أما بعـد:
فيا أيها الأحبة -جميعاً-: السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته:
وإنني في مستهل هذه الكلمة أرحب بإخواني -جميعاً- الذين مشوا إلى هذا المكان المبارك، وأسأل الله تعالى أن يكتب لهم ذلك في ميزان حسناتهم، وأرحب بكم جميعاً وأشكركم على حرصكم على حضوري إلى هذا البلد الطيب، وإلحاحكم، وإن كنت لا أملك شيئاً كثيراً أقدمه لكم، ولكنني أجود بما أملك، ومن جاد بما يملك فإنه ما بخل.
فإنني أشكركم كثيراً -أيها الأحبة- في هذا البلد الكريم، الحريص المضياف، وأسأل الله تعالى أن يجزيكم جميعاً خير الجزاء، ثم إنني أشكر -أيضاً- على وجه الخصوص أصحاب الفضيلة، والمشايخ، والعلماء، والدعاة، والقضاة، وأساتذة الجامعة الذين حضروا إلى هذا المكان... فجزاهم الله خيراً.
أيها الأحبة هذه الليلة هي ليلة التاسع من رجب من سنة ألف وأربعمائة وثلاثة عشر للهجرة، وعنوان هذه المحاضرة هو: الثبات حتى الممات، وهذا هو جامع القرطبي في الخرج.
إن الحديث عن موضوع الثبات لا يحتاج إلى مسوغ فإن الثبات على الحق لا يقل أهمية عن معرفة الحق ذاته، ولو تأملت أحوال الناس لوجدتهم أصنافاً شتى فهناك:
وقال: مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ [المائدة:60].
ومثال ذلك: اليهود، فإنهم يعلمون ولكنهم لا يعملون، وأيضاً: من ضل من أحبار هذه الأمة، ففيه شبه من هؤلاء.
ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل الله تعالى الثبات -كما سوف يأتي- ويقول: {يا مقلب القلوب؛ ثبت قلوبنا على دينك} ويقول: { يا مصرف القلوب؛ اصرف قلوبنا إلى طاعتك} وكان المؤمنون منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى يوم الناس هذا يفرحون بالثبات، سواء كان الثبات في اليقظة بلزوم الطريق والاستمرار عليه، والصبر على الحق والتواصي به، وتحمل الأذى في سبيله، أم كان الثبات في المنام.
فقد كان السلف رضي الله عنهم كـمحمد بن سيرين وغيره، كانوا يفسرون القيد في القدم في النوم -في الرؤيا- أنه: ثبات في الدين، فيقولون: القيد ثبات في الدين؛ بخلاف الغل في اليد فإن الغل في اليد وفي العنق مكروه -يعني في الرؤيا- أما القيد في الرجل فهو ثبات في الدين، وكانوا يحبون الثبات في الحياة، ويحبون الثبات عند الممات ويفرحون به، ويدعون لصاحبه، ويغتبطون بحاله!.
إن من أخطر الأشياء أن ينحرف الإنسان بعد الهدى، ويضل بعد أن كان على الصراط المستقيم، فإنه لا يكاد ينفع فيه كلام، ولا تفيد فيه موعظة؛ لأنه يعتبر نفسه خبيراً مجرباً، وكل الكلام الذي يمكن أن تقوله أنت، أو تنصحه به، أو تذكره به، كل هذا الكلام.. لا أقول أنه سبق أن علمه من غيرك، لا،بل ربما يكون سبق أن قاله هو لغيره، ودعا به غيره، وأمر به غيره، ونهى به غيره، وهكذا أصبح الكلام عنده غير ذي معنى وغير ذي تأثير.
مثال: إنسان كان على الهدى، ثم انحرف بسبب مواقف يعتبر أنها غير جيدة من قبل بعض أصدقائه، وبعض أصحابه، وبعض جلسائه الذين كانوا معه على الهدى، وعلى الطريق المستقيم؛ فأحدثت هذه التصرفات، وهذه المواقف منهم ردود فعل ضدهم، فأصبح يكره الأخيار والطيبين، بل ويكره الخير ويكره الداعي إليه، ولا يثق بأحد من هؤلاء؛ لأنه يقيس كل من سمع على أولئك الذين جربهم يوماً من الأيام في حياته.
مثل هذا الإنسان، لو أتيته لتحدثه عن الشباب الصالحين، أو عن العلماء العاملين، أو عن الدعاة المخلصين، أو عن الملتزمين، لظنك مخدوعاً مثلما كان هو مخدوعاً من قبل، وأن الغشاوة يجب أن تزول عنك مثلما زالت عنه، ولهذا لا يفيد فيه كلام ولا يؤثر فيه وعظ، إلا أن يشاء الله تعالى.
ولهذا لو تأملت حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحياة أصحابه رضي الله عنهم، لوجدت أن التاريخ يحدثنا أنه كان من ضمن المهاجرين إلى الحبشة كان هناك رجل اسمه عبيد الله بن جحش قد ارتد وتحول من الإسلام إلى النصرانية وهو غير الصحابي عبد الله بن جحش رضي الله عنه وأرضاه، وكذلك رجل اسمه الرجال بن عنفوة الحنفي فإنه كان قد أظهر الإسلام، ثم ارتد وقال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: {إن ضرسه في النار أعظم من جبل أحد} وقد تبع الرجال مسيلمة الكذاب وكان من ضمن وزرائه وأعوانه.
ولقد كان الإسلام عبر عصور التاريخ كلها عزيزاً بأهله، وبرجاله، عزيزاً بدوله، وعلمائه، ولذلك كانت الصورة الغالبة والكثيرة أن الكفار كانوا في الإسلام يدخلون في دين الله أفواجاً لأنهم يرون الحق، ويرون مع الحق القوة.
ولهذا لما حصلت الردة في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، قيض الله تعالى للإسلام والمسلمين أهل اليمن كـأبي موسى الأشعري وأتباعه، وقيض أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من القراء الذين نصروا الإسلام وأعزوا الملة، وقاوموا الكفار وحاربوا المرتدين حتى انتصر الإسلام ودانت الجزيرة العربية كلها للإسلام، وخضعت للحكومة الإسلامية التي كان يقف على رأسها أبو بكر الصديق رضي الله عنه تعالى وأرضاه.
واليوم ونحن نجد مظاهر الردة تبين في العالم الإسلامي، من أقصاه إلى أقصاه، سواء في الذين يتركون الإسلام إلى دين آخر فيتنصرون -مثلاً- أو يأخذون بـالشيوعية، أم يأخذون بالأديان الأخرى المختلفة، أو في أولئك الذين يتخلون عن الدين ويتركونه إلى غير شيء، فيصبحون من الغافلين اللاهيين في دنياهم؛ فإننا نشاهد إلى جوار ذلك وعد الله تعالى يتحقق، فيظهر أولئك المؤمنون الأبرار الأخيار من رجال الصحوة، ومن العلماء، والدعاة، والمخلصين، والمجاهدين في سبيل الله، الذين لا يخلوا منهم مكان، ولا دولة، ولا قطر؛ بل إنك تجد أن تلك الجمهوريات التي عاشت تحت مطارق الشيوعية أكثر من سبعين سنة، وكانوا يستخدمون الحديد والنار في صرف الناس عن دينهم، ويقتلون الإنسان بمجرد الظنة، أو بمجرد وجود المصحف عنده، وكان علماؤهم لا يفرقون بين القرآن وبين الغناء وبين غيره من الكلام، ولا يفقهون في دين الله عز وجل، فما إن زال هذا الستار؛ حتى ظهر الإسلام من جديد، وظهرت بوادره وبشائره، تصديقاً لموعود الله تعالى: فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ [الأنعام:9] وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ [المائدة:54].
هذا هو أحد المواضع التي ذكرها الله تعالى في كتابه في شأن من يرتدون عن الإسلام، وهو يتعلق بالردة عن الإسلام كله، أو مايتعلق بالردة عن شعيرة الجهاد، ولهذا قال تعالى: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ [المائدة:54].
أما الموضع الثاني: فهو قوله تعالى: هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد:38] وهذا -أيضاً- يشمل: الردة الكلية، فإن من ارتدوا ردة كلية يقال لهم: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد:38] كما يشمل: الردة الجزئية، والمقصود بها في هذه الآية -والله تعالى أعلم-: التراجع عن الإنفاق في سبيل الله، وقبض اليد، والشح، والبخل، ولهذا قال:هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد:38].
إن السياق السابق يدل على أن التراجع والنقوص عن الإسلام يشمل صورتين، إحداهما تؤدي إلى الأخرى.
وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65].
وهذه الصورة -وهذه لاشك- سبيل إلى الأولى؛ لأن الذي فرط في بعض الشيء قد يفرط فيه كله، هذا من جانب، والجانب الآخر: أنه ربما كان من أسباب ردة بعضهم عن دينهم أنهم تسلط الأعداء عليهم وفتنوهم عن دينهم، وألزموهم أو ضايقوهم حتى تركوا الإسلام، وهذه هي الفتنة التي سماها الله سبحانه وتعالى في كتابه: وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْل ِ ) [البقرة:191].
الفتنة: تعني فتنة الإنسان عن دينه وخروجه من الإسلام، وأن يفتن ويضيق عليه حتى يتراجع عن الدين، وهذه الفتنة لم تكن لتحصل على المسلمين لو أنهم كانوا يجاهدون في سبيل الله، ولو أنهم كانوا قائمين بما أوجب الله عليهم، وإنما تحصل في أزمنة الذل، وفي أزمنة التأخر، وفي أزمنة ترك شريعة الجهاد في سبيل الله تعالى.
وربما ترك بعض المسلمين دينهم كلية بسبب الفقر أو الحاجة أو الطمع في متاع الدنيا: الطمع في مال، أو في لباس، أو على الأقل في غذاء يأكله ويسد جوعته، أو في ثوب يواري عورته، أو في علاج يداري به ألمه ومرضه، والفقر كاد أن يكون كفراً، ويلاحظ أن ترك الإنفاق في سبيل الله؛ قد يؤدي إلى الوقوع في الردة العظمى والخروج من الدين بالكلية بالنسبة لبعض المسلمين، وكما أن من الناس من دخل في الإسلام أول الأمر طمعاً وتأليفاً لقلبه، ثم أسلم صدقاً من قلبه وحسن إسلامه؛ فكذلك قد يوجد من المسلمين -في الأمس واليوم وغداً- من يخرج من الإسلام طمعاً في عاجل الدنيا.
وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة، فيما يبدوا للناس، وهو من أهل النار! وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار، فيما يبدوا للناس، وهو من أهل الجنة!} وفي رواية أخرى: {إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها! وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها!}.
إذا الإنسان قد يتظاهر بعمل أهل النار، أو يتظاهر بعمل أهل الجنة، لكن حقيقته خلاف ذلك، فيفضح الله تعالى ما ستر في قلبه، إما في الدنيا وإما عند الموت، فمن الناس من تظاهر مجاراة للتيار ومسايرة للركب كما قلت.
ومنهم من يتظاهر خوفاً على دينه وماله، وأراد عصمة نفسه وماله من القتل بالتظاهر بالإسلام، أو حباً في الرئاسة والجاه، أو كيداً للإسلام والمسلمين، فيكون معهم ليعرف أسرارهم، أو ليشكك فيهم، أو ليغرس الريبة في قلوبهم، كما قال تعالى:وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنـزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [آل عمران:72].
فقد يزول -بعد ذلك- السبب الذي من أجله جعل هذا الإنسان يتظاهر بالإسلام، فيأمن الخائف على نفسه، أو ييأس الطامع مما يريد في رئاسة، أو في جاه، أو في مال، ييئس مما يريد؛ فيبوح بالسر المكتوم، وكما قيل:
صلى المصلي لأمر كان يطلبه فلما انقضى الأمر ما صلى وما صامَ |
إذاً: كان الإيمان عند هؤلاء الناس تظاهراً دون أن يخالط شغاف القلب، أو تستشعره النفسٍ، أو يمتلئ به الصدر، ولهذا لما سأل هرقل أبا سفيان عن النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه: هل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قال: لا، قال: وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب!
إن هذا يدل على أن أولئك القوم لم تخالط بشاشة الإيمان قلوبهم، وما ذاقوا طعمه، ولا تلذذوا بحلاوته، وما أنسوا به، إنما كان هذا الإيمان تظاهراً، وتشكلاً، وتصنعاً، وتكلفاً، وتعملاً. وكان الإيمان ستاراً يتسترون ويتترسون به، فهم يعلنونه خوفاً، أو رغبةً، أو رهبةً، أو طمعاً، أو لمصلحة دنيوية؛ أما قلوبهم فهي تغلي بمراجل الحقد والغيظ على الإيمان وعلى المؤمنين؛ فيفتضح -هؤلاء- إما في الدنيا وإما عند الموت.
يقولون: إن الأقدار ظلمتنا فصرنا متأخرين، وأولئك القوم الذين ارتفعوا، وسادوا، وعظموا، واغتنوا، ليس لهم مثلما ما لنا من العقل، ولا من العلم، ولا من المعرفة، ولا من المكانة، وحق هؤلاء في نظر أنفسهم أن يكونوا سادة مطاعين، أو زعماء، أو أثرياء، أو ما أشبه ذلك، ففي قلوبهم الاعتراض على القضاء والقدر، فهم ما رضوا بالله تعالى رباً حق الرضى وإنما في قلوبهم التسخط، وكيف فلان أغنى مني، وهذا أرفع مني، وأنا أعقل منه؟ ولماذا نال فلان المال ولم أناله أنا، مع أني أعقل من فلان؟! وما علم هذا الإنسان أنها قسمة الله تعالى:أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ[الزخرف:32] فالله تعالى أعطى هذا الغنى وأعطاك العقل، والعقل لاشك خير من الغنى، والله تعالى لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
إن أمثال هؤلاء لا يقبلون الحق ولا يؤمنون به ولو عرفوه، ليس لأنه الحق فقط، ولا لأنهم لم يعرفوا الحق أصلاً؛ ولكن لأن الحق جاء عن طريق فلان، وهم يرون أنفسهم أعظم منه، فكيف يتبعون من يعتقدون أنه أحط منهم منـزلةً أو أحط منهم قدراً، ولهذا قال المشركون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَقَالُوا لَوْلا نـزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف:31].
قال الله تعالى:أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ [الزخرف:32] ولما ذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف ودعا أبناء عبد كلال، قال أحدهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (أما وجد الله أحداً يرسله غيرك! وقال الآخر: أنا أمزق ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك! وقال الثالث: ما ينبغي لي أن أكلمك، إن كنت نبياً فأنت أعظم من أن أكلمك، وإن كنت كاذباً على الله فما ينبغي لي أن أكلمك، المهم: أنهم ردوا الحق لأن الذي جاء به هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمثل هؤلاء استكبروا في أنفسهم وعتوا عتواً كبيرا، فأشربت قلوبهم التعبد للذوات، والإعجاب بالنفس، والاستكبار والغرور، فلا يرون لأحدٍ قدراً، ولا يرون عند أحد علماً ولا عقلاً.
ولم يكن كفره لشبهة بقدر ما كان كفره لشهوة خفية متأصلة في أعماق قلبه، هذا هو ما توصلت إليه بعد طول تأمل في حال هذا الرجل؛ وهذا درس يجب أن نعيه؛ فلم تكن القضية قضية شبهة... أو شك أو إلحاد حقيقي، إنما كان هذا الإلحاد ستاراً يتستر به أو مسوغاً يسوغ به الواقع الذي يعيشه، أما الحقيقة -والله تعالى أعلم- الذي يبدوا أن الرجل إنما ارتد بسبب شهوة؛ ما هذه الشهوة؟ إنها شهوة العظمة، حتى إن هذا الرجل كان يقول في شعره:
ولو أن ما عندي من العلم والفضل يوزع في الآفاق أغنى عن الرسل |
هذا البيت قرأته في كتاب أحد العلماء الذين ردوا عليه، ثم قلت في قلبي: هل من المعقول أن يقول إنسان مثل هذا الكلام؟! وإذا بي أقف على كتاب مطبوع من كتب القصيمي التي ألفها قبل أن يرتد، ألفها يوم كان يزعم أنه مهتدٍ، وهو كتاب اسمه الفصل الحاسم بين الوهابيين ومخالفيهم فوجدت هذا الرجل يتغزل بنفسه ويعظم ذاته، ويتكلم عن نفسه كلاماً يستغرب الإنسان أن يسمعه بعنوان (أسى) يقول:
ولو أنصفوا كنت المقدم في الأمر ولم يطلبوا غيري لدى الحادث النكر |
ولـم يرغبوا إلا إلي إذا ابتغـوا رشاداً وحـزماً يعزبان عن الـفكر |
ولم يذكروا غيري متى ذكر الذكاء ولم يبصروا غيري لدى غيبة الـبدر |
فما أنا إلا الشمس في غير برجها وما أنا إلا الـدر في لجج الـبحر |
بلغت بقولي مـا يرام إلى الـعلى فـما ضرني فقد الصوارم والسمر |
ومـا ضرني ألا أروح واغتدي باردان مجدود عـلى سابـح يثري |
ثم يقول:
أسفت على علمي المضاع ومنطقي وقد أدركا لو أدركا غاية الفخر |
أرى كـل قـوم يحفظون أديبهم ويجزونه بالعز والمال والشكر |
إذاً الرجل يشكو نفسه وحاله، ويرى أنه مضيع في أمته وقومـه وقبيلته:
فلا خلى معشري ما عندهم لأديبهم سوى الحسد الممقوت والبغض والهجر |
إذا قـام فيهـم ناشئ ذو مـخايل تدل عـلى العلياء والحسب الحر |
أطاحوه غضاً قبل أن يبلـغ المدى وقامـوا على أعواده الخضر بالكسر |
إلى آخر القصيدة التي أصبح يتكلم فيها عن واقع الناس كلام الذي يتسخط فيها على قضاء الله وقدره، ويرى أنه كان جديراً وحقيقاً بكل خير، وأن الأقدار ما أنصفته، وهذا هو الذي كان يقوله الأول:
كم عالمٍ عالمٍ ضاقت مذاهبه وجاهلٍ جاهلٍ تلقاه مرزوقا |
إذاً: هذا الرجل الذي تحول من التظاهر بالإيمان إلى التطاول على الله تعالى والسخرية به، وازدراء القيم، والعقائد، والمثل، والأخلاق، إنما يعيش ردة فعلٍ عن المجتمع الذي عاش فيه ولم يلب طموحاته الشخصية، ولم يكن متوافقاً مع متطلباته الذاتية، فكانت النتيجة أن تحطم هذا الرجل، ثم ترك الإيمان والإسلام -والعياذ بالله- وذهب يبحث لنفسه عن شهرةٍ ومجدٍ في الكفر والإلحاد.
وأضرب لذلك مثلاً مشهوداً: قد يذهب الواحد من الناس إلى الحرم الشريف حاجاً أو معتمراً، فهو يرى في المسجد الحرام المصلين، والقائمين، والراكعين، والساجدين، والخاشعين، والطائفين، والمعتمرين، والباكين، والمتصدقين وألوان الأخيار فلا يلفت هذا نظره، ولا يتوقف عنده، ولا يثير اهتمامه، ثم إذا رجع هذا الإنسان إلى بلده، أو قومه، أو زملائه، أو أصدقائه، قالوا له: ماذا رأيت في الحرم؟ قال: رأيت رجلاً يتربص بامرأة، لقد كان الرجل يبحث نظره وبصره في مواطن الشهوة، ويقول: ورأيت امرأةً تشخص في رجل، رأيت حركةً غير عفيفة، رأيت نظرةً مريبة، فيضخم هذه الأشياء ويؤصلها ويجعلها كالقاعدة، ليس لأنها وقعت، ولا لأنه رآها، فهذا أمر يقع من كل أحد، ولكن لأن قلب هذا الإنسان أصبح مثل الإسفنجة يتشرب مثل هذه الأشياء ومثل هذه الأخبار، ويجمع بعضها إلى بعض، ويحشد بعضها إلى بعض، ويؤلف بينها، ويكبرها، ويضخمها، وينفخ فيها، فإذا تحدث انتزع هذه المواقف، وجمعها، وهولها، وطولها؛ تلذذاً بذكرها واستمراءًَ في الحديث عنها.
ولهذا روى أبو هريرة رضي الله عنه، كما في صحيح مسلم، ومسند أحمد، وسنن أبي داود، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إذا قال الرجل: هلك الناس، فهو أهلكُهم أو فهو أهلكَهم} إما أن يكون هو أكثرهم هلاكاً، أو أنه هو الذي تسبب في هلاكهم، فيكون المعنى: أن من قال هذه الكلمة قالها إما تقنيطاً وتيئيساً للناس من رحمة الله تعالى، أو قالها وهي توافق هوى في نفسه، وأما من قال هذه الكلمة تحذيراً، وتعذيراً، وأمراً بالمعروف، ونهياً عن المنكر؛ فإنه لا يدخل فيما ذكر -والله تعالى أعلم- كما ذكر ذلك الإمام مالك بن أنس رحمه الله فيما رواه عنهأبو داود وغيره.
حفصة
رضي الله عنها، أنها ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا رآهاعبد الله بن عمر
فقال عليه الصلاة والسلام: {عبد الله بن عمر
لو كان يقوم من الليلعبد الله بن عمر
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: {
ثم تثقل عليه الطاعة -أيضاً- فيقصر في السنن الرواتب، وفي الوتر ونحوها، ثم تثقل عليه الفريضة، فلا يأتي إلى المسجد إلا جباراً جبراً، وربما كان يقضي الصلوات في الأعم الأغلب، حتى ربما ترك الجماعة، ولا مانع -أبداً- أن يأتيه الشيطان بعد ذلك كلِه ليثير معه قضية وهي مناقشة مسألة: وجوب صلاة الجماعة أصلاً، وأنه ليس هناك أدلة قوية على وجوب صلاة الجماعة، ولم يكن هذا نقاشاً علمياً، ولا قناعة عقلية لهذا الشخص بالذات، وإنما كان هذا أثراً من آثار الكسل الذي ما زال به حتى تَرك، ثم بعد ما ترك بدأ يبحث عن مسوغات ومبررات تجعله على صواب فيما فعل.
إن ثمة فرقاً كبيراً -أيها الأخ الكريم- بين مسلم أعلن إسلامه اليوم وشهد أن لا إله الله وأن محمداً رسول الله، فعلمناه به، وصبرنا عليه، وصار يترقى في مدارج الكمال شيئاً فشيئاً، ويزيد من طاعته لله بالتدريج، وبين شاب آخر نشأ في طاعة الله، وفي كنف أبوين مسلمين، وفي مجتمع صالح ثم صلحت أحواله، وبدأ يتردى وينقص شيئاً فشيئا، فإذا كبر تذكر أنه قد كان في حال صباه يقوم الليل، أو كان في حال صباه يصوم الأيام البيض، أو كان في حال صباه يقرأُ حزباً من القرآن الكريم، أمَّا الآن فهو لا يوتر، ولا يصلي الرواتب، ولا يصوم إلا رمضان.
فالمجالسة تؤثر في الإنسان تأثيراً كبيراً، والقرين بالمقارن يقتدي -كما هو معروف- والمرء على دين خليله، فالإنسان يتأثر بجلسائه سواء أكانوا من الإنس أم كانوا حتى من شياطين الجن، فإن الإنسان إذا كان يتعاطى الأمور الرديئة، ويقلِلُ ذكر الله تعالى، ويكثر الوقوع في المعاصي ومجالسة الأشرار، والحضور في أماكن الذنوب والمواقع التي تكثر فيها الشياطين؛ فإن هذا يورث قلبه ضعفاً، ويورث الشياطين جراءة عليه، ومثل ذلك الحال بالنسبة لشياطين الإنس الذين يتلصصون لهذا الشاب، ويغرونه بالرحلة، والمتعة، والزيارة، والموعد، ويبدؤون معه بداية بسيطة قد تكون في أمر معقول أو مقبول أو يتحمله الأهل على إغماض، لكن ينسون أن رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة، وأن هذا الشاب اليوم في الشارع، وغداً في أماكن (التفحيط)، وبعد غد مسافراً مع الأصدقاء إلى هنا، وبعده ربما يسافر معهم إلى الخارج، وهكذا تبدأ الرحلة الشاقة المظلمة.
فدل على أن موت أو غياب القائد لسبب أو لآخر يؤثر في الأتباع، ويكون مظنةً لوجود تراجع، أو نكوص، أو تردد، أو ردة، ولهذا نهى الله تعالى أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ولهذا تجد أيضاً أن ردة العرب في خلافة أبو بكر رضي الله عنه كانت بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى قال قائلهم:-
أطعنا رسول الله إذ كان بيننا فيا لعباد الله مال أبي بكر |
أيورثها بكراً إذا مـات بعده وتلك لعمر الله قاصمة الظهر |
وفي الحديث السابق -أيضاً- قال: {إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم}
إن هذا يؤكد لنا أمرين في غاية الأهمية:
الأول: أثر الرجال الصالحين الصادقين الذين هم في موضع القدوة والأسوة، فهم دعاة إلى الخير، آمرون بالمعروف، ناهون عن المنكر، صابرون على دين الله، يوصون الناس بالحق، ويوصون الناس بالصبر، إن هذه القدوات فيها التثبيت للناس، والدعم لمواقفهم، وتعزيزهم، وتصبيرهم، وتقوية قلوبهم، ولهذا كان ابن القيم رحمه الله يقول: إننا كنا نخاف -أحياناً- وتمتلئ قلوبنا رعباً فنأتي إلى الإمام ابن تيمية فيتحدث معنا بكل هدوء فإذا خرجنا من عنده كانت قلوبنا أقوى ما تكون.
الثاني: السبب الثاني الذي يؤكده أثر غياب القدوة؛ يؤكد أهمية التعلق بالشرع لا بالأشخاص حتى الأنبياء، قال الله تعالى:وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أو قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً [آل عمران:144].
فما بالك بغيره من الناس، نعم، إنَّ للعلماء والدعاة مكانة، لكن ما هي مكانتهم؟ إنَّ مكانتهم أن يعلموا الناس دينهم، وأن يعلموهم النصوص الشرعية، وأن يكثروا في المجتمع من الفقهاء، والمفتين، والمجتهدين، والدعاة، والصادقين، والمستبصرين، والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، فإن الأمة معصومة في جملتها أن تجتمع على خطأ أو ضلال، ولكن الأفراد ليسوا معصومين، ولهذا ينبغي أن يكون عندنا عدل وتوازن، وأن لا نبالغ في التعلق بالأشخاص، وأن يكون تعلقنا بالمنهج، وبالدين، وبالشريعة، وبالمبدأ، أما الأشخاص فيذهبون ويجيئون، ويحيون ويموتون، بل ويهتدون ويضلون، ويصيبون ويخطئون، أما المنهج أي الشريعة والدين فهو تنـزيل من حكيم حميد.
وهذا أحياناً قد يعود إلى طبيعةٍ في هذا الإنسان ورثها، أو كانت بسبب التربية في الصغر أو ما أشبه ذلك، وهي تحتاج إلى عناية وعلاج وحفاوة من المربين، ولهذا تجد أن الله تعالى ذكر في القرآن الكريم:الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً [النساء:137].
ومثل هؤلاء توعدهم الله بأنه لا يغفر لهم، لأن هذا الإنسان لا يعود للحق غالباً، ولو عاد لكان بعد عودته رجعةً أُخرى إلى الفساد، وهكذا، فهو لا تؤمن عواقبه قط.
وأنا أعرض لك -الآن- أسباب الثبات لعل الله أن ينقذني وإياك بها من مهاوي الردى:
وقد جاء هذا المعنى عن جماعة من الصحابة، كـأم سلمة، وعائشة، وأنس، وسبرة بن الفاكه، وأبي هريرة، وغيرهم، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو الله تعالى بالثبات: { ثبت قلوبنا على دينك } وأيضاً من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم كما رواه النسائي والترمذي وأحمد أنه كان من دعائه عليه الصلاة والسلام: {اللهم إني أسألك الثبات في الأمر} فإن العبد لا ثبات له إلا بالله تعالى، فيتوسل إلى ما عند الله تعالى بأسمائه وصفاته وأفعاله -جل وعلا- ليغفر له، أو يعينه، أو يثبته.
فإذا عرف العبد أن الله تعالى يحول بين المرء وقلبه، وأن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن إذا شاء أن يقيمه أقامه وإذا شاء أن يزيغه أزاغه، فإنه يقول: لا حول ولاقوه إلا بالله، فيبرأ من كل معاني الثقة بالنفس، أو الغرور بالأنا، أو الاعتماد على الذات، ويلتزم بطاعة الله تعالى، ومحبته، وتعظيمه، وتوحيده.
ولابد أن يلتزم الإنسان بقدر من الذكر والعبادة لا يخل به، وأقل ذلك أن يلتزم الإنسان بالرواتب -وهي معروفة- والوتر، وصيام الأيام البيض (ثلاثة أيام من كل شهر)، وقراءة حزب من القرآن لأن ذلك عون للعبد على الثبات، لهذا قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّل * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلا * نِصْفَهُ أو انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أو زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً [المزمل:1-5] فلا يصبر على القول الثقيل، ولا يتحمله، ولا يقوم به؛ إلا من كان له مع الله تعالى عبادة، وقربى، وزلفى إليه.
ومن وعى التاريخ في صدره أضاف أعمـاراً إلى عمـره |
وكما قيل:
مثل القوم نسوا تاريخهـم كلـقيطٍ عيَّ في الناس انتسابا |
فينبغي أن يكون للإنسان صلة بالأحياء من الأخيار، وأن يكون له صلة بالأموات عن طريق قراءة سيرهم وتراجمهم.
إذاً: طلب العلم بصدق، وإخلاص، ونية صالحة، وقلب سليم، من أهم أسباب زيادة الإيمان، والإيمان الذي يزيد هو لن ينقص بإذن الله، لأن النقص هو ضد الزيادة، فينبغي أن يسعى الإنسان في زيادة إيمانه عن طريق طلب العلم الشرعي الموصل إلى الله تعالى والدار الآخرة، وإذا لم يزد الإيمان فإنه يخشى عليه من النقصان.
وإن طلب العلم الشرعي للإنسان عصمة عن التقليد الأعمى، وأي انحطاط للإنسان أكثر من أن يلغي عقله، وتفكيره، وإدراكه، وفهمه، ومسئوليته، ليجعل نفسه متابعاً لفلان، فما صوبه صوب، وما خطأه خطأ، وما قاله قال به، وما رده رده، إنَّ هذا إلغاء لإنسانية الإنسان، والله تعالى نعى على من فعل ذلك، وذكر أن هؤلاء كانوا يعذبون في الدار الآخرة، فقال: وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيل * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ [الأحزاب:67-68]
إنَّ الإنسان مسئول، ومحاسب، ومكلف، وينبغي أن يترك التقليد بقدر ما يستطيع، وأن لا يلجأ إليه إلا عند الضرورة التي لابد منها، بل يكون عنده بصيرة، وعنده معرفة، وعنده إدراك في الدين، ليس عن طريق التقليد، ولا عن طريق الوراثة من المجتمع، وإنما عن طريق الطلب، والبحث، والتحري، ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام لما صلى صلاة الكسوف، ثم خطب الناس، قال بعد ذلك: {إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه، فإنه يأتيه ملكان فيسألانه فيقولان له: ما ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فأما المؤمن أو الموقن، فيقول: ربي: الله، وديني: الإسلام، ونبيي: محمد صلى الله عليه وسلم، وأما الكافر أو المنافق -شك الراوي- فيقول: هاه.. هاه.. لا أدري! كنت أقول ما يقول الناس} فإذا كان شأنك مجرد ترديد لما قال زيدٌ أو ما قال عبيدٌ، فإنَّ هذا لا ينفعك في القبر، خاصة في مجال الاعتقاد، بل ينبغي أن تأخذ دينك عن بصيرة، ومعرفة، وعلم، ودراسة، وفهم، وأن تأخذ -أيضاً- الأحكام الشرعية ليس عن طريق التقليد بل عن طريق الدليل: قال الله.. قال رسول الله، كما قال الله: قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:111].
دعو كل قول عند قول محمد فما آمنٌ في دينه كمخاطر |
وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل، إذا جاء: قال الله.. قال رسول الله، لا تحتاج إلى كلام أحد بعد ذلك، وما كلام العلماء، والفقهاء، والمصنفين، والمدرسين؛ إلا مجرد إيضاح، وبيان، وشرح لمعاني نصوص القرآن والسنة.
أما المنافق أو ضعيف الإيمان فإنه آمن مطمئن، لا يمر هذا الكلام منه بخاطر، ولا يمر منه على بال، لأنه يرى أن الأمر مستقر ولا يدري ما يعرض له في الدنيا [[أما المنافق جمع إساءةً وأمنا ]] وقال الحسن مرة أخرى عن النفاق: [[والله ما أمنه إلا منافق، ولا خافه إلا مؤمن]].
إنه لابد من الالتفات إلى القلب، وزرع الخوف من الله تعالى، والخوف الدائم من المعصية ومن سوء الخاتمة، ومن حبوط العمل، وملء القلب بالأعمال الصالحة، كأعمال القلب، من حب الله، وخوفه، ورجائه، والإنابة إليه، وتعظيمه، وطرد كل معاني الرذيلة: كالخوف من المخلوقين، والتعلق بالمخلوقين، والأحقاد، والحسد، والبغضاء، والأمراض القلبية، والإعجاب بالذات، وتقديس الذات، وتقديس الأنا، فلابد من علاج هذه الأمراض، وأن يحرص الإنسان على إصلاح داخله، وليس على التصنع، والتعمل، والتكلف بين الناس بالمظاهر فحسب.
فيعلم أن الأمر يؤول إما إلى جنة وإما إلى نار، كما ذكر الله تعالى في كتابه أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {وإنها للجنة أبداً أو النار أبداً}. ومثله -أيضاً-: الثقة بوعد الله تعالى في الدنيا بنصر الإسلام ونصر المؤمنين، وإنجاز وعده بذلك، فإن الاغترار بالعاجل مما أثر عن المنافقين؛ فإن الإنسان ينبغي أن يثق بالله وبوعد الله، ويعلم أن الدين منصور، وعزيز، ومرتفع، وأنه مهما طال الزمن أم قصر؛ فإن الله تعالى سينصر دينه، ويحقق وعده، وينصر عباده المؤمنين الصالحين، قال الله تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء:105].
وقال: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُون [الصافات:171-173] فلا يغتر الإنسان بوقت محدود أو عاجل من الأمر، تغلب فيه الكفر على الإيمان في بلاد كثيرة، وأصبحت الحضارة المادية (حضارة الطين وحضارة المادة) تبسط وتمد رواقها على العالم كله، فإن هذا تشبه بالمنافقين الذين كانوا ويقولون: مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً [الأحزاب:12].
يقول أحدهم:(محمد يعدنا كنوز كسرى وقيصر، ونحن لا نستطيع نذهب لقضاء الحاجة) أما المؤمنون فقالوا -لمّا اشتد الكرب واشتدت الأزمة-: هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً [الأحزاب:22].
يا بنت عمي كتاب الله أخرجني طـوعاً وهل أمنعن الله مـا فعلا |
فإن رجعتُ فرب الكون يرجعني وإن لحقتُ بربي فـابتغي بـدلا |
ما كنت أعرج أو أعمى فيعذرني أو ضارعاً من ضنا لـم يستطع حِوَلا |
إذاً: الجهاد يقوي نفس المجاهد، ويرفع مستواه، ويبعده عن التعلق بالشهوات، والطمع فيها، والارتباط بها، والميل إليها، كما أنه يرفع مستوى الأمة المجاهدة، فالأمة المجاهدة -أيضاً- طاقاتها مستنفرة، وجهودها، وإعلامها، وتعليمها، وأعمالها، وأشخاصها، كلها موجهة إلى هذا الأمر الخطير الذي هو مقارعة الأعداء، وانتزاع العزة من براثنهم، والتغلب عليهم، فهذه الأمة المجاهدة لا مكان عندها لكثير من الأمور المباحة والجائزة، فضلاً عن الأمور المحرمة من الشهوات وغيرها.
لما تؤذن الدنيا به من صروفها يكون بكاءُ الطفل ساعةَ يولدُ |
وإلا فـما يبكيه مـنها وإنها لأرحب من مما كان فيه وأرغد |
ثم يختم للإنسان - أيضاً - بحالةٍ من الضيق تشبه ما بدأَ له، وذلك إيذاناً بأن الدار الدنيا: دار جهاد، ودار بلاء، ودار صبر، ودار مقاومة، ودار منازلة قال تعالى: وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [العنكبوت:64].
ولذلك أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99].
واليقين هو الموت، وليست العبادة مرهونة بغاية محددة، فلا حصول على شهادة، ولا مرتبة، ولا وظيفة، ولا درجة، ولا شيء غير ذلك، إنما حتى يأتيك اليقين.
لقد خذل كثيرون عند الموت: فمنهم من شك، ومنهم من كفر، ومنهم من تسخط القضاء والقدر، قيل لرجلٍ عند موته: قل: لا إله إلا الله، فقال: هو كافر بها!! وقال أبو جعفر: دخلت على رجل بالضيعة، وهو في الموت، فقلت له: قل: لا اله إلا الله، فقال: هيهات حيل بيني وبينها!! وقال أبو الحسن الفقيه: نـزل الموت برجل كان عندنا، فقيل له: استغفر الله، قال: ما أريد! قيل له: قل: لا إله إلا الله، قال: لا أقول!!
وكان سفيان الثوري رحمه الله يقول لـإبراهيم بن أدهم: [[يا
إنك تجد صوراً عجيبة عن الذين عرفوا الله في الرخاء فعرفهم في الشدة، صدقوا مع الله، صبروا مع الله، وآمنوا وجاهدوا في حال الرخاء، فلما كانت الشدة عند الموت، كان الله تعالى بكل خيرٍ أسرع، فحفظهم وألقى عليهم السكينة والإيمان واليقين، حتى كان المؤمن يموت بعرق الجبين، قال: الطبري وابن عساكر وابن الجوزي وابن الأثير وابن كثير وغيرهم من المؤرخين:[[لما ثقل معاوية رضي الله عنه، قال: احشوا عيني بالإثمد، وأوسعوا رأسي دُهناً، ففعلوا، وبرق وجهه بالدهن، ثم مهد له، وأجلس، وأسند، ثم قال: ليدن الناس: فليسلموا عليّ قياماً، فكان الرجل يقوم فيسلم عليه، ثم يقول: يقولون معاوية مريض وما به شيء هو أصح الناس، فلما خرجوا من عنده، قال:
وتجلدي للشامتين أريهـم أني لريب الدهر لا أتزعزعُ |
وإذا المنية أنشبت أظفارها ألفيت كل تميمة لا تنفعُ |
أما أبو بكر رضي الله عنه لما حضره الموت، قال: كفنوني في ثوب خلق، فإن الحي أولى بالجديد من الميت، وإنما هذا الكفن للمهلة والصديق، فقالت عائشة رضي الله عنها:
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر |
قال: [[يا عائشة، دعي هذا، وقولي كما قال الله تعالى: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق:19].]]
إن ساعة الموت ساعةَ يحضر الإنسان فيها ما كان يشغله في الدنيا من خيٍر أو شر، فالنحوي يفكر في النحو، فإذا قيل له شيء، قال: أموت وفي النفس شيءٌ من (حتى) والبياع يفكر في تجارته وبيعه فربما سام أو باع أو اشترى، وصاحب النساء والقيان والغناء ُيحضُر له ذلك، وصاحب الذكر، وصاحب الطاعة، وصاحب القرآن يختم له بذلك، حتى وهو في غيبوبته يقرأ من هذا القرآن وربما لا يتوقف أبداً حتى تخرج روحه، ولذلك يقال إن أبا طاهر القرمطي -وهو من القرامطة المعروفين -لما هجم على الكعبة، وقتل الحُجاج، وملأ بئر زمزم من هؤلاء، فلما قتل في الحجاج قتلاً ذريعاً وأتى إلى الطُّواف، فكان يقتلهم كان هناك رجل من الطائفين اسمه علي بن بابويه من العباد الطواف فكان يطوف، فضربوه حتى سقط، وكان يتمثل ويقول:
ترى المحبين صرعى في ديارهم كفتية الكهف لا يدرون كم لبثوا |
يعني هو محب لله تعالى، ولذكره، ولبيته الحرام، ولعبادته، ولطاعته فلا يهمه ما أصابه، وأبو الوفاء بن عقيل رحمه الله تعالى، وهو من الحنابلة، من أذكياء العالم، ومن كبار العلماء والفقهاء، يقول: لي خمسون سنة، وأنا أوقع عنه- يعني عن الله تعالى- فدعوني أتهيأ لمقابلته جل وعلا.
ويروى عنعبد الأول السجزي كما ذكر ذلك ابن الجوزي وغيره، أنه لما حضرته الوفاة، قال: يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين.
اللهم ثبت قلوبنا على دينك، اللهم ثبتنا بقولك الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، ويا مصرف القلوب اصرف قلوبنا إلى طاعتك، اللهم إنا نسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، والغنيمة من كل بر، والسلامة من كل إثم، والفوز بالجنة، والنجاة من النار... يارب العالمين.
الجواب: أما النصيحة بقراءة كتبه فلا أنصح بقراءة كتبه، لسبب: أولاً: أن هذه الكتب أنواع: ففيها الكتب التي ألفها بعد انحرافه، هذه لا شك فيها، لكن حتى الكتب التي ألفها من قبل، فإنها لا تخلوا من الروح التي أسلفت قبل قليل، هذا من جانب، الجانب الآخر أن لها تأثيراً تربوي على القارئ، فإن القارئ إذا قرأ وأعجب بهذا الكلام، وزاده هذا الكلام إيماناً، تذكر أن صاحب هذا الكلام ومصدِّره قد ارتد وألحد، فكان هذا سبباً في ضعف القارئ، وضعف تقبله وتأثره بما يقرأ لهذا الرجل، وقد يحدث هذا عنده تأثراً سلبياً عكسياً، ولهذا لا أنصح بقراءة كتب هذا الرجل، أما أين يعيش: فلست متأكداً، لكن أعتقد أنه ما زال حياً، وربما كان يعيش في مصر، أو فرنسا، أو غيرها والله تعالى أعلم.
الجواب: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى [النازعات:40]. فليس الإنسان مطالب أن لا يعتمل الهوى في قلبه، لكنه مطالب أن ينهى نفسه عن الهوى، وإلا فإن الإنسان ركبت فيه الغريزة، ولكن ينبغي أن يعمل على إشباعها بالطريق المباح، ولهذا الله تعالى حرم السفاح وهو الزنا، وشرع النكاح، وحرم الربا وأباح وأحل البيع، فما حرم الله تعالى أو أغلق باباً من الشر إلا وفتح بديلاً عنه باباً من الخير، فعلى الإنسان أن يعمل على إشباع الشهوات الفطرية الطبيعية بالأسلوب الشرعي المباح، ويبتعد عن المعاصي ولا يضره ما مر في خاطره وراء ذلك.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر