أما بعد: السلام عليكم ورحمه الله وبركاته،،،
أيها الإخوةُ الأحبةُ الكرام: هذا الدرس الثامن والثمانون من سلسلة الدروس العلمية العامة، بالجامع الكبير بـبريدة، في هذه الليلة ليلة الإثنين (18 ذي القعدة، لسنة 1413هـ).
وعنوانه: (دلوني على سوق المدينة).
وقد كنت أعلنتُ عن هذا الدرس على مدى أسبوعين، ثم تأجل لأسبابٍ طارئة، وهذا أوان الوفاء بما كنت قد وعدتكم به، ومما هو جديرٌ بالذكر، أنني علمت بعد أن ذكرت لكم عنوان الدرس، أن أخي فضيلة الشيخ عبد الوهاب بن ناصر الطريري خطب خطبةً ووضع لها هذا العنوان وهو "دلوني على السوق".
وحقاً لم أعلم بذلك إلا بعد أن غادرت المسجد، فكان هذا محض اتفاقٍ وقدر، والحمد لله على ذلك، فإنه يدل على أن هذه الفكرة التي نتحدث عنها، وندعو إليها، هي همٌ مشترك بين مجموعات من طلبة العلم.
ومعنى كلام سفيان -رحمه الله-: أن إعداد المال، واقتناءه ربما كان محتاجاً إليه في كلِّ وقت، لكن في زمانه على سبيل الخصوص زادت الحاجة!! لأن به يحفظ الإنسان عن إراقة ماء وجهه فيما لا يحل، أو التعرض للسؤال، أو الضعف، أو الحاجة إلى من بيدهم المال، فإذا كان هذا الكلام في زمان سفيان، فما بالكم بوقتنا هذا الذي يتنافس العالم فيه، في مجالِ الاقتصاد وفي مضماره.
إننا محتاجون إلى أن نتحدث طويلاً عن هذا الهم؛ الهم الاقتصادي، وهذا الدرس هو الدرس الثاني بعد الدرس الأول، الذي كان بعنوان (
لا يريد أن يأخذ شيئاً من مال أخيه، ولا من أهله؛ ولكن دلوني على السوق، فأتى السوق، فربح شيئاً من أقطٍ، وشيئاً من سمنٍ، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم بعد أيامٍ وعليه وضرٌ من صفرة، عليه طيبٌ خلوف، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: {مهيم يا
فكانت مكة مركزاً تجارياً وزراعياً على مستوى الجزيرة العربية كلها، ولذلك كان أهلها خبراء ومحترفين في التجارة، فكان عبد الرحمن بن عوف لأنه مكيٌ مهاجريٌ، من أول ما نـزل المدينة قال: "دلوني على السوق"، وبخبرته نـزل السوق، ولم يكن معه قرشٌ ولا ريالٌ، ولا درهمٌ ولا دينار؛ ولكنه ضاربَ وما هي إلا أيام، حتى ربح شيئاً من إقطٍ، وشيئاً من سمنٍ، ثم على مدى أسبوعٍ تزوج عن غِنى، ولم يكن محتاجاً إلى لجنةٍ خيرية، ولا إلى محسنٍ متصدق، ولكن أغناه الله تعالى بالضرب في الأسواق، والسبق فيها بما أحل، حتى استغنى وأغنى بإذن الله عز وجل.
وهذا يذكرنا أيضاً، بقصة عروة بن الجعد الأزدي البارقي رضي الله عنه وله قصةٌ شهيرة، هي في صحيح البخاري: {أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه ديناراً وقال: اشترِ لي شاةً، فذهب واشترى شاتين، ثم باع إحداهما بالثمن نفسه، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بماله وبشاته، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم فكان لا يُضارب في صفقةٍ، إلاَّ ربِح فيها، حتى اعتقد الصحابة رضي الله عنهم أنه لو باع التراب لربح فيه} فأنت تلحظ هنا أيضاً، روح الاحترام عند عروة البارقي، والخبرة في التجارة، والتعرف على الأسباب، والبحث عن الفرص، ثم تلحظ دعماً نبوياً من النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه أن يكونوا أغنياء عن الناس، فقراء إلى الله رب الناس جلَّ وعلا.
إنها جزءٌ من حياة الجيل الأول كلهم، لا تخطئك في أي واحدٍ منهم، وعلى سبيل المثال: أبو بكر رضي الله عنه خرج تاجراً إلى الشام وإلى البصرة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كما أخرجه الزبير بن بكار في الموفقيات، ولم يمنعه الرسول صلى الله عليه وسلم وحب الجلوس معه من ذلك، ولا منع النبي صلى الله عليه وسلم محبة أبي بكر والحرص على صحبته من الإذن له بالتجارة إلى البصرة، أما عمر رضي الله عنه ففي الصحيحين في قصة أبي موسى رضي الله عنه لما استأذن عليه، وقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فإن أذن له وإلا فليرجع} فطلب عمر البينة على ما قال أبو موسى، فجاءه ببعض الأنصار فشهدوا له، فقال عمر رضي الله عنه: [[خفي عليَّ هذا من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألهاني عنه الصفقُ في الأسواق]].
وحقيقةً كان عمر كثير الصحبة للنبي صلى الله عليه وسلم حتى إنه كان عليه الصلاة والسلام كثيراً ما يقول: {ذهبت أنا و
أما علي رضي الله عنه فقد ذكر عنه الخلال كما في كتابه، الحث على التجارة، ذكر أنه كان على علي إزارٌ غليظ، اشتراه بخمسةِ دراهم فقط، أمير المؤمنين عليه إزارُُ غليظ، قيمته خمسة دراهم فقط! ثم يقول رضي الله عنه: [[اشتريته بخمسة دراهم، لو أربحني فيه رجلٌ درهماً واحداً لبعته عليه]].
إذاً هو مستعدٌ أن يتاجر حتى في ثوبه الذي على جلده، ولو أربحه فيه إنسانٌ درهماً واحداً! هذه روح التجارة لمثل هؤلاء الرجال الفضلاء، وهكذا كان سائر الصحابة من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم.
ولقد قدم المهاجرون المدينة بالمئات، ثم بالألوف، جم غفير، فهل عانت المدينة يا ترى.. أزمةً اقتصاديةً بسبب هذا العدد الكبير، الذي نـزل فيها، ولم تكن فرص العمل مواتية؟!!
وهل عانت المدينة أزمةً في الوظائف الحكومية؟! كلا!
ولهذا كان أهل العلم، والجهاد، والدين، يتواصون بالعمل في التجارة، لا أقول أهل الدنيا، ولا أقول أهل المال، ولا أقول أهل السلطة، وإنما أقول أهل العلم، والدعوة، والجهاد، كانوا يتواصون بذلك.
وهذا أبو قلابة رضي الله عنه يوصي أيوب السختياني، فيقول له: الزم السوق، فإن الغنى من العافية، وهذا الأثر رواه عبد الرزاق، وابن أبي شيبة والبيهقي وغيرهم وسنده صحيح.
وهذا إسحاق بن يسار يمر بالبزازين الذين يبيعون الثياب، فيقول لهم: يا معشر البزازين! الزموا تجارتكم.
هل تراه وقف عليهم ليقول لهم: القوا ما أنتم فيه، واتركوا ذلك، واذهبوا إلى الكهوف والمغارات لتعتزلوا فيها؟! كلا بل يقول: يا معشر البزازين، الزموا تجارتكم فإن أباكم إبراهيم عليه السلام كان بزازاً، أي: يبيع الثياب، وهذا الأثر رواه أبو نعيم وسنده جيد.
وشعبة رضي الله عنه وهو من أتباع التابعين، يقول لتلاميذه يربيهم على العلم، وعلى العبادة، وعلى الخير والجهاد، ومن ضمن كمال التربية أنه يعطيهم تعليماتٍ صريحة يقول لهم: الزموا السوق، وهذا الأثر مروي في الجعديات، وسنده صحيح.
وقال رجلٌ للإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله-: إني رجل غني، وذو كفاية، فماذا ترى لي؟ قال له الإمام أحمد: الزم السوق، تصلُ به الرحم، وتعودُ به على عيالك، وهذا الأثر رواه الخلال وابن الجوزي، رحمه الله تعالى.
أما سفيان الثوري -رحمه الله- فيقول لك: عليك بعمل الأبطال.
ونحن نعرف أن الأبطال يخوضون المعارك، وأن الأبطال يقولون كلمة الحق، ونعرف أنهم يموتون في سبيل الله؛ ولكن سفيان يقدم لك تعريفاً جديداً للأبطال، وهو صحيحٌ أيضاً.
(عليك بعمل الأبطال، الكسب من الحلال، والإنفاق على العيال).
فهؤلاء العشرة كان أكثرهم من أصحاب الأموال الضخمة، ومن أغنى أغنياء المسلمين، وقد رأيت أن أعرض لك بعضهم، لأن الوقت لا يتسع لجميعهم.
فيا ترى! ماذا فعل هذا الإمام المقدم العظيم، الذي يفاخر به المسلمون عبر التاريخ؟
روى ابن سعدٍ بسندٍ موصول بالرجال الثقات أن أبا بكر لما استخلف، أصبح غادياً إلى السوق، وعلى رأسه أثواباً يتاجر بها كالعادة، حمل الأثواب والبضائع وغدا إلى السوق، يبيع ويشتري! فلقيه في الطريق عمر بن الخطاب، وأبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنهما فقالا له: [[كيف تصنع هذا وقد وليت أمر المسلمين]]؟!
قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: [[فمن أين أطعم عيالي]]؟!
قالا له: [[نفرض لك، ونجعل لك مرتباً يومياً، أو أسبوعياً، أو شهرياً، تستغني به عن التجارة]].
فماذا يا ترى فرضوا له؟ فقط نصف شاةٍ يومياً، هذا راتب الخليفة رضي الله عنه وهو مقابل أموالٍ ضخمة كان يكسبها من التجارة، حتى إنه كان أغنى أغنياء قريش قبل أن يلي أمر الخلافة.
فقد روى الترمذي عن عبد الرحمن بن سمرة قال: [[جاء
الأثر الثاني: عن عبد الرحمن بن خباب رضي الله عنه وهو عند الترمذي -أيضاً- قال: لما دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى تجهيز جيش العسرة، قال عثمان: {يا رسول الله! عليَّ مائة بعيرٍ بأحلاسها وأقتابها، ثم دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى المشاركة، فقال: يا رسول الله! عليَّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها، ثم دعا النبي صلى الله عليه وسلم مرةً ثالثة، فقال: يا رسول الله! عليَّ ثلاثمائة بعيرٍ بأحلاسها وأقتابها}.
هذا ما أنفقه عثمانُ في مناسبةٍ واحدة، فما بالك بمجموع ما أنفقه طيلةَ عمره!! وما بالك بمجموع أموال الخليفة الراشدي الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه.
ولما مات طلحة رضي الله عنه خلف من الأموال الشيء الكثير، سأل معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه موسى بن طلحة، ولده، فقال له: كم ترك أبو محمد، أي كم خلف من الأموال؟
فقال له: ترك ألفي ألف درهم، ومائتي ألف درهم، هذا من الفضة، أما من الذهب فخلف مائتي ألف دينار، فقال معاوية رضي الله عنه: [[عاش حميداً سخياً شريفاً، ومات شهيداً]].
وكان للـزبير أربع زوجات لهنَّ الثُمن، ربع الثُمن هو نصيب كلّ زوجةٍ فقط، وكان ذلك بعدما رفع ثلث المال الذي كان وصية أوصى الزبير بها أي: رفع الثلث كان بعد أن قضى الديون كلها، ثم رفع الثلث، ثم وزع الميراث، فالذي أصاب الزوجة، يعادل 24:1 من تركة الزبير رضي الله عنه أي: أصاب كل امرأةٍ ألف ألف ومائة ألف، قال: فجميع ماله، يعني حسبت المال فوجدته يزيد عن خمسين مليوناً ومائتي ألف، وأثر الزبير أصله في صحيح البخاري.
قال ابن عبد البر رحمه الله: كان عبد الرحمن بن عوف، وهو صاحب "دلوني على سوق المدينة" قال ابن عبد البر: [[كان مجدوداً أي "محظوظاً" بالتجارة، خلَّف ألف بعير، وثلاثة آلاف شاه، ومائة فرس، وكان يزرع بالجرف -وهو موضع، على مسافة ثلاثة أميال من المدينة تقريباً إلى جهة الشام- وكان يزرع بالجرف على عشرين ناضح]].
وهكذا سعد بن أبي وقاص، كان من الأغنياء المشتغلين بالزراعة، ولما حصلت الفتنة، ترك البلاد، وذهب إلى مزرعته يشتغل فيها وأعرض عن الناس.
فقد روى الإمام أحمد في مسنده، والبخاري في الأدب المفرد، والحاكم، وابن حبان، وغيرهم بسندٍ صحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا عمرو بن العاص أول ما أسلم، فقال له: {يا
وقد أثنى الله تعالى على ناسٍ في القرآن فقال: رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ [النور:37] إذاً هم يتاجرون ويبيعون ويشترون؛ ولكن لا يلهيهم ذلك عن ذكر الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، فكان الواحد منهم، إذا وضع الشيء في كفة، وأراد أن يضع في الكفة الأخرى ما يقابله، ثم سمع المؤذن، ترك الميزان وذهب إلى الصلاة!! لا يقول: أزن هذه السلعة، أو هذه البضاعة ثم أذهب، بل يترك ذلك ويصلي فأثنى الله عليهم بأنهم لا تلهيهم تجارةٌ ولا بيعٌ عن ذكر الله وإقامِ الصلاة وإيتاء الزكاة.
فهذا هو الضابط أن الإنسان لا يشتغل عن الدين بالدنيا، ولا تلهيه التجارة والبيع عن ذكر الله، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والدعوة وطلب العلم والجهاد؛ ولكن يعمل هذا وهذا، ويوظف ما آتاه الله في سبيل الله، قال تعالى: قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ [القصص:17].
قال قتادة كما رواه البخاري في كتاب البيوع عند تلك الآية، قال: كان القوم يتبايعون، ويتجرون، ولكنهم إذا نابهم حقٌ من حقوق الله لم تلههم تجارةٌ، ولا بيع حتى يؤده إلى الله.
إن مرابطة العنصر المتدين في الأسواق، والتجارة، والبيع والشراء، وفي سائر المؤسسات المالية، في بلاد الإسلام، حمايةٌ من الغش، والتزوير، والكذب، واستغلال بساطة الناس وطيبتهم، ومن المتاجرة بالحرام، وفرض البضائع الفاسدة على المسلمين، فأنت تجد أحياناً أن الإنسان يبحث عن الثوب، الذي يلتزم بالمواصفات الشرعية، لزوجته أو لطفلته فلا يجد لماذا؟!
لأن العنصر المتدين غائب، وأحياناً تجد أن الإنسان يبحث عن اللحم الحلال، الذي يطمئن إليه فلا يجد لماذا؟! لأن العنصر المتدين غائب.
وهكذا، وهذه لا تعد إلا أن تكون نماذج يسيرة.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو كما ذكرت أم سلمة: [[أنه كان يدعو بعد صلاة الفجر، ويقول: اللهم إني أسألك رزقاً طيباً، وعلماً نافعاً، وعملاً متقبلاً]] والحديث رواه أحمد والنسائي في عمل اليوم والليلة والطبراني وعبد الرزاق وغيرهم، وهو حديثٌ صحيح.
ولهذا الإمام أحمد وغيره من السلف، قالوا في الزهد: أن يكون عندك المال، فلا يستبد بك الحزن إن نقص، ولا يستبد بك الفرح إن زاد، بل إن زاد المال أو نقص فالأمر عندك سواء، وهؤلاء هم كبار الزهاد من الصحابة رضي الله عنهم، قد رأيت أموالهم، فهل رأيتهم أنهم جزعوا على فائتٍ من الدنيا؟ كلا، بل كان الواحد منهم وهو على فراش الموت يقول: لا أفلح من ندم، غداً ألقى الأحبة، محمداً وصحبه صلى الله عليه وسلم فهم ما أسفوا على الدنيا كلها يوم زالت، بل كانوا يخوضون المعارك، ويتعرضون للموت أو القتل، رجاءَ نيلِ الشهادةِ في سبيل الله، ما ألهتهم تلك الأموال عن المجاهدة، وهذا هو سر العظمة، والنبوغ والكمال، الذي وجد في ذلك الجيل، ولم يوجد فيما بعدهم إلاَّ قليلاً!، نعم وجدنا من بعدهم أناساً إما أن يكونوا أغنياء، معرضين عن الآخرة، أو أن يكونوا من أهل الآخرة؛ ولكنهم ليسوا من الدنيا في قليلٍ ولا كثير، ولا قبيلٍ ولا دبير.
إذاً هذا الوضع الذي تعيشه أنت، في قلةِ ذات اليد، أتراه زهداً، أم أنه الكسل، وحب الراحة، والخرق كالعمل؟ سَمِّه أيَّ شيءٍ أحببت، بارك الله فيك؛ لكن إياك أن تسميه زهداً!!
وكيف تسميه زهداً! وأنت تترك الكسب الحلال، وتذهب إلى مكاسب وطرق مذمومةً شرعاً.
إن كون الإنسان يتعرض للتجارة والبيع والشراء، خير من أن يأخذ من الناس أُعطياتهم، أو أن يتعرض لسؤال واحدٍ منهم.
ولو سُئل الناس التراب لأوشكوا إذا قيل هاتوا أن يملوا ويمنعوا |
قال أحيحة بن الجلح الشاعر المعروف:
استغنِ أو مت فلا يغررك ذو نشبٍ من ابن عمٍ ولا عمٍ ولا خالِ |
إني أظل على الزوراء أعمرها إن الحبيب إلى الإخوان ذو المالِ |
فالناس يحبونك إن كنت غنياً، ولو طلبتهم ثم طلبتهم، لثقُل ذلك عليهم، ولو كانوا أقرباء، فلا تغتر بذي المال، ولو كان قريباً، فضلاً عن أن يكون بعيداً، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث حكيم بن حزام: {اليد العليا خيرٌ من اليد السفلى، فاليد العليا هي المنفقة، واليد السفلى هي الآخذة أو المتعرضة للسؤال} إن في السؤال والتعرض للناس، وقبول أعطياتهم مذلة، وإراقةً لماء الوجه، وقد كان كثيرٌ من السلف يرد ذلك، ومن أشهر من كان له في ذلك قدمٌ راسخةٌ معروفة، الإمام أحمد رضي الله عنه، فقد كان يرد الأعطيات التي يبعث بها أصحابه إليه، ويشتغل هو بشيءٍ آخر إما أن ينسخ كتاباً، أو يشتغل بشيءٍ، أو يبيع شيئاً، أو ما أشبه ذلك، أو يؤجر نفسه، حتى يكسب المال، الذي يستغني به عن الناس، ومع ذلك حصل له من العلم، والعبادة، والصبر، والجهاد والبلاء، والسابقة في الإسلام، ما لا يخفَ أمره.
وهكذا بالنسبة لطلبة العلم، والدعاة، المصلحين، بل وسائر الناس، فإن الاستغناء عنها مهما أمكن هو الأولى والأفضل، ولذلك قال سفيان الثوري -رحمه الله تعالى-: إن عامة من داخلها هؤلاء، أي: الأمراء والسلاطين، إنما دفعه إلى ذلك العيال والحاجة، فكثرة العيال وشدة الحاجة، تجعل الإنسان يتخلى عن بعض المبادئ التي يقرها ويقول بها، ويتخلى عن بعض المثاليات التي ربما دعا إليها يوماً من الأيام؛ لكن إذا كان مستغنياً بما أغناه الله تعالى، بكسب يمينه، أو بعرق جبينه، فإنه لا يكون مضطراً إلى ذلك ولا محتاجاً إليه.
ومما يدخل في ذلك أيضاً الوظائف الحكومية، وهذه الوظائف لا حرج فيها، إذا أدَّى الإنسان حق الله تعالى فيها، وقام بما عليه، بشكلٍ عام، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ما جاءك من هذا المال، وأنت غير مستشرفٍ فخذه، ومالا فلا تتبعه نفسك} لكن ينبغي للإنسان وهو يقارن بين الوظيفة وبين العمل الحر، ألا يغفل عن أمور.
أولاً: الوظيفة تضعف التوكل على الله:
الوظيفة تضعف التوكل على الله عز وجل، بخلاف الضرب في الأرض، فإنه يقوي التوكل، فالضرب في الأرض نوعٌ من المخاطرة وفيه قد يكسب الإنسان وقد يخسر، وقد يستغني وقد تركبه الديون، ولذلك يكون قلب العبد حينئذٍ أقرب إلى الله تعالى، لأنه يدري أنه محتاجٌ إلى الله في هذه الصفقة، وفي هذا البيع، وفي هذا الشراء، فتجده يضارب وهو يدعو الله، ويسأل الله، فإذا جاءت الصفقة أكثر وأحسن مما توقع، تهلل وجهه، وحمد الله وأثنى عليه، وقال: "هذا من فضل الله"، وإذا جاءت الأخرى وكان مؤمناً حمد الله وشكره، وقال: "الحمد لله على كل حال".
أما الوظيفة فأيامٌ معلومة، ومرتبٌ يخرج في يومٍ معين ومقدارٌ معلوم لا يزيد ولا ينقص، ولذلك يخلد الإنسان إليه، ويتوكل على الأسباب بدلاً من أن يتوكل على الله رب الأرباب.
ثانياً: الوظيفة تقتل الطموح، وتدمر الإبداع:
الوظيفة تقتل الطموح، وتدمر الإبداع، وتقضي على روح الاحتساب، والغيرة في إنكار المنكر عند المؤمن في بعض الحالات، حتى لا أكون معمماً، وذلك أن الإنسان يعمل عملاً روتينياً مألوفاً، مكرراً يقوم به يومياً لا يتغير ولا يتبدل، وربما كان هذا العمل غير متوافقٍ مع طبيعة هذا الإنسان، ولا متلائم مع ظروفه، ولذلك يقتل عند الإنسان روح الطموح والإبداع، والتفكير في الجديد، ولهذا أيضاً نجد أن العنصر الجديد في مثل مجتمعاتنا اليوم، الخريج من الجامعة، أو من غيرها، تجده بدلاً من أن يقول قول عبد الرحمن بن عوف (دلوني على سوق المدينة) ماذا يقول لنا؟! يقول: دلوني على مكتب أو ديوان الموظفين!!
ابحثوا لي عن الوظيفة الجديدة، ابحثوا لي عن ميدان العمل، إذاً قد تربىَّ الكبير والصغير، على أن سبيل الرزق هو الوظيفة، والوظيفة فحسب! فقتلنا في روح الشباب الإبداع، والطموح، والابتكار، والمواهب، المتميزة، التي قد يقوم بها أيٌ منهم.
وإنني أذكر لكم بهذه المناسبة، قصةً قرأتها في بعض الصحف، وهي قصةٌ قد لا تكون لائقةً بالنسبة للشباب، لكن لا بأس أن نضرب الأمثال بالخصوم، قد تكلمت الصحف، والمجلات، والجرائد، ووسائل الإعلام، عن شابٍ جزائري يسمونه شابٌ خالد.
ما هذا الشاب؟ ما قصته؟ هذا الشاب أجاركم الله مُغنيِّ، أغنياته أعجبت الغرب، فتبنته فرنسا وقدمته في وسائل إعلامها، ثم أمريكا، وبريطانيا، وصار هذا الشاب ينتقل من بلدٍ إلى آخر، يتكسب بحنجرته وصوته، وتعرضه وسائل الإعلام بما في ذلك وسائل الإعلام العربية، وبما في ذلك وسائل الإعلام التي تستقبل في هذه البلاد، تعرض أغنياتٍ له فيها كثيرٌ من المجون، والخلاعة، والبذاءة، والاختلاط بين الرجال والنساء، بل والنساء العاريات، ومرةً وجدتُ كلاماً مع هذا الشاب، يسألونه ويقابلونه، ويعتبرونه نموذجاً للإنسان المثالي، المضحي، فيقول: إنه كان في أول عمره يشتغل في ورشة للسيارات، ثم اكتشف هذه الموهبة، فأصبح هذا الرجل بتلك المنـزلة، وإنني أقول: إن مثل ذلك الشاب الذي ينتمي إلى ذلك البلد الطيب، الطاهر، أرض الجزائر، أرض الإيمان، وأرض المسلمين، والمجاهدين، والعلماء، وجمعية العلماء، إنه جديرٌ بهذا الشاب، أن يُصغي لصوت الحق، الذي يقول له: درهمٌ من حلال، خيرٌ من مليارات من حرام، والذي يقول له: عد إلى الله عز وجل، وكان بإمكانه أن يستخدم ما أعطاه الله عز وجل في غير هذا، ولو كان في غيره كان قربى إلى الله عز وجل.
فأنت ترى هذا الصوت، الذي يُعصى به رب العالمين, ترى آخر يطيع الله تعالى به، فيترنم بالقرآن، ويتغنى به، فيلين قلبه، ويلين قلوب الناس بذلك، فيحفظ القرآن، ويقبل عليه تعلماً، وتعليماً، ودعوةً، وقراءةً، وتدبراً، وتفسيراً.
فأين هذا من هذا؟! وإنما أقول، المقصود أن العبد يملك مواهب، هذه المواهب، قد تجعله غنياً في الدنيا، وقد تجعله غنياً في الآخرة، وقد يكون الأمر على النقيض من ذلك، وكل إنسانٍ في الموقع الذي يختاره.
وما المرء إلا حيث يجعلُ نفسه ففي صالح الأعمال نفسك فاجعل |
الصفة الثالثة: الوظيفة تقتل الرجولة في الإنسان:
فيما يتعلق بالوظيفة، أنها أحياناً تقتل الرجولة في الإنسان، وتميت الشخصية، وتضيع الغيرة، وكم من إنسانٍ يكون في وظيفةٍ، وفي عملٍ، ولكنه يرى المنكرات، فلا يستطيع أن يقول شيئاً، بل يلاحظ أن مسئوله عن العمل يغش، أو يأخذ من حرام، أو لا يقوم بالواجب، أو يكذب، أو يزور، ولكنه لا يستطيع أن يقول شيئاً، بل قد يساهم في هذا العمل، ويوقع عليه، ويكون جزءاً منه، لماذا؟! لأنه يريد أن يرضي رئيسه، حتى يحصل على العلاوةِ مثلاً، أو حتى تستمر هذه الوظيفة له، أو خشية أن يكتب عليه تقرير سيء، أو ما أشبه ذلك، وكم من إنسانٍ قال ما لا يعتقد، وعمل ما لا يرضى، وسكت عن أمرٍ يجب عليه أن يتكلم فيه، وما ذلك إلا محافظةً على الكرسي أو الوظيفة.
أذلَّ الحرص أعناق الرجالِ، وأنني ما رأيتُ في هذا الزمنِ تحرراً يعدل التحررَ من رِقِّ الوظيفة.
لا أعني بالضرورة أن التحرر من رق الوظيفة هو أن تتركها، هذا ليس ضرورياً، ولكن أن تكون غنياً عنها.
بحيث تصغر الوظيفة في عينك، فلا تبالي جاءت أم ذهبت، بقيت أم زالت، ولا تُبالي رُفعت، أم لم ترفع، لأنك تبحث عن رضى الله عز وجل، فلا يهمك رضا المخلوقين، وقد استغنيت بدنياك، في نفسك وأهلك، وولدك، فلا تحتاج إلى أحدٍ من الخلق، ولا تُبالي بذلك، إن من سوء حظ الدعوة، بل من سوء حظ الأمة ألا تجد أنه في يومٍ من الأيام، كانت أيَّ بلدٍ من البلاد الإسلامية، في جميع الأعمال والوظائف الدينية الشرعية، كان مرجعها العلماء والدعاة والمصلحون، ولذلك انضبطت بضوابطِ الشرع، وراعتْ ما يحبه الله ورسوله ويرضاه، فخطبت بالحق، وهتفت به، ودعت إليه، وأمرت بالمعروف، ونهت عن المنكر، أما حينما يكون الجميع مجرد موظفين، فإن الواحد منهم لا شك مضطرٌ إلى أن يراعي خاطر رب العمل، ويبحث عن رضاه، ويداهنه ولو ببعض الأمر، وهذا مدخلٌ من أخطر المداخل على الدعوة إلى الله عز وجل، فينبغي أن تحرر الدعوة على الأقل من رق العبودية للمنصب والوظيفة.
الأمر الرابع: الوظائف قد تقل وتشح:
إن الوظائف قد تشح أحياناً وتقل، فيضطر الخريج إلى ارتكاب ما حرم الله، كما أسلفت في المثال السابق، ومن الملاحظ في هذا البلاد أن الخريج الآن يبحث عن الوظيفة فلا يجدها، فيضطر إلى ذلك في زعمه -وليست هذه ضرورةٌ في الواقع- إلى أن يعمل في ينكٍ ربوي، أو في شركةٍ يعلم أنها تتعامل بالربا، أو تجمع أموال الناس بحجة المضاربة، أو المساهمة، والاستثمار، ثم تضعها في البنوك ثم تسافر هذه البنوك إلى بلادٍ أجنبية يستفيد منها الأعداء، أما نحن فإن ما نأخذ منها فائدةً معلومةً شهرية، وهذه الفائدة المعلومة من الربا المحرم، ولو سموها بغير اسمها، وقد يعتقدون أن هذا من باب الضرورة، وليس كذلك، فلئن يعمل الإنسان أي عملٍ يغنيه، بل لو أخطر الإنسانُ إلى أن يسأل الناس، لكن ذلك خيراً له من أن يعمل في حرام.
خامساً: عدم كفاية الرواتب:
فإن الراتب معلوم، وربما يكون من يقبض عشرة آلاف ريال، أو أكثر شهرياً، يجد أن راتبه لا يكفي، وأنه يستدين إلى جانب الراتب أحياناً، وذلك لسبب أن هذا المبلغ مبلغٌ محدودٌ مقطوعٌ لا يزيد ولا ينقص، والظروف قد تتغير، وقد تعرض للإنسان الحاجة، وقد تنـزل به النازلة، وتركبه الديون بسبب ذلك، وربما كان من أسباب عدم غنى المرتبات أيضاً التقصير في العمل، بحيث لا يقوم الإنسان بما أوجب الله تعالى عليه في الوظيفة، ولا يؤدي عمله كاملاً غير منقوص، فننـزع البركة من هذا المال، الذي يقبضه في نهاية الشهر.
إذاً من فوائد العمل في التجارة الاستغناء عن الأموال العامة.
فلو أن المسلمين مستقلون بصناعتهم، وبزراعتهم، وبتجارتهم، وببنوكهم، وباقتصادهم، لاستطاعوا أن يجعلوا هذه الأشياء كلها تحقق جانباً من العبودية لله، بترك الربا مثلاً، والحرام، وبترك أكلِ كل ما لا يوافق الشرع، مثل الأطعمة المجلوبة من بلادٍ كافرة، أو من بلادٍ شيوعيةٍ مثلاٍ، أو الملابس التي تكون كاشفةً للمرأة، أو الملابس التي تربي الأطفال على خلاف ما يرضي الله عز وجل، ومثل ذلك أنواع أخرى من أمور الحياة التي يرتفق فيها الجميع، فضلاً عن إيجاد الأمن للمجتمع، والاكتفاء الذاتي، الذي يجعل المسلم، مستقلاً بذاته غير محتاجٍ إلى الكفار في أموره اليومية، خاصةً ونحن نرى الكفار اليوم يستخدمون ما يسمى بمبدأ الحصار الاقتصادي على المسلمين، كما فعلوه على المسلمين في العراق، وكما يفعلونه الآن بالمسلمين في ليبيا، ويفعلونه بالمسلمين في السودان، ويفعلونه بالمسلمين في البوسنة، وغير ذلك.
لو أن المسلمين كانوا مستقلين باقتصادهم، وبصناعتهم، حتى بصناعة السلاح لما أبهوا بالكفار، بل لكان الكفار هم الذين يذعنون وينصاعون لنا، لأن عندنا البترول، ولو قطعناه عنهم لتوقفت مصانعهم، وأسواقهم، ومعاملهم، وتجارتهم، خلال مدةٍ وجيزة.
إن مثل هذا النوع من العمل، هو وقاية وحماية من الغزو الأجنبي، الذي يستخدم كل وسيلةٍ لترويج الفساد، والانحلال، وتضليل المسلمين عن دينهم، وكمثال صغير، أنت لا تكاد تجد بضاعةً اليوم إلا وفيها نجمة سداسية، وهي شعار اليهود، وقد أتاني عددٌ من الاخوة بملابس من هذا البلد، وأتوني بحقائب نسائية، وأحذية، وأشياءَ كثيرة، فيها نجمةٌ سداسية، أو يكون فيها صليبٌ وهو شعار النصارى، أو يكون فيها صورةُ فتاةٍِ عارية، أو شبه عارية، أو يكون فيها علاقةً بين صديقين، رجلٌ وامرأة، أو يكون فيها كلماتٌ بذيئة، حتى لعب الأطفال ضبطوها بحيث تُربي الطفل والطفلة على الاختلاط، وعلى حب النصارى، والتعلق بهم، وعلى بعض العادات والطقوس والتقاليد النصرانية أو اليهودية، فلم يتركوا شيئاً دقَّ أو جلَّ إلا وتسللوا من خلاله.
فتصبح القرارات السياسية رهينةً لإرادة ورغبة الشركات الكبرى، وهكذا الأمر بالنسبة لمجتمعات المسلمين، فالذي يملك التجارة يؤثر في الناس، ويضغط عليهم، ويستطيع أن يؤثر في اتجاهاتهم، ونحن جميعاً نذكر القصة التي رواها مسلم في صحيحه، عن أبي هريرة، وهي قصة ثمامة بن آثال الحنفي رضي الله عنه الذي أسلم، وقال لقريش: [[والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة، حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم]].
{ولا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا، بل قل قدر الله وما شاء فعل} واعلم أن السبب لا يمنع رزقاً، ولا يأتي به، وإنما هو أمرٌ جعله الله تعالى وكلف العباد به، وإلاَّ فالإنسان مكتوبٌ له كل شيء، حتى رزقه وأجله وعمله، وشقيٌ أم سعيد، ويدخل في ذلك حسن النية والقصد، بحيث يعلم الله تعالى من قلبك، أنك إن كسبت المال صرفته في أبواب الخير، وسبله وأسبابه، وأنك لا تغفل بهذا المال عن طاعة الله تعالى وعبادته والتقرب إليه.
ومن الصبر ألاَّ يغتر الإنسان بربحه، فيندفع أكثر مما هو مطلوب، ومن الصبر ألاَّ يغيِّر الإنسان عمله الذي تعب في إعداده بسرعة، فأنت ترى بعضهم وقد أثث مكانه وجهزه، وأعده وتعب فيه، وبذل كل ما لديه، فإذا عمل فيه فترةً زمنية، قال: هذا العمل وجدته لا يصلح، ثم تركه فخسر بذلك شيئاً كثيراً، ومن الصبر أن يدأب الإنسان في العمل، ولا يعجل أو يستبطئ الرزق، والعوام يقولون: إذا غلبوك بالفلوس فاغلبهم بالجلوس.
قليلُ المال تصلحه فيبقى ولا يبقى الكثيرُ مع الفسادِ |
وحفظ المالِ أيسر من بغاه وسير في البلادِ بغير زادِ |
(قليل المال تصلحه فيبقى، ولا يبقى الكثير مع الفسادِ) فالشاب ربما كسب في صفقة؛ ولكنه جعل هذا المكسب في سيارةٍ فارهة، لا تتناسب مع وضعه الاجتماعي، ومكانته، وماله، ثم كسب في أخرى، فجعلها في ملابس له ولزوجته وأولاده، ثم كسب في ثالثة، فجعلها في بيتٍ ضخمٍ مشيد مشارٍ إليه، ثم كسب في رابعة، فجعلها في المناسبات، والولائم، وأحياناً في الأسواق، والمطاعم، والمتاجر، وغيرها حتى ينتهي ما عنده، وتركبه الديون، فالاقتصاد سرٌ من أسرار النجاح، وأنت ترى كثيراً من الأثرياء والتجار، معتدلاً في إنفاقه على نفسه، يأكل كغيره من الناس، ويشرب ويلبس ويسكن ويركب كغيره، هذه هي العظمة الحقيقية، ألا يستفزك المال إلى المبالغة في العناية بالكماليات والمظاهر.
وعليه أيضاً أن يدرك أن الفرص تتطلبُ عملاً، ولذلك يقول المثل الإنجليزي: (الفرصة تأتي متنكرةً في ثياب العمل الشاق) يعني تتطلب الفرصة منك مرابطة، واجتهاداً، ويقظة، ومشاورة، وجهداً كبيراً، بل على الإنسان إذا لم يجد الفرصة أن يسعى إلى إيجاد الفرصة واصطناعها، ولذلك قال أحدهم: الرجل الناجح لا ينتظر الفرصة، بل يسعى في إيجادها، فقد يستطيع الإنسان أن يغتنم بعض الفرص، أو يستفيد من بعض الإمكانيات المتاحة الموجودة التي لم يتفطن إليها من قبله، فالنـزول للسوق، حتى ولو بدون مالٍ، يطرح كثيراً من الفرص للإنسان، وعلى العموم فعلى الإنسان أن يبذل وسعه، وليس عليه أن تتم النتيجة.
لأمرٍ عليهم أن تتم صدوره وليس عليهم أن تتم العواقبُ |
عليَّ طلابُ العز من مستقره ولا عيب لي إن خالفتني المقادرُ< |
لا يستوي من يعمر المساجدَا ومن يبيت راكعاً وساجدا |
يدأب فيها راكعاً وساجدا ومن يكر هكذا معاندا |
وقائماً طوراً وطوراً قاعدا ومن يرى عن الغبار حائدا |
وقال الشاعر:
اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فارحم الأنصار والمهاجرة |
يحملون اللبن على أكتافهم، وهم ينشدون هذه الأنا شيد، والرسول صلى الله عليه وسلم بينهم، يقول مالك بن نبي -رحمة الله عليه-: [[لو نظرت إلى تلك الرقعة؛ رقعة المسجد ببساطتها وقلة شأنها، لربما ابتسمت]]؛ لكن أليس هنالك تلقى بُنَّاءُ الحضارةِ دروسَ الجِد والعمل! نعم أولئك الذين كانوا يبنون المسجد بالأمس، تلقوا دروس العمل والجد، إنهم قومٌ عمليون، لا مكان عندهم للقيل والقال، بل دأبهم، وهمهم، وشأنهم العمل الصالح الذي يرضي الله عز وجل، ويقيم الحياة الدنيا على أساسٍ من الدين والشريعة الربانية، ولذلك كان بناةُ المسجد، هم بناةُ الحضارة في كل مكان، وهم قادة الإنسانية، تحولوا من رعاة غنم إلى قادة أمم.
وأنت تلحظ على سبيل المثال، جانب التقليد من الأبناء للآباء، فالآن الابن الذي يجد أن والده لا يعدو أن يكون موظفاً لا غير، ترسخ في ذهنه أن يكون هو كأبيه فلو سألته ماذا تحب أن تكون، قال: أكون كوالدي.
وأيضاً، قد تجدٌ اثنين يخرجان من بلدٍ واحدٍ، وبمواهب متقاربة، إلى بلد آخر غريب، فأحدهما يتحول في سنة إلى تاجر، يدير الصفقات الكبرى، ويشارك فيها، أما الآخر فيتحول إلى عامل يبحث عن قوت يومه.
وما هو الفرق؟ ليس هناك فرقٌ إلا التربية، وما ورثوه عن آبائهم وأجدادهم.
أما تلك الأفكار المستقرة في نفوسنا، التي تجعل الواحد يتهيب، ويخجل، ويستحي، فينبغي أن نـزيلها، أما شدة الرقابة على النفس، والملاحظة، وألا يتحول الإنسان إلى عبدٍ في الدنيا يركض وراءها، فلا شك أن هذا من أهم ما ينبغي السعي إليه، والحرص عليه ومن الطريف أنني حينما أعلنت عن هذا الدرس، جاءتني عدد من القصاصات، من بعض الإخوة، يقولون: نخاف ونخشى أن يتحول الأمر!! على كل حالٍ يا أخي إلى الآن ما بدأنا حتى تخاف وتخشى، من المفروض أن ينـزل الناس إلى السوق، وإذا نـزلوا إلى السوق، نقول لهم بارك الله فيكم انتبهوا، لا تلهيكم التجارة والمال عن ذكر الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة.
ولا تغفلوا عن حفظ القرآن، ولا عن حفظ السنة، ولا عن الجهاد، ولا....الخ، أما قبل ذلك، وأن يكون هذا الأمر حاجزاً لنا عن العمل، فلا ينبغي.
قال البخاري -رحمه الله تعالى- في صحيحه: باب ما قيل في الصواغ، باب ذكر القين والحداد، باب الخياط، باب النساج، باب النجار، باب اللحام والجزار، باب العطار وبيع المسك، باب ذكر الحجام، ليس حسناً ولا جيداً أن تُلهي الشاب، نظرةٌ إلى هندامه، وتأملٌ في عطفيه، وعنايةً في ملبسه، وتكريسٌ لمكانته عند الناس، على حساب مصلحته الدينية والدنيوية، بل على حساب مصلحة الأمة كلها.
وها أنا أذكر لك الآن بعض الأمثلة السريعة فيما يتعلق بالتجارة.
الزراعة والاشتغال بها يحقق للمجتمع الأمن الغذائي، ووقايته من المساومة، أو الإذلال من القوى الأجنبية والخارجية، ولقد عاش الناس في هذه الجزيرة بالذات، زمناً طويلاً على الزراعة، ولم يكونوا محتاجين إلى غيرهم ومن الممكن أن يقوم الإنسان بالزراعة في عمله مع والده، وفي عمله مع مجموعة يقومون على مزرعة ويتدربون عليها، في مشاركته بأعمالٍ زراعية محدودة، يكون متقناً لها، إما عن طريق الدراسة، أو عن طريق الخبرة والتمرين، حتى ولو لم يجد، إلاَّ أن يشتري مجموعةً من النخيل، ويضعها في بيتٍ أو مكان خاصٍ له، أو قطعة أرضٍ صغيرة، ثم يسقيها ويبيع ثمارها، وفِراخها لكان له من ذلك خيرٌ كثير.
ومثله أيضاً أن يقوم الإنسان بعملٍ نيابةً عن غيره، كقضاء ديونٍ، ومتابعة أصحابها، أو النيابة عن بعض النساء في الأعمال التي لا يتمكنَّ من القيام بها، أو الوكالة في وقفٍ أو غيره.
فالحج مثلاً: يتطلب أن يفكر الإنسان بأمرٍ فيه ربحٌ اقتصادي، ويكون له هدفٌ تعليمي، ودعوي، وإصلاحي، فلو أن الناس مثلاً اشتغلوا بتوزيع المناسك، وبيعها بأسعارٍ معقولة على الحجاج، وإيصالها إليهم، خاصةً تلك التي يكون فيها أدعية صحيحة واردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكان في ذلك فضلاً عن الهدف الاقتصادي، توعية للحجاج، وإغناء لهم عن بعض المناسك، التي تكثر فيها المخالفات والبدع والأدعية التي لا أصل لها، ومع ذلك هي في أيدي الناس كثيرةٌ جداً، بسبب نشاط من يتاجرون بها ويبيعونها.
ومثل ذلك أيضاً التقويم على رأس السنة، فهذا التقويم فيه مصالحٌ شرعية، مثل العناية بالتقويم الهجري، ومثل العناية بالكلمات التي تكتب في التقويم، من آياتٍ وأحاديث وحكمٍ وأشعار، ومثل البعد عن المحرمات والصور والرسوم المغرضة التي توجد في ألوان التقويم، ومع ذلك هي سبيل ووسيلة إلى الاستفادة منها في مصالحٍ لبعض الشباب، مثل ذلك أيضاً الجداول الدراسية، يستفاد منها أيضاً في وضع كلماتٍ، وتوجيهات وإرشادات، وعناوين مهمةً للشباب، وأرقام وما أشبه ذلك، ومع ذلك يمكن أن يستفاد منها سواء على المستوى العام، في المدارس، والمكتبات، أم على مستوى الطلاب.
مثل ذلك أيضاً الكروت للمناسبات المختلفة، وإعدادها وتجهيزها، ومراعاة ما سبق فيها ومثل ذلك أيضاً الأدعية للسفر أو الدخول، أو كفارة المجلس أو غيره، وأن توضع في لوحات، أو أوراق، أو خرق، يستفيد الناس منها في تعلم هذه الأشياء، والتعرف عليها، وتذكيرهم بما ينبغي أن يقال فيها.
فإن هذه إذا كانت وسائل للإيضاح، والتعليم، ففي رأيي الخاص أنه لا بأس بها، إن شاء الله، وعموماً أيضاً حملات الحج والعمرة، سواء كانت حملاتٌ كبيرة، أم صغيرة، فيها فوائد شرعية ودينية في التعليم، والتفقيه، والإرشاد، والرعاية، والفصل بين الرجال والنساء، ومع ذلك فيها مصالح مادية، وفيها أيضاً تربية لمجموعةٍ ممن يذهب بهم الإنسان، حتى لو أن الإنسان أخذ مجموعةً من العمال، ولو كانوا عشرة، ليس شرط أن تكون حملةً ضخمة مرخص لها، لو أخذت عشرة عمال، وذهبت بهم، وأخذت أجرتك، وهذه مصلحةٌ دنيوية، ومع ذلك لو صبرت عليهم، وتسامحت معهم، وعلمتهم ماذا يقولون، وحججت بهم حجاً شرعياً، كان من وراء ذلك مصلحةً دينيةً كبيرةً لك أنت، ثم لهم، فتجمع في ذلك بين المصلحة الدينية، والمصلحة الدنيوية.
ومن الفرص أيضاً الفرصة التي يعيشها الناس في هذه الأيام فرص الربيع، والمطر والغيث وإخراج الأرض زينتها، فإن ذلك فيه فوائد كثيرة، وأنت تعلم أن الناس يحتاجون إلى ذلك، وأن هناك مما يخرج من الأرض، ما يُشترى بأغلى الأثمان، حتى الحطب، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث سبعةٍ من الصحابة، وهو حديثٌ صحيح؛ بل في صحيح البخاري أنه عليه السلام أرشد الرجل إلى أن يأخذ أحبله فيحتطب، يأتي بحزمةٍ من الحطب ويبيعها، وهذا خيرٌ له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه، ومثل ذلك -أيضاً- المواسم الزراعية، واغتنامها بالبيع في ألوان الزراعة المختلفة بالتمور، وبالفواكه، وبالخضار، وفيما سوى ذلك! ومثله مواسم الإجازات، فإن الإنسان يستطيع أن يستفيد منها، في أن يقوم بعملٍ مؤقت خلال تلك الإجازة، يغنيه، ويجعله يستطيع أن يتزوج مثلاً، ويستغني عن الناس، ويعتمد على الله تعالى، ولا يعتمد على ما يأتيه من فلانٍ أو علانٍ، فهناك فرصٌ قد تكون للناس بها حاجة، فأنت لا تستغل حاجة الناس، أو تضغط عليهم، ولكنك تغتنم هذه الفرصة، لتقدم للناس خدمةً، وأنت مستفيدٌ ديناً ودنيا.
ولا مانع أن يعمل ولو كان موظفاً، وإذا كان النظام يمنع أن تكتب هذا العمل باسمك، فلا مانع أن تكتبه باسم غيرك؛ لكن ينبغي أن يكون غيرك هذا شراكةٌ في العمل، أما أن تكتب العمل باسمه ولا علاقة له، فلا أرى ذلك سائغاً، والله تعالى أعلم.
ومن ذلك أيضاً ما يتعلق بالشركات أو يشبهها، العمل مع الوالد سواء أكان الوالد مزارعاً، تعمل في حقله، أو في دكانه، أوتاجراً تعمل في تجارته، أو ما سوى ذلك، والعمل مع الوالد ينبغي أن يلتفت الشباب إليه، فإن فيه مصالح عدة.
أولها: البر بالوالدين، وفيه ما فيه من الفضل العظيم.
ثانيها: الخبرة فإن الإنسان الذي لا يعمل لا يكتسب الخبرة أبداً، ولو ظل يسمع الكلام طول عمره، إنما تنضج الخبرة، وتنضج المعلومات على محكِّ الواقع.
الفائدة الثالثة: أنه يكتسب المال، وعلى الآباء أيضاً أن يساعدوا أولادهم على تكوين أنفسهم بشكلٍ صحيح، فالأب ينبغي أن يعلم أنه يوِّرث ماله من بعده إلى الورثة على حدٍ سواء، وهذا الإنسان الذي عمل ليس كمن لا يعمل، فينبغي أن يجعل له مرتباً شهرياً، لقاء عمله، أو نسبةً من الربح، أو ما أشبه ذلك، حتى لا يضيع عمله بغير فائدةٍ عاجلة.
ومن ذلك أيضاً قضية آلة التصوير، فقد تجد آلة تصوير بأربعة آلاف ريال، وهذه الآلة لو وضعتها في بيتك، مع الورق، ثم قمت بتصوير بعض الفتاوى المفيدة النافعة، التي لا توجد في الكتب، ولا يعلم الناس بها، ويحتاجون إليها، وقمت بتصوير بعض المذكرات، وبعض الكتيبات الصغيرة، التي قد تنفذ من الأسواق، أو لا توجد، أو قد تمنع بغير حقٍ أيضاً، ثم قمت بتصويرها وإيصالها إلى بعض الناس، فإنك تستفيد من ذلك فائدة دنيوية بالمال، وفائدة دينية بنشر الخير والدعوة، والمساهمة في ذلك.
ولو أن كل إنسان، بل لو أن مجموعةً من الشباب نذروا أنفسهم لذلك لانتشر الخير، وعمَّ، وأصبحت محاصرته، أمراً في غاية الصعوبة، ومع ذلك استغنوا بحلال الله تعالى عن الحرام.
ومن ذلك أيضاً أن يكون عند الإنسان سيارة للأجرة، وهذه السيارة لو فرضنا أنه قام بها فنفع نفسه، لاستفاد كثيراً، فهو يتعرف على الناس، ويعرف كيف يتعامل معهم، وكيف يخاطبهم، ويعرف أخبارهم وأحوالهم، يعظهم، وينصحهم، ويوصل إليهم الخير، ويعطي هذا كتاباً، وهذا شريطاً، ومع ذلك يستفيد فائدة دنيويةً ظاهرة، ونحن نرى اليوم أن محلات الليموزين، أساءت إساءةً كبيرةً لوجود بعض غير المسلمين فيها، وحمل النساء بلا محارم، بل وجود تجاوزاتٍ كثيرة، ليس هذا المجال مجال الحديث عنها، فنستطيع أن نغني المجتمع عن مثل ذلك.
فهذه الأمثلة التسعة التي ذكرتها لا تعد أن تكون أمثلةً خفيفةً سريعةً للشاب المبتدئ، الذي يريد أن يضع قدمه في أول الطريق، وأمام دعاة الإسلام، والمفكرين، والخبراء، وأهل الاقتصاد، وأرباب التجارة وأنصارها، أمامهم مجالات واسعة جداً، لخدمة دينهم ودعوتهم، ويستفيدون منها ديناً ودنياً، أذكر هذه المجالات الآن لمجرد السرد تكاملاً للموضوع.
من ذلك الإعلام الإسلامي بشكل عام، كالصحافة الإسلامية، وكذلك الإذاعة الإسلامية، فإن مثل هذه المجالات؛ مجالاتٌ خصبةٌ جداً من الناحية الاقتصادية، وهي مجالاتٌ ذات قيمة بالغة في إيصال الدعوة إلى الآلاف، بل إلى ملايين من الناس في أنحاء العالم.
من ذلك أيضاً التصنيع؛ فالتفكير في الصناعات المختلفة وحاجة الناس إليها والقيام بها.
ومن ذلك أيضاً خدمات الكمبيوتر، وهي خدمات جليلة متطورة يحتاج الناس إليها.
ومن ذلك أيضاً الخدمات الصحية، بإيجاد المستشفيات والمستوصفات، خاصةً من ذلك التي تخص النساء دون غيرهن، ويكون كل الطاقم من النساء، ويراعى فيه جانب الأخلاق، وهذه أمورٌ ينبغي أن ندعمها ونشجعها ونحرض على إنجاحها بقدر المستطاع، أو غير ذلك من الخدمات الصحية التي يحتاج المجتمع المسلم إليها.
والأمثلة في ذلك كثيرة أكتفي منها بما سبق. وسيكون هناك إن شاء الله دروسٌ أخرى، كما وعدت في هذا الموضوع.
أخي أنت حرٌ وراء السدود أخي أنت حرٌ بتلك القيود |
إذا كنت بالله مستعصماً فماذا يضيرك كيد العبيد؟ |
أخي ستبيدُ جيوش الظلام ويشرق في الكون فجرٌ جديد |
فأطلق لروحك أشواقها ترى الفجر يرمقنا من بعيد |
أخي هل تُراك سئمت الكفاح وألقيت عن كاهليك السلاح |
فمن للضحايا يواسي الجراح ويبعثُ رايتها من جديد |
أيها الإخوة، إنني أعجب مني ومنكم، هذا الطريق طريق الله عز وجل، طريقٌ فيه مصاعب، لقد سجن من الأنبياء من سجن!! سجن يوسف عليه الصلاة والسلام، بل لبث في السجن بضع سنين، وقتل من الأنبياء من قتل، وطرد منهم من طرد، وأخرج من بلده، وضرب منهم من ضُرب، وضرجوا بالدماء فصبروا على ما كذبوا وأوذوا، حتى أتاهم نصرنا، فالذي يريد أن يدعو ولكنه لا يريد أن يقال له شيء، ولا أن تخدُش أذنه كلمةٌ خشنة، ولا أن يوقف ساعة أو ساعتين، ولا أن يسجن يوماً أو شهراً أو سنة، ولا أن يضيق عليه في رزقه، ولا أن يؤذى، ولا أن تحاصر كلمته.
هذا الإنسان عليه أن يكبر الوسادة، ويجلس في عقر داره، فليس هذا طريق الدعوة؛ طريق الدعوة معروفٌ، والكلام الذي كنت تسمعه نظرياً بالأمس، ينبغي أن تطبقه عملياً اليوم، فلا يضر الإنسان أن يؤذى في ذات الله عز وجل، بل يكفي الإنسان شرفاً وفخراً أن يؤذى في الله، فإن الله عز وجل يصطفي الأخيار للابتلاء والاختبار، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {يبتلى الرجل على قدر إيمانه، فإن كان في إيمانه صلابة، زيد في بلائه، وما يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشي في الأرض ما عليه خطيئة} كفى بالبلاء فخراً أن يصاب الإنسان فيدعو المؤمنون له، فتجد العجائز، والأطفال، والكبار، والصغار، والرجال، والنساء، كلهم على ما نعلمه ونراه، يدعون للشيخ إبراهيم بالفرج ويدعون له بالصبر، ويتحسبون الله تعالى على من اعتدى عليه أو آذاه، كفى بالأذى فخراً أنه يرفع درجات المسلم عند الله عز وجل، كفى به أنه يكفر عن المسلم سيئاته، كما أنه هو المحك الذي يبين عليه صدق الإنسان، كما قال الله عز وجل وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:3].
لقد ادعى أقوامٌ الإيمان، وأنهم أهل الإسلام، وحُراس الدين، ثم لم يبتلوا، فعبر هذا ودلَّ على أنهم ما صدقوا في تلك الدعوة، إنما نجد اليوم كثيراً من الإخوة في هذا البلاد قد أصابهم ما أصابهم، وفي الوقت الذي سجن فيه الشيخ، نسأل الله تعالى أن يعجل له بالفرج، وقد سجن قبلها مرات، نجد أن هناك مجموعة من الشباب في مناطق متعددة، قد تعرضوا لمثل هذا الأذى بغير حق، وبغير جرم ارتكبوه، ومثل هؤلاء الذين يقومون بمثل هذه الأعمال، أو يحرضون عليها، أو يتسببون فيها، أو يكتبون التقرير، ويشوهون صورة المؤمنين، هم في الحقيقة من الذين في قلوبهم مرض، ويريدون أن يتمزق المجتمعُ شرَّ ممزق، وأن يتحول المجتمع إلى فئات يضرب بعضها بعضاً، ويحارب بعضها بعضاً.
وهل تريد أشد مما وقع في بلادٍ إسلامية مجاورة، حيث أصبح المجتمع يُدمر بعضه بعضاً، وأصبحت طاقات الشباب البناءة التي كان من الممكن أن تبني دولةً من الدول الكبرى، وأن تضارع وتواجه أقوى دول العالم في الصناعة والاختراع والابتكار، أن تصبح تلك ضحيةً لمثل هذا الخصام النكد، نعم، أنتم تعرفون، وهذا جاء في بعض الأسئلة، وله علاقةٌ بالموضوع، أنه في مصر قامت شركات إسلامية كبيرة، كالريان مثلاً، أو سلسبيل وهي شركة للكمبيوتر، من أنجح الشركات، وأعظمها، ولها إبداعٌ وتفوقٌ عظيم، فلم يجد هؤلاء أمام نجاحها إلا أن يلصقوا بها تهمة الإرهاب والتطرف، ثم يصادروها ويقوموا بالقضاء عليها، ومثل ذلك كثيرٌ جداً، لقد أصبح التطرف اليوم ليس هو كما كان، ويقولون بالأمس الاعتداء على السائحين مثلاً، أو تفجير الممتلكات العامة والجسور وغيرها، كلا! أصبح التطرف اليوم هو تدريس القرآن الكريم! وأصبح التطرف هو توزيع الكتب والأشرطة الإسلامية! وأصبح التطرف أن تلبس البنات العباءة أو الحجاب!
وعلى سبيل المثال هذه مقالةٌ كتبها أحمد الجار الله، بعنوان صوفيا لورين، تختار إنقاذ الإنسان، والمتطرفون يختارون قتل الإنسان، فهو يقارن بين ما يسميهم المتطرفين، الذين همهم القتل كما يزعم الكاتب، وبين صوفيا لورين، التي تُغني من أجل أطفال البوسنة، ويقول: أين هؤلاء؟!
لقد رأينا النصارى ورأينا الغربيين يقدمون الخدمات للمسلمين في الصومال، وما رأينا هؤلاء المتطرفين، الذين نظرتهم إلى الدين أنهم اختاروا الهروب من الأجر.
فأحدهم يقول: متى تنام؟ ومتى تستيقظ؟ وماذا يجب أن تشاهد؟ وماذا ينبغي أن تأكل في الفطور والغذاء والعشاء؟! فأنت كافرٌ، يقول: فأنت كافرٌ إذا لم تستغل يومك بثلاثِ بلحات، وأنت ملحدٌ إذا نمت في سريرك على الجانب الأيسر، وأنت زنديق إذا شاهدت الـ cnn، وأنت آثم إذا تم ضبطك متلبساً بالاستماع لـأم كلثوم، تشدو بالأطلال وأنت عمري.
هذا هو منهج المتطرفين ومسلكهم، وأقول: قولوا كما تشاءون والدهر دول، والله تعالى ناصرٌ دينه، ومعلٍ كلمته، ولتعلمن نبأه بعد حين، وسوف تعلم هذه الأمة، بل قد علمت منهم المخلصون لها، الواقفون في المواقف معها، الذين يستميتون في الذب عنها وحمايتها، ويواجهون عدوها.
لقد بَرِح الخفاء، وانكشف الأمر، حينما رأينا الغرب يحاربون الأصوليين كما يسميهم، عن قوسٍ واحدة، لأنه يعلم أنهم حربٌ على مصالحه، وأنهم هم المتدينون الحقيقيون، وهم الوطنيون الحقيقيون، ومصلحة الوطن هي في مصلحة الدين، والغرب يحارب الإسلام، لأنه دين الله، كما يحارب الإسلام أيضاً، لأنه يعلم أنه حربٌ على مصالحه في بلاد الإسلام.
نسأل الله أن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً، وأن يجعل تفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، وأن يغنينا بحلاله عن حرامه، وبطاعته عن معصيته، وبفضله عمن سواه، وأن يغني المسلمين من فضله إنه على كل شيء قدير.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر