أما بعد:
فموضوع هذه المحاضرة كما قرأتم وسمعتم هو (من آفات القراء) وهذا العنوان ليس جديداً لا لفظاً ولا معنى فأما في اللفظ فإنني قد استعرته من الإمام المحدث اللغوي أبي سليمان الخطابي رحمه الله، وذلك في كتابه العزلة حيث عقد فيه فصلاً بعنوان (آفات القراء) وقد أعجبني هذا العنوان فاقتبسته منه.
وأما من حيث الموضوع فهو -أيضاً- موضوع مطروق، أعني به الحديث عن آفات طلاب العلم -وليس القراء إلا طلاب العلم- فقد كتب وتكلم في هذا الموضوع عدد غير قليل من الأئمة منهم: الخطابي -كما أسلفت- والإمام ابن قتيبة، والإمام العسكري في غير واحد من كتبه.
وكذلك: الإمام الذهبي في رسالة له عنوانها "بيان زغل العلم" إضافة إلى كتابات ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله، والخطيب البغدادي وابن القيم وغيرهم.
وهؤلاء العلماء الذين تكلموا عن هذا الموضوع قد أشبعوه بحثاً، في حين أنني لا أستطيع في هذه العجالة إلا أن أشير إلى جوانب سريعة من هذا الموضوع الواسع المهم.
السبب الأول: أن هؤلاء القراء هم كالثوب الأبيض النقي ما إن يقع عليه شيء من الدنس حتى يبين فيه، فيحتاج إلى غسل وتنظيف، ولهذا كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة أنه كان يدعو بين التكبير والقراءة بقوله: {اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد} أما غيرهم من الناس فهم كالثوب الأسود، وقد تقع فيه الأوساخ ويقع فيه الدنس؛ فلا يبين فيه.
السبب الثاني: أن القراء هم -كما سماهم ابن المبارك وغيره- ملح البلد؛ لأن الناس إذا فسدوا ينتظر أن يصلحهم طلاب العلم والموجهون والقراء، فإذا فسد هؤلاء فغيرهم من باب أولى.
كان الإمام عبد الله بن المبارك يقول:
يا معشر القراء يا ملح البلد ما يصلح الملح إذا الملح فسد |
وقد نقل هذا المعنى عن عيسى ابن مريم عليه السلام كما في كتاب الزهد لـابن المبارك.
السبب الثالث: أن مثالب القراء وعيوبهم وآفاتهم أحياناً تتزيا في زي محاسن، ويتدسس بها الشيطان إلى نفس القارئ أو الطالب على أنها حسنة وفضيلة يقتبسها ويتقمصها، فهي أحوج ما تكون إلى البيان والكشف والتعرية؛ حتى يحذرها القارئ وطالب العلم.
أما عن الآفات التي سأتحدث عنها، فسأتحدث باختصار حتى لا أطيل عليكم عن عدد من هذه الآفات.
وسئل -كما في صحيح مسلم- فقيل له: يا رسول الله! إن أحدنا يحب أن يكون ثوبه حسناً، ونعله حسناً، فقال صلى الله عليه وسلم: {إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس} ونحن لو نظرنا في سيرة إمام الأئمة، وعالم العلماء نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ لوجدنا أنه كان يتحلى ويتجمل بالتواضع؛ حتى إنه عليه الصلاة والسلام كان يضاحك الصبيان ويباسطهم ويمازحهم، ويجلس مع أصحابه على الأرض، ويركب كما يركبون، ويمشى على قدميه كما يمشون، ويخصف نعله، ويرفع ثوبه ويفلي رأسه إذا أصابه القمل أو غيره، ويباشر شئونه بنفسه.
وفي صحيح البخاري أن عائشة رضي الله عنها سَئَلت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكيف يكون في بيته، فقالت: {كان يكون في مهنة أهله، أي: في شغلهم، فإذا أذن المؤذن خرج إلى الصلاة}. وفى الشمائل للترمذي وغيره وفى الصحيحين عن أنس {أن امرأة قالت: يا رسول الله لي إليك حاجة، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: كوني في أي طرق المدينة شئت -أو نحو ذلك- فكانت المرأة تأخذ بيد النبي صلى الله عليه وسلم فتحدثه في بعض شئونها}. والنبي صلى الله عليه وسلم -في ذلك- بعيد عن التكبر أو التجبر، وقال عليه الصلاة السلام: {
وفى رواية: { غمص الناس} ومعنى غمط الناس: أي بخسهم حقوقهم وازدراؤهم واحتقارهم.. فهذا مظهر من مظاهر الكبر، وأنت تجد المصاب بهذا الداء يشتهي دائماً أن يقع في عيوب الناس وأخطائهم، وخاصة من ينافسونه في عمله -من العلماء وطلاب العلم- فتجده يقول: فلان فيه كذا، وفلان فيه كذا، والكتاب الفلاني فيه كذا.
فلا يذكر عنده شخص أم كتاب أم عمل إلا حاول أن يجد فيه عيباً، ويبخسه حقه ببعض اللمزات والكلمات، وكأن لسان حاله يقول: أنا المتفرد بالصواب والسلامة من الأخطاء، أما فلان فقد أخطأ في كذا وفلان أخطأ في كذا، والكتاب الفلاني فيه من الأخطاء كذا وكذا، وكتبي هي وحدها السالمة من الأخطاء والعيوب؛ فهذا ليس مقاله؛ بل لسان حاله.
فلو بحثت في نفسيه من يكثرون من الوقوع في طلاب العلم والعلماء وتشهير أخطائهم، ومحاولة البحث عن زلاتهم لإذاعتها ونشرها، لوجدت أنهم ينطلقون من نفسية مصابة بداء الكبر! ومن عايش مثل هذه النوعيات من الناس، يجد أن القضية عندهم ليست قضية نقد وتقويم؛ لأننا -معشر المسلمين- عندنا مبادئ للنقد والتقويم عرفناها من القرآن والسنة، وورثناها من سلفنا الصالح: وهى أصول واضحة لا يمنع أن يقوَّم العالم فيبين أنه أخطأ في المسألة الفلانية؛ لكن! مع حفظ حقه.
إذاً: من هو الذي لا يخطئ مرة أو عشرة أو مائة؟!.
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه |
وأي كتاب ليس فيه خطأ إلا كتاب الله تعالى؟! أما ما عداه فلا يسلم من نقص يقول بعضهم: إلا صحيح البخاري ومسلم.
وأقول: مع الاعتراف بأن جميع ما في البخاري ومسلم من الأحاديث المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه صحيح؛ إلا أنه من حيث أنه كتاب لا يمكن أن نصفه بالكمال المطلق.
مثلاً البخاري -رحمه الله- أحياناً يقول: باب ثم لا يضع تحته حديثاً، لماذا؟ قد نقول أنه أتته المنية قبل أن يضع أحاديث!!
وقد يقال أي شيء آخر، المهم: أن الخطأ والنقص في التبويب، والترتيب، والتصنيف، وفي التقديم، والتأخير، هذا واردٌ على كل كتاب، ولا يمكن أن نصف كتاباً بالكمال المطلق إلا كتاب الله عز وجل، مع تسليمنا بأن ما في الصحيحين من الأحاديث المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالأسانيد المتصلة؛ أنها صحيحة!!
فأقول: هناك فرق بين مبدأ النقص والتقويم المنصف، وبين شهوة ازدراء الناس والحط من أقدارهم.
فالتقويم: يحفظ الناس حقوقهم، فأنت تبين -مثلاً- أن هذا العالم له من الفضائل كذا وكذا، وله من المصنفات كذا وكذا، ثم لا يمنع أن تبين مع جلالة قدره، فإن الله عز وجل أبى أن تكون العصمة إلا لرسله، فهذا العالم انتقد في كذا وكذا وهذا لا ينقص من قدره؛ بل كفاه نبلا أن تعد معايبه.
فرق بين هذا الأسلوب في النقد والتقويم الذي يضع الأمر في نصابه، وبين الذي يفرح بكل زلة لعالم حتى يحط من قدره.
فهل يستوي عنده أكابر العلماء وصغار الطلاب؟ لأننا نعلم أنه ما من عالم إلا وله زلة فإن كانت هذه الزلة سوف تسقط هذا العالم، معناه: أنه لم يبق لنا أحد من العلماء نأخذ عنه ونقتدي به، فهذا هو بطر الحق، كما سماه النبي صلى الله عليه وسلم.
وانظر وقارن بين صورتين في هذا الموضوع.
الصورة الأولى: ما ذكره ابن عساكر [[عن ابن عباس رضي الله عنه أنه كان يأخذ بركاب
ويقابل هذه الصورة صورة أخرى ذكرها الخطابي -في الموضع الذي أشرت إليه في بداية المحاضرة- قال: إن عبد الله بن المبارك رحمه الله زار رجلاً من أهل نيسابور -كان يوصف بالعلم والزهد والتقشف- فلم يلق هذا الرجل لـعبد الله بن المبارك ولم يلتفت إليه، فلما خرج عبد الله بن المبارك من عنده، قيل لهذا الرجل: أتدري من هذا الرجل الذي دخل عليك؟! قال: لا، قيل له: هذا عبد الله بن المبارك فتأثر الرجل؛ لأنه لم يكن يعرفه، ثم خرج ولحق به، وقال: سامحني! فإنني لم أكن أعرف أنك عبد الله بن المبارك، فقال له عبد الله بن المبارك: نعم، قال هذا الرجل: عظني، قال: أعظك..إذا خرجت إلى السوق فلا تقابل رجلاً من المسلمين إلا وظن أنه خير منك؛ لأن عبد الله بن المبارك لمح في هذا الرجل شيئاً من الغطرسة والكبر فأدبه بهذا الأدب، حتى يعالج هذا الكبر الموجود في نفسه.
فطالب العلم يحتاج إلى أن يعرف للرجال حقوقهم وأقدارهم وفضلهم، وألا يكون وقوع الخطأ عند عالم منهم مدعاة إلى سقوطه من عينه.. وهذه قضية تحتاج إلى أن يكون الإنسان فيها متوازن، فلا يتابع الإنسان الآخرين على أخطائهم -من باب التوقير والإجلال- لا ولكن! لا يكون وقوع الخطأ من أحدهم مدعاة إلى التشهير به، والحط من قدره وازدرائه وبخسه ماله من الفضائل والمكارم.
وما أجمل الكلمة التي قالها الإمام ابن القيم رحمه الله -في آخر صفحة من الجزء الثاني من زاد المعاد -حيث قال وهو يتحدث عن الحذر من الألفاظ المكروهة والممنوعة، ختم حديثه بقوله: وليحذر كل الحذر من طغيان: أنا، ولي، وعندي، فإن هذه الألفاظ الثلاثة ابتلي بها إبليس وفرعون، وقارون، فأما إبليس فقال: قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف:12].
وأما فرعون فكان يقول: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ [الزخرف:51] وأما قارون فكان يقول: قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي [القصص:78] قال رحمه الله: وأفضل ما وضعت فيه هذه الألفاظ في نحو قولك: لي الذنب، ولي الجرم، ولي الإثم، ولي الذل.
وأفضل ما وضعت فيه (أنا) نحو قولك: أنا العبد المذنب المخطئ المستغفر المعترف ونحو ذلك.
وأفضل ما وضعت فيه (عندي) اللهم اغفر لي خطئي وهزلي وعمدي وجدي وكل ذلك عندي، وهذه الكلمة مقتبسة من الحديث المتفق عليه عن أبى موسى الأشعري رضي الله عنه.
ومن الألفاظ التي يجدها القارئ اليوم في بعض الكتب التي انتشرت في هذا الوقت: أن كثيراً من الطلاب قد يكون بإمكانه أن يحقق كتاباً، أو يؤلف بحثاً في موضوع ما، وهذا الأمر أصبح ميسوراً لتوفر الكتب والدراسات، فإذا عرف الإنسان طريق البحث والتخريج واستطاع أن يجمع عدداً من المخطوطات -مثلاً- ويحققها، ويخرجها للناس، ويعلق عليها بتعليقات مفيدة، لكن الشيء المنتقد ليس هذا! لكن أن تتسرب إلى بعض هذه المؤلفات عبارات -إن كانت لائقة بالعلماء فليست لائقة بالقراء- مثلاً كما يقول بعضهم بعد أن ينقل أقوال العلماء: (قلت) وكأنه الإمام أحمد أو أبو حاتم الرازي أو أبو زرعة الرازي أو الدارقطني وغيره.
بل إن منهم من ينقل أقوال هؤلاء العلماء ويعقب عليها بقوله: (قلت: أخطأ فلان وأخطأ فلان) وقد يسوق لك أقوال عدد من العلماء أذكر منهم في أمثلة واقعية، -مثلاً- إماماً كـالدارقطني إمام من أئمة الدنيا في معرفة الحديث وعلله وأسانيده، فتجد الواحد ينقل كلام الدارقطني فيقول: الدارقطني بشر، يخطئ، ويصيب، فيخطئه.
وبعضهم يعبر ويقول: أخطأ الدارقطني، ونحن لا نقول إن الدارقطني لا يخطئ فهو بشر، لكن! هذا ليس أسلوباً وإن فرض -فعلاً- أن الدارقطني خالف غيره من العلماء في مسألة يرد عليه بكلام أهل العلم، ويقال: الدارقطني إمام ولكن خالفه من هو أعظم منه وأعلم منه وهو فلان.
وتجد بعضهم يستعملون ألفاظاً فخمة: قرأت في أحد الكتب -مثلاً- أن محقق هذا الكتاب يمدح عالماً من علمائنا في هذا العصر ويثني عليه، حتى يقول: ولو حلفت بين الركن والمقام أنه لم تر عيني مثله ولم ير هو مثل نفسه لرجوت ألا أحنث!! معقول أن يقول الذهبي مثل هذه الكلمة في ابن تيمية لكن من غير المناسب في نظري أن يقولها طالب علم، وإن كان لـه مكانة في العلم، وعنده شيء من التمكن؛ لأنه كم رأت عينك من العلماء الفطاحل الذي تقول: ما رأت عيني مثل فلان منهم ولا رأى هو مثل نفسه، أو يقول -مثلاً- وما أسفت على شيء أسفي على أنني فاتني لقيا فلان وفلان من العلماء، حيث ماتوا قبل أن يلقاهم، وكأنه قد لقي الشيوخ وجمع الأسانيد والتقى بأعداد كثيرة من العلماء.
وهذه الأساليب قد تنم عن نوع من التعالم كما سماه الشيخ الدكتور الباحث بكر بن عبد الله أبو زيد في كتابه المفيدالتعالم وأثره على الفكر والكتاب، فمثل هذه العبارات تنم عن نوع من تعجل التصدر والتمشيخ، وشعور الإنسان بأنه أصبح شيئاً يرى، وكلما استطاع طالب العلم أن يتحرر من هذه الألفاظ كان أجدر.
وهذه الأمثلة التي ذكرت لست أعني بالضرورة من استعملوها؛ لأن الإنسان قد يلاحظ أن بعض هذه العبارات تتسلل دون علم الإنسان؛ لأنك إذا قرأتها في كتاب وربما يكون من أشرت إليهم جاءت على لسانهم عفواً دون أن يقصدوا.
ولذلك أحببت التنبيه إليها، حتى يتجنبها الطالب وينتبه إليها.
ولذلك يقول الشاعر في ذكر نعم الله، وإن كل ما عند الإنسان فهو نعمة:
إذا كان شكري نعمة الله نعمة عليَّ له في مثلها يجب الشكر |
فكيف أقوم الدهر في بعض حقه وإن طالت الأيام واتصل العمر |
فإذا كنت تعتقد أن ما بك من نعمة كنعمة العلم -مثلاً- إنها نعمة من الله تعالى، فحينئذٍ أنت تعلم أن هذه النعمة يجب شكرها بنشرها والدعوة إليها وتعليمها، ولا يأخذك في ذلك عجب ولا اغترار، وهذا الشكر لنعمة العلم يتطلب منك شكراً آخر، وهكذا حتى يظل الإنسان في شكر متجدد لنعم الله عز وجل المتجددة.
الأول: أنه من الممكن أن يقوم زيد من الناس ببحث مسألة من المسائل -أياً كانت- خاصة المسائل الموجودة في الكتب، مسألة ففيهة -مثلاً- أو عقائدية أو لغوية، ويرجع إلى المصادر المعتمدة في هذه المسألة، ويجمع أقوال أهل العلم وأدلتهم، ويرجح، فيصل بعد الترجيح إلى نتيجة معينة، وهذه النتيجة قد يعرضها على بعض أهل العلم فيرتضونها ويقرونه عليها، حينئذٍ قام هذا الطالب وعرض هذه النتيجة على الناس لا بأس بذلك، لكن بعد هذه المرحلة وفى هذه المسألة بالذات، فرق بين هذا وبين إنسان لا يترك مسألة إلا هجم عليها، ولا يسأل عن سؤال إلا أجاب بخطأ أو صواب.
ولعلكم جميعاً تعرفون القصة التي يذكرها بعض اللغويين وغيرهم؛ بل وبعض المتكلمين في الآداب والأخلاق يزعمون -وهي أسطورة، ولكن بعض الأساطير لها تعلق بالواقع- يزعمون أن رجلاً لغوياً كان لا يسأل عن كلمة إلا بين معناها واستدل عليها بأحاديث، وبأبيات من الشعر، وأقوال العلماء وغير ذلك، فشعر تلاميذه بأن هذا الرجل ليس دقيقاً فيما ينقل، وأنه قد يختلق بعض الأشياء وينسبها إلى غيره، فاتفق التلاميذ على أن ينحتوا كلمة مختلقة ليس لها معنى موجود في اللغة العربية ويسألونه عنها، فاجتمعوا وتبرع كل واحد منهم بحرف فألفوا من ذلك كلمة كانت هذه الكلمة هي كلمة "الخنفشار" فجاء أحدهم إلى هذا الشيخ، وقال له: يا شيخ! ما هو الخنفشار، قال الشيخ: بعد أن حمد الله وأثنى عليه " الخنفشار" هو نبات ينبت في أطراف اليمن وفيه كذا، وفيه كذا ألم تسمعوا إلى قول الشاعر:
لقد عقدت مودتكم فؤادي كما عقد الحليب الخنفشار |
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: يكفي هذا يا شيخ بارك الله فيك! ما دام المسألة وصلت إلى حد الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم، فحينئذٍ أوقفوه وبينوا له الأمر.
فأقول: كون الإنسان يهجم على كل مسألة وكل شيء هذا ليس بلائق، ومن إعانة الناس -فأحياناً- الناس هم الذين قد يفسدوا العالم أو طالب العلم؛ لأن طالب العلم يسير سيراً معتدلاً فيقبل الناس عليه ويصبحون يسألونه عن كل شاذة وفاذة، وشاردة وواردة.
فمن الصعب جداً على الإنسان أن يقف أمام الناس فيسأل عن عشرين سؤالاً أن يقول عن عشرة منها على الأقل: لا أدرى أو الله أعلم، فهذه قد حدثت مع الإمام مالك حين رحل إليه رجل بأربعين مسألة، فأجابه عن ثماني مسائل منها، واعتذر عن اثنتين وثلاثين مسألة، فقال له السائل: ماذا أقول للناس؟ قال: قل لهم يقول الإمام مالك: الله أعلم، لا أدرى!!
فالناس أحياناً: قد يخرجون طالب العلم عن طوره، بكونهم يضعونه في غير موضعه، ولذلك قال بعض السلف: "إن وقع الأقدام خلف العالم، مزلة لعقول الحمقى" أي: إذا صار العالم يمشي وطلابه خلفه يسيرون؛ كان هذا سبباً في استخفافه إذا كان أحمق، وخروجه عن طوره، أما العالم الرباني: فإنه يعلم قدر نفسه، ولا يغتر بإقبال الناس أو ثنائهم عليه أو كثرة ماءلتهم له، ومما ينبغي أن يعرف في هذا الباب: أن مجرد الإطلاع على المسائل والكتب لا يكفي وحده في تحصيل العلم؛ بل لابد من شروط فطرية عند الإنسان، ولذلك تعجبني كلمة ذكرها الإمام الجويني في كتابه الذي سماه "غياث الأمم في التياث الظلم" ذكر في هذا الكتاب ضمن فوائده الغزيرية كلمة سماها (فقه النفس): وهو التدرب في مآخذ الظنون في مجال الأحكام، -كما يعبر- وهو أنفس صفات علماء الشريعة، والذي أظن أنه يقصد في فقه النفس:
أولاً: وجود ملكة للاستنباط عند القارئ أو المتفقه؛ بحيث إن عنده عقلية جيدة قابلة للتفقه والتعلم.
ثانياً: التمرس والتدرب على الترجيح والاستنباط بحيث يتدرب الإنسان على الاستنباط في ظل بعض العلماء الذين يصححون له، حتى يشب عن الطوق، ويصبح لديه إمكانية الاستقلال في الاستنباط والاستخراج والترجيح والتصحيح وغير ذلك.
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاح |
ولكن وضع الشيء في غير أوانه ليس بجيد، ولذلك كان السلف يرغبون لطالب العلم أن يجالس الفتيان ليأخذ عنهم حسن الخلق، ولين العريكة، وسلامه الطبع، يقول سفيان الثوري: لأن أصحب فتى أحب إليَّ من أن أصحب قارئاً، ويقول: في كلمة أخرى له: من لم يتفتى لم يتقرأ، يفسر الإمام الخطابي في كتاب العزلة معنى كلمة سفيان والفرق بين الفتى والقارئ تفسيراً جيداً وذا علاقة كبيرة بما نحن بصدده، فيقول:: إن من عادة الفتيان ومن أخذ بأخذهم بشاشة الوجه، وسجاحة الخلق، ولين العريكة، ومن شيمة كثير من القراء -هو قال الأكثرية -في الواقع-؛ لكن لعلهم ليسوا الأكثرية وإنما هم كثير- الكزازة، وسوء الخلق، فمن انتقل من الفتوة إلى القراءة كان جديرا أن يتباقى معه ذلك الذوق، وتلك الهشاشة، ومن تقرأ في صباه لم يخل من جفوة أو غلظة، وهذا ليس على إطلاقه وإنما يوجد عند طائفة، بل إنني أقول حتى أكون دقيقا طائفة قليلة من القراء، ولكن القراء -كما أسلفت- هم كالثوب الأبيض؛ كل ما كان فيه من دنس فإنه يشين مهما قلَّ ودق.
فينبغي للإنسان أن يحرص على مخالطة الناس، حتى يستفيد من أخلاقهم وتبسطهم، ويحفظ نفسه عن الكبر والتجبر، ويحتفظ بقدر من التواضع وحسن المعاملة لهؤلاء الناس، والبعد عن التوقر في غير أوانه.
فلا ينبغي للإنسان أن يقف عند حد معين، واليوم الذي يشعر الإنسان فيه أنه قد وصل إلى مستوى الكمال هو اليوم الذي ينتهي فيه الإنسان، يعتبر هذا الإنسان فيه انتهى ومما يجمل أن يساق في هذا الصدد ما ذكره ابن عساكر عن أبى القاسم الصوفي -أحد العلماء- أن أحد تلاميذه كان يقول: إن أبا القاسم هذا كان من أكثر الناس حرصاً على جمع الفوائد وتقييدها، قال: فسافرت معه للحج فكنا إذا دخلنا مدينة أخذ المحبرة والمقلمة والدواء والورق وقال: يا فلان هلم بنا نسمع الحديث، فلا يدع أحداً يُعلِّم ويروى ويقرئ إلا جلس إليه وأخذ عنه، فإذا جلس في البرية أخرج المحبرة والمقلمة والورق قال حتى إنه لما جاء إلى رمل وادي محسر والناس يتخففون من أمتعتهم؛ أخرج القلم والمحبرة والورق، فقلت له يا فلان رحمك الله! حتى في هذا الموضع! وماذا تصنع بها؟ قال: لعلي أسمع فائدة من إنسان أو جمَّال أو غيره فأقيدها!! لم يكونوا يقفون عند مستوى معين من العلم.
فلعل من المناسب أن يتربى طالب العلم والقارئ على ما يسمى بالفقه المقارن، خاصة إذا تقدم مستواه في العلم وأصبح أهلا لذلك، أن يسمع في المسألة أقوال عديدة اسمع قول الشافعي وإلى جواره قول مالك وأبي حنيفة والأوزاعي وسفيان الثوري والطبري وغيرهم من الفقهاء، واختر من هذه الأقوال ما يعضده الدليل على الأقل.
فإذا عرفت هذه الأقوال، ومن قال بها صار عندك شعور أن المسألة ليست مسألة إجماع، وأنه كما تعتقد أنت إنما قاله فلان هو الصواب! غيرك يعتقد أن ما قاله غيره هو الصواب! فيتربى الطالب على أنه يتعصب للحق وحده ولا يتعصب للرجال أياً كانوا وهؤلاء الرجال أنفسهم كانوا ينهون عن تقليدهم، ويعلنون أنهم إذا صح الحديث فهو مذهب أحدهم، الإمام أحمد مثلاً يقول: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته يذهبون إلى رأي سفيان -يعني سفيان الثوري- والله عز وجل يقول: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63].
ففرق بين تعظيم العلماء وتقديرهم وإجلالهم والدعاء لهم، وبين تقليدهم في كل مسألة، فإن من المعلوم قطعاً أنه لا يمكن أن يقال: أن الحق كله محصور في قول إمام من الأئمة، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كل ما قاله عليه الصلاة والسلام فهو حق، أما سائر الأئمة فكل واحد منهم يأخذ من قوله ويترك- كما قال الإمام مالك -رحمه الله- فإذا تربى الإنسان على ذلك سَلِم من نـزعة التعصب، سواء للإمام المتبوع أو للشيخ أو للنفس.
فالتعصب للنفس مشكلة؛ لأنه أحياناً ينشأ التعصب عن بحث المسألة، فربما يكون التعصب لهذا الرأي؛ لأن القارئ وطالب العلم بحث المسألة وجمع الأقوال والأدلة والأحاديث وصحح ونقح، فتوصل إلى أن الحق هو كذا وكذا، فصار يتعصب له.
ولكن الإنسان الذي تدرب على قراءة أقوال العلماء غالباً يسلم من ذلك -إن شاء الله- ولهذا كان السلف يوصون بالاطلاع على أقوال العلماء حتى أن بعضهم يقول: من لم يعرف اختلاف الفقهاء فليس بفقيه.
لنا جلساء لا نمل حديثهم الباء مأمونون غيباً ومشهداً |
والآخر يقول:
وخير جليس في الزمان كتاب |
المعاملة مع الكتب مريحة، إن شئت تقرأه وإن شئت تدعه، إن قبلت منه شيئاً وإلا رددته، فهو أصم، ولذلك قد يرتاح طالب العلم في المعاملة مع الكتب والقراءة والبحث، ويغفل عن مهمته في واقع الحياة والمجتمع؛ لأن كل علم إنما ثمرته العمل به والدعوة إليه.
فإذا كان حظ الطالب من العلم هو تحصيله في نفسه فيموت هذا العلم بموته، فحينئذٍ لم يحقق ما يتطلبه منه العلم.
فالجدير بطالب العلم أن يختلط بالناس؛ ليس اختلاط الإنسان الذي يريد فقط أن يتبسط مع الناس، أو يمزح معهم، أو يسري عن نفسه، لا.
اختلاط الإنسان الواعي الذي يريد أن يؤثر في الناس ويوجههم ويعرف عيوبهم ليتقيها ويحذر منها، أي قد يتحدث اليوم اثنان من الناس عن عيب من العيوب، أو عن أمر من الأمور الشرعية، فيتحدث أحدهما حديثاً شرعياً يذكر الآيات والأحاديث، وأقوال أهل العلم، وفوائد هذا الأمر أو مضاره وينتهي، فيكون حديثه على فائدته غير مرتبط بالواقع.
ثم يأتي إنسان آخر: يعيش الواقع فتجد أنه يربط حديثه بمشكلات الناس، وواقع زمانه، وما يعانونه، فيجد الناس البلسم والشفاء لمشاكل حياتهم في مثل هذه الأحاديث.
وطالب العلم ينبغي أن لا يحكم طوق العزلة على نفسه وعن المجتمع؛ بل يجعل ما يواجهه في المجتمع مادة للتوجيه والحديث وربط القضايا الشرعية بواقع الأمة.
وما أحوج الأمة الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها إلى من يجمع بين العلم الشرعي المتمكن، وبين المعرفة القوية الدقيقة بالواقع بحيث يستطيع أن يحل مشكلات الواقع على ضوء الكتاب والسنة!! ويستطيع أن يطبق نصوص الكتاب والسنة على واقع الناس فما يستطيعون أن يفعلوه، ما أحوج الناس إلى مثل هذا العالم! وقد ذكرت كيف كان الرسول صلى الله عليه وسلم في واقع حياته؟! كان عليه الصلاة والسلام يعرف أوضاع الناس؛ بل ربما أقول أوضاع العالم السياسية وغيرها، ولذلك اختار النبي صلى الله عليه وسلم الحبشة مهجراً لأصحابه؛ لأن فيها ملكاً لا يظلم عنده أحد، كما في حديث أم سلمة في المسند وغيره وهو صحيح.
وكان يعرف ما يقع في فارس والروم ومصر وغيرها، ولذلك راسلهم، وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى كسري وإلى قيصر وإلى المقوقس وإلى النجاشي وإلى كل جبار يدعوهم إلى الله عز وجل، وليس فقط النجاشي الذي أسلم وصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم؛ بل يعرف حتى القضايا الأدبية والشعرية؛ لأنه كان يغشى الناس في أسواقهم في عكاظ ومجنة وذي المجاز.
ويعرف كثيراً عن أوضاعهم الاجتماعية، وبالمقابل كان يعرف صلى الله عليه وسلم حتى قبل أن يبعثه الله عز وجل يعرف شيئاً مما كان عليه الأنبياء السابقون والله أعلم.
ولذلك كان عليه الصلاة والسلام إذا حج قبل البعثة، تقف قريش يوم عرفة بـالمزدلفة، لأن قريشاً يقولون: لا يمكن أن نقف مع الناس ونحن أهل البيت وسدنته، فكانوا يقفون بـالمزدلفة، ويقولون:
أشرق ثبير.. كيما نغير
وثبير) هو: جبل معروف بـالمزدلفة، والناس يقفون بـعرفة، فكان صلى الله عليه وسلم واقفاً مع الناس، ولذلك قال عبد الله بن عدي كما في الحديث الصحيح في جامع الترمذي وغيره أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم واقفاً بـعرفة، فقال: {هذا من الحُمْس} والحمس: لفظ يطلق على قريش لتحمسهم في دينهم، {هذا من الحمس، فما باله واقفاً هاهنا} لماذا لا يقف مع قريش بـالمزدلفة.
وكذلك في صحيح البخاري وغيره أنهم لما كانوا يبنون البيت كان النبي صلى الله عليه وسلم ينقل معهم الحجارة على كتفه، فتأثر كتفه فأمره العباس بن عبد المطلب أن يرفع إزاره ليقي كتفه من الحجارة، فرفعه فبانت عورته عليه الصلاة والسلام وسقط رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما رؤى متعرياً بعد ذلك قط، وقد يقال: إن هذا أمر هيئه الله تبارك وتعالى له لما كان يعد له من أمر الرسالة.
المهم: أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعرف واقع الناس الذين يريد أن يدعوهم، وهكذا ينبغي أن يكون المقتدون به.
وفي الخـتام:
حين أذكر هذه الآفات: فإنها ليست إلا قطرة في بحر فضائل القراء وحسناتهم، فإن هؤلاء القراء هم خير الناس، وقد قيل لبعض الأئمة: ألم تر إلى أهل الحديث؟ كيف هم، وكيف فسدوا؟! فقال: هم على ما هم خيار القبائل.
وأمر عمر بن عبد العزيز بتولية الفقهاء، فقال له بعض من حوله قد وليناهم فوجدناهم خونة؟ فقال: ويحك، ولهِّم فإن كانوا خونة فغيرهم أخون، ونحن جميعاً -إن شاء الله تعالى- ندين الله بحب أهل العلم، وأهل القرآن والحديث خاصة، ونعتقد أن هذا قربة وطاعة لله تبارك وتعالى، وأن حبهم دين وإيمان، وأن بغضهم نفاق، لكن هذا لا يمنع من التناصح فيما بيننا، وإن يبين كل إنسان منا ما يعلمه في إخوانه من العيوب، والمؤمنون نصحة وكما قيل:
وكم مرة أتبعتكم بنصيحتي وقد يستفيد البغضة المتنصح |
والله أعلم، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
الجواب: هذه الشكوى كثيراً ما تثار اليوم، ليس فقط في مجال التعلم والتعليم؛ بل في مجال العمل الصالح عموماً.. تجد شاباً يشتكي أنه إن بادر إلى الصلاة، أو جهر بقراءة القرآن، أو تفوق في ميدان من ميادين العلم النافع أو العمل الصالح، خاف من العجب والرياء، فربما دعاه ذلك إلى ترك العمل.
فلا أعتقد أن هذا هو الأسلوب الصحيح؛ لأن الشيطان يكسب حينئذٍ كسباً كثيراً إن كان كل ما شوش على واحد منا عمله ترك هذا العمل؛ بل الأجدر بالإنسان أن يستمر على عمله، ويزيد منه، ويفتح جبة جديدة في ميدان المجاهدة مع الشيطان ألا وهي مجاهدته في ميدان القلب، ومدافعة هذه الخواطر والوساوس بحيث لا تستقر في قلبه، وكثرة الاستغفار منها، ونهي النفس عنها، ودعاء الله عز وجل أن يخرجها من قلبه، وإذا استمر الإنسان بهذه الطريقة فإنها تزول.
فالإنسان قد يشعر بهذا في أول الأمر؛ لكن بعد فترة يصبح هذا الأمر عادياً لا يلفت النظر بالنسبة له، ولا يدعوه إلى الشعور بالرياء أو خوف العجب أو الغرور.
الجواب: العزلة: لها أحوال تختلف من شخص إلى آخر ومن وقت لآخر، والأصل الخلطة، وجماهير أهل العلم على أن الخلطة أفضل من العزلة، وهذا هو الصحيح، وهو منهج الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
وفي الصحيح عن ابن عمر أن النبي صلى الله علهم وسلم، قال: {الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم} [رواه الترمذي وأحمد وغيرهما] وهو حديث صحيح، فالأصل المخالطة، مخالطة الناس للداعية الموجه المعلم الناصح.
إنما تشرع العزلة في أحوال: تشرع في أزمنة الفتن، كأزمنة القتال بين المسلمين التي لا يميز الإنسان فيها المخطئ من المصيب، وهذا متواتر عن جمع من الصحابة أنهم تركوا القتال في تلك الفتن، واعتزلوا الناس منهم: سعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة وأسامة بن زيد وعبد الله بن عمر وجماعة كثيرة من الصحابة.
العزلة عند فساد الناس؛ لأنه قد يقول قائل: إن الناس فسدوا، ومسألة الفساد والصلاح مسألة نسبية، وعلى حسب اعتدال الشخص في مزاجه، وعلمه يستطيع أن يحكم على الناس، بعض الناس قد يقول: الآن -الحمد لله- الأمور بخير، والناس في خير، والإسلام في خير، ويبالغ في التفاؤل، وبعض الناس على العكس، فيبالغ في التشاؤم، وسب الواقع حتى كأن الواقع لا خير فيه.
وهذا -كما يقال: إذا وُضع أمام اثنين كأس فيه ماء إلى منتصفه، فإن المتشائم منهم يقول: هذا الكأس نصفه فارغ، أما المتفائل فيقول: هذا الكأس نصفه مملوء، وهذا المثال: ينطبق -فعلاً- على واقع الناس، فتجد بعض الناس من ينظر إلى الجانب الإيجابي فيبالغ فى مدح الواقع؛ وبعضهم ينظر في الجانب السلبي فيبالغ في ذم الواقع، وبعضهم يعتدل فينتظر نظرة متوازنة فيذكر ما في الواقع من إيجابيات وما فيه من سلبيات.
فعند فساد الزمان الضابط في ذلك: فإنه على حسب ما يظهر -والله أعلم- إذا فسد الناس فساداً يصبح الإنسان إذا دعا لا يستجاب له، أي: أن المجتمع كله غير قابل للإصلاح -والواقع اليوم يشهد بأن الدعاة يستجاب لهم- إذا دعوا الناس أجابوهم إلى دعوته؛ بل وسارعوا.
الحالة الثالثة: أن يكون الإنسان نفسه، عنده إحساس مرهف شديد، وشدة تأثر بالواقع؛ فإذا احتك بالناس واختلط بهم ورأى أقل منكر؛ فإنه يتأثر بذلك تأثراً لا يستطيع دفعه.
فإما أن يكون تأثره بحيث يضعف وقد يقارف هذه المنكرات، أو يكون بحيث ينفعل انفعالاً شديداً ويغير هذه المنكرات بطريقة خاطئة تضاعف من المنكر، وجرب من نفسه هذا الأمر، وأنه لا علاج له، ورأى أن العزلة أنفع له من الخلطة، ففي هذه الحالة العزلة أفضل، أما ماعدا ذلك، فالأصل الاختلاط بالناس.
أما ما يتعلق بكتاب العزلة: فالواقع أن الكتاب مفيد، وفيه كثير من القصص والأخبار والفوائد التي لا يستغني عنها طالب العلم، لكن أشير إلى ملاحظة ذكرها الخطابي نفسه في آخر الكتاب، حيث أشار في آخر الكتاب إلى لزوم حالة القصد، وقال: إنني سقت من الحكايات والأخبار -معنى قوله- ما خشيت أن أكون معه قد خرجت عما أردت عن حد القصد، وبدء يذكر أن المطلوب من الإنسان الاعتدال.
ولا تغلُ في شيء من الأمر واقتصد كلا طرفى قصد الأمور ذميم |
فهذه السلبية ينتبه لها في الكتاب، فقد بالغ في ذكر ذم الناس وعيوبهم وأخطائهم، وهذه هي طريق الأدباء إذا صنفوا في موضوع ذكروا كل ما يتعلق به من الآيات والأحاديث والقصص والأشعار والأخبار وغيرها.
الجواب: الإنسان ينبغي أن يُعَّلِم ما عَلمِ، ويبلغ ولو آية، وفي هذا الصدد يلاحظ أنه في الوقت الذي قد يتسارع فيه كثير من المبتدئين، وطلاب العلم الصغار إلى توجيه الناس وإرشادهم، تجد أن كثيراً من طلاب العلم الكبار المتمكنين قد تخلو عن الموقف، وهذا هو الذي دعا غيرهم إلى المشاركة، ربما يكون مشاركة غيرهم ضرورة؛ لأنه وجد الميدان خالياً فرأى أن سده بمثله على ما يعرف من نفسه من نقص أو تقصير؛ إنه أفضل من ترك الأمر بلا شيء.
ولذلك أنا ذكرت في نهاية الحديث أهمية الاختلاط بالناس، بحيث يوجههم ويعلمهم ما علم؛ لكن فيما يتعلق بالفتيا لابد وأن يكون متثبتاً، لأنه إن أفتى العامي بفتيا غير ثبت، فإنما إثمه على من أفتاه، وكم من إنسان تسرع في مناسبة حج أو عمرة فسئل سؤالاً فأعطى فتيا جاهزة تم عض إصبع الندم بعد فوات الأوان، وأين هذا الذي أفتاه حتى يبين له أن هذه الفتيا خطأ؟ فعلى الإنسان -إن لم يكن متثبتاً من الفتيا- ألا يفتي بها، يقول له: انتظر، ويراجع الكتب أو يسأل أهل العلم، ثم يرد له الجواب.
الجواب: أما مديح العلماء السابقين لأنفسهم، فله أحوال لا يمكن أن ينـزل كله على منـزلة واحدة؛ لأن العلماء منهم من يكون في موقف يتطلب أن يذكر نفسه بشيء من المديح-ومن ذلك مثلاً- ما حصل لشيخ الإسلام ابن تيمية حين قام عليه العلماء وعاتبوه وناظروه، فإنه قام وتكلم عن جهوده في خدمة الإسلام، ومن قام بالإسلام حين تخلى الناس عنه، ومن فعل كذا وكذا، ويشير إلى جهوده -رحمه الله- ليس على سبيل الإطراء والاغترار، لكن؛ لأن له مناسبة، وهؤلاء علماء غمطوه حقه وجحدوه، فناسب أن يتكلم بهذا الأسلوب أمامهم، ولم يستطيعوا أن ينكروا ذلك عليه أو يردوه.
فمثل هذا إذا دعا المقام إليه؛ فلا بأس به، ولعلكم تعرفون جميعاً أن موسى عليه السلام سئل: من أعلم الناس؟ فأجاب: أنا.
فعتب الله عليه إذ أنه لم يرد العلم إليه، وأوحى إليه أن لي عبداً بـمجمع البحرين هو أعلم منك، وقصة رحلته في طلب العلم معروفة ذكرها الله تعالى في كتابه، وكذلك نجد أن بعض الصحابة رضي الله عنهم قد يذكرون علمهم في بعض المناسبات، كما كان ابن عباس رضى الله تعالى عنه يقول: [[أنا من الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويله]] وذلك بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم له ودعائه له، حيث قال: {اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل} فإن كان لهذا الغرض، فهذا غرض لا بأس به؛ بل قد يكون الأنسب أن يتكلم الإنسان في بعض ذلك -أحياناً-.
أما إن كان على سبيل الإطراء المحض، فالذي يظهر أنه لا داعي له إن صدر من عالم، فالإمام السيوطي -مثلاً- كما عبر أو مثل السائل له كلام في الثناء على نفسه، أذكر منه قوله في قصيدته التي ذكر فيها المجددين ووصل إلى القرن التاسع، قال:
وهذه تاسعة المئين قد جاءت ولا يخلف ما الهادي وعد |
وأرجو أن أكون أنا المجـدد إذا أن فضل الله ليس يجحد |
وكذلك حين ترجم لنفسه في كتاب (حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة) استطرد في الثناء، ولم يكن هذا من عادة أهل العلم، لكن على الإنسان أن يعرف أن هذا ليس موضع قدوة؛ بل يقتدى بالإمام السيوطي وغيره في الحرص على العلم، وجمعه، والتصنيف، والتأليف، والعبادة، والزهد، وغير ذلك.
وما كان من الأمور التي وقعت منهم وقد يكونون معذورين بها، أما لأن الإنسان يواجه كلاماً من الناس أو صراعاً مع أحد أو غير ذلك، أو تكون زلة ويغفرها الله لهم.
المهم: أن الإنسان لا يتخذ مثل هذه الأشياء حجة في مديح نفسه والثناء عليها وإطرائه!!
الجواب: الموقف الصحيح: أن الإنسان ينبغي أن يتحلى بالخلق الفاضل مع شيوخه، بتوقيرهم وتقديرهم واحترامهم وإعطائهم ما هم له أهل، وهذا خلق ينبغي أن يتحلى به الإنسان، وهو حق شرعي لهذا العالم.
وحين يكون هذا دأب طالب العلم مع شيخه، يصبح أمراً عادياً طبيعياً لا يتميز به هذا الطالب بذاته؛ بحيث يكون مدعاة إلى رفعة الدرجات أو ما شابه ذلك، ثم إنه إذا كان قصد الطالب حسناً؛ فلا يضيره ما حدث بعد ذلك؛ لأنه إن وقع أن أعطي الطالب درجة بسبب هذا الخلق، فإما أن نقول: إن هذه درجة يستحقها؛ لأن الخلق يتعلم كما يتعلم العلم، وليست التربية -وأنتم أدرى مني بموضوع التربية- هي ليست مجرد حشو المعلومات في أذهان الطالب، تربية الطالب على معايشة الأمور العملية والتربي بالأخلاق الفاضلة هي من أهم مهمات المعلم، وإلا إن كان الطالب لا يستحقها يقال: إن هذا أمر وقع فيه المدرس باجتهاده والطالب لم يقصد ذلك، ولم يطلبه، ولم يسع إليه؛ لكن يحذر الطالب من الوسيلة المباشرة التي يقصد من ورائها هذا الغرض، مثلاً: قد يسأل طالب، يقول: أنا أحب أن أهدي لأستاذي كتاباً، أو كتباً، أو ما شابه ذلك، نقول هدايا العمال غلول، ربما يكون هذا نوع من الغلول، فأنت تهدي للأستاذ -مثلاً- أو الشيخ بقصد أن تستميل قلبه، وحتى لو فرض أن الأستاذ أو الشيخ من الثقل، وعدم التأثر بمثل هذا في محل رفيع إلا أن هذا العمل منك أنت يعتبر خطأ.
الجواب: الحقيقة: ربما يكون كثيراً من الإخوة أرسخ مني قدماً في ميدان التعليم ومعايشة الطلاب؛ ولكن ما دام طلب المشاركة فأعتقد -والله أعلم- أن الأستاذ إذا تميز بانضباط الشخصية؛ فإنه يستطيع أن يجمع بين الأمرين، فيتبسط مع الطلاب -مثلاً- في معاملته معهم بصفة فردية في بداية المحاضرة في مشاركتهم إذا كان هناك نشاط أو غير ذلك، ويشعرهم بأنه على قرب منهم، وبحنوه وشفقته عليهم، فإذا جد الجد يكون جاداً بعيداً عن كل ما قد يدعو إلى حدوث فقدان الهيبة، أو فوضى، أو ما شابه ذلك، بحيث يستطيع أن يجمع الجدية في التدريس، وإلقاء الدروس، وتحضير المعلومات وإيصالها إلى أذهان الطلاب، ومحاسبتهم عليها، وبالمقابل يحرص على التلطف مع الطلاب في الأوقات المناسبة لذلك، لكن قد يقول إنسان: إنه لا يستطيع الجمع بين هذين الأمرين، لأنه إن تبسط مع الطلاب فقد هيبته، وتعدى الطلاب حدهم وطورهم في ذلك، فحينئذٍ إن كان الأمر كذلك بالنسبة لبعض الشيوخ، ففي نظري: أن الأولى في هذه الحالة أن يكون جاداً ليحفظ مكانته ويستطيع أن يؤدي مهمته ورسالته، ومن المعلوم أن المصالح إذا تزاحمت، يقدم الأهم فالأهم، وكذلك المفاسد إذا تعارضت يدفع منها الأشد فالأشد.
الجواب: الكبر المنهي عنه عرفه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه {بطر الحق وغمط الناس} وهو شعور الإنسان بنفسه بأعظم مما هو عليه؛ بحيث يرد الحق ممن جاء به، ويبخس الناس أشياءهم، وحقوقهم، وفضائلهم، وله آثار سيئة ذكرت طرفاً منها.
أما العزة: فهي أن يكون الإنسان بعيداً عن الذل والمهانة وانحطاط النفس؛ بحيث يتجنب كل ما فيه خدش لمروءته وإنسانيته من الأخلاق والأعمال والأقوال، فيلتزم في ذلك بحسن الخلق، وبالمواقف السليمة، وبالكلام الطيب، وبتجنب المشاكسة مع السفهاء وغيرهم! حتى يحفظ لنفسه مكانتها وعزتها.
الجواب: اليوم نعيش ظاهرة -ربما لمحت إليها- وهي: أن المكتبات الإسلامية تزخر يومياً بعشرات، وربما بمئات الكتب في ألوان العلوم الإسلامية، وكثيرٌ من هذه الكتب محقق؛ لكن التحقيق يختلف، فهناك تحقيق علمي بذل فيه الباحث جهوده والتزم شروط التحقيق العلمي- مثلاً-: نفترض أنه يحقق مخطوطة تجده يبحث عن نسخها على الأقل نسختين أو ثلاث نسخ منها إن وجدت، ويقارن بينها، ويثبت النص الصحيح، ويرجع النصوص إلى مواضعها، يترجم ولو باختصار للإعلام المغمورين، يوضح الكلمات الغريبة، يضع مقدمة للأشياء المهمة؛ تجده عملاً طيباً مهماً كان هذا الشخص غير معروف، أنت لا تحكم على الشخص تحكم على هذا العمل بأنه عمل طيب ومفيد، لكن في المقابل تجد ركاماً من الكتب ليس لها من التحقيق إلا أنه مكتوب على طرف الكتاب وغلافه (حققه فلان بن فلان) حتى أنني وجدت كتاباً مكتوب على ظهره وهو لـابن قيم الجوزية -رحمه الله- اسمه " اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية " مكتوب على غلافه حققه "جماعة من العلماء"، (انظر كيف فخامة العبارة) وفي داخل الكتاب تجد في أحد الهوامش: (لم نعثر على هذه الآية ولعله حديث قدسي) -والجنون فنون كما يقال- فجماعة من العلماء لا يعرفون هذه الآية ولا يفرقون بين كلام الله وقول الرسول صلى الله عليه وسلم!!
بعض الإخوة: قد يتسرعون فيشتغلون -مثلاً- بموضوع التحقيق أو البحث دون استكمال آلته، والواقع أن البحث من أهم وسائل التعلم، ولذلك تفرض الكليات والجامعات على طلابها بحوثاً في كافة السنوات، لكن هناك فرق بين أن أبحث، وأن أنشر، ففي رأيي أن الطالب الذي لا يأنس من نفسه القوة والكفاءة، إذا بحث أو حقق لا يعتمد على نفسه؛ بل يتكئ على غيره، ويطلب من أحد العلماء المعروفين أن يقرأ له هذا البحث ويصححه، ويصلح أخطاءه وينصحه فيه، أحد كبار العلماء ذكر أن طالباً من الطلاب قدم له بحثاً في موضوع من العبادات قد استقصى فيه أحكام عبادة من العبادات، كالصلاة مثلاً أو الحج، وجاء فيه بآراء غريبة؛ لأنه أحياناً الطالب قد يتبنى بعض الآراء التي فيها شذوذ، مثلاً يقرأ رأي ابن حزم، وابن حزم إمام جليل أوتي فصاحة وبلاغة، وقوة عبارة، وشدة على الخصوم، فالطالب إذا قرأ عبارة ابن حزم يشعر بأنه أسير لـابن حزم، وغالباً قد يقتنع بقوله، ثم إن ابن حزم يستعمل ما يسميه بعض المعاصرين بقياس الإحراج، وهذه -تسمية على مسمى- يعني: أنه يحرج الخصوم بتناقضاتهم.
فيقول: الحنفيون، قالوا: وهم في المقابل، قالوا: كذا، إذاً: هم تناقضوا.
ويأتي كذلك الشافعية والمالكية وغيرهم، ويظل يأتي لهؤلاء يحرجهم بقياسات من هذا النوع؛ حتى يشعر الطالب أو القارئ أن ابن حزم أصاب في هذه المسألة، وقد يكون له رأي خاص وابن حزم معذور؛لأنه عالم مجتهد، لكن أنت لست معذوراً حين تأخذ رأي ابن حزم وتتشبث به كأنه رأيك الخاص.
فيقول: إن هذا الطالب جمع فيه آراء غريبة، لكن الغريب أنه في مقدمة الكتاب وفي الصفحة الأولى عدد من الأخطاء ما بين أخطاء نحوية ولغوية وإملائية، فالطالب الذي ما تمكنت لديه الآلة وليس عنده علم بالقرآن الكريم -حفظ القرآن- ومعرفة باللغة العربية، ومعرفة بالأساليب، فلا ينبغي أن يتعجل في نشر هذه البحوث.
الجواب: من هذه الكتب كتاب العزلة للخطابي، وقد أشار إشارة خفيفة وليست كبيرة، ومنها: كتب الخطيب البغدادي ككتاب "الفقيه والمتفقه" و"الجامع لآداب الراوي وأخلاق السامع" و"شرف أصحاب الحديث" وغيرها، ومنها: كتاب الإمام الحافظ ابن عبد البر " جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي روايته وحمله" ومنها: ما كتبه ابن الجوزي في "تلبيس إبليس"؛ لأنه تكلم عن تلبيسه على طلبة العلم، وأطال النفس في ذلك.
وعموماً: الكتب التي تكلمت عن آداب طالب العلم تتعرض لتلك الآفات بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وقد كتب الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد كتابين مفيدين في هذا المقام أحدهما بعنوان " التعالم وأثره على الفكر والكتاب" والثاني بعنوان "حلية طالب العلم " وهما كتابان مفيدان في هذا الباب.
والصلاة والسلام على خير المرسلين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر