أيها الإخوة! نحاول في هذه الكلمة التي أرجو أن تكون قصيرة ومفيدة، أن نلقى فيها الضوء على أنفسنا لنعرف بالضبط من نحن؟ ونلقى فيها الضوء على حقيقة العبودية التي يجب أن ندين فيها لله -جل وعلا-. وسأحاول أثناء الإلقاء أن أوجه إليكم بعض الأسئلة رغبة في حضوركم وشد انتباهكم إلى موضوع هذه الكلمة.
وسيكون موضوع الحديث هو: (فقر الإنسان، وغنى الخالق سبحانه وتعالى) وإننا نجد الله عز وجل يخاطبنا باسم الفقراء، يسمينا الفقراء فيقول: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر:15] إذاً فحتى حين يملك الإنسان الأموال الطائلة ويتقلب في النعيم، ويملك الزوجات والأولاد، بل حتى حين يتربع الإنسان على عرش الحكم فيكون ملكاً، أو امبراطوراً، أو رئيساً، أو غير ذلك، فإنه لا ينفك عنه هذا الوصف أنه من الفقراء، وقد تعلم الناس ودرسوا على أن الفقر يطلق على من لا يملك المال، وهذا معنى صحيح بلا شك كما في قوله تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ [التوبة:60].
ولكن هذا المعنى هو جزء من المعنى العام لهذه الكلمة، أما الفقر الحقيقي الذي يطلق على كل إنسان ولا يمكن أن ينفك عنه، فهو فقر الإنسان وحاجته إلى الله عز وجل وبالطبع أنه لا يمكن أن ندرك نحن حقيقة الفقر الذي ركبه الله عز وجل في نفوسنا، إلا إذا قارنا بين ضعفنا وقوة خالقنا.
والمقصود بقوله صلى الله عليه وسلم: {إن لله تسعة وتسعين اسماً} ليس قصر أسماء الله على التسعة والتسعين، ولكن يبين صلى الله عليه وسلم أن من أسماء الله تسعة وتسعين اسماً ميزتها أن من أحصاها دخل الجنة، وإلا فإن لله عز وجل أسماء وصفات لا يعلمها خلقه. وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: {اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنـزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك} إذاً هناك أسماء لله عز وجل استأثر الله عز وجل بها في علم الغيب عنده، فلا يعلمها ملك مقرب، ولا نبي مرسل، فليست أسماء الله مقصورة على تسعة وتسعين اسماً، إنما هناك تسعٌ وتسعون اسماً من أحصاها دخل الجنة.
الأمر الأول: هو معرفتها وعدها، بأن يستطيع الإنسان أن يعرف هذه الأسماء التسعة والتسعين، فيقول مثلاً: هو الله الذي لا إله إلا هو، عالم الغيب والشهادة، الرحمن الرحيم، الملك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، إلى أن يستغرق تسعة وتسعين اسماً، بشرط أن تكون هذه الأسماء التي عدها من الأسماء التي ثبتت بالكتاب والسنة، أما الأسماء التي يتداولها الناس أو توجد في بعض الكتب دون أن يوجد لها دليل صحيح فلا تعد.
وبالمناسبة قد يسأل البعض ما هي الكتب التي عدت وأحصت أسماء الله عز وجل وصفاته؟ فأقول: هي كثيرة جداً ولكن من أفضلها كتاب (الأسماء والصفات) للإمام البيهقي، وكتاب (التوحيد) للإمام الحافظ ابن مندة، وكتاب(شأن الدعاء) للإمام أبي سليمان الخطابي، وقد ألف عدد من العلماء مؤلفات خاصة في أسماء الله عز وجل وصفاته، كـالزجاج، والرازي، وغيرهما.
فالأمر الأول هو أن تستطيع أن تعد الأسماء واحداً واحداً، وتحصيها إحصاء بالأسماء وبالعدد، لكن هذا بطبيعة الحال لا يكفي! فكم من إنسان يردد هذه الأسماء بكرة وعشياً، ولا نستطيع أن نقول: إنه ينال الوعد الذي بينه الرسول صلى الله عليه وسلم وهو دخول الجنة، فلابد أن يترتب على معرفة الأسماء معرفة معنى كل اسم منها.
الأمر الثاني: هو معرفة معنى كل اسم من هذه الأسماء.
فمثلاً: نحن قلنا: من أسماء الله: السلام، ربما لو سألنا معظم الإخوة الحاضرين ما معنى السلام؟ لم يعرف.
ما معنى المؤمن؟ أكثرنا لا يعرف، أيضاً المتكبر، ما معنى المتكبر؟ أكثرنا لا يعرف، وهكذا..
فالأمر الثاني: هو المراد أو مدلول كل اسم من هذه الأسماء الحسنى.
الأمر الثالث: هو الإيمان بهذه الأسماء، وعدم تأويلها أو تحريفها عن معانيها، أو تعطيل الله عز وجل عن الصفات التي تدل عليها.
الأمر الرابع: هو ثمرة هذه الأشياء كلها وهو: التأثر بهذه الأسماء، بحيث لا تكون هذه الأسماء مجرد كلمات في اللسان، أو حتى معاني في العقل، بل تتحول إلى مشاعر في القلب، ولذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن} فمن آمن بالله وأسماء الله كان هذا الأمر خير رادع وزاجر له عن معصية الله، فكيف تعصي الله أيها الإنسان وأنت تعرف أن من أسمائه الرقيب المطلع على الأسرار والخفيات؟ وهكذا بقية الأسماء..
فمن آمن بهذه الأسماء وأحصاها حق إحصائها، كانت الأسماء خير رادع وزاجر له عن المعصية، والإيمان بهذه الأسماء يوجب لك معرفة عظمة الله، وكماله، واستغنائه عز وجل استغناءً كاملاً عن كل أحد، وعن كل شيء، وبالمقابل قارن نفسك، ستجد نفسك مخلوقاً ضعيفاً مفتقراً إلى الله عز وجل افتقاراً كلياً في كل لحظة، وفي كل شأن.
وسبحان الله! يبدأ الإنسان يتدرج شيئاً فشيئاً، خطوات بعضها يتلو بعض، ثم يكبر، ويوماً بعد يوم حتى يصبح قادراً على القعود، ثم قادراً على الحبو، ثم على الوقوف، ثم على المشي، وما يزال يترعرع ويكبر، والذين من حوله يلاحظون تطوره شيئاً فشيئاً، ويستبشرون ويفرحون بكل مرحلة جديدة ينتقل إليها، حتى يكبر الإنسان ويبلغ مبلغ الشباب، -فيا سبحان الله!- حينئذٍ تجد هذا الإنسان قد نسي المراحل التي مر بها، وشعر بنوع من الاستغناء والكمال، وغفل عن الطفولة التي كانت مرحلة من مراحل الضعف التي مر بها، يشعر بكمال واستغناء، بل ربما يصل به الحال إلى الشعور بالكبرياء والغطرسة، ولو التفت الإنسان التفاتة سريعة إلى الوراء، وتذكر أنه كان في المهد يوماً من الأيام، وأنه كان بحالة معروفة من العجز في صغره، والحاجة الكاملة إلى غيره؛ لأدرك أنه لا يليق به وبمثله أن يتكبر، ويتغطرس، ويستعلي، بل يدرك أنه مخلوق ضعيف ومحتاج ومفتقر إلى غيره.
الأمر الأول: الذي يجعله مفتقراً إلى الله: أن هذه المرحلة ليست دائمة، حتى لو استمرت وقطعها الإنسان ليصل إلى مرحلة الكبر والشيخوخة، ولذلك قال الله عز وجل: ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً [الروم:54].
الأمر الثاني: أن كثيراً من الناس حتى في مرحلة الشباب يقدر الله ألا يستكملوا هذه المرحلة، فيصيبهم الله عز وجل بالأمراض وغيرها من الأشياء التي تقعدهم عن العمل والحركة والنشاط؛ بل قد يتعدى ذلك إلى الوصول إلى مرحلة الموت.
ومن حكمة الله عز وجل في إيجاد الموت في هذه الحياة، أن يتذكر الإنسان دائماً أنه ضعيف، وقد يتجبر الإنسان، ويبطر، ويستعلي، فإذا تذكر أنه يوماً من الأيام أنه على رغم كل هذا سوف يقع طريح الفراش مكبلاً عاجزاً عن النطق، عاجزاً عن الحركة، فإن هذا يطاطئ من غرور الإنسان وكبريائه، ولذلك ثبت عن عمرو بن العاص -رضي الله عنه وأرضاه- أنه كان يقول: [[والله إني لأعجب من الناس العقلاء الذين يشاهدون الموت، أويعاينون الموت ويحتضرون، كيف لا يستطيعون أن يصفوا الموت!]]. يتعجب هذا الصحابي الجليل من الناس الذين احتضروا وعاينوا الموت، كيف لا يستطيعون أن يصفوا الموت! ويخبرون ما حقيقة هذا الموت، فلما صار هذا الصحابي الجليل محتضراً، كانت له حالة من الأحوال رواها لنا مسلم في صحيحه، أنه لما حضره الموت بكى رضي الله عنه وأرضاه وحول وجهه إلى الجدار، وكان عنده ابنه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه، فقال: يا ابتي لم تبكي؟! ألم يقل لك رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا.. وكذا؟! وظل يذكره بالفضائل التي ذكرها له النبي صلى الله عليه وسلم، فالتفت إليه أبوه عمرو بن العاص وقال له: والله إني كنت في حياتي على أطباق ثلاث -يقول: مررت في حياتي بثلاث مراحل-:
أولاً: لما بعث الرسول صلى الله عليه وسلم كنت من أشد أعدائه، حتى لو استطعت أن أقتله قتلته، ولم يكن أحد أبغض إلي منه في ذلك الوقت، فلو مت على تلك الحالة لكنت من أهل النار، قال: { ثم جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فمددت يدي إليه، وقلت له: ابسط يدك أبايعك يا رسول الله! قال: فبسط يده فلما بسط يده إليّ قبضت يدي، فقال: "مالك يا
الحالة الثالثة هي: أنه تولى مناصب لا يدري ما حاله فيها.
يقول: بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم دخلنا في أمور من أمور طلب الإمارة وغيرها، لا أدري ما حالي فيها، يقول: فإذا مت ووضعتموني في قبري فشنوا عليّ التراب شناً، ثم انتظروا عند قبري قدر ما تنحر جزور ويقسم لحمها، حتى أنظر ماذا أراجع به رسل ربي.
وهذا الحديث كما ذكرت لكم رواه مسلم، فلما صار عمرو بن العاص -رضي الله عنه وأرضاه- في هذه الحالة وهي: حالة الاحتضار، سأله ابنه عبد الله، فقال: يا أبتاه! لقد كنت في حال حياتك تقول: إنني أعجب من العقلاء الذين يحتضرون كيف لا يستطيعون أن يصفوا لنا الموت، فهل تستطيع يا أبتاه! أن تصف لنا الموت الآن؟! فماذا قال هذا الرجل البليغ الفصيح: قال: يا بني! أمر الموت أعظم من أن يوصف، ولكني سأصف لك ما حالي، أحس أن جبل رضوى على عنقي، وجبل رضوى جبل ضخم بـالمدينة.
فيقول: إنني في حالة الموت الآن أحس أن هذا الجبل الضخم موضوع على رأسي، وأحس أن جوفي يشاك بالسلاح، يحس كأن السلاح يختلف في بطنه وجوفه، وأحس كأن روحي تخرج من ثقب إبرة، ولكم أن تتصوروا حالة عمرو بن العاص رضي الله عنه وهي حالة كل إنسان، بل حالة المؤمنين إذا احتضروا، كأن جبل رضوى على رأسه، وكأن الأسلحة مسددة إلى جوفه وصدره، وكأن روحه تخرج من ثقب إبرة! فهذا المصير كيف يلذ لنا، ويطيب لنا أن ننساه ونتجاهله، وتتغافل عن هذا المصير؟! لأننا نريد أن نتمتع بحياتنا، لكن هذا النسيان، وهذه الغفلة، لا يمكن أن تحقق الهدف الذي نرجوه، فمهما نسيناه فهو لا يمكن أن ينسانا، ولذلك قال الله عز وجل لنا: قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ [الجمعة:8].
وقال: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق:19] أي: يفر ويهرب، فكل واحد منا يكره الموت ويفر منه، بل وربما يستاء من سماع الحديث عنه، ولكن هذا لن يغير من الأمر شيئاً، ولذلك أقول: إن من حكمة الله عز وجل في إيجاد الموت إشعار الإنسان بالفقر الكلي إلى الله عز وجل، والحاجة الدائمة إليه سبحانه وتعالى، لأن الإنسان لا يدري متى يفجأه الموت.
فالإنسان الذي يؤمن بالموت حق الإيمان هو الذي يكون في جميع الأحوال مستعداً له، ولذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال فيما يرويه علي بن أبي طالب -رضي الله عنه وأرضاه-: {لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع وذكر منها الإيمان بالموت} ويعني ذلك الاستعداد له، وأن يكون الإنسان في كل أحواله كأنه ينتظر الموت، وهذا يجعل الإنسان شاعراً بفقره وحاجته وإعوازه إلى الله عز وجل.
فالإنسان معرض في أمور دينه إلى أربعة أشياء: وأرجو أن تـنـتبهوا إلى هذه الأشياء ويمكن أن أسألكم عن أحدها!
ومثل ذلك أن الله عز وجل هو الذي خلقهم وأوجدهم في هذه الدار، ثم اشترى منهم أنفسهم، فهو الخالق وهو المالك، ومع ذلك يشتري منك نفسك بأن لك الجنة شريطة أن تكون واقفاً عند حدوده، ملتزماً بأمره، منتهياً بنهيه.
فالأمر الأول: الذي يمكن أن يعرض له الإنسان في أمر دينه هو أن يعصي الله عز وجل، فتذكرك أنك يمكن أن تكون في عداد العصاة، يجعلك تلوذ بالله، وتلتجئ إلى كنفه، وترجوه أن يحميك من المعصية، ويحميك من الشيطان، ومن شياطين الإنس والجن، وبطبيعة الحال فإن لو عصى الإنسان ربه ومات على ذلك؛ فقد خسر الدنيا والآخرة -والعياذ بالله- إلا أن يتغمده الله بواسع رحمته.
ويمكن أن يوجد إنسان تخلص من المعصية المباشرة، فلا يقع في الفواحش والمنكرات المعروفة الظاهرة، فهذا الإنسان الذي تخلص من المعاصي والمنكرات، يمكن أن يقع في معصية أشد من المعاصي الظاهرة مثل شرب الخمر، والزنى والربا.
ومن معاني هذا الحديث -والله أعلم-:
أن الإنسان معرض للذنب بكل حال، ولا ينفك عنه الذنب، ولذلك ورد في حديث آخر إسناده، كما قال الهيثمي حسن، ورواه البزار عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لو لم تذنبوا لخشيت عليكم ما هو أشد من ذلك: العجب}.
النقطة الثانية التي يمكن أن يعرّض لها الإنسان لو أطاع الله هي: أن يعجب بعمله! ولا شك أن العجب معصية، ولكنها معصية ليست للفساق، فالفاسق لا يعجب بعمله، لكن المطيع العابد يمكن أن يعجب بعمله فيحبط عمله. وفي صحيح مسلم أن رجلاً من بني إسرائيل كان مسرفاً على نفسه، غارقاً في المعاصي، وكان هناك رجل آخر طائع عابد لله عز وجل، فقال هذا الرجل الطائع للرجل العاصي: والله لا يغفر الله لك، أو أنى يغفر الله لك، فأحبط الله عمل هذا العابد وأدخل ذاك الجنة. هذا معنى الحديث.
إذن الأمر الرابع الذي يمكن أن يُعرَّض له الإنسان المطيع السالم من العجب، الباذل الجهد والانقطاع في طاعة الله هو أن يختم له بخاتمة السوء.
وإذا كان الأمر كذلك وهو كذلك، فإن سائلاً يسأل: كيف لٍلإنسان أن يتخلص من هذا الفقر؟ إذا كان الواحد منا فقيراً حتى وهو يتقلب في النعيم، ويملك الأموال الطائلة، ويتربع على العروش، فهو فقير شاء أم أبى، فما هو السبيل الذي يجعل الإنسان يفر من هذا الفقر؟ السبيل هو التقوى والقرب من الله عز وجل والفرار إليه، ولذلك قال الله عز وجل مخاطباً لنا: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ [الذاريات:50].
فكل شيء تخافه فأنت تفر منه إلا الله عز وجل فأنت تخافه فتفر إليه، فإذا كنت تعلم أن الله عز وجل متصف بصفات الكمال المطلق، والغنى المطلق، وأنت متصف بالفقر والحاجة، فلا انفكاك لك من هذا الفقر إلا بالفرار إلى الله عز وجل فهو الذي يملك الكمال المطلق، وهو الذي من لاذ به واقترب منه منحه عز وجل من الكمال والقوة مالا يكون له في حساب، ولا يخطر له على بال، لذلك تجدون الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، ثم أتباع الأنبياء الصادقين، تجدونهم أقوى الناس في الصبر على ما يواجهونه من مصائب الدنيا، وأقوى الناس في الصبر على ما يواجهونه في أمور الدين ويتحملونه في سبيل الله.
فعن عائشة رضي الله عنها أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت له: {يا رسول الله! ما أشد ما لقيت من قومك؟ أي: ما هو أشد موقف مر بك من قومك، فذكر لها النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذهب إلى الطائف يدعوهم إلى الإسلام فآذوه وردوه، وقالوا له قولاً سيئاً، فخرج صلى الله عليه وسلم على وجهه مهموماً فلم يستفق إلا وهو بـقرن الثعالب، وهو لعله موضع بـمنى قرب العقبة، لم يستفق إلا وهو بـقرن الثعالب، قال صلى الله عليه وسلم: فإذا سحابة قد أظلتني، فنـزل منها ملكان جبريل وملك آخر، فسلم علي جبريل، وقال: يا محمد! إن الله عز وجل قد سمع قول قومك لك، فبعثني إليك وهذا ملك الجبال، فمره بما شئت، فسلم عليه ملك الجبال، وقال: يا محمد! إن الله سمع قول قومك لك، فمرني بما شئت، والله إن شئت لأطبق عليهم الأخشبين، وهما الجبلان المحيطان بـمكة، فانظروا صلابة النبي صلى الله عليه وسلم وهو في هذا الموقف الذي خرج مهموماً على وجهه حتى لم يستفق إلا وهو في قرن الثعالب، قال صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً}.
وروى عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه وأرضاه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال عبد الله بن مسعود: كأني انظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحكي نبياً من الأنبياء ضربه قومه فأدموه، نبي اختاره ملك الملوك من السماء ليـنـزل الوحي عليه، فيصل الحال بالسفهاء إلى أن يضربوه ويخرجوا الدم منه، فهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: {اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون} ربما كان يخاف على قومه أن ينـزل عليهم العذاب من السماء، فهو يسترحم الله عز وجل لقومه، ويقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون. وهكذا كان أصحاب الأنبياء، وهكذا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أشد الناس صبراً على اللأواء والبلواء التي تصيبهم، سواء في أمر دنياهم أم في أمر دينهم، ولا يتسع المجال لذكر بعض النماذج التي مروا بها، وعانوها وصبروا عليها، حتى وصلوا إلى ما وصلوا إليه من القوة والصبر والكمال.
أسأل الله عز وجل أن يلحقنا بهم في الصالحين، وأن يثبتنا وإياكم بقوله الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وأرجو ألا أكون قد أطلت عليكم، وأستغفر الله لي ولكم، وأصلي وأسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الجواب: الذي يبدو لي أن هذا الذي سأل عنه الأخ السائل هو نوع من الوسواس، ولاشك أن الإنسان لو شك في دينه شكاً حقيقياً فإنه يكفر، إنما يجب على الإنسان ألا يستعجل في إطلاق هذه الكلمة، فإنني أعلم كثيراً من الشباب وخاصة في مرحلة المراهقة، تدور في مخيلاتهم أفكار كثيرة يضيق منها الإنسان، ويتبرم بها، وربما تجد بعض هؤلاء الشباب قد ضاقت عليه الأرض بما رحبت، واسودت الدنيا وأظلمت في عينيه، ولا يهنأ بعيش، ولا بنوم، ولا يأكل، ولا يشرب، فلو سألته ما شأنك؟ قال: أنا عندي شكوك، ووساوس، وعندي كذا وكذا.
فنقول له: إذا كان عندك شكوك ووساوس فأنت مما تخاف؟ قال: أخاف أن أموت على هذا الحال، إذاً كونك تخاف أن تموت على هذه الحال، دليل على أنك مؤمن في الحقيقة، وإلا لو كنت غير مؤمن، لما كنت مبال أن تموت أو لا تموت على هذه الحال! فوجود خوف حقيقي مزعج للإنسان، دليل على أن عنده أصل الإيمان في الغالب، وإلا فإن الإنسان ربما يقول: أنا أخشى أن أموت، وهذا مثل ما يقول المعري:
قال المنجم والطبيب كلاهما لا يُبعث الثقلان قلت: إليكما |
إن صح قولكما فلست بخاسر أو صح قولي فالخسار عليكما |
فهذا المذهب لاشك أنه يحتمل، لكن الذي لاحظته من معايشتي ورؤيتي لعدد من هؤلاء الشباب، أن الأمر بالنسبة لهم ليس شكاً حقيقياً، وإنما هو نوع من الوسوسة يكيد بها الشيطان للإنسان! والدليل على ذلك أن هذه الوسوسة تأخذ صوراً شتى -فمثلاً- تجد الإنسان اليوم يشك في بعض الأمور المتعلقة بالألوهية، فيظل يعالج الأمر، ويقرأ في الكتب، ويراجع المشايخ وطلاب العلم والعلماء وغيرهم حتى يزول هذا الأمر، ثم تجد أمر الشك عنده تحول إلى وسوسة في شأن الوضوء، وأعرف أناساً بهذا الشكل، فصار يشك في الوضوء، ويطيل الوضوء، ويكرره، فظل يعالج هذا الأمر حتى انتهى، فأخذ الشك صورة ثالثة، أو الوسوسة بالأصح، وهي الشك في موضوع الصلاة، فصار يكرر الصلاة، ويعيدها، وهكذا.
فهذا دليل على وجود شيء من الضعف في القلب عند الإنسان يأخذ صوراً شتى، فمرة يأخذ صورة الوسوسة في شأن الإيمان، ومرة أخرى في شأن الوضوء والطهارة، ومرة ثالثة في شأن الصلاة! والذي أنصح به من وجد شيئاً من ذلك:
أولاً: ألا يلتفت إليه، فإن أثمن وأعظم نصيحة هي ألا يلتفت إليه، والشيطان إذا أعرض عنه الإنسان وهجره ضعف كيده، وإذا أصغى إليه الإنسان وحاول أن يستمع منه تعاظم حتى يكون كالجبل العظيم. إذن فأعظم وأثمن نصيحة هي ألا تلتفت إلى هذا الأمر، ولا تصغ إليه، وحاول أن تشغل نفسك بأمور أخرى! مثلاً بالقراءة! أو الرياضة! أو الصلاة، أو العبادة، أو الزيارة، أو المجالسة أو بغيرها من الأمور الخيرية أو الأمور العادية...!!
الأمر الثاني: إذا رأيت أن الأمر لم يندفع عنك، فعليك ألا تتردد في الاتصال بأحد العلماء، أو طلاب العلم الذين تجد عندهم الشفاء لما تعاني.
الأمر الثالث: أن تدرك أن هذه الحالة التي تعانيها ليست دائمة، والذي لاحظته عند كثير من المصابين بهذا الأمر أنهم يتصورون أن هذا الذي يعانونه ثابت، ومستمر، وسرمدي عليهم، حتى لا يخيل للواحد منهم أنه سينجو مما هو فيه. فأقول: لا، بل يجب على الإنسان أن يدرك أن الحالة التي عاشها هي أيضاً عاشها أكثر الشباب المراهقين، ثم تخلصوا منها، فعليه أن يدرك أنها ستزول، وعليه أن يطمئن قلباً، ويحرص على الامتثال للنصائح التي ذكرت، والاعتصام بالله وكثرة الدعاء، وقد صح عن حذيفة رضي الله عنه في مستدرك الحاكم أنه قال: [[يأتي على الناس زمان لا ينجو فيه إلا من دعا دعاء الغريق]] فعلى الإنسان أن يفزع إلى الله عز وجل بكثرة الدعاء.
الجواب: يكمل الآية التي يقرؤها ثم يرد السلام.
الجواب: يقول الرسول عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث: {لا يؤمن أحدكم حتى يؤمن بأربع: يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله بعثني بالحق، ويؤمن بالموت، وبالبعث بعد الموت، ويؤمن بالقدر} وأذكر أنني تحدثت في المسجد عن هذا الحديث وبيّنت معنى الإيمان بالموت، وربما يكون من بينكم من كان حاضراً ويستطيع أن يذكرنا، ما معنى الإيمان بالموت؟ لأن الموت كل الناس يؤمنون به حتى الكفار يدركون أنهم ميتون لا محالة، فماذا يعني الإيمان بالموت إذن؟ نعم، إنه يعني الاستعداد للموت، ومن الإيمان بالموت معرفة أن الموت هو قضاء الله وقدره، وأن لكل أجل كتاب، ولا يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها، ومعرفة أن الموت ليس أمراً طبيعياً كما يدعيه الملاحدة، وليس من باب تناسخ الأرواح كما تدعيه بعض الفرق القديمة، وإنما هو خروج الروح من الإنسان ومفارقتها للجسد، ويدخل في ذلك الإيمان بالبرزخ، وترد الروح إلى الإنسان في قبره، والجزاء والنعيم أو العذاب الموعود في القبر.
الجواب: التطوع هو: أن يفعل الإنسان أمراً ليس ملزماً به، أما الذي يؤدي الصلاة -مثلاً- فلا يسمى متطوعاً بهذا العمل إلا إن كانت نافلة، وإلا فهو يؤدي واجباً، ولو لم يصلّ لما كان مسلما أصلاً، وهكذا من يؤدي الزكاة، أو من يحج بيت الله الحرام ممن يجب عليه، لا يسمى متطوعاً بهذا، بل يعتبر قد أدى واجباً لا تبرأ ذمته إلا به، ومدلول السؤال هو أن هناك من الشباب من يسخرون بالمتدينين من الشباب.
وأحب أن أقول: إن التدين في الشباب وفي غير الشباب الآن أصبح ظاهرة تـفرض نفسها على القريب والبعيد، والعدو والصديق، وأقول: بكل سرور هذا الكلام يقال؛ لأن الإنسان يجد أينما ذهب، وأينما توجه، وأينما دخل، يجد الناس قد أقبلوا على هذا الدين بحمد الله، كباراً وصغاراً، وحتى من الناس الذين كان لهم تاريخ أسود من الجرائم، والمنكرات، والانحرافات، قد عادوا إلى الله عز وجل عودة صحيحة قوية، وأصبحت تجد في كل مكان أناساً يتمسكون بالدين، ليس على سبيل التقليد والمحاكاة للآباء والأجداد، وليس على سبيل أنهم مجرد سذج، لا. بل أناس يتجهون إلى الدين بوعي وإدراك، وتصميم ويقظة، وأصبحوا يفرضون احترامهم على الجميع والحمد لله، وهذه نعمة تدلنا على أن الله عز وجل قد أراد بهذه الأمة خيراً، وأراد بهذا الدين خيراً، وهي مصداق لما وعد الله عز وجل ولما وعد الرسول صلى الله عليه وسلم من رفعة شأن هذا الدين.
ولذلك أقول: لم يعد المجال مجال سخرية من المتدينين، إلا من بعض السفهاء، الذين وصفهم الله عز وجل بقوله:يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [البقرة:9] أو وصفهم بقوله: قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ [التوبة:64] أو وصفهم بقوله: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا [التوبة:65-66].
فالإنسان -وأرجو أن تنتبهوا لهذا الحكم جيداً حتى لا نقع في الخطأ- أو كل من يسخر من متدين؛ لأنه متدين، يكون كافراً بهذا العمل، لأن هذا من نواقض الإسلام، فلو وجدت إنساناً مصلياً في المسجد فضحكت منه وسخرت منه، ليس لأنه فيه عيب خلقي، وليس؛ لأنه فقير، وليس لأن ثوبه ممزق، ولكن لأنه مصلي، ففي هذه الحالة من يفعل ذلك يكفر ويخرج من الملة، ويجب عليه أن يتوب ويتشهد ويدخل في الإسلام من جديد، أما لو سخر بالمتدين لأمر آخر ليس للتدين، وإنما سخر منه لقضية أخرى، نفترض أن المتدين رسب في الامتحان فسخرت منه لرسوبه في الامتحان مثلاً، أو لأنه عنده -مثلاً- عيب في لسانه وحبسة وعدم قدرة، أو أي أمر آخر، ففي هذه الحالة: لا نقول إن الساخر يكفر، ولكن نقول إنه قد عرض نفسه لغضب الله عز وجل، بل عرض نفسه لحرب الله تعالى، قال الله عز وجل في الحديث القدسي الذي رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {قال الله تعالى-: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب} فربما يكون هذا الذي سخرت منه وعاديته ولياً من أولياء الله، لأن أولياء الله ليس عليهم علامات أو سمات إلا الخير والتقوى والصلاح والإيمان الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63] فيمكن أن يكون هذا سخرت منه وعاديته ولياً من أولياء الله، فعرضت نفسك لسخط الله وعقوبته.
الجواب: كما أن الإنسان لا ينبغي ولا يجوز له أن يعمل عملاً من أجل الناس، كذلك لا يجوز أبداً أن يترك عملاً من أجل الناس، وكلا الأمرين يدل على عظم شأن الناس في قلبك، وضعف شأن الله عز وجل، فمن أدرك عظمة الله احتقر الناس أن يعمل من أجلهم، أو يترك من أجلهم، بل يعمل ويترك من أجل رب الناس، والذي أنصح به هذا السائل هو ما نصحت به أخي قبل ذلك! ألا يلتفت إلى هذه الأشياء في قلبه، فهذه الأمور التي تجول في قلبك لا تلتفت إليها، بل اعمل ما ترى أنه خير، واترك ما ترى أنه شر، ولا تصغ إلى الوازع أو الدافع في قلبك الذي يقول: انظر إلى فلان، أو انظر إلى فلان، أو تخشى أن يقول الناس: إنك منافق، أو مرائي، أو تخشى من الرياء أو ما أشبه ذلك، بل وادفع ذلك ما استطعت.
الجواب: لا يجوز أبداً، لأن الجنة ليست ملكي أو ملكك حتى ندخل فيها من شئنا، ونحرمها من شئنا، وفي الصحيح أن عبداً وحاطب بن أبي بلتعة -رضي الله عنه وأرضاه- جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! -وكان حاطب قد شهد بدراً مع النبي صلى الله عليه وسلم، وربما يكون هذا العبد يرى أنه قد ظلمه في شيء- فقال هذا العبد للرسول صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! والله ليدخلن حاطبٌ النار -فحكم على حاطب أنه سيدخل النار- فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: {كذبت! والله لا يدخلها، إنه شهد بدراً } أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
فلا يجوز لأحد أن يحكم بالجنة لأحد أو بالنار على أحد، إلا من حكم له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة أو بالنار، فمثل من حكم لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة العشرة المبشرين بها، وحاطب بن أبي بلتعة، وعبد الله بن سلام اليهودي الذي أسلم، وخديجة رضي الله عنها وسواها، وكذلك لا نشهد لأحد بالنار إلا من شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالنار، كما في قصة الرجل الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: يا رسول الله! أين أبي؟ قال: أبوك في النار؛ فكأن هذا الرجل وجد في نفسه شيئاً، فلما ولىّ دعاه النبي صلى الله عليه وسلم، وقال له: {أبي وأبوك في النار} وهكذا الحال، أما غيرهم فلا نشهد لأحد بالجنة أو بالنار، أما من وقع في هذه الخطيئة، فعليه أن يتوب ويستغفر الله عز وجل، ويكثر من الأعمال الصالحة، لعل الله أن يتجاوز عنه، ولا يؤاخذه بجريرته، وإلا فلو آخذه بجريرته لهلك.
الجواب: المقصود بالعجب هو أن يرى الإنسان عمله، ويشعر بحجم عمله، ويحس بأنه قدم شيئاً، ويتعاظم هذا الشيء الذي فعل، فالجدير بالإنسان أصلاً هو أن يعمل كل ما يستطيع، ويستصغر ويحتقر هذا العمل الذي عمله، أما أن يعمل الإنسان ثم يتعاظم هذا العمل؛ فكأنه يمنُّ به على الله عز وجل، ويعجبني أن أسوق لكم بهذه المناسبة رواية وإن كانت من الروايات الإسرائيلية ولست أستحب سوق الروايات الإسرائيلية، لأننا نجد في القرآن والسنة ما يغنينا عنها، إنما أحياناً يكون فيها طرافة وفيها شَدٌّ للناس.
يروى في الروايات والحكايات الإسرائيلية ولاشك أن معناها صحيح قطعاً: أن رجلاً من بني إسرائيل كان يعبد الله عز وجل ستين سنة، ويسأل الله حاجة من الحاجات، فلم يجيب الله عز وجل دعوته خلال ستين سنة، وما لبىّ الله طلبه ولا أجاب إلى هذه الحاجة التي يدعو الله عز وجل أن يحققها له، فلما بلغ ستين سنة وصلى يوماً من الأيام نظر إلى نفسه نظرة المقت والازدراء، وقال وهو يخاطب نفسه: والله لو كان لك عند الله منـزلة لأجاب حاجتك، فهذا دليل على احتقاره نفسه فسمع منادياً يناديه: إن احتقارك لنفسك في هذه اللحظة أعظم عند الله من عبادتك ستين سنة.
وكلكم تعرفون ما في الصحيحين من قصة أبي سعيد وأبي هريرة في قصة الإسرائيلي الذي لم يعمل خيراً قط، فلما قرب الموت جمع بنيه، وقال: يا أولادي كيف كنت لكم؟ قالوا: كنت لنا خيراً. قال: فإني لم أعمل خيراً قط، فإذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني، ثم انظروا يوماً شديد الريح فذروني فيه، فوالله لإن قدر الله عليّ ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، فأمر الله عز وجل هذا المخلوق فاجتمع بين يديه، فقال: ما حملك على ذلك يا عبدي؟ قال: مخافتك يا رب، فغفر الله عز وجل له.
فأقول: الخوف الشديد في القلب، ومقت النفس، وازدراء العمل هي أعظم بضاعة يقدم بها الإنسان إلى الله عز وجل أما أن يعجب الإنسان ويرى أن ما يعمله عملاً طيباً، وكبيراً وكثيراً إلى جنب الله، فهذا كفيلٌ بإحباط هذا العمل وخسرانه له، أسأل الله لي ولكم السلامة.
الجواب: أريد أن أعلق تعليقاً بسيطاً. أولاً: يسمى الإنسان شيخاً، ثم يتطور الأمر فيصبح فضيلة الشيخ، ثم يزداد الأمر عظمة فيصبح سماحة، وأقول رويداً على الشيء هذا.
أما الجواب على السؤال فأقول: بين الرسول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح في البخاري وغيره، أن الشيطان إذا أقيمت الصلاة أدبر، فإذا انتهى التثويب أقبل، حتى يحول بين الإنسان وبين صلاته، يقول له: اذكر كذا اذكر كذا، لما لم يكن يذكر. فعلى الإنسان أن يستعيذ بالله أيضاً من الشيطان الرجيم، وعليه أن يحرص على التفكير في معنى ما يقرأ من القرآن أو الأذكار، وعليه أن يحرص على ألا تكون صلاته وقراءته أمراً مألوفاً، أكثر الناس الآن يصلي ولو سألته بعدما ينتهي من الصلاة ما هي السور التي قرأتها لم يدرِ، لأنه تعود آلياً أن يقرأ سوراً معلومة بعدما ينتهي من الفاتحة، وهو نفسه ينتهي منها دون أن يشعر بأنه قد بدأ فيها، فيعود الإنسان نفسه أن يختار سوراً، يختارها ويغيرّ يوماً بعد يوم.
يقرأ -مثلاً- آخر القرآن، من أول جزء عمّ، ومن أوسطه، ومن آخره، ومن جزء تبارك، ومن غيرها مما يحفظ من السور الأخرى، فيغير ويحاول أن يفكر في معنى الأدعية والأذكار التي يقرأها، ويحاول أن يبعد الشواغل المادية. فإذا كان أمامه في جهة القبلة أشياء، أو في جهة موضع سجوده تشغله وتشد تفكيره، فيحاول أن يتخلص منها، وأهم من هذا أن يحاول أن يـبعد الشواغل القلبية، فإذا كان القلب مشغولاً مشتتاً موزع الهموم هنا وهناك؛ فمن الطبيعي ألا يكون فيه موضع للذكر والتأمل، ويشبه بعض العلماء القلب المشغول بالإناء المملوء، فيقول: أرأيت لو أتيت بإناء وملأته بالتراب، ثم أردت أن تضع في هذا الإناء عسلاً -مثلاً- تجد العسل لو وضعته فوق التراب ينسكب يمنة ويسرة في جانب الإناء ويبقى التراب في مكانه.
فلا بد من التخلية وهي أن نحاول أن نخلي قلوبنا من الشواغل قدر الإمكان، ولا أطلب صورة مثالية، لكن جاهد نفسك قدر ما تستطيع، المهم ألا تستسلم، وفرغ قلبك من الشواغل، ثم حاول أن تفكر -كما قلت- وحينئذٍ ستجد للعبادة لذة، وستجد للصلاة حضوراً ومعنى في حياتك، ولذلك وصف الله عز وجل المصلين بصفات عظيمة في القرآن الكريم، كما في سورة (سأل) وغيرها.
والسؤال الثاني: إذا أفطر الصائم قبل الغروب وذلك عند سماع صوت يشبه الأذان، فما الحكم هل يلزمه إعادة صيامه؟
الجواب: أما السؤال الثاني بالنسبة لمن أفطر قبل الغروب، ظاناً أن الشمس قد غربت، فللعلماء في هذه المسألة قولان:
القول الأول: وهو مذهب الإمام أحمد، أنه عليه أن يقضي ذلك اليوم، ويستدلون بحديث أسماء قالت: {أفطرنا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم في يوم غيم، ثم طلعت الشمس قيل لـ
القول الثاني: وهو الذي يرجحه عدد من العلماء المحققين، أن من أفطر ظاناً غروب الشمس، ثم تبين أنها لم تغرب فلا قضاء عليه، ويستدلون بنفس الحديث يقولون لأن قوله: (لابد من قضاء) ليس من قول الصحابي ولو حصل أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالقضاء لنقل إلينا.
أما كيف يقضي الشباب وقت فراغهم؟ فلا شك أن هذا موضوع محاضرة في ذكر الوسائل والطرق التي يقضون فيها وقت الفراغ، لكن أوصي إخواني من الشباب باختيار الجلساء الصالحين، وأوصي إخواني من الشباب بقراءة الكتب النافعة، ولا بأس أن يختاروا الكتب القصصية والكتب التاريخية التي تحثهم على القراءة وتشجعهم عليها، ويبدءون بالأسهل فالأسهل، وأوصي إخواني بأن يشاركوا في النشاطات، كالمراكز الصيفية وغيرها من الأنشطة التي تصرف طاقاتهم إلى سبيل الخير، وتحفظها من التشتت أو من الانحراف والله أعلم.
الجواب: لا قضاء عليك؛ لأن الذي يظهر لي أن الدم الذي خرج من الأسنان، ليس فيه قضاء على أي حال، لأنه لم يُرتكب مفطر، ولم يدخل إلى جوفه شيء يوجب له الفطر والله أعلم بالصواب.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر