعون دائماً الشيء الذي قد يكون الإنفاق فيه يرضي بعض ذوي النفوذ؛ فينفقون فيه، وهذه مأساة! وكذلك: الأمر الذي يستحب العامة الإنفاق فيه؛ فينفقون فيه.. فنعود لنقول:{كما تكونوا يولى عليكم} وكما قال تعالى: وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأنعام:129] فإذا تكلمنا عن هذه الأمة، فهذه الأمة الكلام عنها بحكامها، بتجارها، بلاعبيها، بعلمائها، بدعاتها، بعامتها، برجالها، بنسائها، نحن لا نجزئ هذه الأمة، نتكلم عنها بكل أفرادها، بكل مستوياتها.. بكل طبقاتها.. وعلينا -معشر دعاة الإسلام- أن نحرص على أن نقيم الجسور مع كل الطوائف وكل الفئات، بدعوتهم إلى الله تعالى، وإصلاحهم، وإتاحة الفرصة لهم لأن ينفقوا في سبل الخير.. فقد رأينا الكثيرين ينفقون حتى في مجالات الخير إذا رأوا في الإنفاق نفعاً لهم دينياً أو دنيوياً، أو رأوا فيه مصلحة ظاهرة، أو رأوا أنه مشروع مناسب ومقنع.. فعلينا -معشر دعاة الإسلام- ألا نكتفي بمجرد النقد؛ بل أن نقدم للناس البديل الصالح من الأعمال المؤسسية، القائمة على الدراسة والتخطيط وبعد النظر، والأعمال الجماعية المدروسة، وأن نحرص على هذا وندرك أنه آن الأوان لأن نخوض في المجتمع كما خاض غيرنا.
وأقول لكم: من أسهل الأمور أن ننتقد الواقع، وقد رأيت كثيرين ممن يجيدون فن السب والعيب للواقع، فينتقدون -مثلاً- الاقتصاد؛ ولكنهم يعجزون عن إقامة مؤسسة إسلامية نظيفة، وينتقدون الإعلام؛ ولكنهم يعجزون عن أن يقدموا برنامجاً إعلامياً صالحاً مؤثراً، وينتقدون أوضاع المستشفيات؛ ولكنهم يعجزون عن أن يقوموا بعمل طبي نافع وهكذا... والمثل الصيني يقول: (أن تضيء شمعة خير من أن تلعن الظلام ألف لعنة).
إذاً: نحن ينبغي أن ننتقل من مجرد النقد والعيب والذم والتجريح المجرد؛ إلى أن نقدم للناس.. للمجتمع.. للأمة عملاً مؤسسياً نافعاً ناجحاً مدروساً في كل المجالات:
في المجال الإعلامي: إعلام إسلامي يقدم الشريط.. شريط الكاسيت، شريط الفيديو.. البرنامج المفيد.. المجلة.. الكتاب.. النشرة الدورية... إلى غير ذلك.
وفي المجال الاقتصادي: يقيم الشركة.. المؤسسة، بل حتى البنك الإسلامي البعيد عن شبهة الربا، ويوظف المسلمين في هذه الأعمال.
وفي مجال العمل الطبي: إقامة المستشفيات النظيفة؛ مستشفيات نسائية -مثلاً- مستشفيات بعيدة عن الحرام، مستشفيات قوية، مستشفيات متخصصة، وتوظيف هذا الكم الهائل من الأطباء في ألوان من الأعمال التي تنفع المسلمين دنيا وآخرة.
الجـواب: -لا شك- أنها بعد نـزول عيسى عليه الصلاة والسلام، أما هل هي بعد العلامات الكبرى؟ فالله تعالى أعلم، قد يكون بعدها -أيضاً- علاماتٌ كبرى.
الجواب: لعلني أجبت على ذلك، فإن الأشعار التي استشهدت بها؛ إنما استشهدت بها منتقداً لها لا مقراً.
الجواب: كلا، بل إن هذه من الفتنة التي يستعيذ منها المؤمنون: رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا [الممتحنة:5].
فإننا وجدنا أن من المسلمين من يكفرون، لأنهم رأوا أنهم في حال المجاعة؛ مد النصارى إليهم الأيدي، وتخلف عنهم المسلمون. ورأينا من المسلمين من يكفرون؛ لأنهم يُقتلون على الإسلام، ولا ينتصر لهم إخوانهم المسلمون، فهذه من الفتن التي نسأل الله عز وجل أن يرفعها عن عباده بمنه وكرمه.
الجواب: هذا ظاهر! فإن الإسلام له إقبال وإدبار -كما جاء في حديث، وإن كان فيه ضعف- فمن إقباله أن تسلم القبيلة بأسرها، ومن إدباره أن تكفر القبيلة بأسرها. فمن إقبال الإسلام: أن يكثر أهل الخير، وينتشر العلم، ويقوم الجهاد في كل بلد هذا من إقباله، ومن إدباره أن يضعف هذا الأمر ويقل القائمون به.
الجواب: نعم فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: {إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة} والحديث في الصحيح.
الجواب: هذا ليس بلازم؛ لأنه قال: {وسيعود} والظاهرأن قوله: {وسيعود } يدل على أنها عودة لا قيام للإسلام بعدها؛ ولكن إذا كان ذلك هو معنى الحديث فيكون في الحديث، إشارة إلى الغربة الأخيرة التي تكون بعد قبض أرواح المؤمنين، وهناك ألوان أخرى من الغربة تقع قبل ذلك، ويكتب للإسلام بعدها عزٌ ونصرٌ وتمكين.
إذاً: نستطيع أن نقول: إن الغربة نوعان: النوع الأول: الغربة الأخيرة المستحكمة التي لا قيام للإسلام بعدها.. وهذه لا تكون إلا في آخر الزمان قبيل قيام الساعة، ومع الأشراط الكبرى، وبعد قبض أرواح المؤمنين.
أما النوع الثاني: الغربة النسبية: التي توجد في بلد دون بلد، فقد تكون غربة للإسلام في هذا البلد، وهو عزيز في بلد آخر -كما نراه اليوم واضحاً جلياً- وقد تكون في زمان دون زمان فتكون الأمة في زمن -مثلاً- قوية عزيزة منيعة ممكنة، ثم يمر عليها بعد ذلك زمان غربة، ثم زمان تمكين، ثم زمان غربة، وهكذا...
الجواب: هذا أحد السلبيات، لكن مجرد قراءة هذا السؤال -مثلاً- أو الإقرار بمثل هذا الواقع لا يغير شيئاً، ولذلك أقول: أين المختصون؟! أين ذوو القدرات والإمكانيات، الذين يشعرون أنهم يستطيعون أن يقوموا بمثل هذا الواجب الكفائي، ويسدوا هذه الثغرة التي تحتاجها الأمة؟!
الجواب: -على كل حال- القرآن أشار أو أحال إلى الأخذ من السنة قال تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7].
والرسول صلى الله عليه وسلم، والقرآن -أيضاً- أحال إلى الإجماع، كما في قوله تعالى: فإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء:59].
دلت الآية بمفهومها على أن الإجماع حجة، وأما التنازع؛ فيتم الرد فيه إلى القرآن والسنة.. وكذلك وردت أحاديث كثيرة تدل على أن الأمة لا تتفق على ضلالة، وهي بعض أحاديث الليلة التي أعرضت عنها اختصاراً. فبناء عليه نقول: ما جاء في القرآن، أو في السنة، أو بإجماع أهل العلم، أو كان الدليل الصحيح يعضده؛ فيجب على الإنسان أن يعمل به.. إن كان واجباً؛ فواجب، وإن كان مستحباً؛ فمستحب.
الجواب: -على كلٍ- أرى أن تزكية الإنسان نفسه لا تنبغي، وينبغي للإنسان أن يتواضع، وكلما كان الإنسان أكثر هضماً لنفسه، وأبعد عن مدحها، وأقرب إلى نقدها؛ كان ذلك أدعى إلى إخلاصه، وإلى قربه من الله عز وجل.
الجواب: لا أرى أن لك أن تأخذ هذه الكروت.
الجواب: إذا كان قام بصلاته بواجباتها وأركانها وشروطها، فلا أرى أن يعيد الصلاة، ولكن عليه أن يحرص على استحضار قلبه للصلاة، فإنه ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت، وإن العبد كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه أهل السنن وهو صحيح: {إن العبد ما كتب له من صلاته إلا نصفها ثلثها ربعها خمسها سدسها} الحديث.
الجواب: هناك كتب كثيرة منها كتاب: مشاكلة الناس في زمانهم، ومنها كتب الفتن، ومنها كتاب: عقد الدرر في أخبار المنتظر، ومنها كتاب: جامع الأصول في الجزء الثاني، إلى غير ذلك من الكتب.
الجواب: أريد أن تنتبه -جزاك الله خيراً- إلى قضية، أن الأمة الإسلامية اليوم تعيش فترة غيبوبة ليس فقط عن قضية القدس، فقضية القدس إحدى القضايا، لكن الأمة المسلمة اليوم تغيب عن معظم قضاياها، ولذلك سميتها (الأمة الغائبة) في أحد المناسبات؛ لأنها أمة أصبحت تقبل قضايا كثيرة.. يعني قضية السلام -مثلاً- مع إسرائيل، مع ما يسمى بالكيان اليهودي، كنا نتصور أن هذا الأمر من أصعب الأمور، أن يتم، وأنه لا يتم إلا في وسط تيار من الصخب والضجيج، والغضب الذي تنادي له الأمة من مشرقها إلى مغربها، فإذا بنا نرى أن هذه الأمة تواجه مثل هذه الخطة الرهيبة العظيمة الخطيرة، التي تستهدف عقيدتها ووجودها وكيانها ودينها واقتصادها، تواجه ذلك كله بردود فعل ضعيفة، لا تعدو أن تكون محاضرة هنا، أو كلمة هناك أو مقالاً هنا أو كتيباً هناك! نحن بحاجة إلى أن نصرخ بهذه الأمة، ونخاطبها بكل ثقة، ونـزيل الغبار عنها، وندعوها إلى أن تمارس وجودها الحقيقي، وأن تعود إلى دينها، فإن هذه الأمة لا خير فيها ما لم ترجع إلى دين ربها، وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم.
الجواب: واجبنا أن نضاعف الأعمال الصالحة.. المجتمع -كما قلت لكم مراراً-: المجتمع ميدان منافسة، وميدان سباق بين الأخيار والأشرار.. كل مجتمع فيه قوتان: قوة مؤمنين تدعو إلى الخير، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر كما قال سبحانه وتعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71].
وقوة المنافقين تأمر بالمنكر وتنهى عن المعروف الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ [التوبة:67] والمجتمع هو لمن غلب عليه من هاتين القوتين، فإن غلبت عليه مادة الإيمان؛ كان مجتمعاً مؤمناً مسلماً ناضجاً سليماً، ونجا -بإذن الله تعالى- من عقاب الله في الدنيا والآخرة، وإن كانت الأخرى، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
الجواب: يا أخي ليس الزمان، بل الأمر: كما قال الشافعي:
نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيب سوانا |
ونهجو ذا الزمان بغير جرم ولو نطق الزمان بنا هجانا |
وليس الذئب يأكل لحم ذئب ويأكل بعضنا بعضاً عيانا |
الزمان ليس إلا الأيام والليالي، والشمس التي أشرقت على الصحابة؛ هي نفسها التي تشرق علينا، والقمر نفسه، والنجوم والكواكب نفسها، والأرض هي ذاتها، وإنما الذين تغيروا هم الناس، هم البشر.. هي الأوضاع.. الدول.. الأمم.. الحكومات.. المؤسسات، هذا الذي تغير.
إذاً: نحن الذي تغيرنا وليس الزمان.. الزمان عنصر حيادي، إن استفدت منه في عمل صالح؛ كان معادك الجنة في الآخرة، وأدركت النجاح في الدنيا.. وإن كانت الأخرى؛ كان الإنسان إلى النار والعياذ بالله في الآخرة، وكان إلى البوار والشقاء في الدنيا، لكن علينا أن نكون صرحاء مع أنفسنا، وشجعاناً مع أنفسنا، ولدينا استعداد أن ننتقد أنفسنا، ونصحح أوضاعنا، ونراجع أعمالنا، ونعرف ما هي الأسباب الموصلة إلى النجاح فنعملها، وما هي الأسباب الموصلة إلى الفشل، فنتجنبها.
هذا والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، والحمد لله رب العالمين، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر