أحبتي الكرام.. هذا هو الدرس السادس والثلاثون من سلسلة الدروس العلمية العامة، وهذه هي ليلة الإثنين التاسع من شهر صفر لعام (1412هـ).
أين من يحمل هم الإسلام؟
وقد كُتب لي أن أَمرَّ ببعض المراكز؛ فكانوا يتحدثون أن الذي يُسْلِم في مركز واحد خلال أسبوع، أحياناً ما يزيد على ثلاثين ما بين رجل وامرأة، ممن اجتذبهم الإسلام إليه بنقائه وصفائه ونوره، فهو دين الله عز وجل في الأرض، السالم من كل تغيير أو تحريف أو تبديل.
ولاشك أن ذكر الله تعالى مشروع في كل حال، فـ(لا حول ولا قوه إلا بالله) هي من أعظم الأسلحة التي يستعصم بها المسلم في وجه اليأس والقنوط، فإنه حين يقول: (لا حول ولا قوه إلا بالله) لا يردد كلاماً فحسب، بل هو يتلو دعاءً من كنـز تحت العرش، يدله على أنه ينبغي أن يعتصم بالله عز وجل، ويستمد القوة من الله تعالى في مواجهة الواقع وتغييره إلى الأحسن، كما أنه ينبغي أن يدرك أن التحول من واقع سيء كالمعصية والفجور والإثم، إلى واقع حسن بالطاعة والبر والإيمان، لا يكون إلا بعون الله تعالى ونصره وتأييده.
فهذه طائفة من المسلمين تعيش اليأس والقنوط.
وهؤلاء قد يكون الواحد منهم مُصلياً، وقد يكون صَائماً، وقد يسمى بالحاج فلان كما نرى في كثير من البلدان، وربما كان الدين عند أحدهم لا يعدو أن يكون حرزاً يعلقه على رقبته، أو يضعه في وسادته، أو حضور مأتمٍ، أو حضور مولدٍ، كما هو موجود في كثير من البلاد، ويعتقد أن الدين يتوقف ويقتصر عند هذا الحد، ولا شك أن هؤلاء يشكلون الأغلبية الساحقة من المسلمين، ممن هم مسلمون بالانتساب والانتماء، وربما كان أحدهم مصلياً، لكن لا تعتمل في قلوبهم هموم الإسلام، ولا تتحرق نفوسهم لقضايا المسلمين، بل أحدهم يكتفي بأقل قدر يضمن له اسم الإسلام، وربما قصّر في أقل هذا القدر أيضاً، فربما لم يصل الصلوات الخمس، أو لم يصلها في المسجد، ولو كان يقول إنه محب لله عز وجل.
حدثني أحد الإخوة الأحباب، وقد اتصل بي فكان من ضمن حديثه أن قال: إن علاقتي بالله عز وجل علاقة قوية جداً، فقلتُ له: الحمد لله رب العالمين وهذه بشارة، وخلال حديثه قال: إنه قد يصلي بعض الصلوات، وقد تفوته فروض أخرى، فقلت: تفوتك في المسجد أو تفوتك بالكلية؟ قال: لا قد أُفوِّتُ الوقت بالكلية فلا أصلي، فقلت: كيف تكون علاقتك بالله تعالى جيدة، ويفوتك وقت أو أوقات!!
يا أخي.. خُذ مقاييس البشر الدنيوية، فعندما يكون هناك علاقة حب بين إنسان وإنسان آخر، فيطلب هذا المحبوب من حبيبه أن يكون في وقتٍ معين في مكان معين، فإنه يتحمل في سبيل طاعة محبوبه آلام الحر والبرد، وبعد المسافات والهجير، وغير ذلك، فكيف بمن يحب الله تعالى كيف لا يتحمل في سبيله؟! أليس الله تعالى يقول: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:31]؟
فهذه هي آية المحنة التي يمتحن الله تعالى ويبتلى بها من يدَّعون محبته؛ ليتحقق لهم هذا الحب من خلال الأعمال التي يقومون بها لتصديق هذا الحب.
ومما يذكر في الأقاصيص: أن رجلاً من أهل مصر في زمن غابر كان يجلس في المجالس، ويقف في المساجد، ويعلن ليل نهار، أنه يفنى في حب ملك مصر، يموت في حبه ويهلك في سبيله، وكانت هذه الدعوة قد ملأت فمه، فهو يرددها صباح ومساء، فترامى خبر هذا الإنسان إلى ملك مصر فدعاه، وقال له: أنت الذي تدعي أنك تحبني؟ قال له: نعم، قال: هل حبك حقيقة أم ادعاء؟ قال لا، هذا الحب حقيقة، قال: إذاً أنا سأخيرك بين أمرين إن كنت تحبني، إما أن تُغادر هذا البلد الذي أسكن فيه وهو مصر، وإما أن أقتلك، فاختر أحدهما؟ فقال: لا، بل أغادر هذا البلد.
قال: فاخرج من عندي فلما خرج أمر السلطان الحارس أن يقتله بسيفه، وهنا قام الحارس وثار، وقال: لماذا أقتل رجلاً في غير جرم؟ فقال: لا، بل أجرم في حقي، لأنه يدعي حبي وهو كاذب؟ قال كيف عرفت أنه كاذب؟ قال: إنه لو كان محباً صادقاً لي، لرضي أن يُقتل على أن يفارقني، ويغادر بلدي، ولاستحلى واستلذ الصعب من أجلي، ولو وافق على أن أقتله لنـزلت عن عرشي ووضعته مكاني، وسلمت له مقاليد الأمور!!
فهكذا مقاييس البشر، فما بالك بمن يدَّعي محبة الله تعالى، فلابد أن يحقق هذا الحب بالعمل الصالح الذي يقوم به.
إذاً هذه طائفة أخرى من المسلمين، ممن يلتزمون بقدر من الدين ويفرحون بالانتساب إليه، وقد يؤذيهم أن ينال أحدٌ دينهم بسوء؛ لكنهم لا يقدمون لدينهم عملاً يذكر.
رُسل الفسادِ وما حلوا وما رحلوا إلا وكانوا به أعدى من الجربِ |
ألفاظهم عرب والفعل مختلف وكم حوى اللفظ من زورٍ ومن كذبِ |
إن العروبة ثوبٌ يخدعون به وهُم يرومون طعن الدين والعربِ |
واحسرتاه لقومي غرهم غرم سعى إليهم بِجلدِ المنقذ الحَدِبِ |
حتى إذا أمكنته فُرصةٌ برزت حُمرُ المخالبِ بين الشكِ والعجبِ |
والمدعون هوى الإسلامِ سيفهمُ مع الأعادي على أبنائه النُجُبِ |
يُخادِعون به أو يتقون به وما له منهم رِفد سِوى الخُطَبِ |
فهؤلاء رُبما تكلم الواحد منهم باسم الإسلام، وربما وضع اسم الله في ضمن كلامه، وربما تكلم عن الدين، ولكن حقيقته أنه يبث سموم الغرب في بلاد المسلمين، ويحمل أفكاراً غريبة عن هذه البلاد، فهؤلاء لا شك أنهم منسلخون عن هذه الأمة وعن روحها وجسمها وتاريخها، ولكنهم لا يستطيعون أن يجاهروا بمذهبهم هذا، ولا بموقفهم، بل يتمسحون بالإسلام تقيةً أو مداراةً أو مداهنة، وربما يجدون من يصدقهم في ذلك.
قُلوبهم طهرٌ يفيضُ على الورى وأيديهم تأسو جِراحَ الخوافقِ |
هُم السلسل الصافى على كل مؤمنٍ وفى حومة الهيجاءِ نار الصواعقِ |
هُم الحلمُ الريان في وقدة الظما وليس على الآفاقِ طيفُُ لبارقِ |
هُم الأملُ المرجو إن خاب مأمل وأوهنَ بعد الشوط صبر السوابقِ |
كأني أراهم والدُنا ليست الدنا صلاحاً ونور الله ملء المشارقِ |
أقاموا عمود الدين من بعد صدعه وأعلوا لواء الحقِ فوق الخلائقِ< |
وقد كانوا إذا عُدوا قليلاً فقد صاروا أقلَّ من القليل |
هذا الخمود في أحاسيس المسلمين، يتجلى في مظاهر كثيرة، لو تأملها واحد منكم لوجدها فيمن حوله لا تكاد تخطئها عين، فمثلاً:
هل تخرج من عينه ولو دمعه صادقة؟ هل برق في قلبه ولو ألم ممض لهذا الواقع؟ كثير من المسلمين حتى من صالحيهم، يسمعون مثل هذه الأخبار، وقد ألفوها واعتادوا سماعها، فصار الواحد منهم كأنما يسمع خبراً عن عالم آخر، أو عن أمة أخرى، أو كأنما يتحدث معه المتحدث عن قضية حدثت في القرن السادس أو السابع.
هذا نموذج من نماذج برودة الإحساس وجفاف المشاعر عند كثير من المسلمين، بل إنني رأيت بعض هؤلاء، ربما يشهد هذا المشهد فلا يكتفي بأن يواجهه بقلبٍ بارد، بل ربما أطلق نكتة عابرة تجعل هذا الموضع أو هذا المشهد بدلاً من كونه مشهداً للبكاء، تنطلق الضحكات من أفواه المشاهدين على نكتة أطلقها على هؤلاء الصرعى المجندلين، على هذه الأكوام من القتلى، على هذه الأشلاء المتطايرة.
وهذا الواقع المُر ليس جديداً، بل في كل عصور الانهيار والإحباط التي عاشتها الأمة المسلمة كان يحصل مثل هذا، فيوم أن كانت البلاد الإسلامية في القرن الثامن والتاسع تعيش أصعب أيامها، وخاصة في أيام سقوط الأندلس، شكا أبو البقاء الرندي وهو يرثي بلاد الأندلس التي أخذت من عالم الإسلام وضمت إلى عالم النصارى، شكا واقعاً مشابهاً لهذا الواقع، وكان يتعجب من عدم تجاوب المسلمين مع هذه المصيبة!! فكان يقول:
يا راكبين عناق الخيلِ ضامرةً كأنها في مجال السبقِ عُقبانُ |
وحامِلينَ سيوف الهندِ مُشرعةً كأنها في ظلامِ النقعِ نِيرانُ |
وراتعين وراء البحر في دعةٍ لهم بأوطانهم عِزٌ وسُلطانُ |
هل عِندكم خَبرٌ من أهل أندلسٍ فقد جرى بحديث القومِ رُكبانُ |
كم يستغيثُ بِنا المستضعفون وهم صرعى وقتلى فما يهتزُ إنسانُ |
ما ذا التقاطعُ في الإسلامُ بينكمُ وأنتمُ يا عباد الله إخوانُ |
ألا نفوسٌ أبيَّاتٌ لها هِممُ أما على الخيرِ أنصارٌ وأعوانُ |
لمثل هذا يذوب القلبُ من كمدٍ إن كان في القلبِ إسلامٌ وإيمانُ |
وكذلك لما جاء الصليبيون إلى بلاد المسلمين، واحتلوا المسجد الأقصى، واحتلوا بلاد الشام، وفعلوا الأفاعيل بالمسلمين والمسلمات، كان أحد شعراء المسلمين يعبر عن هذا الواقع السيء، ويتكلم عن المساجد التي جعلوها أديرة، وعن المحاريب التي جعلوا فيها الصلبان، ويقول:
أمـا لله والإسـلام حـقٌ يُدافعُ عنه شُبانُُ وشِيِبُ |
فقُل لِذوي الكرامةِ حيثُ كانوا أجيبوا الله ويحكمُ أجيبوا< |
إذاً صارت القضية قضية مصالحنا الشخصية، وهمومنا الذاتية، فالواحد لا تتعدى همومه ومطامحه أن يكون له بيتٌ يسكنه، أو زوجة يأوي إليها، أو أن يسدد ديناً عليه، أو ما أشبه ذلك من القضايا الذاتية الخاصة التي لا تتعلق بمصالح المسلمين الكبرى.
يتكلم عن الجانب الذي نستطيع أن نقول: إنه جانب مشرق، وقد يبالغ في الكلام عن هذا الجانب ليقول لنا: ناموا ملء جفونكم وارتاحوا، فالإسلام بخير، ولا داعي للقلق الذي تشعرون به، لماذا يحدث هذا؟ من أجل أنه لا داعي أن نهتم أو نكترث، فالأمور بخير، إذاً ناموا ولا تستيقظوا.
وعلى النقيض من ذلك: تجد هذا الإنسان نفسه أحياناً عندما تأتي لتحدثه عن أوضاع المسلمين، والصعوبات التي يواجهونها، وقضايا الفقر والجوع والمرض، وقضايا التخلف، وقضايا سيطرة أعدائهم، وغير ذلك من المشاكل، يأتي ليقول لك: يا أخي، هذه أمور أكبر من إمكانياتنا، وأكبر من طاقاتنا، وأكبر من حجمنا، فلا داعي للتفكير فيها، هذه لا يمكن أن أقوم بها أنا أو أنت، هذه تحتاج أحد ثلاثة أمور: إما المسيح عيسى بن مريم ينـزل من السماء، وإما المهدي الموعود الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، أو المجدد الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يبعث على رأس كل مائه سنة، فيجدد لهذه الأمة أمر دينهم، أما أنا وأنت فأين نقع مما يريد المسلمون؟ لا حول لنا ولا قوة ولا طول.
وهكذا يبدأ يضرب على الوتر الآخر، أن مصائب المسلمين أكبر من أن نستطيع حلها.
إذاً هو يهرب من هذا الواقع، إما أن يهون الواقع، بحيث لا يحتاج إلى أن نصلحه، أو يضخمه بحيث لا نستطيع أن نصلحه، ومقصوده من هذا وذاك، أن يهرب بشتى الحيل من هذا الواقع.
لأنه إذا صدق الأخطاء المنسوبة إليهم، أصبح معذوراً إذا لم ينصرهم، ولم يدافع عنهم، لأن لسان حاله يقول: يستحقون، ما دام أنهم فعلوا كذا، فيميل إلى تصديق ما يقال عنهم حتى يخرج بعذر عن أن يقوم بنصرتهم، ونسي أن من خذل أخاه المسلم خذله الله تعالى في موقفٍ يحتاج فيه إلى نصرته.
هذا مكيال مع إخواننا المسلمين، لكن هذا المكيال نفسه لا يكون مستمراً مع أعدائنا، فإذا سمع الواحد منا -مثلاً- خبراً عن فسادٍ قام به الأعداء، عن منكرٍ فعلوه، عن جريمة ارتكبوها، فإنه لا يسارع إلى التصديق كما سارع في المرة الأولى، وإنما يلجأ إلى الكذب والاحتمالات، ويقول: يتثبت من هذا الأمر، ويُتأكد منه، ويُنظر في صحته، لأنه يحتمل أن يكون مزوراً، ويحتمل أن يكون ملفقاً ويحتمل.. ويحتمل.. لماذا؟ لأن هذا العمل -أيضاً- الذي هو التشكيك فيما عمله الأعداء، يعفيه من المقاومة، ما دام أنه في شك مما حصل من العدو؛ إذاً لا داعي لأن تقاوم كيد العدو، أنت -مثلاً- لم تتأكد من حصول المنكر، فلست مطالباً بتغييره، لأنه يحتمل أنه لم يحصل، ويمكن أن الذي أخبرك غير صادق، ويمكن.. ويمكن.. فيلجأ الإنسان إلى التشكيك في الخبر، لأن هذا التشكيك يجعله معذوراً إذا لم ينكر، ولم يقاوم، ولماذا لم تقاوم؟ لأن الخبر غير أكيد، نحن نحتاج إلى أن نتثبت منه، أجل، لماذا لم يكن هذا التثبت حين سمعت عن إخوانك المسلمين ما سمعت، حين سمعت عن طلبة العلم ما سمعت.. حين سمعت عن الدعاة ما سمعت.. لماذا لم تتثبت هنا وهناك؟!!
وإذا كنت سوف تصدق الأقاويل والشائعات، فلماذا لا تصدقها هنا وهناك أيضاً؟ لماذا تكيل بمكيالين؟ مكيال مع إخوانك المسلمين يميل إلى تصديق كل ما ينسب إليهم، ومكيال مع الأعداء يميل إلى تكذيب ما يفعلون من أعمال ومنكرات وجرائم، حتى تكون معذوراً في الحالين.
على بعضهم بعضاً أسوداً أشدةً وحولكِ أقصاهم نعامةُ فدفد |
فأما على إخوانه المسلمين فهو شجاع، يمتطي صهوات المنابر أو الكتب أو المجالس ولا يبالي، أما على الكفار فهو أذل من الأَمَةِ.
حضر رجل عند عبد الله بن المبارك فتكلم في أحد إخوانه المسلمين، فقال له عبد الله بن المبارك: هل غزوت الفرس؟ قال: لا، قال: هل غزوت الروم؟ قال: لا، قال: هل غزوت الهند والسند؟ قال: لا، قال: أفسلمت منك فارس والروم والهند والسند، وما سلم منك أخوك المسلم!
هذه مصيبة، أننا إذا عجزنا عن مواجهة الواقع المرير، فإننا قد نشتغل بأخطاء المسلمين، ونجسمها ونضخمها، أو نفتعل أخطاءً غير واقعة لندندن حولها.
والحصيلة من خلال هذه المظاهر كلها، أننا نستطيع أن نقول: إن المسلم اليوم أمام قوم يعيشون لذواتهم أكثر مما يعيشون لدينهم، بل إن كثيراً منهم يعيش لذاته فحسب، ولا يتحرك للإسلام، ولا يعيش هَمَّ الإسلام في قلبه، إذاً هم الإسلام في قلوب المسلمين ضعيف، هذه فائدة أو خلاصة نستطيع أن نخرج بها من خلال تلك الأمثلة والنماذج.
بل نحن نقول -كما قلنا سابقاً ومراراً-: إن المطلوب من كل إنسان أن يقدم للإسلام ما يستطيع، وإن كان شيئاً يسيراً، وإن كان قضيباً من أراك، تُقدم ما تستطيع، ولكن مع ذلك نحن على يقين كالشمس، أن هذا الواقع الذي تعيشه الأمة منذُ سنين طويلة، لا يمكن أن يتغير، إلا من خلال فئة على الأقل يكون هَمُّ الإسلام هو الهم الذي يقعدها ويقيمها، هو الهم الذي يقلقها ويملأ عليها حياتها، ويسد عليها منافذها، فبه تحيا وتموت، وعليه تنام وتستيقظ، ومن أجله تحزن وتفرح، وترضى وتسخط، وتُسر وتبتئس.
فهو همها الأول والأكبر والأخير، وهذا لا يعني أنهم نسوا هموم الدنيا، فهم بشرٌ كالبشر، حتى رسل الله وأنبياؤه عليهم السلام، يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، ويستمتعون بما أحل الله تعالى لهم من الأكل والشرب والنكاح، وغيره من أطايب الحياة الدنيا، ولكن لم يشغلهم هذا عن الهم الأكبر، الذي هو هم الإسلام والمسلمين.
هذه الفئة لابد منها، وما لم توجد فمعناه أن المسلمين يدورون في حلقة مفرغة، ولا يمكن أن يخرجوا من هذه القوقعة التي يعيشون فيها.
لأن الإنسان الذي يمكن أن يُنفذ هذه الخطط، والمشاريع، ويقوم بهذه الأعمال، ويحقق هذه الإنجازات، هذا الإنسان غائب، وبالتالي إذا كان غائباً بقي الكلام حبراً على ورق، لأن الذي يمكن أن يُعلق جرساً كما يقال وهو الإنسان مفقود، فتبوء هذه المشاريع بالفشل.
إذاً نحن نحتاج إلى الإنسان الذي يحمل هَمَّ الإسلام، وهذا الذي يحمل هم الإسلام -أيها الأحبة- له مواصفات أو له شروط، سأتحدث عن شيءٍ أو جانبٍ يسير منها:
على سبيل المثال محمد صلى الله عليه وسلم، اقرأ الأحاديث التي فيها عبرة؛ الحزن والرضا، والسرور والفرح، فيما يتعلق بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم مثلاً: خرج صلى الله عليه وسلم فزعاً مذعوراً، رأيته صلى الله عليه وسلم مسروراً، رأيت البِشر في وجهه، رؤي في وجهه الغضب، خرج صلى الله عليه وسلم تبرق أسارير وجهه، فتغيظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذه هي الكلمات المعبرة عن مشاعر من غيظ أو غضب أو سرور أو حزن أو ما أشبه ذلك.
ثم انظر إلى هذه الأشياء؛ فيم كان غضبه ورضاه صلى الله عليه وسلم؟ وفيم كان حزنه وسروره؟ وفيم كان هذا الشعور؟ لا تكاد تجد ذلك إلا في قضية مرتبطة بقضية الإسلام الكبرى، وبقضية الدعوة التي ملكت على الرسول صلى الله عليه وسلم كل مشاعره وأحاسيسه.
لماذا فرح الرسول صلى الله عليه وسلم وسر؟ لأن أسامة بن زيد كان أسود، وأبوه زيد بن حارثة لم يكن كذلك، فكان بعض المغرضين والمنافقين وضعفاء الإيمان، يتكلمون في أسامة بن زيد وفي نسبه من أبيه، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يؤسفه ذلك ويزعجه، خاصة مع علاقتهم ببيت النبوة، فلما جاء مجزز المدلجي، وكان قائفاً يعرف الأشكال والصفات والهيئات، وكانوا قد غطوا بقطيفة، وهو لا يرى وجوههم، لكن رأى أقدامهم خارجة فقال: بعض هذه الأقدام من بعض، فَسُرَّ لذلك النبي صلى الله عليه وسلم.
وذكر البخاري حديثاً آخر، وهو حديث كعب بن مالك في تخلفه عن غزوة تبوك، وكيف أنه كان يقول: [[لما سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبرق وجهه من السرور، وكان إذا سُرَّ صلى الله عليه وسلم تهلل وجهه حتى كأنه فلقة قمر، أو قطعة قمر، وفي رواية: دارة قمر]].
هذا وجه النبي صلى الله عليه وسلم للإنجاز الذي حققه المسلمون، ولرؤيته لبعض أصحابه رضي الله تعالى عنهم.
ثم بعد هذه الأحاديث ذكر حديثاً آخر، وهو حديث أبي هريرة: {أن النبي صلى الله عليه وسلم ما عاب طعاماً قط، إن اشتهاه أكله وإلا تركه}.
الآن أنا وأنت سرورنا لماذا؟ يمكن أن سرورنا للطعام أكثر من سرورنا لقضية الإسلام، فالواحد منا إذا قدم له طعامُُ جيد، جيد الطهي، والطبخ، سر لذلك وانتبسطت نفسه، لأن اهتماماتنا دون، وقضية الإسلام قد لا تعنينا بنفس القدر، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام كان على النقيض من ذلك، فهو عليه الصلاة والسلام ما عاب طعاماً قط، قضية الطعام عنده ليست مشكلة، كيف طهي الطعام، ما نوع الطعام، لا يعيبه إذا أعجبه أكله، وإذا لم يعجبه تركه، والمقصود بلا شك الطعام المباح، أما لو كان طعاماً محرماً فإنه ينهى عنه صلى الله عليه وسلم ويعيبه، إنما المقصود الأطعمة المباحة، فانظر كيف كان حال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
ألقيت بين يديك السيف والقلما لولا الإله لكنُتِ البيتَ والحرما |
أنتِ الهنا والمنُى أنت العنا وأنا على ثراك وليدٌ قد نما وسما |
أماه.. أماه هذا اللحن يسحرُني وينثِرُ العِطرَ في جنبيَّ مُبتسما |
ما زال طيفك في دنياي يتبعُني أنى سريتُ وقلبي يَجحدُ النِعمَا |
حتى وقعتُ أسيرَ البغى فانصرفت عني القلوبُ سِوى قلبٍ يسيلُ دما |
أصحو عليه وأغفو وهو يلثمني قلبٌ ضعيفٌ ويغزو الصحو والحلمَا |
ويدخلُ السِجنَ مُنسلاً فيدهُشُني إذ يستبيحُ مِنْ الطغُيانِ شرَ حِمى |
فإن رآني في خيرٍ بكى فرحاً وإن رآني في سوءٍ بكى أَلَمَاً |
يقول: قلب أمي دائماً يلاحقني في كل مكان أصحو وأنام على قلب أمي.
انظر كيف توحدت مشاعر الأم مع مشاعر ولدها! حتى أصبح شعوراً واحداً وقلباً واحداً، إن رأته مسروراً بكت فرحاً، وإن رأته محزوناً بكت ألماً، إلى هذا الحد!
وهذا أضعف الإيمان يا أخي.. هذا الذي قال فيه الرسول عليه الصلاة والسلام: {فإن لم يستطع فبقلبه} على أقل تقدير نريد منك يا أخي دموعاً من أجل الإسلام والمسلمين، ومن أجل مصائب الإسلام والمسلمين في كل مكان، الدموع قضاء العاجزين، لكن هذا أقل ما نريد منك! هذا أقل ما تستطيع، ونحن على ثقة أن هذه الدموع إذا كانت دموعاً صادقة، ليست دموع التماسيح والممثلين، فنحن على ثقة أن هذه الدموع سوف تصنع شيئاً ولو بعد حين.
إذاً لابد أن تكون المشاعر مرتبطة بالإسلام، وما يتعلق بالإسلام، حتى في الحال التي لا تستطيع أن تعمل فيها شيئاً لهذا الدين، فإنك يجب أن تكون ذا قلبٍ يحزن، كما قال القائل:
يا راحلين إلى البيت العتيقِ لقد سِرتم جُسوماً وسِرنا نحن أرواحا |
إنَّا أقمنا على عـذرٍ نُكابـدهُ ومن أقام على عُذرٍ كمنْ رَاحَا |
يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري عن أنس، ومسلم عن جابر: {إن بـالمدينة أقواماً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم} وفي رواية: {إلا شركوكم في الأجر حبسهم العذر}.
إذاً هم بمشاعرهم، بعواطفهم، بقلوبهم معكم، تقطعون الأودية والفيافي والقفار وهم معكم، تنـزلون في الصحراء، في الهجير وهم معكم: {ما سرتم مسيراً، ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم، وشركوكم في الأجر، حبسهم العذر}.
وليس المقصود النهي عن ذات الحزن، فالحزن أمر فطري، ولكن المقصود النهي عن الحزن الذي يقعد الإنسان عن العمل أو يضر به، وإلا فنحن نعلم جميعاً قصة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، التي رواها البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عائشة قالت: {يا رسول الله! هل أتى عليك يوم هو أشد من يوم أحد؟ قال: لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل ابن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت} وهذا في الطائف، سخروا منه عليه السلام واستهزءوا به، قال أحدهم: أليس في الدنيا رجل أحسن منك يرسله الله سبحانه وتعالى؟ وقال آخر: أنا أمزق ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك ورد عليه الثالث رداً خبيثاً.
فحزن لذلك الرسول صلى الله عليه وسلم وقام من عندهم قال: {فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بـقرن الثعالب} انظروا إلى المسافة بين الطائف وقرن الثعالب، مسافة كيلو مترات قطعها النبي صلى الله عليه وسلم وهو مهمومٌ غير مستفيق، لم يدر بمسيره ذاك ولا باتجاهه إلا وهو بـقرن الثعالب، مع أنه صاحب القلب الكبير، وصاحب القوة، وصاحب الجلد، وصاحب الصبر المؤيد بالوحي من السماء صلى الله عليه وسلم، لكن مشاعره تكيفت مع هذا الدين، فرحاً وغضباً ورضاً وسروراً وغير ذلك، فالمنهي عنه أن يكون هناك حزن يمنع الإنسان من الدعوة، أو يقعده عنها، أو يستبد به، أما كون الإنسان يحزن إذا رُدَّت دعوته، فهذا أمرٌ فطري لا يملك الإنسان دفعه، ولا يكلف الإنسان أن يدفعه عن نفسه شرعاً.
نحن نحتاج إلى الأرق، والقلق، ونحتاج إلى التأوهات والتوتر، والتنهدات والأحزان، وهذه وإن كانت أشياء سلبية إلا أنها هي البداية الضرورية التي لابد منها، نحتاج إلى أن يترفع المسلم عن أن يكون همه محصوراً في فوز الفريق الرياضي، أو فشل فريق آخر، أو اعتزال فنانٍ أو لاعب، أو ارتفاع سعر الشعير أو انخفاضه مثلاً، بل ينبغي أن ترتقي هموم المسلم عن أن تكون مثل هذه الهموم الصغيرة التي إنما يشتغل بها من لا هم له.
نحتاج إلى هذه النظرية في هذا الحال، معلوم أن هذه النظرية ليست صحيحة من كل جوانبها، لكن المسلمين اليوم يواجهون تحديات كبيرة، تحديات من داخلهم وهي كثيرة، بل هي أصعب من التحديات التي يواجهونها من خارجهم، لأنه لو تنقى الصف الداخلي، لم يضرنا كيد عدونا شيئاً، لكن مشكلة المسلمين الأساسية في داخلهم، وكما يقول المثل: "سوس الخل منه وفيه".
فمشكلات المسلمين بالدرجة الأولى من داخلهم، ومع ذلك فهم يواجهون مشكلات صعبة جداً من خارجهم، ولمواجهة هذه التحديات الداخلية والخارجية، نحتاج إلى مسلم يشعر بهذا التحدي، ويعمل على مواجهته.
ماذا أعني بالأقليات؟ قد تجد -مثلاً- أقلية يهودية في بلد معين، عددهم قليل، فتجد هؤلاء اليهود يشعرون بأن المجتمع كله ضدهم، فيبدءون يخططون في تربية أولادهم، في تعليمهم، في إيصالهم إلى أرقى المستويات، وفي دعمهم، فيعملون على الوصول إلى الاقتصاد، ويعملون على الوصول إلى الأماكن المهمة، حتى تكون هذه الأقلية ذات نفوذ كبير، وقل مثل ذلك بالنسبة للأقليات المنحرفة، فقد تكون أقلية -مثلاً- شيعية في بلد سني، قد تكون أقلية نصرانية في بلد مسلم، تجد هؤلاء أو أي أقلية -بغض النظر عن نوعية هذه الأقلية- حتى لو كانت أقلية عرقية من جنس معين، أو لون معين، أو أسرة معينة، أو قبيلة معينة، تجد أن هناك شعوراً بالتحدي يدفعها إلى أن تكافح وتناضل، وتعمل على الوصول إلى مواقع مهمة، حتى تثبت وجودها، وتمنع نفسها من أن تظلم أو تهضم أو ينقص قدرها.. لماذا؟ لأنها تشعر بالتحدي.
وقد قرأت مقالات يشيب لها الرأس، هناك أناس يحملون -مع الأسف- أسماء عربية وإسلامية يقولون: انتهى هذا الكلام، لم يعد يصلح تقسيم العالم إلى مسلمين وكفار، ولا إلى أعداء للإسلام وأولياء للإسلام، القضية الآن قضية شرق وغرب، شرقٍ متخلف وغرب متحضر، والعلاقة بينهما علاقة مصالح متبادلة" حتى إن بعض الصحف المصرية كتبت مقالاً عنوانه: أسطورة اسمها: "أعداء الإسلام" إذاً أنتم ضائعون، ليس هناك أعداء للإسلام، ولا داعي أن تشعروا بالتحدي، أو أن هناك عدواً يتربص بكم، أو أن هناك أمماً تعد العدة لكم، لا داعي لذلك، وبالتالي لا داعي لأن تقاوموا أعداء الإسلام ولا أن تحاربوهم، ولا أن تقفوا في وجوههم، فلا داعي لشيء من هذا.
فالذي يهم الأعداء هو أن لا يشعر المسلمون بأن هناك تحدياً يواجههم ويتطلب منهم الرد، والمقاومة والاستجابة لهذا التحدي، ولا شك أن شعور المسلم بذلك وإحساسه هو النار التي يمكن أن تنضجه، فالمسلم حتى الصادق الآن هو مثل الحطب، إذا لم تشتعل فيه النيران فلن تحصل منه على الدفء، ولن تحصل منه على الحرارة، ولن تحصل منه على الإنضاج، ولن تحصل منه على الإضاءة، فلابد أن توقد هذه النيران؛ حتى تجد المسلم الفعال الذي يشعر بالهم تجاه قضية هذا الدين، وبالتالي هذا هو الذي يمكن أن يرشد آراء الإنسان، ويصحح تصوراته، يجعله صاحب مبدأ، العرب تقول: ويل للخلي من الشجي.
كثيراً ما تخوض نقاشاً مع إنسان لا يحمل هماً ولا فكرة، وكل ما في الأمر عنده قضية بعيدة كل البعد، ولذلك هو لا يفكر كيف يحقق نصراً للإسلام، وكيف يحقق مكسباً لهذا الدين، كيف يحبط مؤامرات هذا العدو، كيف ينتصر على عدوه، بل ينظر إلى قضايا قريبة جداً وبالتالي يفكر على ضوئها، فهو في وادٍ وأنت في وادٍ آخر.
وإنما الأممُ الأفكارُ ما بقيت فإن هُم صلحت أفكارُهم صَلحوا |
ونحن مع إيماننا العميق بأن الفكر ضروري جداً لبناء أمة صحيحة السلوك، وصحيحة العمل، وهذا لا شك فيه، إلاَّ أنني أعتقد أن مشاعر الإنسان وأحاسيسه الداخلية، هي ذات دورٍ كبير في صياغة فكر الإنسان وصناعة تفكيره، ولذلك يُبدى الشاعر المسلم المعروف محمد إقبال حزنه وانـزعاجه من الجمود الذي أصاب التفكير، وأصاب الشعور لدى المسلمين، في قصيدته المعروفة فيقول:
أرى التفكير أدركه خمول ولم تَعدُ العزائم في اشتعالِ |
وأصبح وعظكم من غير سحر ولا نورٍ يُطل من المقالِ |
وعند الناس فلسفةُُ وفكرٌ ولكن أين تلقين الغزالِي |
وجلجلة الآذان بكل صوتٍ ولكن أين صوتٌ من بلالِ |
منائركم علت في كل حيٍ ومسجدكم من العُبَّادِ خالِي |
إذاً: الصورة موجودة لكن الحقيقة غائبة، المنائر موجودة والعباد غائبون، جلجلة الآذان موجود لكن صوت بلال وترنيمته وصدقه وإخلاصه وروحانيته غائبة، الفكر موجود؛ لكن حقيقة هذا الفكر وروحه وسره غائبة.
إذاً هذه هي النقطة الأولى، وإن شئت فسمها الشرط الأول فيمن يحمل هم الإسلام، وهو أنه لابد أن تتكيف مشاعره وعواطفه وأحاسيسه: فرحه ورضاه وحزنه وسروره وغضبه مع قضية الإسلام الكبرى، فهي التي تعيش معه، تنام معه إن نام وتستيقظ إن استيقظ، بل أقول: تستيقظ معه حتى وهو في منامه، فتجد أحلامه ومرائيه في منامه تدور حولها.
يُذكرُني طلوع الشمسِ صخراً وأذكره لكل غروب شمسِ |
فلولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلتُ نفسي |
هذه امرأة في الجاهلية وقد زينها الله تعالى في الإسلام، فأقلعت عن مثل هذا، لكنها كانت تتذكر أخاها مع طلوع الشمس ومع غروبها، ومثله أيضاً حارثة أبو زيد، لما غاب عنه زيد وفقده في صغره، كان يتغنى ويبحث عنه ويقول:
بكيت على زيدٍ ولم أدر ما فعل أحيٌ فيرجى أم أتى دونه الأجل |
فوالله ما أدري وإني لسائل أغالك سهلُ الأرض أم غالك الجبلْ |
تُذكرُنيه الشمس عند طلوعِها وتَعرض ذكراه إذا غربها أفلْ |
وإن هبت الأرياح هَيَّجنَ ذِكرهُ فيا طول ما حُزني عليه وما وجلْ |
سأعملُ نصَّ العيش في الأرض جاهداً ولا أسأم التطوافُ أو تسأم الإبلْ |
حياتي أو تأتى عليَّ منيتي فكل امرئٍ فانٍ وإن غره الأملْ |
فيظل يتذكر ولده الذي فقده من سنين مع الشمس، في طلوعها وغروبها، مع الرياح، ومع الذهاب والإياب! كلما نـزل في منـزل تذكر زيداً، هذه مشاعر البشر مع البشر، فما بالك بمشاعر الإنسان مع قضية كبرى هي قضية الدين، لابد أن تكون أرقى وأسمى وأعظم وأعمق من ذلك، ولذلك انظر في هذه النماذج.
حدثتاه عن كنيسة رأينها بأرض الحبشة، يقال لها: ماريه، وما في هذه الكنيسة من التصاوير.
إذاً الذي لفت نظر أمهات المؤمنين معبد للنصارى توضع فيه التصاوير، كيف يصورون مريم، ويصورون عيسى، ويعلقونها في معبدهم؟ هذا أمر غريب!! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {أولئك قوم إذا مات فيهم الرجل الصالح، بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله عز وجل}.
كذلك حديث جابر، وقد ذكره الذهبي في مختصر العلو للعلي الغفار، وهو عند ابن حبان، وابن ماجة وغيرهم، أن بعض المسلمين لما جاءوا من الحبشة أيضاً سألهم الرسول صلى الله عليه وسلم: {ما الذي أعجبكم بـالحبشة؟} هم الآن لم يذهبوا سواحاً، ولكنهم ذهبوا مهاجرين، لكن ما هي مشاعرهم؟ ما الذي يلفت انتباههم؟ ما هي اهتماماتهم؟
فواحد منهم قال: [[الأمر الذي لفت نظري وأعجبني، أنى رأيت عجوزاً تحمل قربةً على ظهرها، فجاءها شابٌ مراهق طائش فدفعها، فسقطت هذه القربة، فالتفتت إليه هذه العجوز وقالت: سوف تعلم يا غُدر إذا نـزل الله تعالى يوم القيامة لفصل القضاء، وعرف كل إنسانٍ ما له، ووفيت النفوس ما كسبت، كيف يكون جزاؤك]] فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {صدقت صدقت، لا قُدست أمةٌ لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع}.
إذاً القضية التي لفتت نظرهم، مشهد من مشاهد الاعتداء على كرامة الإنسان من جهة، والظلم والتعدي، ولو لامرأة عجوزٍ ضعيفة، ومن جهة أخرى: العجب من معتقد هذه العجوز، فإنها تعتقد عقيدة صحيحة أن الله تعالى سوف يبعث الأولين والآخرين، وسوف ينـزل يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده، وسوف يجزي الظالمين بما كسبوا، فتعجب النبي صلى الله عليه وسلم وصدقها بما قالت، وقال: {لا قدست -أي: لا بوركت، لا بقيت- أمة لا يأخذ الضعيف فيها من القوي حقه غير متعتع} أي: لا يتلجلج ولا يتردد، ولا يعيَ بالكلام، بل يتكلم بلغةٍ قوية فصيحة، لأن الحق أنطقه.
لكن لو نظرنا إلى مشاعر السواح من المسلمين اليوم، قد تجد مسلماً يسيح في بلاد الأرض، فماذا يلفت نظره؟ يلفت نظره المباني، وجمال الطبيعة، والجبال والأنهار والمشاهد والمظاهر والصور، هذه الأشياء كون الإنسان يعجب بها أو يستحسنها، هذا أمر فطري، لكن لماذا لا يكون شعور المسلم أعظم من ذلك؟ لماذا لا يتعجب المسلم -مثلاً- من فقدان الإنسانية التي عنده؟ أو يتعجب المسلم من التقدم الذي أدركوه في مجالات الصناعة والعلم ولم يدركه المسلمون، ويفكر كيف يصل المسلمون إلى ذلك ليحققوا لدينهم نصراً، يمنعهم من كيد عدوهم.
أو يفكر في المؤامرات وفي الخطط الصليبية التنصيرية، التي تسعى إلى تحويل المسلمين إلى نصارى في إفريقيا، وفى أندونيسيا، وفى غيرها.
المهم أن الإنسان عندما يكون مشغولاً بأمر فكلما رأى شيئاً فإنه يربطه بذلك الأمر الذي يشغل باله، فالإنسان الذي كل همه، سرور عينه، أو سرور أذنه، أو سرور قلبه، تجد أنه لا يلفت نظره إلا مظاهر الطبيعة وجمالها، أما سوى ذلك فكأنه لا يعنيه في قليل ولا في كثير.
في صحيح البخاري: {أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ على سبىٍ فرأى امرأة في السبي تمشي إذ رأت صبياً فأخذته، وألزقته ببطنها وأرضعته، وضمته إليها، فتعجب النبي صلى الله عليه وسلم من هذا المشهد -واستفاد منه في التربية، في ربط ذلك بقضية شرعية- قال لأصحابه رضي الله عنهم: هل ترون هذه طارحة ولدها في النار؟، قالوا: لا -والله- يا رسول الله، وهي تقدر ألا تطرحه، قال: والله لله أرحم بعباده من هذه بولدها}.
وفي الحديث الصحيح أنَّ سعد بن معاذ رضي الله عنه قال: {يا رسول الله أرأيت لو وجدت مع امرأتي رجلاً، أكنت أتركه حتى آتي بأربعة شهود، قال: نعم، قال: والله يا رسول الله ما كنت أفعل، كنت أضربه بالسيف غير مصفح، لا أبالي، أي: أقتله مباشرة- فضحك النبي صلى الله عليه وسلم -ولكنه استفاد من هذا الموقف في تنبيه الصحابة على أمرٍ آخر- فقال: أتعجبون من غيرة
مثل ثالث: جيء بمناديل جميلة من حرير بعد إحدى المعارك لا عهد للمسلمين بها، فصار المسلمون يطوفون بها ويتعجبون، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {أتعجبون من هذه المناديل؟ والله لمناديل
يا طيبَ عهدٍ كنت فيه منارنا فبعثت نور الحقِ من فاران |
وأسرت فيه العاشقين بلمحةٍ وسقيتهم كأساً بغير دنان |
أحرقتَ فيه قلوبهم بتوقد الـ إيمان لا بتلهب النيرانِ |
لم نبق نحن ولا القلوب كأنها لم تحظ من نار الهوى بِدُخانِ |
صراحةً هذا حُلُمٌ قد ينظر إليه البعض على أن فيه سذاجة وبساطة وقرباً، لكن بغض النظر عن بساطة هذا الحلم أو سذاجته، إلا أنه يدلنا على قلب متوتر لقضية الإسلام والمسلمين، قلب -على الأقل- كل همومه وأحلامه تتعلق بقضية الإسلام، وأن يُرفع نداء الإسلام وشعار الإسلام من أعلى المنابر، وأعلى المواقع، وأعلى الأبنية في بلاد الشرك وبلاد الجاهلية وبلاد النصارى.
إذاً الشرط الثاني فيمن يحمل هم الإسلام هو: أن يكون الإسلام حياً في ذهنه، حاضراً في قلبه، فيربط ما يرى أو يسمع أو يحس، بالهم الأكبر الذي يقلقه ويزعجه وهو هم الإسلام.
هذه الآية نـزلت في مكة، وحصل فيها قصة رواها الترمذي وحسَّن إسنادها، وكذلك رواها الإمام أحمد، ورواها النسائي ورواها الحاكم وصححها، وكذلك الضياء المقدسي في أحاديثه المختارة، التي هي صحيحةُُ عنده وعلى شرطه، عن ابن عباس رضي الله عنه: [[أنه لما حصلت المعركة بين الفرس والروم، كان المسلمون في مكة، يتمنون انتصار الروم]] لأن الروم كانوا نصارى "أهل كتاب" فهم أقرب للمسلمين، وكان العرب الوثنيون يتمنون انتصار الفرس؛ لأن الفرس أيضاً وثنيون، فعندما نـزلت هذه الآية، صار بين أبي بكر رضي الله عنه، وبين العرب المشركين مقاولة وكلاماً، فقال لهم أبو بكر: [[سوف ينتصر الروم على الفرس]] فجعلوا له لذلك أمداً، فقال: [[أمدكم خمس سنين]] فمرت خمس سنين وما حصل أن انتصر الروم على الفرس، فجاءوا وقالوا: يا أبا بكر، ما حصل ما وعد به صاحبك، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: {هلا جعلتها دون العشر} لأن الله تعالى قال: فِي بِضْعِ سِنِينَ [الروم:4] والبضع هو ما بين الثلاث إلى التسع، فكانت في دون العشر، وهكذا كان، فإن الله تعالى نصر الروم بعد ذلك على الفرس، فغلبت الروم، ثم غلبوا كما وعد الله عز وجل وكان غلبهم في بضع سنين لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ [الروم:4] أي: يوم يغلب الروم الفرسيَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الروم:4-5].
أين نصر الله؟ نصر الله في معركة بدر، فكان انتصار الروم على الفرس، في اليوم الذي نصر الله تعالى فيه محمداً صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم وأصحابه على قريش ففرح المؤمنون بنصر الله.
والسؤال: لماذا كان فرح المسلمين بنصر الروم، أو تمنيهم لنصر الروم، على الفرس؟
الجواب: لم يكن هذا لقضية اقتصادية، أو مصالح مادية، أو لأن أرصدتهم -مثلاً- سوف تزيد، كلا، كانت قضيتهم قضية الدين، فهم ينظرون إلى أن انتصار النصارى وهم أهل كتاب، يعتبر إرهاصاً بانتصار المسلمين، فهو مربوط به، فإذا انتصر الروم دل هذا على قرب انتصار المسلمين على عدوهم القريب الوثني (قريش) ومن ظاهرها وأيدَّها.
فهذه قضية تدل على مدى تفكير المسلم، وكيف ينظر إلى ما يقع حوله من الأحداث والأمور.
أيها الأحبة.. إن سقوط الشيوعية بشير خير للمسلمين بكل تأكيد، لأن العالم كانت تتقاسمه حضارتان: الشرقية والغربية، وهي في الواقع حضارة واحدة مادية بشقيها الشيوعي والرأسمالي، والشق الرأسمالي المتمثل في دول الغرب، شق لا يعتمد على مبدأ، ولا يقوم على عقيدة، ولذلك فهو أضعف، أما الشق الشرقي المتمثل في الشيوعية، فكان يقوم على أساس عقيدة، أو ما يسمى بأيديولوجية ودين، أو مذهب أو مبدأ، ولذلك كان أخطر لأنه يتحمس في سبيل نشر مبدئه وعقيدته، فانهيار ذلك الشق القائم على أساس المبدأ، هو مؤذنُُ بانهيار غيره، وهو مؤذن أيضاً بأن الفكرة التي قام على أساسها فكرة خاطئة، فهو يصدق ما قاله دعاة الإسلام من قبل عن فشل الشيوعية نظرياً وعملياً.
وحبب أوطان الشباب إليهمُ مآرب قضَّاها الشباب هُناِلكا |
إذا ذكروا أوطانهم ذكَّرتهم عُهود الصِبا فيها فحنوا لِذلكا |
ولذلك بلال رضي الله عنه مثلاً، هاجر فيمن هاجر من مكة إلى المدينة فأصابته الحمى، فكان إذا أصابته الحمى، يقول وهو لا يعي ما يقول من شدة الحمى، كان يتغنى بأبيات يذكر فيها مواقع، ومواضع، وجبالاً، وأودية قريبة من مكة، فكان يقول:
ألا ليت شعري هل أبيتنَّ ليلةً بوادٍ وحولي إذ خِر وجليلُ |
وهل أردنْ يوماً مياه مجنة وهل يبدون لي شامة وطفيلُ |
فيذكر أسماء مواضع ارتبطت في ذهنه وعقله، حتى ورد أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول: {اللهم العن فلاناً وفلاناً وفلاناً، كما أخرجونا من ديارنا إلى ديار الوباء} وبكل تأكيد كان - صلى الله عليه وسلم- يحب مكة.
وفي حديث عبد الله بن عدي أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما خرج من مكة ووقف بالحزورة، وهو مكان يقع تقريباً إلى الشمال الشرقي من مكة، التفت إليها وقال: {والله إنك لأحب بلاد الله إلى الله، ولولا أن قومك أخرجوني ما خرجت} ودمعت عيناه صلى الله عليه وآله وسلم، فمع أنه مرتبط بالحب لهذا البلد الأمين الذي فيه الكعبة؛ إلا أنه صلى الله عليه وسلم لم يتردد في الهجرة إلى المدينة عندما كانت مصلحة الإسلام تقتضي ذلك، وهكذا بقية أصحابه، هاجروا من بلادٍ شتى إلى المدينة المنورة، فمع أن الإنسان مرتبط بحب بلده، إلا أنه قدم حب الدين على حب البلد، الذي هو أمر فطرى في الإنسان، فهذا فيما يتعلق بقضية الهجرة.
ثانياً: حتى بمقياسهم هُم كلهم عرب، ومع ذلك لا يزوج بعضهم بعضاً، وليس قصدي أن أتكلم عن هذا الموضوع، هذا الموضوع له مجال خاص في الحديث عنه، إنما قصدي أن أقول: إن الإنسان العربي في كثير من الأحيان، كانت القضية مرتبطة عنده بالقبيلة، ومع ذلك لما جاء الإسلام، وصدقوا في تدينهم وولائهم، لم يعد لقضية القبيلة عندهم وزن أو اعتبار أمام الأخوة الإسلامية.
فالذين هاجروا تركوا قبائلهم إلى بلد آخر، وآخى الرسول صلى الله عليه وسلم بينهم، فكان يؤاخي بين كل مهاجرٍ وأنصاري، فما نـزل مهاجر على أنصاري إلا بقرعة، وهم كانوا قبائل بالأمس كادت أن تثور الحروب بينهم، بل ربما آخى الرسول صلى الله عليه وسلم بين عربيٍ أصيل قُحْ، وبين مولى من الموالي، وربما كان هذا المولى أفقه من العربي وأعلم فكان يرجع إليه، كما هو الحال بالنسبة لـبلال رضي الله عنه، أو صهيب، أو سلمان أو غيرهم، فتخلوا عن هذا الأمر الذي هو في أصل تركيبهم، وعقليتهم، وتربيتهم، وأصبحت قضية الأخوة الإسلامية هي المبدأ الذي يسيرون عليه، لماذا؟
لأن هَمَّ الإسلام صار هو الهم الذي يشغلهم، ولذلك كيَّفوا حياتهم كلها، أخذاً وعطاءً، قبولاً ورداً، ولاءً وبراءً، قرباً وبعداً، كيفوها مع الإسلام، ومع مصلحة الإسلام، ومصلحة الدعوة إلى الإسلام.
كذبتم وبيت الله نبز محمدٍ ولما نُطاعن دونه ونُناضل |
ونُسلِمهُ حتى نُصرع دونهُ ونذهل عن أبنائنِا والحلائلِ |
فـعبيدة يقول: أنا أحق بهذا الكلام من أبي طالب، لأنه رضي الله عنه قتل بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم مدافعاً عنه، حامياً لجنابه عليه الصلاة والسلام.
وكذلك خبيب بن عدي وزيد بن الدثنة، لما قبض عليهم وأرادت قريش أن تقتلهم، كانوا يقولون له: هل تحب أن محمداً مكانك، وأنك سالم في أهلك؟ قال: والله ما أحب أني سالم في أهلي وأن محمداً صلى الله عليه وسلم، تصيبه شوكة في رجله.
ولستُ أُبالي حين أقتل مسلماً على أي جنبٍ كان في الله مصرعي |
وذلك في ذات الإله وإن يشأ يُبارك على أوصال شلو مُمــزع |
ولستُ بمبدي للعدوٍ تخشُعاً ولا جَزعـاً إني إلى الله مَرجعـيْ |
فقد تحولت وتوحدت الهموم عندهم في همٍ واحد، هو هَمُّ الإسلام، وكل ما يرتبط بالإسلام؛ رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم كتاب الإسلام، علماء الإسلام، دين الإسلام، مصلحة الإسلام، أصبح هذا هو الذي يشغل بالهم ويؤرق خواطرهم.
هذا العطاء الذي جعل عمر رضي الله عنه يقول فيما رواه البخاري تعليقاً، ورواه ابن حزم في المحلى وسنده صحيح يقول: [[والله إني لأجهز الجيش وأنا في الصلاة]] تزاحمت عنده الهموم والمشاعر، وكلها للدين، فيجهز الجيش وهو في الصلاة، ربما ضاق به الوقت، لم يتسع، والجيش على مشارف المدينة، فـعمر يفكر في الجيش، لو ولينا فلاناً، لو أمَّرنا فلاناً، لو أخرجنا فلاناً، لو وجهت الجيش كذا، وهو في الصلاة.
هذا الهم هو الذي جعل الإمام الشافعي رضي الله عنه، يتقلب في فراشه حتى يبرق الفجر ما نام فيقول: [[إنه حل في تلك الليلة عشرين مسألة فقهية]].
هذا الهم الذي جعل شاعراً من شعراء الإسلام، ورجلاً من رجالاته الكبار، يتكلم عن آلامه ومصائبه، وما يعانيه في عصرٍ كهذا العصر فيقول:
قال الطبيب وقد أعيتهُ حالتنا ولم يُغادر لما يرجوه من سببِ |
كيف الشفاءُ بعيشٍ جد مُضطربِ والفكر في شغلٍ والقلبُ في تعبِ |
ما دُمت في بؤرة الأيامِ مُنتصباً للطعن والضرب لا رجوى لِمرتقبِ |
ولو ملكتُ خياري والدنا عرضت بِكل إغرائها في فنها العجبِ |
لما رأت غير إصراري على سنني وعادها اليأسُ بعد الهد والنصبِ |
قلبي خليٌ عن الدنيا ومُطَّلبي ربى فليس سرابُ العيشِ من أربِ |
هذا الشعور ربما أفلح واحد في التعبير عنه، لكنه شعور كثير من رجالات الإسلام ودعاته على مدار التاريخ، ويجب أن يكون هو شعوري وشعورك وشعورنا جميعاً.
فيبقى السؤال: ما دام أنك تشكل رقماً، هل أنت تشعر بالشعور الذي كان يشعر به سعد بن أبي وقاص؟
في صحيح البخاري يقول سعدرضي الله عنه: [[والله لقد مكثت سبعة أيام، وإني لثلث الإسلام]] هو لا يعرف إلا ثلاثة أسلموا، يقول: أنا واحد منهم، فكنت أشكل ثلث الإسلام مدة أسبوع، والواقع أنه ما كان ثلث الإسلام رضي الله عنه فهناك مسلمون مختفون ما كان يعرفهم، فكان يظن أنه ثلث الإسلام، ولكن الواقع أنه كان خمس أو سدس أو سبع الإسلام، المهم كان يشعر بأن هناك جزءً من الدين على ظهره وكاهله، وهو الآن ليس له من حين أسلم إلا أسبوع فقط، أنا وأنت شبنا في الإسلام، ومع ذلك ليس في قلوبنا تلك الحرقة، ولا فيها ذلك اللهيب الذي يدعونا إلى أن نفكر دائماً في كيف نعمل للإسلام، وكيف نقدم.
يعجبني -يا أخي- الإنسانُ الذي يقول: ماذا أفعل؟ ما هو دوري؟ هذا دليل على أنه يريد أن يعمل شيئاً.
المشكلة الإنسان الذي يصبح كالنبتة التي نبتت في الظل، هي دائماً منجعفة، ليس فيه قوة، ولا إشراق، ولا حرارة، ولا توقد، هذا الإنسان لا يصنع شيئاً.
ليس المجال الوحيد هو مجال الفتيا أو القضاء، أو التعليم الشرعي، أو إلقاء الدروس والمحاضرات أو الخطب مثلاً! أبداً وهذا مجال خصب، لكن هناك مجالات أخرى كثيرة في واقع المسلمين، يستطيع المختص سواءً في المجالات الطبية، أو في مجالات العلوم الطبيعية، أو في مجالات العلوم التطبيقية، أو العلوم الإنسانية، أو غيرها، والمسلمون يحتاجون إلى كوادر وإلى أعداد هائلة من أصحاب هذه التخصصات كلها؛ حتى يتحقق للمسلمين وجود المجتمع الإسلامي المتكامل، فلا تبخل على نفسك وعلى دينك بما تستطيع.
وأنت -يا أخي- حين تقدم هذا العطاء، لن تخسر شيئاً أبداً، سوف تستمتع بما أحل الله لك، وسوف تجد الفرح والسرور والطمأنينة في قلبك، وهي عاجل بشرى المؤمن، وسوف يهبك الله تعالى من السعادة والتوفيق -حتى في أمورك الدنيوية- ما لا تحتسب، ومع ذلك فإنك يجب أن تعلم أن الدنيا ليست هي دار العطاء والجزاء، إنما الدنيا هي دار الكد والكدح والعمل، وأما جزاؤك فتنتظره في الدار الآخرة، لن تخسر شيئاً وأنت تقدم.
المهم أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عندهم من القوة ما ليس عند غيرهم، فهم يستمتعون بما أحل الله لهم من الطيبات، ومع ذلك انظر ماذا كانت مشاعر سليمان عليه الصلاة والسلام {تلد كل امرأة منهم غلاماً يقاتل في سبيل الله} فكان هذا أمل {ولم يقل: إن شاء الله، فقال له الملك: قل: إن شاء الله. فنسي أن يقولها فلم تلد منهن إلا امرأة جاءت بشق غلام، قال الله عز وجل: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ [ص:34]}.
قال بعض المفسرين: هذا لأنه لم يقل (إن شاء الله) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {والذي نفسي بيده، لو قال: إن شاء الله لم يحنث، وكان دركاً لحاجته} أي: أدرك ما أراد وولدت {لو قال إن شاء الله، ولدت كل واحدة منهن غلاماً يقاتل في سبيل الله}.
إذاً هو لم يكن يقصد من هؤلاء الغلمان أن يتكثر بهم من قلة، ولا أن يستعز بهم من ذلة، ولا أن يبطش بهم، إنما كان يقصد من وراء ذلك أن يظل هؤلاء مجاهدين في سبيل الله، يرفعون راية الإسلام، ويخوضون المعارك، أو يقتلون شهداء.
وفي مقابل ذلك، هذا العمل نفسه قد يفعله الإنسان على مدار التاريخ، هولاكو أو جنكيز خان، وغيرهم من الأباطرة والأكاسرة والقياصرة، لا أقول: إنه يهدف إلى غلمان يجاهدون في سبيل الله، بل يهدف إلى غلمان يناوئون الإسلام، وإلى من يهدمون دولة الإسلام، وإلى من يقاومون زحوف المجاهدين في سبيل الله عز وجل، العمل واحد لكن النيات شتى.
وعيرني الواشون أنى أُحِبها وتلك شكاةُُ ظاهرٌ عنك عارُها |
هناك عيب أني ذات النطاقين، بل هذه محمدة وحسنة، وهذا البيت إنما تمثل به ابن الزبير رضي الله عنه أو تمثلت به أسماء، وإلا فالواقع أنه لـأبي ذؤيب الهذلي ضمن قصيدة يقول فيها:
هل الدهر إلا ليلةُُ ونهارها وإلا طلوع الشمس ثم غيارها |
أبى القلبُ إلا أم عمرو فأصبحت تحرَّق ناري بالشكاة ونارها |
وعيرنى الواشون أني أحبها وتلك شكاةُُ ظاهرٌ عنك عارُها |
فنحب منك يا أخي -جزاك الله خيراً، ونفع الله بك الإسلام والمسلمين- أن تعطي عطاء من لا ينتظر من أحد في الدنيا جزاءً ولا مثوبة، ولا ينتظر ثناءً من الناس، ولا مدحاً، ولا جاهاً، وإنما ينتظر الجزاء عند الله تعالى في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، نريد العطاء الذي ينبعث من ذاتك، غير مرتبط بزمان ولا بمكان ولا بظرف، فأنت تعمل على أن تقدم لدينك ما تستطيع في كافة الظروف، حتى وأنت على سرير الموت.
الجواب: في الواقع إن هذه من المشاكل التي يعانيها المسلمون، لذلك لا توجد مصادر إعلامية معتمدة للمسلمين، والمسلم محتاج لأن يقرأ، ويسمع ما يقرأ، ويسمع غيره، لكن يمحص في هذه المرويات والمعلومات، ولا يقبل كل ما يسمع أو يقرأ.
الجواب: ما سمعنا بهذا، ولا نقول: أن اسم المدينة المنورة هو المشروع، اسمها المدينة وإن سميت المدينة النبوية، لوجود النبي صلى الله عليه وسلم فيها، أو قلت: المدينة المنورة أو المدينة، فكل ذلك جائز وهذه أسماء لا يتعبد بها.
الجواب: بصراحة هذا موضوع سوف أخصص له درساً، مشكلتنا أن تفكيرنا غلط في كثير من الأحيان، ومشاعرنا أيضاً غلط في كثير من الأحيان لابد أن نصححه، ولا بد أن نكون شجعاناً وصرحاء مع أنفسنا، رأيت كثيراً من أحبتي الشباب اختصروا كل مشاكل المسلمين، وقضاياهم، ومآسيهم، ومصاعبهم، في شيء واحد اسمه "أفغانستان"، يا أخي أفغانستان على العين والرأس، وأفغانستان تعيش في قلوبنا، واثنتي عشرة سنة ونحن نعيش هماً اسمه أفغانستان، طالما عاش لها المسلمون وحزنوا، ورووها بدموعهم ودمائهم وأموالهم.
لكن ليس صحيحاً أن ليس للمسلمين مشكلة سوى أفغانستان، وأن المسلمين يجب أن يهاجروا إلى أفغانستان، وأن الإسلام سوف ينطلق من أفغانستان.
هذا التصور تصور فيه قدر كبير من السذاجة، المسلمون الآن عندهم عيوب في داخلهم، مستوى الوعي عند المسلمين ضعيف، ومستوى التفكير عند المسلمين ضعيف، وتقدم المسلمين في المجالات العلمية ضعيف، والتزام المسلمين بدينهم ضعيف، وعقائد المسلمين تحتاج إلى إصلاح، كثير منهم لم يفهموا عقيدتهم فهماً صحيحاً، فالحقيقة أن العناية بالمسلمين في كل مكان هو الواجب، وإذا لم تحدث تلك العناية، فقد تتحول كثير من بلاد المسلمين إلى أفغانستان أخرى.
ثم نقول للإخوة: أفغانستان بلد أهله مسلمون، لكن في أفغانستان من السلبيات مثلما في البلاد الإسلامية الأخرى، الجهل، التعصب المذهبي، الضعف في العقائد، وجود خلل، وجود تناقض واختلافات، وجود مشاكل، هذا أمر موجود في أفغانستان كما هو موجود في أي بلد إسلامي آخر، فلماذا نتصور أن أفغانستان مجموعة من الصالحين، أو نصور هذا للناس؟ فإذا ذهب بعض الشباب بهذه النفسية وجدوا هناك بعض الانحرافات وبعض الأخطاء، وبعض الاختلافات، ووجدوا ووجدوا، أقول: ربما انصدم بعضهم، أو انكسروا، وربما رجعوا بغير الوجه الذي ذهبوا به، لماذا لا نكون صرحاء مع أنفسنا؟ لماذا لا نواجه واقعنا بوضوح؟ لماذا لا نكون واقعيين؟ لماذا لا نكون معتدلين في أحكامنا؟ كنت ولازلت مؤيداً لقضية أفغانستان، وأدعو إلى التبرع لـأفغانستان، وأقول: إن قضية أفغانستان هي من أهم قضايا المسلمين، وهي دليل على مدى صدق الإنسان في تبني قضايا المسلمين، فلا بد أن يهتم المسلم بقضية أفغانستان.
لكن يهتم بها من كل وجه، يهتم بالإصلاح بين المجاهدين الأفغان، يهتم بتصحيح تصورات وعقائد وأفكار ونظرات المجاهدين، سواء كانوا من الأفغان، أم من العرب الذين يقيمون هناك، أما تصور بعض الشباب أنه بمجرد ما يحمل الإنسان السلاح، فقد زالت كل المشاكل، وانحلت كل الأمور، يا إخواني هذا تصور فيه كثير من السذاجة.
وأرجو أن لا يفهم هذا الكلام المختصر خطأً.
اللهم أصلحنا، وأصلح بنا يا حي يا قيوم، اللهم اهدنا سواء السبيل، رب إني لما أنـزلت إليّ من خير فقير، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر