إسلام ويب

المعالم المنجية من شؤم المعصيةللشيخ : سلمان العودة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من عقائد أهل السنة أن الله سبحانه وتعالى خالق المعصية كما أنه خالق الطاعة، وله سبحانه في ذلك حكم عظيمة وجليلة. وفي هذا الدرس المبارك استخراج لبعض هذه الحكم، مع بيان أصناف العصاة، ومعالم كل صنف.

    1.   

    الحِكَم من خلق المعصية

    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً *يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:71].

    الحمد لله رب العالمين، فلقد بدأ المسجد والحلقة والمحاضرة والمركز والمجلس العلمي، يختطف جمهور الكرة والأغنية والشاشة وغيرها، وأصبحنا نشهد انتصار الإسلام صباح مساء من خلال هذه الجموع التي تحرص على استماع الكلمة الطيبة، وتحرص على حضور المحاضرة والدرس والموعظة، في حين أصبحت المجالات الأخرى تفقد جمهورها شيئاً فشيئا، وهذه خطوات محمودة في طريق انتصار الإسلام في هذه البلاد وفي كل البلاد بإذن الله تعالى، قال تعالى: وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ [ص:88].

    عنوان هذه المحاضرة التي تلقى في هذه الليلة، ليلة الخميس 27 من شهر ذي القعدة لعام 1410هجرية في هذا المسجد وهو جامع الخليل بـالدمام، "المعالم المنجية من شؤم المعصية" وأستسمحكم عذراً إذ أقول: إننا حين نتكلم عن المعصية، فكأننا حذاقها وفلاسفتها والخبراء فيها، فهي أرض قد ترددنا فيها وبلاد قد عرفناها، ويا ليتنا إذ نتكلم عن الطاعة ووسائلها وأسبابها ومعالمها، نعلم من ذلك ما نعلمه من شأن المعاصي.

    لقد خلق الله عز وجل المعصية في هذه الدنيا بحكمته، فالله تعالى قادر على أن يجعل الخلق كلهم على قلب رجل واحد، وقد فعل سبحانه وتعالى ذلك فيما يتعلق بالملائكة، فقد خلق خلقاً عنده شأنهم كما ذكر في كتابه: عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الأنبياء:27] وقال الله عز وجل: مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6] ولكنه تعالى خلق الخلق وقدر أن يكون الإنسان قابل للهدى والضلال، والخير والشر: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً [الإنسان:3] وقال تعالى: وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد:10] وقال تعالى أيضاً: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف:29].

    الابتلاء والاختبار

    ولذلك فإن أعظم حكمة في خلق المعصية هي الابتلاء والاختبار، بحيث أإن الإنسان ليس مكرهاً على الطاعة مجبولاً عليها بفطرته، كلا؛ بل هو بفطرته قابل للهدى والضلال، ولو شاء الله عز وجل لجعل الخلق كلهم أمة واحدة كما قال: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً [هود:118] يعني: على الهدى، ثم قال: وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ [هود:119] يعني: للابتلاء الذي يترتب عليه اختلافهم وانقسامهم، ثم قال: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ [النمل:45].

    إذاً لا حيلة، فكما أن هناك جنة فهناك نار، وكما أن هناك طاعة فهناك معصية، وكما أن هناك ملائكة فهناك شياطين، وكما أن هناك أبرار فهناك فجار، ولا بد من هذا، وهذه حكمة الله عز وجل وهذا هو الذي يتحقق به الابتلاء والاختبار والتمييز، وإلا فلو كان الناس كلهم مجبولين على الطاعة لما تميز أحد عن أحد، ولا مدح طائع، ولا ذم عاص؛ لأن الخلق كلهم صاروا على قلب رجل واحد.

    إبراز فضل المؤمنين ومكانتهم

    ومن أعظم حكم وجود المعصية وخلقها أيضاً: إبراز فضل المؤمنين ومكانتهم واستقامتهم، فلولا طغيان فرعون وجبروته وظلمه، لما ظهر فضل موسى عليه الصلاة والسلام وإيمانه وتقواه وكرمه وصبره، ولولا تسلط النمرود وتألهه وتعاظمه وادعاؤه، لما ظهر للناس فضل إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وصبره ومكانته عند الله عز وجل حتى إنه يلقى في النار فيصبر لله عز وجل ويقول: حسبنا الله ونعم الوكيل.

    قال ابن عباس-رضى الله عنه-: [[حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قال له الناس: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173]]]. ولولا ظلم اليهود وبطشهم وماديتهم وقسوتهم وفسادهم، لما ظهر للناس فضل عيسى عليه الصلاة والسلام وصبره، وتواضعه، وتسامحه، وإيمانه، وبره، وتقواه. ولولا ظلم قريش، وطغيانها، وكفرها، وتمردها، وعنادها، ومن ورائها الدنيا كلها، لما ظهر للناس فضل محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وصبرهم على دين الله عز وجل، وتحملهم المشاق في سبيله، وتضحيتهم بالغالي والنفيس في سبيل الله تعالى، فإن من أعظم حكم وجود المعصية أن يظهر الله تعالى فضل الفضلاء، فيبرز الأنبياء الصادقون، ويبرز المجاهدون، والمؤمنون، والمتقون، فتبين حقائق الرجال، وتظهر جواهرهم ومعادنهم وتتميز، هذا في الدنيا.

    أما في الآخرة فكما قال الله عز وجل: انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً [الإسراء:21] يقول القائل:

    وإذا أراد الله نشر فضيلة      طويت أتاح لها لسان حسود

    لولا اشتعال النار فيما جاورت      ما كان يعرف فضل عرف العود

    يعني هذا العود الذي يتبخر به الناس، لولا أن النار تشتعل فيه فتظهر رائحته وطيبه ما عرف الناس ذلك، إذن كذلك الأبرار والصالحون، إذا مسهم أذى الفجار وظلمهم وإيذاؤهم وطغيانهم ظهرت معادنهم وحقائقهم، وتميزت وصفت، فبانوا أصفى من الزجاج، وأبيض من اللبن، وأحلى من العسل، وأقوى إيماناً، وأرسخ من الجبال الراسيات.

    تحقيق الوحدانية لله عزوجل

    ومن أعظم حكم وجود المعصية وخلقها، تحقيق الوحدانية لله عز وجل في ربوبيته وألوهيته، وأنه بيده القضاء والقدر، فما شاء الله تعالى كان وما لم يشأ لم يكن، فإن العبد حينئذ يحصل له من التسليم والانقياد لله عز وجل وإدراكه للعجز التام المطلق عن الحول والطول والقوة إلا بالله تعالى، فيفزع من الله تبارك وتعالى إليه، ولذلك يقول العبد: {يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، يا مصرف القلوب صرف قلبي على طاعتك} لأنه يدرك بوجود المعصية أن الله تعالى هو الذي خلق المعصية، وهو مصرف العباد، ومقلب قلوبهم وموجهها على حسب ما تقتضيه حكمته جلَّ وعلا وعدله، وحينئذ يدرك العبد أن الألوهية الحقة هي لله، وأن الربوبية والملك والتدبير هي لله جلَّ وعلا، فيفزع من الله تبارك وتعالى­ إليه، لهذا يقول الله عز وجل في آخر سورة التوبة: لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ [التوبة:117] إلى أن قال: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ [التوبة:118] لاحظ، ظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه، فإن العبد إذا رأى المعصية سواء في نفسه أم في غيره، أدرك أن مقامه مقام العبودية، والعجز، والتسليم، والانقياد، وأنه لا حول له ولا قوة إلا بالله جلَّ وعلا.

    تحقيق معاني أسماء الله وصفاته

    ومن حِكم وجود المعصية: تحقيق معاني أسماء الله تعالى وصفاته، فإن الله تعالى من أسمائه الخالق، وهذا الاسم يتجلى في خلق السماوات والأرض، والأملاك، والأفلاك، والبشر، والبهائم، والدواب، والملائكة، وغيرها.

    ومن أسمائه الرزَّاق، ومن مظهر وأثر هذا الاسم أن الله تعالى يرزق الطير في ثكناتها، ويرزق السباع، ويرزق الحيات في جحورها، ويرزق الإنسان، ولو كُتِبَ للعبد رزق في أعماق أعماق البحار لقيضه الله تعالى له فيصل إليه.

    ومن أسمائه تعالى أنه المحيي المميت، فهو من شأنه أن يحيي ويميت، وفي كل لحظة في الدنيا يحيي الله تعالى آلاف الأحياء، ويميت آلافاً أخرى، فلا تزال الدنيا كلها في حركة متجددة من الحياة والموت بإذن الواحد القهار جل وعلا!.

    وكذلك من أسمائه جل وعلا أنه الرحمن الرحيم، وهذه الرحمة تتجلى في صور شتى منها رحمته تعالى بالعصاة، ومن أسمائه الغفور ولو لم يكن هناك أناس يخطئون فيستغفرون فيغفر لهم، لما ظهر أثر هذا الاسم الجليل العظيم "الغفور"!.

    ومن أسمائه "الحليم" فلو لا أن هناك من يخطئ في جنب الله تعالى، ويظلم نفسه، ويعصي ويبارز الله تعالى فيحلم الله تبارك وتعالى عليه، ويعفو عنه، ولا يعاجله بالعقوبة، لما ظهر للناس شرف هذا الاسم وعظمته وقدره.

    وهكذا كان من حكم وجود المعصية ظهور آثار أسماء الله تعالى الحسنى، مثل الرحمن والرحيم والغفور والحليم، ولذلك قال عيسى عليه الصلاة والسلام: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:118] وورد في السنن عن أبي ذر {أن النبي صلى الله عليه وسلم قام ليلة كاملة حتى أصبح يقرأ هذه الآية ويبكي إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:118] } ولاحظ كيف ختم الآية بقوله: أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:118] ولم يقل أنت الغفور الرحيم؛ ليشعر بأن مغفرته جل وعلا للعصاة من عباده، ليست عن عجز عن المعاقبة، كلا! وليست عن عدم معرفة بالحق، كلا! وإنما يغفر لهم مع أنه العزيز الذي قهر وغلب وقَدِرَ جل وعلا، ومع أنه الحكيم الذي يضع الأمور في مواضعها، ومع ذلك كله فإنه يغفر لعباده ولا يعاجلهم بالعقوبة.

    إظهار الإيمان وتقوية شواهده

    ومن أعظم حكم خلق المعصية: إظهار حقيقة الإيمان وتقوية شواهده للمؤمنين والصادقين، وذلك حين يرون آثار الطاعة والمعصية في حياتهم، فإن الله عز وجل ذكر في كتابه، بل وذكر النبي صلى الله عليه وسلم في كثير من الأحاديث أثر الطاعة وأثر المعصية، أثر الطاعة على الأفراد وعلى الجماعات وعلى الأمم في استقامة أحوالها، سواء فيما يتعلق بقلوبهم وسعادتهم واطمئنانهم وروحهم وإيمانهم، أم فيما يتعلق برزقهم وسعة ما يعطيهم الله تعالى من المأكل والمشرب والمطاعم والملاذ، قال تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ [الأعراف:96] وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً [الجن:16] وبالمقابل قال تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:124].

    قال بعض السلف: المعيشة الضنك هي عذاب القبر، والواقع أن المعيشة الضنك هي أوسع من هذا كله، فالمعيشة الضنك في الدنيا بضيق الصدر والهم والحزن والقلق الذي يخيم على قلب العاصي، حتى كأن الدنيا في عينه أضيق من ثقب إبرة، ولو أجلبت وراءه الشُّرَط والأعوان، والأنصار، والأموال، والدنيا، والمواكب، فإن هذا الإنسان يعيش قلبه في ضيق لا يعلمه إلا الله، كما قال الإمام الحسن البصري -رحمه الله- وقد مر به موكب من بعض العصاة قال: [[إنهم وإن هَمْلَجَتْ بهم البغال، وطقطقت بهم البراذين، إلا أن ذل المعصية في رقابهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه]]. ولذلك إذا رأيت العاصي رأيت في نفسه من الذل والصغار، مصداق ما أخبره به النبي صلى الله عليه وسلم حين قال في الحديث الذي رواه أصحاب السنن وأحمد بسند جيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {وجُعل الذلة والصغار علىمن خالف أمري} وبالمقابل إذا رأيت المطيع رأيت فيه من العزة والقوة والمنطق والإيمان والثقة والثبات، ما يليق بموقعه عبداً مطيعاً مخبتاً لله جل وعلا.

    والمقصود أن من حِكَم خلق المعصية أن يرى الناس بأعينهم مصداق هذا، فإن عصى الإنسان ربه وجد أن أثر المعصية في نفسه، وفي ولده، وفي زوجته، وفي ماله، وفي خدمه، وفي عبيده، وفي سيارته، وفي كل شيء، حتى قال بعض السلف: والله إني لأعصى الله عز وجل فأرى أثر ذلك في خُلُقِ زوجتي، وفي سير دابتي، فإن عصى الله تعالى أصبح ينظر أين عقوبة هذه المعصية؟!! فيجد اليوم زوجته قد أساءت معاملته، وتكلمت عليه بكلام قاس، وبكلام شديد، وأغلظت له، ولم تجهز له الطعام كما ينبغي، وما حققت له ما يريد، ودخل عليها يريد أن يرى الابتسامة التي تعوَّد عليها، ويرى الصدر المنشرح، ويرى الكلمة الطيبة، فوجد الاكفهرار، والتقطيب، والإعراض، ما هو السبب؟ السبب: تعلمه أنت، وهي لا تعلمه، لكن العبد مسير في هذه الأمور، فالله عز وجل أظهر أثر المعصية في خلق زوجتك، وفي دابتك، وفي سيارتك، وفي رزقك.

    كم من إنسان يذهب يطلب الرزق؟ اليوم أسس شركة، فيجد بعد فترة أن الشركة قد انهارت ولا بد من التصفية، فذهب يحاول أن يشتغل بالزراعة، فكانت النتيجة واحدة، وذهب في طريق ثالث، ورابع، وخامس، فوجد أن الأبواب كلها مغلقة أمامه، فنقول له: ارجع حاسب نفسك، وانظر فإن البلاء في نفسك، والبلاء في داخلك!.

    وهذه ليست قاعدة مطردة، فأنت قد تجد كافراً موسعاً له في الرزق، لكن هذه القاعدة إنما تصدق في شأن من أراد الله به خيراً، فإن الله تعالى يرسل له النذر، والتعليمات، والتوجيهات، والتنبيهات، أما الإنسان الذي لا يحبه الله فلا يبالي به في أي واد هلك، فإن الله تعالى يمد له من الدنيا مدا، وكلما زاد في المعصية ربما زاد الله له في الرزق، ووسَّع عليه وأعطاه حتى يقبضه الله عز وجل وهو أكفر ما كان، وأعصى ما كان، وأقسى ما كان، كما قال الله عز وجل: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ [التوبة:55] فيمد الله تعالى لهم في الدنيا مدا، حتى يلقوا الله تعالى بآثامهم وذنوبهم كاملة موفورة، فيأخذهم بها أخذ عزيز مقتدر.

    فإن رأى العبد أثر المعصية في نفسه وفي مجتمعه، وفي أسرته، وفيمن حوله، أدرك صدق ما جاءت به الرسل، وأن الأمر حق لا مرية فيه، وهذا لا يحدث إلا لمن في قلبه بعض الحياة، وإلا فإن الإنسان الذي قلبه قد مات والعياذ بالله فإنه يفسر الأمور تفسيراً مادياً؛ لأنه لا يؤمن بما وراء الأحداث المشهودة من قدر الله وإرادته وتدبيره، فإذا رأى في الأمور الدنيوية تعكيراً أو تأخيراً فسره تفسيراً معيناً، فيقول: والله هذا الأمر بسبب سوء الحسابات، وعطل السيارة وبسبب كذا وكذا، وخلق الزوجة بسبب كذا، وهكذا يفسر الأمور تفسيراً مادياً قريباً، ويغفل عما وراء الأحداث، ونحن لا ننكر الأسباب، ولكن وراء الأسباب أسباب، ووراء الأسباب مسبب الأسباب وخالقها جل وعلا والمؤمن يدرك هذه المعاني ويلحظها، أما الغافل فإنه يمضي قدماً لا يلوي على شيء حتى يهلك في قبره.

    انظر مثلاً إلى ما ذكره بعض الصالحين، ذكر الإمام المنذري في الترغيب والترهيب قصة عن الإمام البيهقي أن رجلاً جاء إلى عبد الله بن المبارك -رضى الله عنه وأرضاه- وقال له: يا أبا عبد الرحمن إن في ركبتي قرحه قد نبتت منذ سبع سنين، وقد عرضتها على جميع الأطباء، وذهبت وجئت وعالجت، وما تركت أحداً إلا أتيته، فما نفع ذلك ولا أجد شيئاً فماذا ترى لي يا أبا عبد الرحمن بارك الله فيك؟ قال له عبد الله بن المبارك: اذهب إلى مكان يحتاج الماء فاحفر فيه بئراً وسبلها للناس، فإن شاء الله تعالى كلما خرج الماء وانتفع به الناس نقص هذا الدم الذي يخرج من ركبتك وشفاك الله تعالى، ففعل هذا الرجل، فما هي إلا أزمنة يسيرة حتى شفاه الله تعالى.

    هذه القصة في ميزان الطب، حين تأتي للطب كعلم محدث فليست عنده خانة معينة لهذا الأمر، لكن في مجال الأمور الشرعية والمشاهدات الحسية، فإن هذا الأمر يرى عياناً لا شك فيه ولا تردد، ولسنا في حاجة إلى قصة حصلت في عهد عبد الله بن المبارك، أو قصة أخرى، أو ثالثة، أو رابعة، أو عاشرة، فإن كل امرئ منا يرى في حياته من مثل هذه القصة الأشياء الكثيرة، حتى العلم الحديث بدأ يحاول أن يفسر هذه الأمور ويجد لها موقعاً صحيحاً، لأنها حقائق لا تقبل الجدل والخلاف حولها.

    ومثل هذه القصة التي تدل على أثر الطاعة في صحة الإنسان واستقامة حاله، وشفائه مما يعانى من أمراض، ما ذكره البيهقي، عن الشيخ أبا عبد الله الحاكم، وهو شيخ البيهقي، وهو صاحب المستدرك أنه نبت في وجهه قروح وجروح أيضاً، وعرض نفسه على الأطباء فما نفع ذلك شيئاً، فجاء إلى الإمام أبي عثمان الصابوني وهو من أئمة أهل السنة والجماعة وهو في مجلسه يوم الجمعة، وفي مجلسه خلق كثير، فقال له: يا أبا عثمان قد ترى ما في وجهي من القروح والجروح، فلو دعوتم الله تبارك وتعالى لي؛ لعل الله تعالى أن يشفيني من هذا الأمر الذي شوهني، فرفع أبو عثمان الصابوني -رحمه الله- يديه ودعا وأمن الحضور وضجوا رجالاً ونساء بالبكاء والدعاء للإمام أبي عبد الله الحاكم؛ لأنه من أئمة الإسلام، ومن رجاله العظام، ومن شيوخ أهل السنة والجماعة، فلما كانت الجمعة الثانية كتبت امرأة ورقة وألقت بها في المجلس، وإذا بها تقول: إنني بعد أن رجعت إلى بيتي دعوت الله عز وجل لـأبا عبد الله الحاكم أن يشفيه، فلما نمت رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقال لي: قولي لـأبي عبد الله الحاكم يتصدق وليسق المسلمين الماء، لعل الله أن يشفيه، فأخبرت أبا عبد الله الحاكم بذلك فتصدق وحفر الآبار وأجراها على المسلمين، فما هو إلا وقت يسير حتى شفاه الله تبارك وتعالى وعافاه.

    أيضاً: قصة أبي عبد الله الحاكم هذه لما تبحث عن خانتها في الطب أو أي صيدلية تصرف مثل هذا فلا يوجد، لكن الذي يعلم أمور التشريع يدرك أنه، كما قال الله عز وجل: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً [الإسراء:85] فالعلم لا يزال يحبو، حتى علم الطب مع أنه من العلوم المتقدمة لا يزال يحبو وأمامه مجالات واسعة ومجاهيل كبيرة، هو فيها يحتاج إلى دليل، وهذا الدليل هو الشرع والوحي والنص السماوي.

    ومن عجيب وغريب ما يروى في هذا الباب -أيضاً- ما ذكره الطرطوشي وغيره: أن هناك رجلاً كان اسمه نظام الملك، وكان وزيراً لأحد سلاطين السلاجقة، فكان نظام الملك هذا رجلاً صالحاً يتصدق بالأموال على الفقراء، والمساكين، والمحتاجين، وطلاب العلم، والدعاة، والمصلحين، حتى قيل إنه كان يدفع سنوياً ستمائة ألف دينار يوزعها على هؤلاء من خزينة بيت مال المسلمين، يوزعها عليهم ولا يترك طالب علم، ولا محتاج، ولا إمام، ولا عالم، ولا داعيه، إلا أجرى له من ذلك شيئاً كثيراً، فجاءه يوماً السلطان السلجوقي وهو أبو الفتوح، وكان شاباً أصغر منه سناً، فقال له: يا أبتِ! -يعني: يسميه هكذا من باب الإجلال لكبر سنه- قد بلغني أنك تصرف ستمائة ألف دينار من خزينتنا على هؤلاء الناس الذين لا ينفعوننا بشيء، فلا هم جنود في أيديهم سلاح، ولا هم حراس، ولا شرط، ولا أعوان، ولا كتاب، ولا شيء، وهم هناك في المساجد، أو في حلق العلم، أو في دروس العلم، أو في غير ذلك، فلماذا تصرف هذا المال لهم كلهم؟! فقال له نظام الملك: يا ولدي أنا شيخ كبير السن أعجمي لو عرضتُ في سوق من يزيد -يعني كما نقول نحن في لسان العصر الحاضر في سوق الحراج- لا أساوي خمسة دراهم، وأنت كذلك غلام تركي، لو عرضت في سوق من يزيد لعلك لا تساوى ثلاثين درهماً، فقيمتنا رخيصة، ومع ذلك فأنت منهمك في معاصيك وملذاتك، وما يرفع إلى الله عز وجل من معاصيك أكثر مما يرفع من طاعتك، وجنودك الذين تصرف لهم المال، ما هم جنودك؟! ثم قال: والله لجنودك الذين تعطيهم هذا المال يكافحون عنك بسيف أخسر من المترين، وبسهم لا يصل رميه إلى ثلاثين متراً، ومع ذلك فهم منهمكون في المعاصي والخمور والمجالس السيئة والغناء واللهو واللعب والعبث، فهؤلاء لا ينفعونك بشيء، أما أنا فإنني أصرف هذه المبالغ الطائلة على رجال إذا نام جندك في الليل قاموا في محاربهم، ومدوا أكف الضراعة إلى الله جل وعلا، وهطلت دموعهم بالبكاء، ودعوا الله أن يحفظك ويحفظ جندك، وينصر أعوانك، فأنت وجيشك الذي يحميك في خفارة هذه الجنود الذين هم جيوش الليل، ولولاهم لكنت أنت وجندك في خبر كان، فلما قال الرجل هذا الكلام، بكى السلطان السلجوقي، وقال بلهجته الأعجمية: شاباش يا أبت شاباش -يعني أحسنت جيدٌ هذا. أَكْثَرْ من هذا الجيش الذي هو جيش الليل.

    إذاً ليست القضية فيما يتعلق بقيام الدول وانتصارها، وتحقيقها للمكاسب الدنيوية، وليست القضية قضية مادية بحتة، فقد نقيم المصنع، ونقيم المدرسة، ونقيم المعمل والمختبر، لكن هل يتحقق بذلك لنا القوة والعزة والدولة والسلطان؟! كلا! هاهم الغرب الآن وإن نجحوا وتقدموا في ماديتهم، إلا أننا نجد أنهم أنفسهم أصبحوا يصرخون ويصيحون، ويهددون بالويل والثبور، وينذرون بالكوارث العظيمة اللاحقة بحضارتهم، والكلام في هذا يطول ليس هذا مجاله.

    والمقصود أن الإنسان يرى أثر المعصية في نفسه، وفي أهله، وفي أسرته، وفي مجتمعه ومدينته، وفي دولته، وفي أمته، بل وفي الخلق كلهم.

    تصوروا أن من الأخبار العلمية التي يتكلم عنها الناس الآن، ما يسمى بالثقب في طبقة الأوزون في الفضاء، وهذا من أحدث الأخبار التي أصبح العالم كله يضطرب من أجلها، ويهدد بكوارث هائلة على كافة المستويات في العالم، وهذه قضية علمية عندما تدرسها دراسة علمية، لا تستطيع أن تتجاهل البعد الشرعي، وأن المعاصي التي يرتكبها الناس والمخالفات الشرعية، هي من أهم الأسباب في ذلك، والمعاصي كلمة شاملة تشمل المعصية الفردية من الغيبة، والنميمة، والكذب، إلى آخره، وتشمل المعاصي الاجتماعية من الظلم، والطغيان، وتشمل معاصي الأمم، والجماعات، من المبالغة في الشيء، ومن ظلم هذه الشعوب المهضومة، فكلمة المعصية كلمة شاملة أوسع مما قد يدور في ذهن بعضهم، فالإنسان إذا اغتاب أحداً، فهذه معصية لا شك، أو أسبل ثوبه فهذه معصية، أو أكل مالاً حراماً فهذه معصية، ولكن هناك معاص كبيرة أعظم على مستوى الجماعات، مثل الظلم، وبخس الناس أشياءهم، ومثل ترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وهناك معاصي على مستوى الدول، وهناك معاص على مستوى الأمم، وكل هذه المعاصي مجتمعة، تحدث من الآثار العظيمة الرهيبة ما يشهد بصدق ما جاء به الأنبياء والمرسلون عليهم الصلاة والسلام.

    تحقيق الرحمة بالعصاة

    ومن أعظم حكم الله تعالى في خلق المعصية: تحقيق الرحمة بالعصاة، فأنتم تجدون، ونجد هذا في نفوسنا، أن الإنسان إذا كان مستقيماً وظل أشهراً على حاله من الاستقامة والطاعة والإخبات لله جل وعلا، وهو كما يقع في رمضان في النهار صائم وفي الليل قائم ومن قراءة القرآن إلى تسبيح إلى صدقة إلى عمرة، فيكون له إشراق وإيمان وقرب من الله تعالى، فإذا رأى العاصي فإنه ينفر منه، ويبغضه، ويمقته، ويقسو عليه، حتى إن من الناس من يدعو على العصاة بأن الله تعالى يهلكهم، ويأخذهم، ويبتليهم، وهكذا يقسو عليهم ويشتد، حتى إنه لو استطاع أن يقتلهم لقتلهم؛ ليحول بينهم وبين المعصية، فإذا كتب الله تعالى أن يقع العبد في شيء من معصية الله تعالى، أدركه ذل المعصية، وأدركه من الله تعالى روح، فأدرك أن هؤلاء الذين وقعوا في المعصية أحوج إلى الرحمة في بداية الأمر منهم إلى القسوة، مع أن هذا لا يمنعه من أن يقيم حدود الله تعالى عليهم، فإن كانوا قد وقعوا فيما حرم الله واستحقوا عقاباً أو تعزيراً أو حداً أو توبيخاً فعل، ولكنه مع ذلك يفعل بروح الذي يرحمهم، ويخصص لهم من وقته ما يدعوهم به إلى الله تعالى، ويتمنى لهم الشفاء العاجل، وبدلاً من أن يدعو عليهم أصبح يدعو لهم بالهداية، ويدعو لهم بالصلاح، ويدعو لهم بأن يوفقهم الله تعالى للإقلاع عما هم فيه من المعاصي، فينتقل من القسوة والغلظة إلى مقام الرحمة والشفقة على هؤلاء، والحرص على إنقاذهم مما هم فيه، ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم مع ما لقي من المشركين، حتى إنهم أخرجوه من مكة بلده، وحاربوه وطردوه، حتى إن أبا سفيان لما أسلم، ألقى قصيدة أمام النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيها:

    لعمرك إني يوم أحمل راية      لتغلب خيل اللات خيل محمد

    لكالمدلج الحيران أظلم ليله     فهذا أواني حين أهدى فأهتدي

    هداني هاد غير نفسي ودلني     على الله من طرّدته كل مطرد

    فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: {نعم أنت طردتني كل مطرد} أخرجوه من بلده صلى الله عليه وسلم، وشجوا وجهه، وكسروا رباعيته، وأدخلوا حلق المغفر في وجنتيه الطاهرتين عليه الصلاة والسلام، فقال: {كيف يفلح قوم شجوا نبيهم} وسقط عليه الصلاة والسلام في الحفرة، ومع هذا كله عليه الصلاة والسلام، كما في الصحيح عن ابن مسعود قال:{كأني أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبياً من الأنبياء ضربه قومه فأدموه} الله أكبر! وهو يمسح الدم عن وجهه، هل يقول اللهم العنهم اللهم اخذلهم؟! لا! يمسح الدم عن وجهه ويقول: {اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون} كالمعتذر لهم، لا يريد أن يعاجلهم الله تعالى بالعقوبة، لعل الله أن يتوب عليهم، ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم من حديث عائشة لما أخرجوه إلى الطائف حاربوه حتى خرج إلى الطائف فذهب إلى الطائف فلقَّوه شر لقاء، حتى قال قائل منهم: أما وجد الله أحداً يرسله غيرك؟! وقال آخر: إذا كنت أنت صادق فأنا أمزق ثياب الكعبة، وهكذا ردوه شر رد، وأساءوا إليه، ثم أغروا به غلمانهم وصبيانهم وسفهاءهم يلحقون به في الشارع، ويضربونه بالحجارة، حتى أدموا عقبيه الطاهرتين صلى الله عليه وسلم. فما وجد أحداً ينصره من البشر، وما وجد أحداً يأويه، حتى أوى عليه الصلاة والسلام إلى حائط، ثم رجع أدراجه إلى مكة يائساً منهم، وحينئذ أظلته غمامة، وكان صلى الله عليه وسلم في شبه غيبوبة من الحزن الذي لحقه؛ لأنه أصابه همٌ عظيم.

    دعوة الله ودعوة السماء ورسالة الحق تُرَدُّ هذا الرد السيئ؟! وأصابه عليه الصلاة والسلام من ذلك غم شديد، قال عليه الصلاة والسلام: { فلم أستفق إلا وأنا بـقرن الثعالب وإذا سحابة قد أظلتني فنـزل منها ملكان، وإذا بجبريل فسلم عليَّ وقال: يا محمد، هذا مَلَك الجبال، فسلم عليه ملك الجبال، وقال: يا محمد، إن الله تعالى سمع قول قومك لك وما ردوا عليك فمرني بما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين -وهما جبلان بـمكة-؛ -لأن أهل مكة هم السبب في كل ما لقيه النبي صلى الله عليه وسلم- إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، -أي: تذهب مكة في خبر كان هي ومن فيها-، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم -وقد استأنى بهم- بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبده لا يشرك به شيئا} الله أكبر! الله أكبر! وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4].

    فالمهم: أن العبد يدرك بمعصيته الرحمة للعصاة، وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأضرابه من الأنبياء والمرسلين، فلم يكونوا بحاجة إلى أن يذوقوا المعصية حتى يرحموا العصاة، ويدعوا الله تعالى لهم بالتوبة، وأن يغفر الله تعالى لهم، ويوفقهم للإقلاع عنها، فلم يكونوا بحاجة إلى ذلك، أما سائر البشر فإن كثيراً من الناس إذا غلب عليه التعبد والصلاح والتقوى والورع، ربما جفا في حق العصاة، حتى إنك تجد اليوم من الناس من يشتد على العصاة إلى حد أنه يخرجهم من الملة والعياذ بالله وقد رأيت بعيني، وسمعت بأذني، من غلاة الناس من يكفر أهل المعاصي بمعاصيهم، وهذا الإنسان الذي يكفر بالمعصية، مثلاً يكفر الزاني فهذا الإنسان لو كُتِبَ عليه بسبب ضعفه وجبلته وتسلط الشيطان عليه والهوى وانتشار الفواحش، لو كتب عليه أن ينظر نظرة حرام، أو يخاطب امرأة بكلمة حرام، أو يُقَبِّلْ أو يقع فيما هو فوق ذلك، لربما أعاد حساباته السابقة، وأعرض عما كان يقوله في شأن كفر أهل المعاصي.

    تحقيق الذل والانكسار للعبد

    ومن حكم الله تعالى في خَلْقِ المعصية: تحقيق الذل والانكسار للعبد، فإن العبد لو أتى الله تعالى بأعمال الثقلين من الطاعات والقربات، فإنه لا يمكن أن يدخل على الله تعالى إلا من باب الذل والانكسار، لذلك قال الإمام ابن تيمية -رحمه الله-: ومن أراد السعادة الأبدية فليلزم عتبة العبودية.

    أنت لا تدخل على الله لأنك تقول: والله لقد أتيت -الآن- بما أستحق به الجنة! لا.

    ما للعباد عليه حق واجب           كلا ولا سعي لديه ضائع

    إن عذِّبوا فبعد له أو نعموا           فبفضله وهو الكريم الواسع

    فأنت لا تدخل الجنة؛ لأنك صليت الصلوات الخمس، ولا لأنك صمت رمضان، أو حججت البيت الحرام، أو تصدقت أو فعلت، ووالله الذي لا إله غيره لو قضيت حياتك من يوم عقلت، إلى أن تموت راكعاً ساجداً قائماً، ذاكراً لله عز وجل ما كنت مستحقاً للجنة بذلك، ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لن يدخل الجنة أحد منكم بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله! قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل}. إذاً لا تدخل الجنة بأعمالك، إنما تدخلها برحمة الله تعالى، وأعظم ما يتأهل به العبد لرحمة الله تعالى والجنة، هو مقام الذل والانكسار بين يدي الله تعالى.

    ولذلك قد يتحقق -أحياناً- للعاصي من الذل والانكسار الشيء العظيم، حتى إن العاصي إذا كان في قلبه شيء من الحياة، ينظر في نعم الله تعالى، فيقول: أنا الآن أبارز الله بالمعاصي، نَفَسِي يتردد بإذن الله تعالى، ورزقي من فضل الله تعالى، ومعيشتي الهنيئة من الله تعالى ووظيفتي من الله تعالى وتوفيقي من الله تعالى وكل ما عندي من الله، قال تعالى: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النحل:53] وأنا والله لست أهلاً لشيء من ذلك، فينظر في نفسه فيهضمها ويعرف قدرها، ويدرك عظيم نعمة الله تبارك وتعالى عليه، فيقع له من ذلك شيء عظيم، حتى يكون شأنه مثل شأن شاب نشأ في حجر والده مدللاً يغذيه أبوه بأطيب النعم في الصباح والمساء، ولديه سيارة فخمة، وملابس جميلة، وخدمات متكاملة، وهذا الشاب لو أستطاع أبوه أن لا يهبَّ عليه النسيم والهواء لفعل، فيومٌ من الأيام خرج هذا الشاب فلقيه أعداء فأمسكوا به وقبضوا عليه، وسجنوه، ووضعوه في الحديد، وأصبحوا يضربونه، ويعطونه بدلاً من الطعام الذي كان يغذى به الضرب بالسياط، فيضربونه بالسياط صباحاً ومساء، ولا يزالون يوقدون تحته من جحيم الأذى والتعذيب والاضطهاد، حتى إن هذا الشاب إذا تذكر الأيام التي قضاها في كنف والده هطلت دموعه، وسالت وبكى، وقال: رحمة الله عليك يا أبي، أين أنت حتى ترى ما أنا فيه الآن، بعد أن أخذني العدو واختطفني من بين يديك؟! رحمة الله عليك يا أبي، ونظر الشاب وهو يتأمل ما كان عليه في عهد والده، وما صار إليه الآن وهو في قبضة عدوه، فإذا بأبيه يُقْبِلُ من بعيد، وما زال حتى رآه وتحقق أنه والده، فإذا بهذا الشاب يقوم سريعاً وهو يصرخ وينتحب ويبكي، ويلقى بنفسه بين يدي والده، ويقول له: يا أبت كيف لو رأيت ما صنعوا بي؟! كيف تبدل سروري هماً، كيف تبدل نعيمي عذاباً؟! كيف لو رأيت يا أبي ما فعلوا بي؟! ويبكى حينئذ ويشهق، ويضم والده إليه.

    هل تتوقعون أن والده -وهو الذي يحبه- سوف يركله برجله ويتخلى عنه، ويقول: لا شأن لي بك، كلا، بل إنَّ والده سوف يمسك به، ويحفظه ولا يدعه لعدوه بحال من الأحوال، ولله المثل الأعلى، فكذلك العبد إذا انكسر بين يدي الله، وانطرح، وعفر وجهه بالتراب، ودمع لله عز وجل، وذل وافتقر، فإنه يدخل على الله تبارك وتعالى من أوسع الأبواب. ولذلك يقول بعضهم: أنين المذنبين، خير من زجل المسبحين.

    وهذا الكلام ليس صحيحاً على الإطلاق، وهو ينسب إلى بعض الصوفية، يقولون: (أنين المذنبين خير من زجل المسبحين) يعني: بكاء العاصي وهو يتوب، ويندم ويحزن، وهو ساجد لله تعالى، خير من تسبيح المسبحين، فهذا ليس صحيحاً، لكنه -أحياناً- يكون صحيحاً، ومتى يكون صحيحاً؟ يكون صحيحاً إذا كان المسبح معجباً بعمله، وفخوراً بطاعته، فيقول: والله أنا فعلت وفعلت، أنا ولله الحمد البارحة صليت كذا ركعة، وصليت الفجر مع الجماعة، ولم يدخل أحد المسجد قبلي، وبعد الفجر في المسجد حتى تطلع الشمس، ثم ذهبت إلى حلقة علم، أنا ولله الحمد كامل، أنا سمعت واحداً يقول: أنا كامل فماذا عليَّ من العيوب؟.

    أحدهم زاره رجل وهو طريح الفراش في المستشفى، فقال: يا فلان طهور، تكفير ذنوب إن شاء الله، قال: تكفير ذنوب، هل أنا مذنب حتى تكفر ذنوبي؟! والعياذ بالله فالإنسان إذا كان صاحب طاعات، ولكنه يمنّ على الله بطاعته، ويرى أنه فعل شيئاً، فهذه الطاعات قد تكون وبالاً عليه، والعاصي الذي ينكسر بين يدي الله بمعصيته خير من المطيع الذي يعجب بعمله ويدل على الله تبارك وتعالى بعمله.

    1.   

    أنواع العصاة

    العصاة نوعان: فانظر على أي جنب تميل، انظر من أي الصنفين أنت؛ لأننا كلنا إلا من رحم الله عصاة، لكن الشأن كل الشأن في أي الصنفين، وفي أي القائمتين سوف تصنف نفسك.

    المنهمك في المعاصي

    الصنف الأول: إنسان منهمك في المعاصي لا حيلة فيه، إنسان موغل في المعاصي، لا ينتقل من معصية إلا إلى معصية أخرى، ولا يلتفت إلى توبة، ولا إلى ندم، ولا إلى إقلاع، بل إن هذا الإنسان والعياذ بالله كلما حصلت له معصية، فكر في غيرها، ومثل هذا يقال في شأنه ما كان يقوله السلف: المعاصي بريد الكفر كما أن الحمى بريد الموت، فالمعاصي بريد الكفر، هذا صنف.

    العاصي التائب

    والصنف الثاني: عاصٍ يتوب ثم يراجع نفسه، يذنب ثم يراجع نفسه، ثم يقع، ثم ينهض، مثل إنسان يمشي في طريق فيعثر ويسقط، ثم يقوم ويمشي، ثم يعثر مرة أخرى، ثم يقوم ويمشي، وهكذا فهو قريب ممكن التدارك.

    1.   

    معالم الأصناف

    كيف تعرف من أي الصنفين أنت؟

    تعرف ذلك من خلال ثمانية معالم أريد أن أقف عندها وقفات يسيرة، لعل الله تعالى أن ينفعني وإياكم بها.

    الولاء لمن

    الْمَعْلَمْ الأول: أن تنظر الولاء عندك، أهو للطاعة وأهلها، أم للمعصية وأهلها، فإن العاصي إذا كان على سبيل الاستقامة والصلاح، فإنه وإن عصى الله تعالى إلا أن ولاءه وحبه وقلبه مع الطاعات، ومع أهل الطاعات، ولذلك فإنه كما قال الإمام الشافعي -رحمه الله- يقول:

    أحب الصالحين ولست منهم     لعلي أن أنال بهم شفاعة

    وأكره مَنْ تجارته المعاصي      وإن      كنا سواء في البضاعة

    والشافعي -رحمه الله- يقول هذا على سبيل التواضع، لكن نحن نقوله على سبيل الحقيقة: أحب الصالحين ولست منهم، أنا عاص لكن أحب الصالحين؛ لأنه يجب أن أكون مثلهم، فإن قعدت بي همتي، وإن قعدت بي ذنوبي، فلا أقل من أن أحبهم، وأرجو أن أنال بهم شفاعة، وأكره أمثالي، وأكره من بضاعته المعاصي، وإن كنا سواءً في البضاعة، ولذلك يقول الشيخ أبو الحسن الندوي في بعض كتبه: إن هناك شاعراً هندياً كان مسرفاً على نفسه في المعاصي، يشرب الخمر ويتعاطى المحرمات، وكان منهمكاً وموغلاً في المعصية، ولكنه مؤمن مسلم، ويصلي الصلوات الخمس، ويحب الله ورسوله، فيوماً من الأيام كان عنده شابٌ عربي شيوعي ملحد والعياذ بالله فكانوا جالسين في الفندق في مقهى، يتعاطون الكؤوس، ويحتسون الخمر، ويتكلمون في شتى الشئون، ولا شأن لهم بالدين، فالمهم أن هذا الشاب العربي الشيوعي قام وبدأ يسب الرسول عليه الصلاة والسلام وينال من قدره، ويقول الندي: وكان هذا الشاعر الهندي ثملاً، يعني ليس صاحياً فالخمر قد لعبت برأسه، ولكنه لما سمع سب الرسول صلى الله عليه وسلم وسب الدين، يقول: اهتز واضطرب وزأر كما يزأر الأسد الليث الهصور، وقام وأخذ حذاءه وبدأ يضرب هذا الشاب، وينتحب ويبكي، ويقول: نعم شربنا الخمر وأخطأنا وأسرفنا وعصينا، لكن لم يبق لنا إلا حب الله ورسوله، والإيمان بالله ورسوله، وأنت تريد أن تنال من الله ومن رسوله في حضورنا، قال: فما زال يضربه حتى فقد هذا الشاب وعيه، وأظن هذا الشاعر تاب إلى الله تعالى وأناب وأقلع مما كان يفعله.

    إذاً المهم: أن يكون العاصي يتذكر أن ولاءه يجب أن يكون لله جل وعلا، وقبل ذلك أذكر القصة التي تعرفونها جميعاً قصة أبي محجن الثقفي، فقد كان أبو محجن الثقفي يشرب الخمر في الجاهلية قبل الإسلام ويتغنى بها، حتى قيل عنه أنه كان يقول:

    إذا مت فادفني إلى جنب كرمة      تروي عظامي بعد موتى عروقها

    ولا تدفنني بالفلاة فإنني     أخاف إذا ما مت ألا أذوقها

    يريد ممن يدفنه أن يدفنه إلى جنب كرمة، لتروي عظامه بعد موته، فلما أسلم تاب الله عليه، لكنه بقي مصراً على شرب الخمر، فجلد مرة ومرتين وثلاثاً وأربعاً، ولم توجد فائدة فالرجل مصر، وفي الأخير حبسه سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في العراق وكان يحارب الفرس في العراق، فحبس أبا محجن الثقفي، وذهب يقاتل في القادسية هو والمسلمون معه، وأبو محجن الثقفي كان مأسوراً في الحبس والقيد في رجله، فكان ينظر من النافذة والجيش المسلم يقاتل الفرس، والسهام والسيوف تلمع، والرؤوس تتساقط، والدماء تسيل، وأبو محجن يقلب رأسه ويبكي، ثم بدأ ينشد ويقول بينه وبين نفسه:

    كفى حزناً أن تطرد الخيل بالقنا     وأترك مشدوداً عليَّ وثاقيا

    إذا قمت عناني الحديد وغلقت     مصاريع دوني قد تصم المناديا

    وقد كنت ذا مال كثير وإخوة     فقد تركوني واحداً لا أخا ليا

    لله عهد لا أخيس بعهده          لئن فرجت ألا أزور الحوانيا

    فشعر بأن المعصية قد أقعدته عن هذا الموقف الشريف، ثم صاح أبو محجن بزوجة سعد بن أبي وقاص وقال لها: [[تعالي، فجاءته، وقالت له: ما بك يا أبا محجن، قال: لي طلب، قالت: وما طلبك؟ قال: فكي قيدي وأعطيني هذا الفرس، فرس سعد بن أبي وقاص، لأنه كان مريضاً وفرسه مربوطة، ودعيني أقاتل فإن مت فشهيد -إن شاء الله- وإذا نجاني الله فإني أعطيك عهد الله وميثاقه أن أعود حتى تضعي القيد في رجلي مرة أخرى، فترددت المرأة بعض الشيء، ثم أقدمت وفكت قيده وأعطته الفرس، فذهب وتلثم، وخاض المعركة لا يدع شاذة ولا فاذة في المشركين إلا أصابها، يضربها بسيفه، وكان فارساً قوياً لا يُشقُ له غبار، فكان سعد بن أبي وقاص ينظر في المعركة ويتعجب ويقول: الفرس فرسي والطعن طعن أبي محجن، ولكن أبا محجن في الحبس، من هذا الفارس الذي لا نعرفه؟! فلما انتهت المعركة رجع سعد إلى زوجته يقص لها القصة ويقول: حصل في المعركة كذا، وحصل كذا، وحصل كذا، ومن ضمن ما قص لها، قصة هذا الفارس الملثم الذي لا نعرفه، قال: كأنه أبو محجن على فرس كأنها فرسي، فتبسمت سلمى زوجة سعد وقالت: هو والله أبو محجن، وهي والله فرسك، وأخبرته الخبر، فقدمأبو محجن إلى سلمى ورجع وقيدته، فقام إليه سعد وفكه بيده، وقال: اذهب -والله- لا أجلدك في الخمر أبداً، قال أبو محجن: وأنا -والله- لا أشرب الخمر أبداً ]].

    إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره منهم سعد بن أبي وقاص، فلما حلف لا أجلدك في الخمر أبداً، تاب الله على أبي محجن، فقال: وأنا والله لا شربت الخمر أبداً.

    إذاً أبو محجن كان واقعاً في معصية، وهي الخمر لكن لِمَنْ كان ولاؤه؟ أقول: كان ولاؤه لله ولرسوله وللمؤمنين، وكان يتمنى صباح مساء أن ينتصر الإسلام، ويتمنى أن يهراق دمه في سبيل الله عز وجل، فلم تجعله المعصية في صف الفساق أو العصاة أو المنافقين أو الكافرين، كما يقع مع الأسف الشديد لكثير من عصاة المسلمين في هذا الزمان، ربما أصبح العاصي إذا رأى الإنسان الطيب المستقيم لا يحبه، لماذا؟ يقول يذكرني أيام الطهر والنقاء والصلاح والاستقامة، أو يشعرني بالنقص والضعف الذي أنا فيه، كيف يكون واحداً من أولادي أحسن مني؟! يذهب إلى المسجد قبلي! ولا يشاهد التلفاز، ولا يتعاطى الربا، ويقصر ثوبه، وأنا ابن ستين أو سبعين سنة أعمل الأشياء هذه، فتجد أنه يبغض صاحب الطاعة من أجل أنه يذكره بما كان عليه من الطاعة، أو ما يجب أن يكون عليه، ويشعره بالنقص الذي هو واقع فيه!!

    إذاً لم يعد ولاؤه لله ورسوله وللمؤمنين وأصحاب الطاعة، بل أصبح ولاؤه لأهل المعصية.

    وقد جرّت المعصية أقواماً من الناس إلى أن يتحالفوا على هذه المعصية، من أجل إغراق المجتمع في بحر من المعاصي، فيود الواحد منهم أن تكون المعصية ديناً عاماً، مثل السارق الذي عُلِّمَ بابه باللون الأحمر، فذهب وعَلَّمَ أبواب الناس كلهم باللون الأحمر؛ حتى لا يتميز من السارق، فهو يتمنى أن يكون الناس كلهم عصاة؛ حتى لا يتميز هو من بينهم، وحتى تكون المعصية تتحقق له بسهولة، فاليوم هو يخشى أن يُتَخطف! فهو يعصي لكن يخاف من السلطة، ويخاف من أن ينكشف، ويخاف من والديه، ويخاف من زوجته، لكن يتمنى أن يكون الناس كلهم عصاه، كما قال الله عز وجل: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً [النساء:89] إذن الْمَعْلَمْ الأول: اسأل نفسك لمن ولاؤك، هل هو لله ولرسوله وللمؤمنين وأهل الطاعة؟ أم هو لأهل المعصية والفجور والنفاق؟!

    الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

    الْمَعْلَمْ الثاني: الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، فإن العاصي يجب عليه أن يحتسب، بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، مثل ما يجب على غيره، فلا يعني وقوعك في معصية أن تعطى صلاحية بأن تقع في معصية أخرى، مثلاً أكل الربا معصية لا إشكال فيه، بل هو كبيرة من الكبائر، وحرب لله ورسوله، فإنسان يأكل الربا ويتعاطى الربا، ورأى آخرين يأكلون الربا، فقال: والله أنا مثلهم (وكلنا في الهوى سوى) فلا يصح أن أقول لهم شيئاً، أقول: لا يجوز هذا؛ بل يجب عليك أن تقول لهم: إنَّ الربا محرم، وإن أكلتم أنتم، وأكلته أنا فهو حرام، فيجب عليه أن يأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، وإن كان هو واقعاً في المنكر، أو تاركاً للمعروف، ولذلك قال بعض حذاق أهل العلم: واجب على من يتعاطون الكئوس، أن ينهى بعضهم بعضا، أي: إنَّ الجماعة الجالسين في مجلس يشربون الخمر

    لا يقول: خذ هنيئاً مريئاً غير داءٍ مخامر

    ففي هذا الباب أربعة أمور، أولها: فعل المعروف، والثاني: الأمر به، والثالث: ترك المنكر، والرابع: النهي عنه، وإخلاله بواحد لا يسوغ له الإخلال بآخر.

    وهذا الكلام وإن كان يبدوا غريباً لدى الكثير منكم إلا أنه إن لم يكن إجماعاً لأهل العلم، فإنه رأي الجماهير والكافة من أهل العلم من الخلف والسلف فوقوع الإنسان في المعصية لا يعني أنه يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يأمر وينهى لكن بالأسلوب المناسب، كما قال الشاعر:

    ولو لم يعظ في الناس من هو مذنب     فمن يعظ العاصين بعد محمد؟!

    وإن كان الأولى والأصل أن الإنسان يبدأ بنفسه، قبل غيره، كما قال تعالى: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ [هود:88] وقال الشاعر:

    يا أيها الرجل المعلم غيره     هلاَّ لنفسك كان ذا التعليم

    ابدأ بنفسك فانهها عن غيها     فإذا انتهت عنه فأنت حكيم

    فهناك يقبل إن وعظت وقتدى      بالقول منك وينفع التعليم

    لا تنه عن خلق وتأتى مثله          عار عليك إذا فعلت عظيم

    صحيح نحن نقول: اترك المعصية وانه عنها، لكن لا نقول: إذا فعلتها لا تنه عنها، فإذا فعل إنسان المعصية، نقول: انه نفسك وانه غيرك.

    فمثال بسيط يوضح القضية ويزيل الإشكال، لو أن أباً ابتلي بشرب الدخان، ثم وجد أن ولده الذي عمره اثنا عشرة سنه أصبح يدخن، أو خمس عشرة سنه، أو ست عشرة، لايقول: والله هذا مثلي لا أستطيع منعه وأنا أدخن، لا! بل يأتي له ويقول: يا ولدى أنا أبوك وأنصح الناس لك! ولا يمكن أن تجد في الدنيا أبر بك مني، وأنا ابتليت بشرب الدخان؛ لأني لم أجد من يوجهني وينصحني، والآن أحاول أن اتركه ولكن عجزت، أما أنت فما زلت في بداية الطريق، فابتعد، واحذر واترك هذا الشيء، ومثله قضية المخدرات، أو أي معصية أخرى يقع فيها الإنسان.

    فالْمَعْلَمْ الثاني: الذي يميز العاصي الذي هو على سبيل النجاة والاستقامة، من العاصي الهالك الذي لا حيلة فيه إلا أن يشاء الله، هو أن يقوم العاصي بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والاحتساب على نفسه وعلى غيره.

    استعظام المعصية

    الْمَعْلَمْ الثالث: هو أن يستعظم المعصية وإن كانت صغيرة، يعني لا يستهين بالمعصية، ولا يقول: الأمر هين ولله الحمد بسيطة، كلمة خرجت من لسان، أودرهم دخل جيبي من حرام، أو إساءة، أو ظلم يسير، فلا يستهين بالمعصية وإن كانت يسيرة، فإن الداء اليسير إذا أهمله الإنسان قد يورده القبر، فلا تنظر إلى هون المعصية، ولكن انظر إلى عظمة من عصيت، فهذه المعصية وإن كانت هينة في نظرك، إلا أنها عظيمة في جنب الله تبارك وتعالى.

    عدم استمراء المعصية

    الْمَعْلَمْ الرابع: هو أن لا يستمرئ الإنسان المعصية بالنظر إلى من دونه، مثلاً: إنسان واقع في معصية من المعاصي، يقول: أنا الحمد لله على ما عندي من المعصية أهون من فلان بن فلان، فإذا كان هناك إنسان -مثلاً- مبتلى بالنظر الحرام، فالذي يبين أنه على جادة الاستقامة، أن يوبخ نفسه ويلومها ويخوفها من ذلك، ويقول لها: يا نفس اعلمي أن النظر الحرام هو أول مدارج الزنى والوقوع في الفواحش، كما قال الأول:

    كل الحوادث مبداها من النظر     ومعظم النار من مستصغر الشرر

    كم نظرة فتكت في قلب صاحبها      فتك السهام بلا قوس ولا وتر

    يضر مهجته ما سر مقلته      لا مرحباً بسرور جاء بالضرر

    فيوبخ نفسه على النظر الحرام، ويحاول أن يتوب، لكن المشكلة إذا كان الإنسان يقول: النظر بسيط -والحمد لله- أنا أنظر وكل الناس ينظرون إلى الحرام، والمشكلة فلان والعياذ بالله يتعدى النظر إلى محاولة إقامة علاقات مع النساء، وفلان والعياذ بالله يسافر إلى الخارج ويرتكب الموبقات، وينغمس في الملذات والشهوات المحرمة، فإذا كان الأمر كذلك، معناه يمكن للإنسان أن يصل إلى نهاية الحضيض وهو لا يدري.

    وحتى الإنسان الذي يسافر إلى الخارج، وينغمس في الملذات والمحرمات، ويقع في أحضان المومسات، حتى هذا الإنسان يمكن أن يقول: والله الحمد لله أنا في خير بالقياس إلى الناس الذي بجواره، فهؤلاء كفار، ممن لا يعرفون الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يصلون، وأنا على الأقل أصلي الصلوات الخمس، وإن كانت عندي معاص.

    وكذلك الإنسان الواقع في ترك الصلوات الخمس، وهي من أعظم الكبائر، بل تركها بالكلية كفر وردة، يقول: الحمد لله أنا عندي أصل التوحيد عندي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداًً رسول الله، والمشكلة اليهود والنصارى، الذين لا يعرفون الله، ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر.

    إذاً لا ينبغي للإنسان أن يستمرئ المعصية، وينظر إلى من هو أشد منه عصياناً لله تعالى، كلا! بل يجب أن ينظر إلى من هو أشد منه طاعة لله عز وجل. كما أنه في شأن الدنيا، يجب أن ينظر إلى من دونه، حتى لا يزدرى نعمة الله تعالى عليه، فما بالنا نقيس بمقياسين، ونكيل بمكيالين! فتجد الواحد منا في الدنيا ينظر إلى المترفين والأغنياء، والكبراء ويقول: لو أن لي مثل مال فلان، ويا ليت عندي مثل فلان وفلان بن فلان، ولكن عندما يأتي أمر الدين تجد الواحد منا يأخذ بأقل الأمر!

    إذاً المعلم الرابع: هو أن لا يستمرئ الإنسان المعصية، ويستهين بها، ويقيس نفسه بمن هو أشد معصية لله تعالى منه، لا. بل يجب أن ينظر إلى من هو أشد طاعة لله تبارك وتعالى منه، وذلك مهوىً إن وقع فيه الإنسان فهو مهوى بعيد القرار يؤدى بالإنسان والعياذ بالله إلى النار وبئس المصير.

    القنوط من رحمة الله

    المعلم الخامس والوقفة الخامسة: ألاَّ يؤدي به الأمر إلى القنوط من رحمة الله تبارك وتعالى واليأس منه، فإن القنوط كفر، قال الله عز وجل: وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ [الحجر:56] وقال: إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ [يوسف:87] وهذا من أعظم أضرار المعصية، أن المعصية قد توقعك في القنوط من رحمة الله تعالى، فتجرك إلى أمر أعظم منها وهو القنوط من رحمة الله ­تبارك وتعالى، والقنوط كثيراً ما يتسرب إلى أذهان العصاة.

    اتصل بي يوماً من الأيام أحد الشباب وهو يبكي، ويقول: عندي معصية أقع فيها ثم أتوب، فعرفت ماذا يعني بهذه المعصية، وهي من معاصي الشهوات، فربما أنه يستخدم ما يسمونه بالعادة السرية، فقال: إن الأمر تطور عندي، قلت: كيف؟ قال أصبحْتُ مع كثرة وقوعي في هذا الأمر ثم توبتي، ثم وقوعي، أصبح عندي يأس، حتى إني إذا فعلت ذلك لا أغتسلُ من الجنابة، من شدة حقدي على نفسي، وبغضي لها، ومقتي لها -لاحظ كيف جاء القنوط إلى النفس- يقول: ثم إذا لم أغتسل قلت: كيف أصلي؟! لا داعي لأن أصلى وأنا على غير طهارة، قال: فصرت أترك الصلوات والعياذ بالله وأنا في قلبي حرارة، وفي قلبي يقظة، وفي قلبي بعض الإيمان، وحزن عظيم، لكن الأمر تعدى به إلى الطرف الآخر، فصار عنده قنوط أدى به والعياذ بالله إلى الانهماك في معاصٍ أخرى لا تقاس بالمعصية الأولى التي وقع فيها. فالذي يدفع القنوط عن الإنسان أشياء:

    أولها: أن يدرك أن القنوط ذنب أعظم من الذنب الأول، فإن القنوط كفر وضلال، وهو أعظم من الذنب الذي وقعت فيه، فإذا وقع الإنسان في حرام فإن هذا الحرام أهون من القنوط من رحمة الله، فإن قنطت، معناه انتقلت من معصية إلى كفر، فإذا عرفت أن القنوط كفر وضلال؛ فإنك حينئذ تثق بالله تعالى، ولا تقنط من رحمته.

    الثاني: مما يدفع القنوط عن العبد: معرفته بسعة رحمة الله تبارك وتعالى، فإن الإنسان لو عرف سعة رحمه الله تبارك وتعالى ما قنط من رحمته أحد، ولطمع في رحمته كل أحد، حتى الكفار لو علموا بسعة رحمة الله لطمعوا في رحمته، حتى الشيطان عندما يرى كثرة الرحمة يوم القيامة يتخيل أنه يمكن أن تدركه، وهيهات هيهات أن تدرك الرحمة كافراً مات على الكفر، كما قال الله عز وجل في الحديث القدسي: {إني حرمت الجنة على الكافرين} كما في صحيح البخاري، لكن المقصود أن الإنسان القانط هو جاهل بالله تعالى، لم يعرف حقيقة أسماء الله تعالى وصفاته، فإن الله تعالى واسع المغفرة، يقول كما في الحديث القدسي: {يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لغفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة} ذلك أن الله تعالى عفو غفور رحيم، يحب العفو ويتجاوز عن عباده.

    وفي الصحيحين {أن رجلاً من بني إسرائيل كان مسرفاً على نفسه، فلما حضرته الوفاة قال لأولاده: أي أب كنت لكم؟! قالوا: نِعْمَ الأب كنت لنا، قال: فإني لم أعمل خيراً قط، وليس لي عند الله من خلاق، فإذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني، ثم انظروا يوماً شديد الهواء فَذُّرُّونِي فيه، والله لإن قدر الله عليَّ ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، فلما مات فعلوا به كما أوصى، فأمر الله تعالى هذا الإنسان فاستوى خلقاً بشراً سوياً، جمع الله بأمره وحكمته، وقدرته هذا الإنسان من البر والبحر وأجواف الحيتان والطيور وغيرها فاستوى، فقال: يا عبدي ما حملك على ما فعلت، ما حملك على ذلك، كونك تطلب من أولادك أن يحرقوك ويسحقوك ويَذَّرُّوك في يوم شديد الريح، قال: مخافتك يا رب، فغفر الله تبارك وتعالى له} إن ربك واسع المغفرة، ولو أردت أن أذهب بعيداً في النصوص الشرعية قرآناً وسنة في سعة رحمة الله تعالى لطال المقام، وإن كان العبد لا ينبغي أن ينساق فقط مع هذه النصوص، بل يمسك الميزان من الوسط، كما قال الله عز وجل: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ [الحجر:49-50].

    إذاً لا تحفظ الأولى، وتنسى الثانية، إن ربك سريع الحساب، وإنه لغفور رحيم، فالله تعالى غفور رحيم، وهو تعالى شديد العقاب، فضع هذا أمامك، وهذا أمامك، فإذا رأيت أنك مقبل على المعاصي ومندفع ومسرع، ضع لوحة مكتوباً فيها (شديد العقاب) حتى تكون هذه اللوحة عبارة عن (فرامل) وضوابط تمنع الإنسان، فإذا رأيت أنك مقلع عن المعصية، وفي قلبك يأس وقنوط وتخشى أن يتسرب إليك ذلك، فضع أمامك لوحة مكتوباً بها (إن ربك واسع المغفرة) حتى تنجر إلى الله تعالى، وتؤمن به، وتدعوه، وتثق بسعة رحمته تبارك وتعالى.

    ولذلك يقول بعض الشعراء القدماء وقد أسرف على نفسه وأصاب في هذا البيت، يقول:

    يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة     فلقد علمت بأن عفوك أعظم

    إن كان لا يرجوك إلا محسن     فبمن يلوذ ويستجير المجرم

    ربي دعوت كما أمرت تضرعاً     فإذا رددت يدي فمن ذا يرحم

    وعندنا شاعر نبطي مشهور شعبي، له قصيدة إيمانية قوية من ضمنها يخاطب ربه جل وعلا ويقول:

    لو كان ذنبي راجح بالجبال     عفوك عظيم ليس ذنبي عديله

    لاحظ الفقه يقول: الآن ذنبي عظيم فعلاً، لكن عظم ذنبي لا يمكن أن يقاس برحمتك وعفوك، لا يمكن أن نضع هذا في كفة وهذا في كفة، لا يعادل هذا بهذا، كيف يعادل فعل العبد بفعل الرب جل وعلا، وهذا صحيح، فمهما تبلغ ذنوب العبد فإن الله تعالى ما دام لقيه عبده بالتوحيد، فإن الله تبارك وتعالى يغفر له على ما كان منه ولا يبالي، بالشروط المعروفة.

    والأمر الثالث الذي يمنع العبد من الوقوع في هوة القنوط هو: أن يتذكر كثرة المكفرات، فإن الله تعالى جعل للذنوب مكفرات كثيرة: منها الأعمال الصالحة، ومنها الابتلاء بالأمراض، وتضييق الرزق، ومنها الاستغفار، ومنها تشديد سكرات الموت عليه عند الموت، ومنها مكفرات كثيرة جداً، ومنها الأعمال الصالحة، فهذه الأشياء إذا فعلها العبد فإنها تكون سبباً في تكفير ذنوبه وغفرانها.

    الإكثار من الحسنات

    الْمَعْلَمْ السادس: الذي يميز العاصي الذي على شفا هلكة، من العاصي الذي هو قريب النجاة والانفكاك من معصيته، هو: الإكثار من الحسنات، قال الله عز وجل: ((وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ))[هود:114] ما سبب نـزول هذه الآية؟ سببها عجيب! ففي الصحيح< {المدينة فعالجت منها، وأتيت منها ما يأتي الرجل من امرأته إلا أنني لم أقع فيها -أي: كلمها وقبلها وضمها، لكنه لم يزنِ بها، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم نادماً تائباً، وجلس في مجلسه حزيناً أسيفاً كسيفاً، وقال: يا رسول الله الأمر كذا، وكذا، وكذا، وهو يريد من الرسول عليه السلام أن يقيم عليه كتاب الله إذا كان عليه حد أو عقوبة، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم وأقيمت الصلاة، فقام الناس وصلوا، وبعد الصلاة رجع الرسول عليه السلام إلى مجلسه ورجع الرجل، فقال: يا رسول الله الأمر كذا، وكذا، وكذا، وأعاد عليه السؤال! فقال: صليت معنا الآن؟ قال: نعم، قال: اذهب فقد غفر لك. وأنـزل الله تعالى قوله: (وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين) قال: يا رسول الله ألي خاصة؟!انظر: إنه عاص ومع ذلك يسأل إن كان الأمر له وحده؟! قال النبي عليه السلام: لا بل لأمتي كلها عامة} وذلك أن الحسنات توضع في الميزان يوم القيامة، والسيئات توضع في الميزان الآخر، فمن رجحت حسناته فهو من أهل الجنة. فسابقٌ، راجحٌ ميزان طاعته، ومجرمٌ كثرت آثامه، فالناس أصناف منهم السابق الذي رجحت حسناته على سيئاته، فإن أكثر الإنسان من الأعمال الصالحة حتى لو فرض أن معاصيه لم تغفر ولم تكفّر، فإن هذه الأعمال الصالحة ترجح المعاصي يوم القيامة، هذا وجه. والوجه الثاني: أن الأعمال الصالحة تكون سبباً في تكفير ذنوبه، وغفرانها، وستر عيوبه، ولذلك فإننا نجد أن الرسول عليه السلام ذكر كثيراً من الأعمال التي هي كفارات. في الواقع أن الإنسان إذا قرأ الأحاديث الواردة في الكفارات يتعجب! ويقول الإنسان الذي يريد النجاة: والله ما له عذر أبداً كل شيء له كفارة، خذ على سبيل المثال ولا الحصر في ذلك، كتب صنفت في ذلك أذكر منها على سبيل المثال كتاب ابن حجر

    الخصال المكفرة للذنوب المتقدمة والمتأخرة خذ على سبيل المثال الوضوء، ثبت في الصحيحين {أن العبد إذا توضأ الوضوء الشرعي خرجت خطاياه مع آخر قطرة من الماء، وإذا توضأ، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله 00000ثم صلى ركعتين غفر له ما تقدم من ذنبه} هذا الوضوء مثلاً مكفر للذنوب. خذ مثلاً آخر: الصلاة، يقول النبي عليه الصلاة والسلام {الصلوات الخمس مكفرات لما بينها إذا اجتنبت الكبائر}. انتقل مثلاً إلى الصيام، ذكر النبي عليه الصلاة والسلام {أن رمضان إلى رمضان كفارة لما بينهما}. العمرة: ذكر النبي عليه الصلاة والسلام {أن العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما}. {الحج: كفارة يهدم ما كان قبله}كما في صحيح مسلم، ويكفر الذنوب، {ومن حج حجاً مبروراً خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه}كما في الصحيحين. خذ مثلاً: متابعة المؤذن وأقرب عمل متابعة المؤذن ورد: {أن الإنسان إذا قال مثل ما يقول المؤذن، ثم صلى على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم سأل الله الوسيلة للنبي صلى الله عليه وسلم، غفرت ذنوبه}. والمصافحة: عمل يسير، تلقى أخاك المسلم فتتبسم في وجهه وتصافحه، جاء في حديث عن أبي يعلى

    وصححه ابن حبان

    {أن المسلم إذا لقي أخاه فصافحه تحاتت ذنوبهما، ولم يتفرقا حتى يغفر الله تبارك وتعالى لهما} أعمال كثيرة وكثيرة لا يحصيها العد، كلها كفارات للذنوب، ولكن هذه الكفارات كلها مقيدة بشرط وهو إذا اجتنبت الكبائر، ولذلك قال في صحيح مسلم
    :{ ما لم تؤت كبيرة} وفي لفظ: {إذا اجتنبت الكبائر} ولذلك يقول الإمام ابن عبد البر

    : إن جمهور أهل السنة والجماعة على أن هذه الأعمال المذكورة إنما تكفر الصغائر، أما الكبائر فإنه لا يكفرها إلا التوبة النصوح إلى الله جل وعلا. المهم ألا يجلس الإنسان أسير الخطايا، ضعيف الهمة، واهن العزم، لا يعمل الطاعات، يقول أنا إنسان ما أصلح لشيء، وبعض الناس يقول: أنا لا أصلح لشيء، أنا عاص، أنا مسرف، ولو تعرفون ما عندي، لو،لو، لو،يا أخي! احمد الله تعالى أن الله سترك: يقول الشاعر: أحسن الله بنا أن الخطايا لا تفوح فإذا المستور منا بين ثوبيه فضوح ويقول الآخر: والله لو علموا قبيح سريرتي لأبى السلام عليّ من يلقاني كلنا ذلك المذنب، وكلنا ذلك الخطأ، كما في الحديث الصحيح أيضاً عن أبي هريرة

    رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {كل بني آدم خطَّاء وخير الخطَّائين التوابون} قال الترمذي

    : حديث حسن صحيح. فكلنا خَطَّاء، لكن لا ينبغي للخطايا أن تقعد بنا عن أن نكفر بالأعمال الصالحة، بل زاحم المعصية بالطاعة عندك، وإذا كنت في معصية لا تقل: أنا مبتلى بها وعجزت أن أقلع منها، عندك طاعات كثيرة، تستطيع أن تشغل نفسك بها، أحسن إلى الناس، وجاهد في سبيل الله، ومر بالمعروف، وانه عن المنكر، ساعد في أعمال البر، وكما قال الرسول عليه السلام فيما معنى الحديث: {أبواب الخير كثيرة} مر بالمعروف، وانه عن المنكر، وامش إلى الصلاة، وقل كلمة طيبة، إلى آخره.

    المجاهرة بالمعاصي

    الْمَعْلَمْ السابع: هو كما قاله النبي صلى الله عليه وسلم: {كل أمتي معافى إلا المجاهرين} وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل عملاً بالليل فيصبح وقد ستره ربه فيقول: يا فلان عملت البارحة كذا وكذا! وقد بات يستره ربه وأصبح يكشف ستر الله تبارك وتعالى عليه، فإن الاستتار بالذنب أيها الإخوة! من أسباب العافية والتوبة، وقوله (معافى) أي: تنالهم العافية والمغفرة والرحمة، فهم أهل؛ لأن يغفر الله لهم برحمته وكرمه وجوده، إلا المجاهر الذي يعلن المعصية، فإن هذا الإنسان لا يعافى والعياذ بالله إلا إذا تاب وأقلع، وذلك لأسباب:

    من أهمها: أن المجاهرة تلويث للمجتمع، فالمجاهر لم تعد معصيته حكراً عليه، وبالعكس. المجاهر يقول بأعلى صوته: للناس تعالوا لنجاهر، مثل الإنسان الذي ينشر حاجات مسمومة في الهواء، إذا أستنشقها الناس أثرت فيهم وضرتهم، وربما أودت بهم إلى الهلاك، فهو عنصر هدم وتخريب، ومعول دمار للمجتمع، ولذلك ذنبه عظيم جداً؛ لأنه لم يقتصر على نفسه، بل تعداه إلى المجتمع، بل إنك في بعض الأحيان تقول: يمكن أن المجاهر لا يؤمن بتحريم هذا الذنب، كيف يؤمن بتحريم المعصية وهو إذا جلس مع زملائه قال: والله أنا فعلت كذا، ويعتبر أن هذا من المروءة والفتوة والقوة والرجولة، وأنه فعل وذهب وخدع وضحك وأكل الحرام، وشرب الحرام، وارتكب الحرام، وجهر بالمعاصي، وبارز الله تعالى بالذنوب، ويعتبر هذا رجولة، ومروءة وقوة، هل هذا يؤمن بأن الزنا حرام؟! هل هذا يؤمن بأن الربا حرام؟! لا. لو كان يؤمن لستر على نفسه، وما أظهر هذا الأمر، ولم جاهر به.

    ومن أعظم صور المجاهرة والعياذ بالله أن الإنسان قد لا يكتفي بالكلام فقط، أو نقل الأمر، بل ينقل الصوت والصورة كما يقال، فبعض الذين ابتلوا بالمعاصي الكبار، قد يصل الحال به إلى أن يصور هذه المعصية وهو يتعاطاها ويفعلها، وينشر هذا أمام الناس ويفخر به والعياذ بالله ويعتبر هذا من كمال الرجولة، هذا من أجل أن يثبت شخصيته، مثل الطفل الصغير -أحياناً- إذا لم يربَّ، فإنه يعتبر التدخين من عوامل الكمال في الشخصية، وأنه دليل على أنه صار رجلاً، وأنه صار كبير.

    التوبة

    الْمَعْلَمْ الثامن: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31] فالتوبة واجبة من جميع الذنوب والمعاصي، ومستحبة من فعل المكروه، وترك المستحب، والله تعالى أمر بها، فهي واجبة على الفور، حتى {أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يستغفر الله ويتوب إليه في المجلس الواحد أكثر من مائة مرة} يحسب له سبحانك اللهم وبحمدك، اللهم اغفر لي، وكان يكثر عليه الصلاة والسلام أن يقول في ركوعه وسجوده: {سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي} يتأول القرآن، ولذلك جاء في صحيح مسلم {أن رجلاً من بنى إسرائيل عصى، فقال: اللهم إني أذنبت فاغفر لي فغفر الله له، فوقع في المعصية مرة أخرى، فقال ربي إني أذنبت فاغفر لي، فغفر الله له، فوقع في المعصية الثالثة، قال ربي إني أذنبت فاغفر لي، فقال الله: عبدي علم أن له رباً يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، افعل ما شئت فقد غفرت لك} إذاً أيها العاصي، لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله تعالى، واستغفاره، لكن إذا قلت: استغفر الله، فاستغفر الله من قلب محروق بألم المعصية، استغفر الله بقلب يأكله الندم أكلاً، أما أن تقول: استغفر الله، وأنت منهمك في معصيتك، فهذا الاستغفار كما قال بعضهم -يحتاج إلى استغفار- كما قال الشاعر:

    أستغفر الله مِنْ أستغفر الله       من كلمةٍ قلتها لم أدرِ معناها

    وذلك لأن الإنسان لا ينبغي أن يعتمد فقط على أن الله تعالى غفور رحيم، أو على مثل هذه القصة التي سقتها، فينهمك في المعاصي، ويقول: يغفر الله لي، قال تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ [الأعراف:169] فهذا لا يجوز، هذا ليس منهج الخائف من الله، فالمؤمن في قلبه توبيخ، وفي قلبه حرارة، وفي قلبه إيمان، يقول له: لا. إذا هم بالمعصية، أما إذا رأيت الإنسان كلما بان له طمع، أو تيسرت له معصية تقحّم عليها، فاعلم أن هذا الإنسان قلبه شديد المرض، ويوشك أن يموت، ولذلك نقول: حين تتوب، أو تستغفر، أو تعمل الأعمال الصالحة، لا يمكن أن تجزم جزماً قاطعاً بأن هذا الوعد النبوي، أو الإلهي تحقق لك، من يدريك أن الله قبل منك عملك؟! يقول بعضهم: والله لو أعلم أن الله قبل مني تسبيحة واحدة لتمنيت أن أموت الآن؛ لأن الله تعالى يقول: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27] لكن ما يدريك؟! يمكن عملك يُلَفُّ كما يُلَفُّ الثوب ثم يضرب به وجهك، لأنه لم يتحقق فيه الإخلاص، ولم تتحقق فيه النية الصادقة، ولم يكن فيه متابعة للرسول صلى الله عليه وسلم، فقد تستغفر ولا يغفر لك، وقد يعرض عنك الله تعالى بوجهه بسبب لا تعلمه، أو تعلمه أنت في نفسك، فالعبد يكون بين الخوف والرجاء.

    1.   

    الأسئلة

    دخول الجنة برحمة الله ثم بعمل الرجل

    السؤال: فضيلة الشيخ كيف نجمع بين قوله عليه الصلاة والسلام: {لن يدخل أحدكم عمله الجنة} وقول الله جل وعلا في كتابه: جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:17]؟

    الجواب: العمل الذي يعمله الإنسان يؤهله لرحمة الله تعالى، ورحمة الله تعالى هي التي بها يدخل العبد الجنة، فلو حُسِبَ عملُ الإنسان مجرد حساب مادي، لا يمكن أن يكون مقابل الجنة، إنما عملك يجعلك أهلاً لرحمة الله، وبرحمة الله تعالى تدخل الجنة، وبالتالي فإن العمل واضح تأثيره، فأنت ما استحققت الرحمة إلا بعملك، لكن العمل ليس هو مقابل الجنة، ليس ثمناً لها وعوضاً عنها كلا.

    شؤم المعصية

    السؤال: فضيلة الشيخ هل شؤم المعصية يلحق بصاحبه حتى بعد توبته وما المخرج من ذلك؟

    الجواب: التوبة أنواع: هناك توبة نصوح صادقة تامة، هذه لا يلحق العبد بعدها شؤم المعصية، بل يقلب الله تعالى سيئاته حسنات كما قال الله عز وجل: فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ [الفرقان:70] وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي ذر في صحيح مسلم في قصة الرجل الذي قلبت سيئاته حسنات يوم القيامة، فلما عرف أنها قلبت حسنات، صار يطالب بسيئات كبيرة كان قد عملها ولم تذكر في الكشف، فيقول: يا رب عملت ذنوباً لا أراها ها هنا، يطالب بها لأنه عرف أنها أصبحت في صالحه، فإن كانت توبةُ العبد توبةً نصوحاً فإن الله تعالى يقلب سيئاته حسنات، لكن إن كانت توبة العبد توبة مشوبة، توبة فيها ضعف، فقد يلحقه بعض أثرها وأهم ما يلحقه من أثرها على حسب خبرتي الضعيفة، أنه قد يلحقه ذلك في نفسه، وقلبه، وبعض خلقه، فإن بعض الذين وقعوا في المعاصي إذا تابوا منها تبقى آثارها في سلوكهم، وفي أعمالهم، وفي أخلاقهم، وفي نفوسهم لا تكون شخصياتهم على الاستقامة التامة، وهذا من آثار المعصية، لكن كلما صدقت توبة العبد ضعف هذا الأثر وزال.

    العقوبة في الدنيا

    السؤال: فهمت من كلامكم يا فضيلة الشيخ أن العقوبة في الدنيا ما هي إلا جزاء لفعل المعصية، فهل هذا فهم صحيح يا فضيلة الشيخ؟

    الجواب: ما يصيب الإنسان في الدنيا من مصائب أنواع: منه ما يكون عقوبة على ذنب فعله، كما قال الله عز وجل: فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى:30] وقال لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165] ومنه ما يكون لغرض آخر، مثل أن يكون لرفع درجات هذا الإنسان، أو لابتلائه لتمكينه، كما يقع للأنبياء والمرسلين عليهم السلام، فهؤلاء أشد الناس بلاء، مع أنهم أهل الطاعات وليسوا أهل معاص، فلماذا اشتد بلاؤهم؟ لأن الله تعالى يجعل لهم مقامات عليا يبلغونها بهذا الابتلاء، ولأنه تعالى يبتليهم ليمكنهم.

    الفرق بين الكافر والفاسق والعاصي

    السؤال: هذا السائل يريد التفريق بين العاصي، والفاسق، والكافر، هل هناك فرق بينهم؟

    الجواب: المعصية من حيث الأصل عامة، تطلق على كل ما يخالف أمر الله تعالى، فيدخل فيه المعصية الصغيرة والكبيرة، والكفر.

    كما قال الله عز وجل: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً [الجن:23] فالمعصية هنا المقصود بها الكفر لا شك، لأنه لا يتوعد بالخلود بالنار إلا على كفر، فالمعصية أشمل.

    أما الكفر فهو: معروف، يعني الردة والخروج عن الدين بالكلية، مثل أن يعبد الإنسان الصنم، أو يسب الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم، أو ينكر أمراً معلوماً من الدين بالضرورة.

    أما الفسق فهو: ما دون ذلك من المعاصي التي يرتكبها الإنسان، ولا تكون كفراً مخرجاً من الملة، فهذه فسق وليست كفراً.

    جزاء من لم تلتزم بالحجاب

    السؤال: هل من المعقول أن تدخل المرأة النار بسبب أنها لم تلتزم بالحجاب؟

    الجواب: بالنسبة للأدلة على وجوب الحجاب، فهذه سبق أن ذكرتها في أكثر من مناسبة، وفي بعض الكتب وغيرها، لكن مسألة أن تدخل النار، نحن لا نحكم لأحد بجنة أو نار، ما دام المسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويؤدي الصلوات الخمس، فهو إن شاء الله من أهل الجنة، وإن عذب ما عذب، لكن هل يصبر الإنسان أن يعذب بالنار ولو للحظة واحدة، وفي الواقع ما دمنا مؤمنين بالنار، فليس عندنا استعداد إذا كان الأمر بأيدينا أن نقترب منها، فضلاً عن أن نقاسي حرها ولو للحظة واحدة، ومن الذي يستطيع أن يضع رجله على الجمر باختياره ولو للحظة، فكيف نتهاون بالمعصية لأن الواحد لا يخلد بالنار؟!

    الدعاء على أهل المعاصي

    السؤال: هل يجوز أن ندعو على أهل المعاصي؟

    الجواب: أما على أهل المعاصي إجمالاً دون تعيين فنعم، كما ورد أن النبي عليه السلام لعن العصاة، فقال: {لعن الله السارق، لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه} ولعن النبي صلى الله عليه وسلم أصنافاً من أهل المعاصي، لكن على سبيل الإجمال من أجل ردع الناس عن الفعل، أما الدعاء على عاص بعينه، على فلان مثلاً لا ينبغي، بل ينبغي الدعاء لهم بالهداية والصلاح، وأن يتوب الله تبارك وتعالى عليه، كذلك ينبغي الدعاء لعموم العصاة، بأن يتوب الله تبارك وتعالى عليهم مما ابتلاهم بما هم فيه.

    وسائل غض البصر

    السؤال: بعض الشباب يقولون: إنهم ينظرون إلى النساء كثيراً ويعلمون أن هذه معصية، لكن هل هناك وسائل تساعدهم في الابتعاد عن هذه المعصية؟

    الجواب: مسألة النظر من أخطر الأشياء؛ لأن النظر هو الخطوة الأولى وإذا تحققت الخطوة الأولى اعتبر هذا الإنسان قد تُوُدّع منه؛ لأنه إذا نظر أصبح يعجب بالمناظر ويقول: هذا جيد، وهذا غير جيد، وهذه حسناء جميلة، وهذه ليست كذلك، فأصبح يتذوق ويميز، وبعد ذلك يصبح يتابع، وبعد النظر والتذوق إذا أعجبه شيء أصبح يركض وراءه، فإذا تيسر له بعض الأسباب وقع فيه، وأسباب المعصية اليوم ممكنة في أي مكان، ولذلك فإن الشارع شدد كثيراً على قضية النظر، لأن الإنسان إذا تهدم عنده هذا السور، وانكسر هذا الباب والعياذ بالله يخشى عليه أنه لا يتوقف إلا في نهاية القرار؛ لذلك النظر هو الحصن الأول الذي ينبغي للإنسان أن يدافع عنده، يجاهد بقدر ما يستطيع، لا تقول: أنا استسلمت للشيطان في النظر، لا. دافع النظر ثم دافعه ثم دافعه، يقول الشاعر:

    فإنك إن أرسلت طرفك رائداً     لقلبك يوماً أتعبتك المناظر

    رأيت الذي لا كله أنت قادر     عليه ولا عن بعضه أنت صابر

    هل كل من نظرت إليها مثلاً سوف تحصل لك بالحلال الذي يحبه الله تعالى، حتى بالحرام، لا تحصل لك، إنما حصلَّت الإثم والحسرة والندامة، وما استفدت شيئاً، لا في دينك ولا في دنياك، فعلى الإنسان أن يجاهد نفسه في البعد عن الأماكن التي توجد فيها المناظر المثيرة والجذابة، ولا يذهب الشاب للأسواق، ويتلفت يمنة ويسرة، وينبغي أن يعود نفسه على غض البصر، وإذا اعتاد ذلك الأمر سَهُل بالنسبة له فتألفه النفس.

    فعل المعصية مع كراهيتها

    السؤال: أنا شاب أفعل المعصية لأنني في سن المراهقة، ولا أفعلها لأنني أحبها، فما الحكم يا فضيلة الشيخ؟

    الجواب: الذي في سن المراهقة إذا كان بالغاً فهو مكلف عند الله تعالى، فالشاب البالغ الذي عمره خمس عشرة سنة، أو الذي قد أنـزل، أو نبت شعر عانته، هذا مكلف يؤاخذ مثل ما يؤاخذ غيره وهو مسؤول، بغض النظر عن قضية المراهقة.

    وقضية المراهقة -مع الأسف- طوِّلت كثيراً من قبل علماء النفس وعلماء التربية، ودندنوا حولها حتى أصبحوا خاصة من غير المسلمين، يتخيلون الإنسان ويلتمسون العذر لأصحاب المعاصي، ويقولون: هذا مراهق لا تؤاخذوه، بل بالعكس. أين أنتم من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في سن المراهقة؟! فقد كانت تسفك دماؤهم في المعارك! وكانوا يتسابقون إلى القتال في سبيل الله! وتعلموا العلم، والآن -والحمد لله- حفاظ القرآن كلهم في سن المراهقة، وفي سن المرحلة المتوسطة والثانوية حفظوا القرآن الكريم، وعمار حلقات العلم في هذه المملكة وغيرها غالبهم الآن في هذه السن، هذه أهم واثمن وأعظم سن يمكن أن يستفيد منها الإنسان، فكيف تضيع في المعصية؛ لأنك في سن المراهقة، على الإنسان أن يستعين بالله جل وعلا، ويحرص على كثرة الصيام؛ فإن من أهم الموانع من المعصية، غض البصر، كذلك قراءة القرآن، وكثرة الذكر والتسبيح، والتهليل، ومصاحبة الصالحين، وإذا تيسرت له أسباب الزواج فليعمل على تحقيقه.

    العلاقة بين لا إله إلا الله000والصلاة

    السؤال: كيف نجمع بين قوله عليه الصلاة والسلام: {العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر} وبين قوله عليه الصلاة والسلام: {من قال لا إله إلا الله دخل الجنة

    الجواب: قوله عليه الصلاة والسلام: { العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر } هذا حديث صحيح رواه أصحاب السنن بسند صحيح، ومثله ما رواه مسلم في صحيحه من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {بين الرجل وبين الكفر أو الشرك ترك الصلاة} فنقول: من ترك الصلاة بالكلية فهو مرتد عن الإسلام، إنسان لا يصلى أبداً لا في الليل ولا في النهار، ولا جمعة ولا جماعة، ولا في رمضان ولا في غيره، وتمر به السنوات لا يصلى، هذا مرتد عن الإسلام، ولو قال: أشهد أن لا إله إلا الله في اليوم عشر مرات، أما إنسان يصلي لكنه كسول مقصر، يصلي ويغفل، وقد يفوت وقتاً أو ما أشبه ذلك، فهذا لا يحكم علية بالردة والكفر، أما الحديث الآخر: {من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة } فإن لا إله إلا الله من المعلوم أنها ليست مجرد كلمة، أرأيت لو ذهبت للطبيب وقلت عندي صداع فكتب لك نوع من العلاج أي نوعاً من العلاج المسكن، هب أنه كتب لك مثلاً (نوفالجين) أو (أسبرين) فذهبت إلى البيت وأصبحت منذ أن خرجت من عند الطبيب وأنت تقول: إسبرين إسبرين في اليوم مائة مرة، هل يشفى رأسك؟! هل يزول الصداع؟! لا يزول، ولا بد تذهب للصيدلية وتشترى العلاج وتتعاطاه على حسب وصفات الطبيب، وستشفى بإذن الله تعالى، كذلك شهادة أن لا إله إلا الله، معناها أشهد أن لا إله إلا الله فلا يستحق أن أعبده إلا الله، فإذا كنت تكذِّب هذه الشهادة في اليوم خمسين مرة لا يصبح لهذه الشهادة معنى بالنسبة لك.

    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    768266678