وأنا بدوري أشكر الإخوة القائمين على هذا المسجد وعلى نشاطاته، وعلى دعوتهم الكريمة لإلقاء هذه المحاضرة, وإضافة إلى ما تفضل به أخي مقدم هذه المحاضرة، فإنني أحب قبل أن أدخل في صلب الموضوع، الذي أردت أن أقوله لكم, أن أشير إلى قضية سبق أن تحدثت عنها في محاضرة بعنوان
الطبقة الأولى: من تحقق لهم وصف الإسلام فحسب، ممن ينطقون بالشهادتين, ويؤدون الصلوات إجمالاً, ولا يرتكبون ما يخرجهم من الملة, فهؤلاء في الجملة ناجون، ومن أهل الجنة, وإن عذبوا في النار بقدر ذنوبهم ومعاصيهم, وهذه دائرة واسعة.
الطبقة الثانية: وأضيق منها دائرة تسمى الفرقة الناجية وهي تخص أولئك الذين التزموا بهدي النبي صلى الله عليه وسلم في العقيدة الصحيحة، والسلوك، والبعد عن مخالفته عليه الصلاة والسلام, وهم الذين وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم {من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي}.
الطبقة الثالثة: وداخل هذه الدائرة الوسطى دائرة ثالثة، وهي أضيق منها وهي دائرة الطائفة المنصورة, والتي يضاف إلى كونها من الفرقة الناجية، أنها تميزت بخصائص ومميزات هي موضوع محاضرتنا الليلة.
الناس الذين جاء الرسول صلى الله عليه وسلم يدعوهم باقون، لذلك فإن الدين باقٍ, والعالمون الذين بعث الرسول صلى الله عليه وسلم رحمة لهم, هم باقون، ولذلك فإن الدين باقٍ إلى أن ينتهي الناس، وينتهي آخر إنسان على هذه الأرض، وحينئذٍ تنتهي الرسالة والنبوة، ومهمة الأنبياء والمرسلين.
الجهاد المسلح -مثلاً- في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بعد فتح مكة:{لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا}, هذا الحديث يؤكد بقاء الجهاد, وفي المقابل أن الهجرة من مكة إلى المدينة انتهت بفتح مكة، حيث أصبحت دار إسلام, فإن الجهاد باقٍ، لذلك قال: {ولكن جهاد ونية }, أي: أن الجهاد باقٍ والنية باقية, وكما أن عبادة الله تعالى بالنية الصالحة والقصد الحسن باق, فكذلك الجهاد باقٍ, باقٍ من حيث التشريع، بمعنى أنه غير منسوخ, ولا يستطيع أحد أن ينسخ الجهاد, لا حاكم، ولا رئيس، ولا سلطان، ولا أمير، ولا ملك، ولا هيئة، ولا مؤسسة، ولا جهاز، ولا ميثاق الأمم المتحدة، ولا غير الأمم المتحدة, لا يستطيع أحد أن ينسخ شرعية الجهاد، التي فرضت بنصوص القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة المحكمة، التي لا يرتاب فيها أحد.
لذلك لو أنكر أحد فرضية الجهاد وشرعيته, فإنه يبين له، فإن أصرّ فإنه يقتل كافراً بالله العظيم؛ لأن الجهاد من الشرائع الظاهرة المتفق على مشروعيتها على سبيل الإجمال، فالجهاد باقٍ من حيث التشريع، كما أنه باقٍ من حيث الواقع, فإن هذه الأمة لا يمكن أن تفقد المجاهدين أو الداعين إلى الجهاد, بل شأن هذه الأمة كما قال الأول:
إذا مات فينا سيد قام سيد قئول لما قال الكرام فعول |
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة } وفي روايات {الأجر والمغنم} يعني: الخير الموجود في الخيل هو الأجر للمجاهد، والغنيمة التي يحصل عليها من عدوه وهذا الحديث ثبت عن جماعة من الصحابة، في الصحيحين والسنن وغيرها، وهو حديث متواتر, وهو يدل على بقاء الجهاد, فإن الخيل آلة من آلات الجهاد, وبقاؤها يدل على بقاء الجهاد، وليس المقصود الخيل فقط, بل إما أن يكون المقصود كل آلة تستخدم للجهاد، في كل عصر بحسبه, فحين كان الخيل آلة الجهاد، وفي حين آخر يكون الجهاد بالمدفعية والدبابة والطائرة والصاروخ, وحيناً يكون الجهاد بوسائل أخرى, وقد يعود الأمر، ويعود في آخر الزمان إلى أن تكون الخيل والسلاح الأبيض -كما يسمى- هو آلة الجهاد، ولذلك جاء في أحاديث الملاحم التي تقع قبل قيام الساعة أنهم يقاتلون بالخيول والسيوف، مثلما قال النبي صلى الله عليه وسلم في أحد الأحاديث لـمسلم قال: {بينما هم علقوا سيوفهم بشجر الزيتون} يعني: المجاهدون الذين فتحوا القسطنطينية قد علقوا سيوفهم بشجر الزيتون {فصاح بهم صائح أن الدجال قد خلفكم في أموالكم وأهليكم} وفي حديث آخر لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الشرطة الذين يشترطون على الموت، ويقاتلون الروم, قال: {إني لأعرف أسماءهم، وأسماء آبائهم، وألوان خيولهم}, فبين الرسول صلى الله عليه وسلم أنهم على الخيول، فهذا لا يمنع أنه في آخر الزمان تعود الأمور إلى ما كانت, وليس ببعيد أن تتغير أوضاع البشر، وأن تتغير هذه الحضارة التي تهيمن عليها, ولو بعد مئات السنين، أمور الله أعلم بها، فهي قضايا في علم الغيب لا يعلمها إلا الله, لكن ليس بمانع أن يحدث هذا, ويعود الناس للقتال بالسيوف والخيل، وغيرها من الوسائل القديمة.
وبعض أهل العلم يقول: هذا تعبير عن الوسائل التي تستخدم في كل عصر، ولو لم يكن المقصود به السيف أو الخيل, المهم أن قوله عليه الصلاة والسلام: {الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، الأجر والمغنم} يدل على بقاء الجهاد؛ لذلك قال الإمام الترمذي قال الإمام أحمد: فقه هذا الحديث أن الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة مع البر والفاجر.
وكذلك الإمام البخاري بَوَّبَ في صحيحه على هذا الحديث بقوله: باب الجهاد ماضٍ مع البر والفاجر.
وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم عشرون حديثاً أو أكثر, كلها في هذا الإطار، ولذلك حكم العلماء بأنه حديث متواتر، فثبوته قطعيٌ لا شك فيه, وممن صرح بذلك الإمام ابن تيمية، والسيوطي والزبيدي، والكتاني، وغيرهم.
فهو حديث قطعي ثابت، وبالتالي فإن ما دل عليه من بقاء الطائفة المنصورة أمر ثابت، وهذا خبر يَسَرُ كل مؤمن.
خبره صلى الله عليه وسلم عن بقاء الجهاد المسلح، هو من باب الأولى، خبر عن بقاء ألوان الجهاد الأخرى, فإذا كنا نعلم أن الجهاد المسلح باقٍ في الأمة إلى قيام الساعة, علمنا من جراء ذلك أن أنواع الجهاد الأخرى باقية من باب الأولى, الجهاد بالدعوة، وبالتعليم، وبالتربية، وجهاد المنافقين، والجهاد السياسي، والجهاد المالي، والجهاد الاجتماعي, وألوان المجَاهَدات في الأمة باقية, فكأن النبي صلى الله عليه وسلم نبه بالأعلى على الأدنى, يعني: ما دام الجهاد بالسيف، وهو ذروة سنام الإسلام باقية إلى قيام الساعة, فمعناه أن ألوان المَجاهَدَات الأخرى باقية هي الأخرى إلى قيام الساعة.
لهذا دعت الحاجة إلى تمييز خصائص هذه الطائفة المنصورة ومعرفتها، حتى يلتف المسلمون حولها من جهة، وحتى يحرص كل مؤمن على أن يكون مشاركاً في هذا العمل الجليل، الذي تتصدى له الطائفة المنصورة، وأن يكون فرداً من أفرادها.
1- الاستقامة في العقيدة, فـالطائفة المنصورة هم أهل السنة والجماعة، الذي ليس لهم اسم يعرفون به إلا أهل السنة والجماعة, ليسوا جهمية، ولا مرجئة، ولا قدرية، ولا خوارج، ولا روافض, وليس لهم اسم يعرفون به إلا الانتساب للسنة والجماعة, وهم ينحازون إلى السنة, حين ينحاز الناس إلى البدعة.
2- الاستقامة على السلوك, بحيث يبتعد كل فرد منهم عن الانحراف في مسلكه، أو التردي في مهاوي الشهوات, أو الوقوع في أسباب الفسق والمعصية لله جل وعلا.
3- الاستقامة في تحصيل أسباب النصر المادية والمعنوية, فإن هذا جزء من الدين, وليست الطائفة المنصورة تقول: نحن جديرون بالنصر والتمكين؛ لأننا مؤمنون مسلمون صادقون, وتترك الإعداد المادي والمعنوي! كلا, بل هي تعرف أن من ضمن الاستقامة على الدين، والقيام بأمر الله جل وعلا، أن تأخذ الأهبة والعدة, المعنوية والمادية فتستعد بكل ما تستطيع، وتستخدم أرقى وأطول ما تفتَّقت عنه قرائح الناس, ووسائل العصر، من الطرق والأسلحة المادية، وغير المادية، ووسائل الوصول إلى الناس، وطرائق الدعوة، في القيام بالواجب الذي كلفها الله تبارك وتعالى به, فهذا جزء من الاستقامة التي تميزت بها, إضافة إلى استقامتها في القيام بالجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
إذاً الخاصية الأولى: أن هذه الطائفة المنصورة على الحق، على الدين، مستقيمة عليه, لم يجتمعوا على أنهم من وطن واحد، ولا لأنهم من قبيلة واحدة، ولم يتعصبوا لاسم تحزبوا عليه، ولا لراية رفعت، ولا لشخص يدورون في فلكه, بل تذوب عندهم الأسماء والرايات والأشخاص, وينصهرون جميعاً بحيث إنهم يدورون مع الحق حيث دار, فالحق معهم يدور، وهم يدورون مع الحق, بهم عرف الكتاب, وبه عرفوا, ما يعرفون إلا بهذا، ولا يعرف الحق إلا من قبلهم وبواسطتهم, فالناس يحتاجون إليهم أشد من حاجتهم إلى الطعام والشراب.
أولو البقية في هذه الأمة هم الطائفة المنصورة؛ لأنهم هم الذين ينهون عن الفساد في الأرض ويرفعون الراية، ويخطون الطريق, هم أولو البقية, لذلك لما ذكر الله تعالى: فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ [هود:116] عقب عليه في الآية التي بعدها في قوله: وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود:117] فهذه سنن إلهية, ووعود ربانية، يجب أن نؤمن بها، كما أننا نؤمن بما نرى أو نسمع أو نحس بحواسنا, يجب أن نؤمن أنه ما كان الله عز وجل ليهلك القرى، والمدن، والدول، والشعوب، والأمم، وأهلها مصلحون, لاحظ ما قال: صالحون! لا, ولم يقل: أهلها مسلمون, ولا عابدون، وإنما قال: مصلحون ولأَمْرٍ مَا عبر الله عز وجل هاهنا بالإصلاح لا بالصلاح, لأن المدار على وجود المصلحين, بمعنى أنه لا يمكن أن تخلو أمة من الأمم من عوامل الفساد والهدم والتخريب, سواء من صرعى الشهوات، أو من صرعى الشبهات, الذين يعملون فيما وسعهم لتدمير الأمة، حتى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وجد مثلاً المنافقون، الذين يكيدون في الليل والنهار ويتتبعون عورات المؤمنين, ووجد -أيضاً- بعض الذين يقعون في المعاصي والشهوات، فيقع أحدهم في زنا، أو سرقة، أو شرب خمر، أو تخلف عن جهاد، أو ما أشبه ذلك، لكن كانت الغلبة والقوة والتمكين لأولي البقية من الصالحين، الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر, الرافعين لراية الجهاد والدعوة, لذلك أنجى الله الأمة، ونقلها من نصر إلى نصر ومن تمكين إلى تمكين، ومن عز إلى عز.
وهكذا تظل الأمة محفوظة، ما دام فيها طائفة منصورة، ينهون عن الفساد في الأرض, فإذا زالت هذه الطائفة حق أمر الله تعالى على الأمة.
متى تزول هذه الطائفة؟!
زوال هذه الطائفة له حالتان:
1- زوال جزئي: بمعنى تزول هذه الطائفة من مكان، مثلاً: دولة من الدول, سُلِّط عليها الظالمون، والطاغون والعلمانيون، فساموا المسلمين سوء العذاب, وزجوا بهم في غياهيب السجون, وسيطروا على أجهزة الإعلام والتعليم، والمناهج، والأوضاع الاجتماعية والسياسية, ولعبوا بمقدرات الأمة, فأصبح الخيرون ما بين شريد وطريد، وقتيل وأسير, هنا يمكن أن نقول: إن هذه الدولة، قد حق عليها عذاب الله عز وجل؛ لأن الطائفة المنصورة الآمرة بالمعروف، الناهية عن المنكر، قد فقدت منها, وهذا زوال جزئي، في دولة معينة، ورقعة معينة.
2- زوال كلي: وهذا يستحيل أن تخلوا الأمة من وجود هذه الطائفة المنصورة، إلى أن يبعث الله الريح الطيبة في آخر الزمان, فتقبض أرواح المؤمنين، ثم تقوم الساعة, لذلك فإن من حكمة الله عز وجل أن الساعة لا تقوم إلا بعد أن يرسل الله تعالى ريحاً طيبة كريح المسك، مسها مس الحرير, فتقبض أرواح المؤمنين المجاهدين -الطائفة المنصورة- بكل سهولة ويسر, وينجيهم الله تعالى من معاناة الشدائد والأهوال, ومشاهدة العلامات الكبرى، ورؤية الزلازل والأهوال، التي يراها الناس عند قيام الساعة, فرحمة بهم يبعث الله تعالى تلك الريح، فتقبض أرواحهم، فإذا ماتوا هنا خلت الدنيا من الطائفة المنصورة، فحق عليها أمر الله فدمرها تدميراً.
إذاً: السر الذي به بقاء الأمة وبقاء الدولة هو وجود الطائفة المنصورة، التي تقوم بأمر الله عز وجل, ومن جانب آخر تستطيع أن تقول: إن السر الذي يحفظ الله تبارك وتعالى به الدول هو الجهاد والدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, فمتى تخلت الدولة أو الأمة عن ذلك سلّط الله عليها الأعداء, ولو كان هؤلاء الأعداء شراً منها، فقد يهلك الله الظالمين بالكافرين, أو بمن هم أظلم منهم وأفسق وأطغى.
لكن الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة, إنما يقوم بها ويتولى كبرى مهمتها أفراد الطائفة المنصورة, لهذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيما رواه أبو داود بسند صحيح من حديث ثوبان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الله تبارك وتعالى زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها -يعني صغر له الأرض وقربها وأظهرها له، فرأى النبي مشرقها ومغربها- وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها} وهكذا امتد ملك المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، أكثر مما امتد في جهة الشمال والجنوب, وهذا مصداق لما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم كما تشهد بذلك الوقائع التاريخية: {وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها، وأعطيت الكنـزين الأحمر والأبيض -يعني ملك كسرى وقيصر- وإني سألت ربي عز وجل ألا يهلك أمتي بسنة بعامة، وألا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، وإن الله عز وجل قال: يا محمد! إني إذا قضيت قضاءً فإنه لا يرد, ولا أهلك هذه الأمة بسنة بعامة } لا يهلك هذه الأمة بعذاب الاستئصال، الذي يأتي عليها ويدمرها عن آخرها! فالإسلام باقٍ نـزل ليبقى, وهذه عقيدة يجب أن تستقر في أنفسنا: {ولا أهلك هذه الأمة بسنة بعامة، ولا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، حتى يكون بعضهم يقتل بعضاً، ويسبي بعضهم بعضاً} يعني: تسليط العدو الخارجي، اليهود، النصارى، الشيوعيين، المجوس، لا يكون إلا بعد أن يدب الخلاف في داخل الأمة، ويقتل المسلم أخاه المسلم، ويتلاقى المسلمان بسيفيهما، ويسبي المسلم أخاه, فحينئذٍ يسلط الله تعالى عليهم عدواً من خارجهم.
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم، بعدما ذكر هذه الوعود الإلهية قال: { وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين } وهذا نموذج من الغربة، التي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنها سوف تحصل لهذه الأمة، وهي الأئمة المضلون، الذين يستخفون بهذه الأمة، ويضحكون بعقولها، من خلال وسائل الإعلام, ومن خلال طرائقهم في التضليل والخداع، وقد تجلت لنا في هذا الوقت أكثر مما تجلت في أي وقت مضى, ورأينا كيف يضحك هؤلاء المضللون المضلون، ليس بعقول السذج والبلة والمغفلين والصبيان، لكن بعقول الرجال الكبار، وبعقول من قد يكونون أحياناً من الدعاة العاملين: {وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين, وإذا وقع السيف فلا يرفع إلى يوم القيامة، ولن تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد فئام -يعني فئات وجماعات- من أمتي الأوثان} ثم قال صلى الله عليه وسلم، بعد هذا الغربة كلها، أئمة مضلون, وأناس لحقوا بالمشركين، ذهبوا إلى ديارهم وصاروا معهم يقاتلون معهم، أو ينصرونهم، أو ما أشبه ذلك {وحتى تلحق فئام من أمتي بالمشركين} أي: في ديارهم ومرابعهم وأماكنهم: {وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان} سواء كانت الأوثان المادية كاللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى, أو الأوثان المعنوية التي هي عبارة عن أشخاص من لحم ودم، كما كان يقول الشاعر عمر أبو ريشة رحمه الله:
أمتي كم صنمٍ مجدتـه لم يكن يحمل طهر الصنمِ! |
فاحبسي الشكوى فلولاك لما كان في الحكم عبيد الدرهمِ |
بعدما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأشياء، التي ستحدث للأمة قال: {ولا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك} فبيَّن عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث أموراً:
1-أنه مهما وجدت الغربة فـالطائفة المنصورة باقية لا تزال إلى قيام الساعة.
2-بين النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق, أنه مهما أصاب الأمة من عوامل الضعف والانحراف وأن بعض الطوائف من الأمة لحقت بالمشركين, وطوائف أخرى عبدت الأوثان, وطوائف ثالثة سارت عرضة للتضليل الإعلامي, فمع ذلك كله فإن الأمة لا يمكن أن يأتيها عذاب يستأصلها على آخرها, بل لا يزال فيها من يرفع راية الحق، ويدافع الظلم والظالمين, ويحفظ الله تبارك وتعالى بهم الأمة من الاستئصال والهلاك التام.
إذاً أبرز ميزة لهذه الطائفة كما ذكرت، وهي الميزة التي تميزت بها، واختصت بها، وعرفت بها, هي أنها تقوم بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بالنيابة عن الأمة كلها, لذلك قال الإمام ابن تيمية في مواضع من كتبه وبالأخص في كتاب اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم بعد أن ذكر احتمال أن توجد الجاهلية في مكان معين، أو في أمر معين، أو في شريعة معينة, قال: فأما في زمان مطلق فلا جاهلية بعد مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه لا تزال من أمته طائفة منصورة, وقال في موضع آخر: فأما بقاء الإسلام غريباً ذليلاً في الأرض كلها قبل قيام الساعة فلا يكون هذا.
إذاً لا يمكن أن تستحكم الجاهلية في الأمة كلها, ولا يمكن أن يبقى الإسلام غريباً ذليلاً في الأرض كلها قبل قيام الساعة.
وبهذا نعلم أنه حينما يعبر كثير من المفكرين الإسلاميين في هذا العصر "جاهلية القرن العشرين" ينبغي أن نقيد ذلك بأن المقصود جاهلية زمان ومكان معين, مثل جاهلية بلاد الغرب, أو جاهلية في جانب من الشرع, فقد يكون هناك جهل في الحكم والتشريع, بمعنى أن الناس حكموا غير شريعة الله، في أموالهم، ودمائهم وأعراضهم، وفي غيرها, بعلاقاتهم الخاصة والعامة, والفردية والاجتماعية، والدولية وغير ذلك, هذا قد يحدث, أي: غربة في جانب معين, لكن أن تستحكم الجاهلية في جميع الأمور، وفي الأمة كلها, فإن هذا لا يمكن!!
ومن ضمن الخصائص التي تتعلق بالخاصية الثانية، وهي قضية القيام بأمر الله, القيام بالجهاد في سبيل الله تعالى، وهو ظاهر جداً، حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم -كما قال في أحاديث كثيرة- قال: {يقاتلون في سبيل الله} وفي أحاديث بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن آخرهم يقاتلون المسيح الدجال, وفي أحاديث كان كلام الرسول صلى الله عليه وسلم في ذكر هذه الطائفة بمناسبة إشاعة كاذبة انتشرت عند الناس أن الجهاد انتهى, ففزع إليه أقوام من الصحابة فقالوا: {يا رسول الله! أذال الناس الخيل، ووضعوا السلاح، وقالوا: لا جهاد, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كذبوا الآن جاء القتال، ولا يزال الله عز وجل يزيغ قلوب أقوام ويرزقهم منهم إلى قيام الساعة}.
إذاً من مهمات الطائفة المنصورة الجهاد، وحينما نقول: الأمر بالمعروف، أو الجهاد، أو مهمة أخرى, فإننا يجب أن ندرك أن من أعظم مهماتها أن تخطط لهذا الأمر، وألاَّ يكون قيامها به بمجرد عواطف ملتهبة، تحرك الإنسان، دون تفكير ولا بصر ولا رَوِّية.
ليس الجهاد حملاً للسلاح فقط, بل الجهاد في مجالات كثيرة، اجتماعية، واقتصادية، وسياسية، وتعليمية، وتربوية، وإعلامية، كل ذلك من الجهاد, هذا أولاً.
وثانياً: حتى الجهاد بالسلاح والسيف والسنان, لا يجوز أن يكون عرضة للنـزعات العاطفية, فإن الإنسان المجاهد يجود بأغلى ما يملك.
يجود بالنفس إن ظن البخيل بها والجود بالنفس أقصى غاية الجودِ |
وليس للإنسان إلا نفس واحدة, فإذا خرجت لا تعود إلى قيام الساعة, إلى أن يبعث الله تعالى من في القبور, فليس صحيحاً أن يفرط المسلم بنفسه، أو يؤدي بغيره إلى التهلكة, وإن كان فيما يتعلق بذاته، محتسباً صابراً مجتهداً فإنه لا يجوز أن يتسرع بأن يلقي بإخوانه المسلمين في الهلكات، دون رَوِّية ولا بصيرة.
فالجهاد له أصول وضوابط، وينبغي أن يكون محكوماً بالعقل والتفكير, أرأيت مجموعة من الناس قليلة، ليس لها شوكة , ولا عدد أو عدة أو تدريب أو سلاح, يهاجمها مئات من الألوف أو ملايين من البشر, وهذا الذي يحدث في كثير من البلاد الإسلامية اليوم, فيقوم لهم جماعة أو مجموعة من الشباب، كوكبة يملكون الغيرة، يملكون الحماس المتأجج، ويملكون القوة، ويملكون الصدق، وكل هذه محاسن يشاد بها، ويثنى عليهم بها، ويرجى أن تكون شافعة لهم عند الله جل وعلا: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:89].. يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ [المائدة:119] لكن! لا يجوز أن تكون هذه الأشياء سبباً في الغفلة، مع أن ذلك كله لا يمنع من ضرورة الإعداد الحقيقي, فإننا نجد أن الله تعالى قال في كتابه: فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ [الأنفال:66], حتى الآية المنسوخة التي قلبها: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا [الأنفال:65] فعدد المسلمين في كثير من البلاد التي يقاتلون فيها لا يصل ولا إلى نسبة (10%) من نسبة العدو فيما يتعلق بالعدد, أما بالنسبة للقوة فالفرق هائل، وحَدِّث ولا حرج.
فلا بد أن ندرك أن الطائفة المنصورة حينما تكون مطالبة بالجهاد في سبيل الله, لا يعني: أن الجهاد مجرد عاطفة تتأجج في النفس! لا، فإن الجهاد يسبقه إعداد كامل، يطمئن معه الإنسان إلى أنه استفرغ جهده وطاقته في تحصيل جميع الأسباب والوسائل المادية التي يملكها.
إذاً: نستطيع أن نقول: أواخر القرون وأوائل القرون التي بعدها هي المناطق التي تبرز فيها حركات التجديد في هذه الأمة, وتزيل ما علق بالدين من انحراف, وهذا التجديد الذي بشر به النبي صلى الله عليه وسلم، وأجمع العلماء على ثبوته, وهذه بشارة أخرى جديدة، وهذا الحديث على الرغم أن له إسناداً واحداً، وهو إسناد حسن, إلا أن الأمة والعلماء أجمعوا، أولهم وآخرهم، على أن هذا الحديث صحيح، وتلقوه بالقبول، ونقل جماعةٌ الإجماع على تصحيحه. إن التجديد عمل جبار، عمل عظيم، يتناول الأمة في جميع مجالاتها, ويتناول الأمة في جميع بلادها, لذلك لا يتصور خاصة في القرون المتأخرة -كما يظن الناس- أن المجدد شخص واحد, قد يكون من أبرز المجددين الأشخاص المشار إليهم، لكن قد يكون في كل بلد أفراد وآحاد من الناس، وفي أمور مختلفة، فمنهم دعاة، وعلماء، ومصلحون، ومنهم أصحاب أصناف كثيرة من الخير، لا ينحصرون تحت اسم واحد, ولا تحت شخصٍ واحد بالضرورة, فالتجديد عمل عظيم, يحتاج إلى طوائف من الناس، يقومون بهذه المهمة الجليلة.
وهنا أود أن أنبه في هذا المجال إلى سر لطيف مهم, وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم بين لنا -كما أسلفت في مطلع الكلمة- أن هناك فرقة ناجية, هذه الفرقة الناجية قد يكون منها أفراد آثروا العزلة -فمثلاً- إنسان وصالح ومستقيم، على عقيدة السلف الصالح ليس عليه ما يعاب, لكنه إنسان إذا جالس الناس، واحتك بهم، وخرج إلى الأسواق، وسمع الإذاعات، والأخبار, فإنه يصاب بضرر عظيم, ويتكدر تكدراً شديداً، ويصبح مزاجه متعكراً إلى الآخر، لا يستطيع أن يعمل شيئاً, وأعصابه مشدودة, وربما يفسد لو أراد أن يعمل شيئاً لشدة حساسيته, فهذا الإنسان يقول: أنا -والله- رأيت أحسن ما لي أن أعتزل هذه الأمة؛ أصلي مع الجماعة، ثم أذهب إلى بيتي؛ لأنني لو أنكرت المنكر كنت سبباً في زيادته, وإذا سمعت الأشياء أصابني تشاؤم، وأصابني غيظ شديد، فرأيت العزلة خير لي, قد يكون هذا مصيباً, يعتزل الناس ويدع الناس من شره, هذا الإنسان هل نستطيع أن نقول: إنه من الفرقة الناجية أم لا نصفه؟
نصفه, لأنه ما عليه مأخذ, لكن هل نستطيع أن نصفه أنه من الطائفة المنصورة؟! لا, الأقرب والأظهر أننا لا نصفه, لأنه لا يقوم بجهد, لأن النصر حليف الإنسان، يجاهد فَيُنْصَر, لكن هذا لا يقوم بجهد، اعتزل الناس، فهو من الفرقة الناجية، وهو إلى خير, بل هو من خير الناس, لكن لا يعد من أفراد الطائفة المنصورة، الذين يجاهدون في الواقع، ويعملون على إقامة الإسلام، وإحياء شعائره، وتجديد ما اندرس من أمر الدين.
إذاً عرفنا أن الطائفة المنصورة جزء من الفرقة الناجية, والفرقة الناجية وصفها النبي صلى الله عليه وسلم بأنها: {من كان على ما أنا عليه وأصحابي}, إذاً ليست مهمة المجددين في هذه الأمة أن يأتوا بدين جديد, ولا أنهم يخرجون عن إجماع الأمة بآراء شاذة، وأقوال غريبة منكرة, يزعمون فيها أنهم مجتهدون مجددون! لا, بل إن مهمة المجددين تتلخص في أمور:
الأول: أنهم يعودون بالأمة إلى السمت، والهدي الأول، إلى ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه, ولذلك قال الإمام مالك لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
الثاني: أن عند المجددين ميزاناً ومقياساً يسعون لجر الأمة إلى هذا الميزان, عندهم منارة شاهقة، هي الجيل الأول جيل الصحابة والتابعين, يجرون الأمة إلى محاولة أن تكون في مثل هذا الجيل, ليس المعنى مثلها في المباني والمراكب والملابس, إنما مثلها في الحقائق، وفي فهم الدين، وفي طريقة التعامل مع النصوص, وطريقة التعامل مع الواقع, فهم يعملون على تحويل الأمة إلى مثل ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه, هذا من جهة.
ومن جهة أخرى فإنهم يعملون على تنـزيل الوقائع الجديدة في الأمة على النصوص الشرعية, بمعنى أن الأمة في كل عصر يتجدد عندها مشكلات كثيرة, خذ مثلاً: العصر الذي نعيشه, لو أتيت في المجال الطبي لوجدت آلاف المسائل الجديدة، التي يتكلم عنها الأطباء اليوم، ما كان الناس يعرفونها قبل مائة سنة, مثل القضايا مثل العلاج ونقل الأعضاء، وقضايا أطفال الأنابيب، وأشياء كثيرة جداً في المجال الطبي, الطبيب يقول: أنا يمكن أن أعمل عملية لكنني أحتاج إلى فتوى شرعية.
ننتقل إلى المجال الاقتصادي -مثلاً- تجد في المجال الاقتصادي معاملات وأساليب، وطرائق جديدة حادثة استخدمت تقنية العصر، وبعضها من عقول الناس، وبعضها أمور تحتاج أن يجتهد فيها علماء الأمة.
تنتقل إلى مجال التصنيع, وإلى التربية, أو إلى أي مجال، تجد ما يسميه الفقهاء بالنوازل، التي تحتاج أن يجتهد فيها علماء, ويبينوا حكم الله تعالى وحكم الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يظنون ويعلمون في هذه النوازل, هذه هي مهمة المجددين، وليست مهمتهم أن يأتوا بدين جديد, ما عرفه المؤمنون، ولا سبقهم إليها أحد من العالمين.
يبدو لي أن معنى الظهور يمكن أن يطلق على ثلاث معانٍ، كلها يحتملها الحديث, وكلها من خصائص الطائفة المنصورة.
المعنى الأول: الظهور بمعنى الوضوح والبيان, تقول: هذا شيء بيّن، أي ما فيه لَبْسٌ ولا خفاء, بمعنى أنهم معروفون، مثل الشمس، مثل القمر، وهل يخفى القمر؟!
لا يخفى, فطبيعة المهمات لـالطائفة المنصورة تقتضي أنهم معروفون؛ لأنهم يتحركون في وسط الأمة, فهم جزء منها، يتحركون من خلالها, لذلك أصبحوا معروفين مشهورين، فهم أشهر من نارٍ على علم, ليسوا يعملون في الظلام, وبضاعتهم يعرضونها في النهار، على مرأى ومسمع من الناس, القريب والبعيد, والعدو والصديق, بضاعتهم ظاهرة مكشوفة، ليس فيها لَبْسٌ ولا خفاء.
ولذلك فإنهم يشكلون تلاحماً قوياً, وهذا معنى أرى أنه في غاية الخطورة والأهمية بالنسبة للداعية إلى الله عز وجل, يجب أن نتفطن لها, أن هذه الطائفة المنصورة جزء من الأمة، جزء من المجتمع, صحيحٌ أنها متميزةٌ بخصائص, لكن لا يعني هذا أن الطائفة المنصورة تستعلي على الأمة, وتنظر إلى الأمة شزراً, تنظر من علو، تتسلط على الناس! لا, الطائفة المنصور تحاول أن تشتبك مع الناس, ليس اشتباكاً، أن تواجههم، بل تختلط معهم, تكون جزءاً منهم، فهي وهم كالجسد الواحد, وخذ بعض النصوص الشرعية التي تؤكد هذا المعنى.
مثلاً: التصدي لهموم الناس المعيشية القريبة, فالناس يحتاجون إلى من يتصدى لهمومهم, فعندهم قضايا مادية، فقر ومشكلات معينة، أو حاجات مادية، وظروف يعانونها، وصعوبات يواجهونها في الحياة, وضرائب تفرض عليهم, أشياء يجدون صعوبةً في التعامل معها, هذه قضايا قريبة تهم كل إنسان، حتى وإن كان متديناً أو غير متدين, لذلك فإن الاهتمام بهذا الهم الذي يستطيع أن يسميه هماً جمهور الناس، هو أيضاً جزء من هم الطائفة المنصورة, حاجات الناس ومطالبهم الدنيوية التي يريدونها, هي جزء من مهمة الطائفة المنصورة, وجزء من الإحسان.
ولذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم بيَّن في أحاديث كثيرة بعض الحقوق للمسلم على المسلم, مثل رد السلام, وعيادة المريض, وتشميت العاطس, ونصر المظلوم, حتى جاء في حديث أبي سعيد الخدري وغيره، قال النبي صلى الله عليه وسلم: {لا قُدِّسَت أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع} فالأمة التي تسلط فيها الظالمون والضعيف لا يستطيع أن يأخذ حقه, فهذه الأمة ليست أمة مقدسة، أمة آيلة إلى الزوال والفناء, وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في حديث بمناسبة قصة، وهي أن أم سلمة ذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم قصة عجيبة رأتها في الحبشة قالت: يا رسول الله! حين كنا مهاجرين في الحبشة, جاءت امرأة عجوز تحمل قربة من الماء على ظهرها, فجاء شاب طائش مراهق, وضرب هذه القربة من وراءها، فسقطت منها، وسقطت العجوز, وهي مسكينة لا تملك طولاً ولا حولاً ولا قوة, فقامت ونظرت إلى هذا الشاب, وقالت له: ستعلم يا غُدَر، إذا نـزل الله لفصل القضاء، كيف يكون جزاؤك, فتعجبت أم سلمة من كلام هذه المرأة، وإيمانها، ومعرفتها بأن الله ينـزل يوم القيامة لفصل القضاء بين الناس! وأخبرت الرسول صلى الله عليه وسلم, فأقرها وقال: {صدقت لا قدست أمة لا يأخذ الضعيف حقه غير متعتع}, وفي أحاديث أخرى: {إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم: يا ظالم, فقد تُوُدِّعَ منها}, وهذه الأحاديث وإن كان في بعضها ضعف، إلا أنه يشد بعضه بعضاً ويوجد ما يشهد لها.
إذاً: دفع الظلم عن الناس، ونصر المظلوم، كما قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه البخاري ومسلم من حديث أنس: {انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً} قالوا: يا رسول الله! هذا نصره إذا كان مظلوماً، -إذاً عرف الأولون بالبديهة أن المظلوم ينصر على من ظلمه- فكيف أنصره ظالماً؟!
قال: {تحجزه عن الظلم فإن ذلك نصره} تمنعه وتحجزه من الظلم فإن ذلك نصره.
إذاً: المسلمون يعرفون أن نصر المظلوم من حقوق المسلم على المسلم, رفع الظلم عنه، وإعانة المحتاج، ورد السلام، وعيادة المريض، وتشميت العاطس، واتباع الجنائز, إذاً فهموم الناس اليومية ينبغي أن يشتغل بها أفراد الطائفة المنصورة، ويحرصوا أن يكونوا جوار الناس في هذه الهموم.
جانب آخر: فيما يتعلق باحتكاكهم بالناس:
الطائفة المنصورة جزء من هذه الأمة، ظاهرون معروفون مشهورون, الوضوح في شخصياتهم، بحيث يعرفهم الناس ويثنون عليهم, وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان جالساً فمُرّ عليه بجنازة فأثنوا عليها خيراً, -فقالوا: هذا رجلٌ يقوم الليل, وقال آخر: هذا يصوم النهار, وقال آخر: أما إنه بار بوالديه, وقال رابع: كان محسناً لجيرانه- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {وجبت وجبت وجبت}, ثم مُرّ بعد ذلك بجنازة أخرى فأثني عليها شراً, قال أحدهم: هذا مؤذٍ لجيرانه, وقال آخر: عاقٌ لوالديه, وقال ثالث: لا يشهد الصلاة مع الجماعة, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {وجبت وجبت وجبت} قالوا: يا رسول الله! ما وجبت؟!
قال: {هذا أثنيتم عليه خيراً فوجبت له الجنة, وهذا أثنيتم عليه شراً فوجبت عليه النار, أنتم شهود الله في أرضه}, وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سأله رجل: كيف أعرف يا رسول الله إذا كنت محسناً أو غير محسن؟
قال له النبي صلى الله عليه وسلم: {إذا قال لك جيرانك أنت محسن فأنت محسن}, وفي حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: { ما من مسلم يموت، يشهد له أربعة بالخير, إلا قبل الله تعالى شهادتهم فيه وغفر له ما لا يعلمون} قالوا: يا رسول الله! وثلاثة؟ قال: {وثلاثة}, قالوا: واثنان؟
قال: {واثنان }, ثم لم نسأله عن الواحد.
إذاً: شهادة الناس لأفراد الطائفة المنصورة بالخير هي جزء من خصائصها ومميزاتها وسماتها, وكيف شهد الناس لهم بالخير؟
لأنهم معلنون لدعوتهم، ومظهرون لها, ومعروفون بين الناس, يتحركون في وضوح النهار، مثل الهواء الطلق, فيعرف الناس بلاءهم وجهادهم، ويثنون عليهم بذلك.
جانب ثالث: ثناء هؤلاء الأفراد على المحسنين من الناس أياً كانوا:
فكما ذكرت ليس أفراد الطائفة المنصورة أمة مستعلية، تنظر إلى الناس بالعلو، وتحتقرهم؟! كلا, بل هم رفيقون بالناس، حريصون على هدايتهم, ولذلك وهم يتحسسون آلام الأمة، وإذا وجدوا صواباً قالوا: هذا صواب, في صحيح البخاري أن رجلاً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان يشرب الخمر, فيؤتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم, فيجلده, فأوتي به يوماً, وهم في المنـزل فجلدوه بالجريد والنعال نحو من أربعين, وفي رواية قال رجل: (لعنك الله) أو لعنه الله, ما أكثر ما يؤتى به! كل مرة يأتينا وهو سكران, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: {لا تعينوا الشيطان على أخيكم، أما إنه ما عُلِم إلا أنه يحب الله ورسوله}, فالرسول صلى الله عليه وسلم يلقننا درساً عظيماً في الدعوة, وأسلوب التعامل مع الناس, الآن: نحن مع رجل فاسق، قد يكون تاب في حين شربه للخمر؛ لأنه يشرب الخمر وهي من الكبائر، وهو مصر عليها أيضاً, ولعله تاب فتاب الله عليه, لكنه كان مرتكباً فسقاً، إن لم نقل فاسقاً فإنه مرتكب فسقاً ولا شك, وهذا كثير في نظر الكثيرين، بأنهم يهدرون كل ما له من حسنات, ولا يعتبرونها شيئاً, ولذلك لعنوه, فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: { لا تعينوا الشيطان على أخيكم} ثم أثنى عليه النبي صلى الله عليه وسلم بالخير الذي يعلمه فيه، أنه يحب الله ورسوله.
إذاً: الطائفة المنصورة إذا وَجَدَتْ طيباً هنا أثنت وقالت: هذا شيء طيب, فيجب أن يستمر ويبارك ولا يُزال, وإذا أحسن شخص, قالوا: أحسنت؛ لأنهم شهداء, والشاهد يجب أن يذكر الحسن والقبيح, ولهذا فإن الطائفة المنصورة منفتحة على الناس، والأمم، والجماعات, حتى على الطوائف والأحزاب، فإذا وجدنا -مثلاً- في أمة من الأمم، أو جماعة من الجماعات، أو حزب من الأحزاب، أو مؤسسة فيها شر, لكن فيها جانب خير أصابوا فيه، نقول لهم في هذا الموضع: أحسنتم, وهذا أمر تشكرون عليه، ويكون هذا ذريعة بأن ندعوهم إلى تبديل النقص الموجود عندهم, فإنك إذا أثنيت على الإنسان انفتحت نفسه لقبول الحق الذي تحمل، وقبول النصيحة منك.
جانب رابع: يتعلق في اختلاط هذه الطائفة بتلك الأمة, وهو أنهم ينـزلون بدعوتهم إلى واقع الناس, ليسوا في بروج عاجية، يقولون: من يريدنا يأتي! لا, فهم ينـزلون بالدعوة إلى واقع الناس, ينـزل الداعية إلى البيت، فيدعو الوالدين والإخوة والأخوات بكافة الوسائل, وينـزل إلى المسجد، فيدعو الناس، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر, ويعلمهم القرآن والسنة، وما أنـزل الله على رسوله, ينـزل بالدعوة إلى الحي، وإلى العائلة والأسرة التي ينتسب إليها, إلى زملائه الذين يدرسون معه، أو يعمل في الوظيفة معهم، بحيث إن الدعوة أصبحت روحاً يسري في الأمة كلها ويتخللها, وهذا جزء من الظهور الذي تتميز به الطائفة المنصورة, أما أنني لا أقول: إنه يلزم كل فرد بذلك, لكن الطائفة المنصورة إجمالاً، هذا جزء من عملها ومهمتها, فهي كالتاجر الماهر الذي عنده بضاعة يريد أن يسوقها, تجد أنه يستطيع -على أقل تقدير- أن يبث دعاية ناجحة لبضائعه, لذلك في البلاد الغربية يدفعون أحياناً مئات الملايين على دعاية واحدة لسيارة, لماذا؟
لأنهم يعرفون أن هذه الدعاية، وإن بذلوا فيها ما بذلوا, إلا أنها تعود عليهم بالأرباح الطائلة الهائلة, وبعملية حسابية يدركون أنهم رابحون بهذه الدعاية.
كذلك الداعية يستطيع أن ينشر بين الناس بضاعته, بحيث يقبلون عليه عن رضا وطواعية واختيار, أو هو مثل الطبيب الرحيم، الذي لا يجلس في مكتبه ويقول: المريض متى شاء يأتيني! بل إذا وجد في الناس موتاً عاماً ومرضاً فإنه يخرج من مكتبه، وينـزل إلى واقع الناس، فيدخل هذا البيت ويُمَرِّض, ويدخل الآخر ويعالج, ويدخل الثالث ويقوم بالعملية, وينـزل إلى الناس في واقعهم, وفي أماكن مرضهم يعالجهم فيها.
لذلك فالأمة حزام يُطَوِّقُ هذه الطائفة المنصورة, والطائفة المنصورة لب وروح يسري في هذه الأمة، فهي حماية للأمة والأمة حماية لها, كيف ذلك؟
أما الطائفة المنصورة فهي حماية كما ذكرت, حماية لها من الهلاك والاستئصال كما سبق تقريره وبيانه, حماية لها من القيادات الضالة المضللة، التي إذا غاب الدعاة بحق والقادة الشرعيون, تسلقوا وتسلموا وترأسوا، وهم أيضاً حماية للأمة من الانحراف وانتشار المفاسد والمنكرات.
وبالمقابل فالأمة حماية لهم، لأن هؤلاء الأفراد لما يتخلخلون الأمة، ويكونون جزءاً لا يتجزأ منها، يصعب القضاء عليها, أرأيت العدو الآن كيف يقضي على الدعوات الإسلامية؟! يقضي عليها بخطوتين:
الخطوة الأولى: أنه يعمل على عزل الدعوة أو الداعية عن الأمة, بكافة الوسائل، ولذلك أعد الدعوات التي تدعو إلى الانعزال عن الأمة، وعن المجتمع، قد أخطأت خطأ بيناً في هذا الجانب, العدو يهمه أن يعزل الداعية عن الأمة, بحيث يبقى منعزلاً منفصلاً بعيداً, فإذا كان بعيداً أصبح قابلاً لأن يلصق به أي تهمة, أي كلمة, وأي كذبة, قد تصدق, فإذا قيل للناس: إن فلاناً فعل كذا, أو المجموعة الفلانية فعلت كذا, أو الطائفة الفلانية لها أهداف معينة, ولها مهمات وارتباطات خارجية, ألصقت بها تهم كثيرة, والناس قابلون أن يصدقوا هذا؛ لأنهم لا يعرفون هذا الإنسان.
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلباً خالياً فتمكنا |
لكن إذا كان الناس يعرفون هؤلاء الناس, قام واحد وقال: والله ما هو صحيح، هذا فلان أنا أعرفه, فلان فوق مستوى هذه الإشاعات الكاذبة التي تروجون, وقال ثالث: نعم وأنا أعرفه كما ذكر, وقال رابع وخامس.., فأصبح الناس غير قابلين بتصديق الإذاعات، والإشاعات، والأكاذيب التي تروج عن الدعاة, أو تلصق بهم, أو بالدعوات.
فالخطوة التي يسلكها الأعداء، عزل الدعوة عن الأمة, فإذا عزلوها ضربوها، والأمة أحياناً بغير وعي تبارك ذلك وتؤيده؛ لأنه صُوِّرَ لها أنهم خطر يهددها.
إذاً نحن نحبط مخططات الأعداء حين نفرض نوعاً من الالتحام والتلاحم، والترابط العضوي القوي بين الطائفة المنصورة وبين بقية أفراد الأمة.
المعنى الثاني: من معاني الظهور الذي وصف به النبي صلى الله عليه وسلم الطائفة المنصورة.
الظهور بمعنى الثبات على المبدأ, والثبات على الخصائص التي تميزوا بها، ولذلك: فإن ثباتهم عليها انتصار لهم, كما قال الله عز وجل: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ [غافر:51] فالثبات على المبدأ انتصار لهم, ومن ذلك غلبتهم بالحجة والبيان, فهو نوع من الظهور، نوع من الانتصار, بمعنى أن قدرة أفراد الطائفة المنصورة على إعلان دعوتهم ودينهم، ومواقفهم وصلابتهم في ذلك, وقدرتهم على الوصول إلى الناس, في كل مكان من خلال الوسائل الممكنة المتاحة، لكل عصر بما يناسبه، إنَّ هذا نوع من الظهور الذي أخبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم.
المعنى الثالث: من معاني الظهور, الظهور بمعنى الغلبة, وهذا هو الذي رجحه جماعة من العلماء, كـابن حجر وغيره, لكن الأرجح أن تكون كل أنواع الظهور مقصودة في هذا الحديث, الظهور بمعنى الغلبة, أن يكونوا غالبين كما قال الله عز وجل فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ [الصف:14], وقال: إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ [الكهف:20], يعني إن يغلبوكم, وقال: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [الفتح:28], فهذا من معاني الظهور أيضاً، لذلك جاء في بعض الأحاديث {لعدوهم قاهرين}, وجاء في نوع ثالث {منصورين}, وهنا قد يتساءل الإنسان، كيف تكون الطائفة المنصورة غالبة لعدوها، مع أنهم في أحيان كثيرة قد يكونون مغلوبين؟!
فأجيب على هذا السؤال بثلاثة أجوبة:
1- أن هذا بحسب الغالب, فإنك لو نظرت في واقع الأمة من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا تستطيع أن تنظر، ولكن جدلاً, من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى نهاية عهد الطائفة المنصورة، يعني عند قيام الساعة لوجدت أن الغالب أن هذه الطائفة لها ظهور وغلبة وتمكين.
2- أن الظهور أمر نسبي, فليس معنى الظهور أنهم منصورون (100%) من جميع الجوانب, فقد يكون نصراً في مواقف معينة, نصراً في جانب دون جانب, أو أنهم يستطيعون أن يحبطوا بعض مخططات العدو -مثلاً- إذا كان النصارى وضعوا خطة للقضاء على المسلمين في بلد من البلدان, وخططوا أن عام (2000م) تتحول هذه البلدة إلى جزيرة نصرانية، كما يخططون في إندونيسيا, فنجح أفراد الطائفة المنصورة في مقاومة الكفار وحربهم في هذه البلاد، بحيث إنهم أحبطوا هذه الخطة، أو أخروها، أو أضعفوها، فهذا ظهور, ولكنه ظهور نسبي، وغلبة نسبية، ليست غلبة مطلقة.
3- نقول: إن أعداء الطائفة المنصورة كثيرون, منهم أعداء المسلمين، اليهود، والنصارى، والمشركون والمنافقون, ومنهم أعداء من الأمة المسلمة أيضاً, والعداوات كثيرة، وكما قال الأول الذي ذكر أن عداوة الأقربين أشد:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضةً على المرء من وقع الحسام المهند |
فمن أعدائها:
أولاً: أهل البدع بأنواعهم, وأهل الشبهات الذين أُشربتها قلوبهم فتحزبوا عليها، وأصبحوا يجاهدون من أجلها، من الصوفية، والخرافيين، والمنحرفين، والخوارج، والمعتزلة، إلى غير ذلك من أصناف أهل البدع والشبهات.
ثانياً: الصنف الثاني من الأعداء: أهل الشهوات, الذين تحزبوا على شهواتهم وعملوا على أن تنتشر في المجتمع، وهم يريدون أن لا يتميزوا، مثل ذلك الإنسان الذي سرق، فَصُبِغَ بيته بصبغ حتى يتبين في الصباح أنه سارق, فقام في الليل وصبغ جميع بيوت الناس حتى لا يُدْرَى من السارق! كثير من أصحاب الشهوات يريدون أن تميلوا ميلاً عظيماً، وأن تكون الشهوة منتشرة كما قال محمد إقبال:
لقد سئم الهوى في الِبيدِ قَيسٌ ومَلَّ من الشكاية والعذاب |
يحاول أن يباح العشق حتى يرى ليلاه وهي بلا حجاب |
المهم أن بعض أصحاب الشهوات لا يقتصر أن يقع هو في الشهوة، لكن يريد أن تنتشر عند الناس, حتى لا يتميز عن غيره، وحتى يتسنى له أن يمارس شهوته بلا صعوبة ولا خوف.
فهؤلاء من أعدائها، وهي تنتصر على هؤلاء كما تنتصر على أولئك.
قال: {بل منكم}, والحديث رواه أبو داود والترمذي, وقال الترمذي حديث حسن غريب, وهو في الواقع ضعيف، ولكن له شاهد آخر عن عتبة بن غزوان رضي الله عنه بنحوه، رواه المروزي بسند مرسل رجاله ثقات, وله شاهد من حديث أنس رضي الله عنه عند الترمذي وغيره, أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يأتي على الناس زمان، القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر} إنسان ماسك جمرة في يده, ماذا يحدث؟
يحس بألم النار ولهبها، فيقول: الآن أتركها الآن ألقيها، ولكنه يتصبر حتى يصبره الله عز وجل, ومن يتصبر يصبره الله:
وهذا زمان الصبر من لك بالتي كقبض على جمر فتنجو من البلا |
الطائفة المنصورة هم أئمة الأمة بصبرهم، كما قال الله عز وجل: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24], قال سفيان بن عيينة رحمه الله: أخذوا برأس الأمر فجعلهم رؤوساً. فالمعنى الحقيقي للصبر أنه حبس النفس، لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث آخر رواه البخاري وغيره {ليس الشديد بالصُّرَعَة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب}, الصبر يكون في البأساء والضراء وحين البأس.
من الناس مَن قد يصبر في الشدة, إذا خاض المعركة يصبر صبراً جميلاً, لكن إذا أقبلت عليه الدنيا وجاءته الدنيا، والأموال، والمراتب، والجاه العريض؛ فإنه قد لا يصبر وقد ينسى, ومن الناس من يصبر في هذا ويصبر في ذاك, لكن إذا جاءته الشدة فإنه لا يستطيع أن يصبر ويتماسك، لهذا رَبَّى الله تعالى أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة ثلاث عشرة سنة على الصبر, والعربي فيه أريحية وقوة وشهامة ومروءة، كان لا يصبر على الضيم.
ولا يقيم على ذل يراد به إلا الأذلان عير الحي والوتد |
فالعربي كان بطبيعته لا يقبل الذل, يموت دون كرامته, لكن لما جاء الإسلام رَبَّى في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أين يصبروا؟
وقال لهم: كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [النساء:77], فكان الواحد منهم يسحب في الشارع على وجهه، ويوضع في الرمضاء وتوضع الصخرة على ظهره, ويجره الصبيان يلعبون به، ويبصق في وجهه، ويؤذى ويقتل، ويأتي أبو جهل إلى أحدهم فيضرب زوجته في موضع العفة فيقتلها, ويشردونهم ويأخذون أموالهم، وينشرون ضدهم الإشاعات, وكل ذلك كانوا يواجهونه بالصبر الجميل.
وعندما جلسوا ثلاث عشرة سنة يصطلون بهذه النار, نضجوا نضجاً صحيحاً، فحينئذٍ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ [الحج:39], الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ [الحج:40] إلى آخر الآيات, فلما علم الله -تعالى- صدقهم وصبرهم، وأنهم لما قيل لهم: كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [النساء:77] كفوا أيديهم, بعد ذلك أذن لهم بالقتال، ثم أمرهم به، ونصرهم على عدوهم نصراً مؤزراً.
فمن الصبر أن تصبر على الشدة والصعوبة، وأن لا تتحرك بدافع الحماس المجرد، أو كما يقول بعضهم: أقف مكتوف الأيدي! إذا نـزلت به مصيبة أو تصدى له عدو! لا يا أخي! لا تقف مكتوف الأيدي, هناك شيء اسمه الصبر؛ الصبر عبادة، تتعبد الله بالصبر, وهناك شيء آخر اسمه الدعاء، والدعاء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {هو العبادة}, فهذا كله من الصبر، الذي يتميز به أفراد الطائفة المنصورة، وليس صبوراً من ينفعل ويفجر المواقف بحجة أن لا يقف مكتوف الأيدي, كما سبق "كفوا أيديكم" {ليس الشديد بالصرعة}.
الخاتمة:-
هذه أبرز خصائص هذه الطائفة، في حدود ما ظهر لي، وما علمت، وأسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم منهم, وأن يكتب على أيدينا وأيديهم نصر الإسلام في كل مكان, وأن يقر أعيننا وأعينكم بارتفاع كلمة التوحيد، لا إله إلا الله محمد رسول الله, وأن يكتب لهذه الأمة النصر والتمكين على عدوها في كل مكان، وأن يخذل أعداءها حيث كانوا, إنه على كل شيء قدير.
اللهم أعزنا بطاعتك، ولا تذلنا بمعصيتك, اللهم اهدنا واهدي بنا, اللهم انصرنا على القوم الكافرين لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا ظالمين, اللهم صلي وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الجواب: بيان الحق لا بد منه, وليس بيان الحق سبباً في الفرقة، وإن كان سبباً في الفرقة فلا يمنع من بيانه ولو افترق الناس, فإن الناس افترقوا بالكفر والإيمان: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ [النمل:45], ومحمد صلى الله عليه وسلم فرق بين الناس, يفرق بين الحق والباطل, والقرآن سماه الله تبارك وتعالى فرقاناً، يفرق بين الحق والباطل, والإيمان والكفر, والهدى والضلال.
فـأهل السنة والجماعة عليهم أن يقوموا بدورهم في بيان الحق, بل وفي بيان ما عارضه وخالفه أيضاً: وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ [الأنعام:55], فاستبانة سبيل المجرمين وإظهارها وإيضاحها هو جزء من مهمة أهل السنة والجماعة, ولا شك أنهم يواجهون في سبيل ذلك العنت واللأواء، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، لكن هنا واجبهم الصبر على ذلك والثبات, وسلوك الطريق المناسبة، والحكمة وهي وضع الشيء في موضعه, فإن الإنسان أحياناً قد يقول الحق ويقبل منه, وقد يقول آخر الحق نفسه ولا يقبل، وذلك مرجعه إلى الأسلوب.
ولعلي أضرب على ذلك مثلاً يسيراً في قضية جزئية نعيشها جميعاً: يوماً من الأيام زرت إحدى البلاد فقال لي بعض الشباب المتحمسين: إن أساتذة المدرسة الفلانية عندهم معاصٍ، فهم يحلقون لحاهم، ويطيلون ثيابهم ويرتكبون المخالفات, وبعضهم يشربون الدخان, وعجزنا عنهم, لكننا نصحناهم ونصحناهم، ولا يريدون منا أن ننصحهم, يتكلمون علينا، ويعيبوننا وغير ذلك.., لو نبهتهم إلى هذا، وقُـدِّر أنه كان عندي كلمة في المدرسة نفسها فأخذت على نفسي أنني لا بد أن أتكلم عن هذه الأمور، لكن بطريقة غير مباشرة, فتحدثت عن أمور كثيرة: من أمور الشباب، ومشاكلهم، وأوضاعهم، والمخاطر التي تهددهم في القريب والبعيد, والمخططات المرسومة ضدهم، إلى غير ذلك, حتى اطمأن الحضور، وشعروا بأن هذا الكلام يحتاجون إليه, بعد ذلك تحدثت عن قضية التشبه بالمشركين وخطورتها، وأهمية استقلالية الأمة المسلمة، في عقيدتها، ومظهرها، واقتصادها، وإعلامها، وسياستها، وأن هذا ضرورة لكل أمة، سواء للمسلمين أم لغيرهم, ثم ضربت أمثلة على الانهزامية الموجودة في الأمة المسلمة، هذه الأمثلة أمثلة جزئية كثيرة، لو أخذنا أي تقليد أو عادة أصبحت أمراً مألوفاً لا يكاد ينكره أحد, لوجدناه أمراً مأخوذاً.
انظر مثلاً: مظهر حلق اللحية! من أين أخذنا هذه العادة؟! من الكفار! انظر -مثلاً- قضية أنواع الملابس، قضية طرائق المعاملة والأساليب, إلى غير ذلك, كل هذه الأشياء تقاليد وعادات أخذناها عن الكفار, وهي صحيح جزئية, وقد ينظر إليها بعضهم على أنها صغيرة، لكن إذا ربطناها بالأصل الأكبر، أنه إن نظرنا إلى هؤلاء على أنهم سادة، وأصبحنا نقلدهم كما يقلد الصغير الكبير, والطفل والده, والتلميذ أستاذه وجدنا أنها تشكل انهزامية للأمة يجب أن نكون حرباً عليها, فما أن انتهيت من المحاضرة, إلا وجدت أن الأساتذة كلهم مسرورون من هذا الكلام، مع أن فيها عيب لهم وتصريح إنكار ما هم فيه, حتى قال لي بعضهم: إنك أنكرت علينا هذه الأشياء بطريقة مناسبة, في حين أن بعض الطلاب أو بعض الشباب الصغار ينكرون بطريقة غير مقبولة, حتى أن أحدهم يقف على المنبر مثلاً, فيقول: إن الذي يحلق لحيته فيه كذا وكذا وكذا., ويذكر أوصافاً صعبة، وبشعة وما وردت في الكتاب ولا في السنة، وقد يفهمها الناس على غير وجهها.
والحق إذا أتى به الإنسان بطريقة مهذبة، متدرجة حكيمة، فإنه قد يكون هذا مدعاة لقبوله, هذا من جهة.
الجهة الثانية: إذا تحدث الإنسان في أمور عدة، كان هذا مدعاة للقبول أيضاً, بعض الناس يقولون عن أهل السنة والجماعة في بلد من البلاد -مثلاً- أنتم يا أهل السنة ما تعرفون شيئاً, ما عندكم إلا قضايا معينة تتكلمون عنها, أما أمور مشاكل الأمة، وبلاياها ومصائبها، وقضايا الاقتصاد والاجتماع، والسياسة، فأنتم غافلون عنها, والصحيح أن أهل السنة هم أولى الناس بالكلام عن هذه القضايا, فـأهل السنة في كل بلد ينبغي أن يتصدوا للمنكرات أياً كانت, وفي أي مجال كانت, بحيث إنه ما يكون همهم مقصوراً في جانب معين، يعيبهم الناس باقتصارهم على هذا الجانب, بل يجاهدون عبر جميع الميادين، وفي جميع المجالات، ومن خلال جميع القنوات والوسائل الممكنة.
أرجو توضيح هذا الحديث؟
الجواب: كلا. بل الأصل أن هذه الفرق من الأمة المسلمة, ولذلك قال: {ستفترق أمتي } فعدها الرسول صلى الله عليه وسلم من أمته, وإنما قوله: {في النار} يعني: يعذبون في النار , كما قال عليه السلام: {إذا التقى مسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار} فليس المعنى أن القاتل والمقتول مخلدان في النار, لكنهما يعذبان فيها, وقد توعد بالنار عليه الصلاة والسلام على ذنوب كثيرة, بل في القرآن الكريم الوعيد بالنار على ذنوب كثيرة، ليست من المعاصي التي يكفر بها، لكن معنى في النار: يُعَذَّبُ -ما شاء الله تعالى- ثم يخرج منها, فالأصل أن هذه الفرق ليست من الكفار المخلدين في النار، بل هم من المسلمين الذين مصيرهم إلى الجنة، وإن عذبوا في النار بقدر ذنوبهم أو بقدر بدعهم.
الجواب: سوف تعرف الكثير -إن شاء الله- من خلال الصحافة والإذاعة وغيرها, عن حزب البعث العربي الاشتراكي.
لكن باختصار يناسب المقام, فإن حزب البعث حزب تكون في الشام والعراق، يدعو إلى بعث الأمة العربية، فيما يزعم، وإحيائها من رقدتها على ضوء الأصول، والمبادئ القومية والاشتراكية, فهو يؤمن بـالقومية، يعني جمع وتوحيد كلمة الأمة العربية، يهودها، ونصاراها، ومسلميها وغيرهم, ويؤمن بالمبادئ الاشتراكية المعروفة, ويؤمن بالأساليب الثورية، بأساليب القوة, في تحقيق مبادئه وأهدافه, وقد تحول هذا الحزب من حزب حقيقي كان يحمل مبادئ في عصر أو في وقت من الأوقات، مبادئ يجمع الناس عليها ويدعو إليها, إلى مطية وأهواء ومطامع , أما في الشام فقد تحول إلى مطية أهواء ومطامع النصيريين العلويين، الذين امطتوا هذا الحزب وتخلخلوا فيه, حتى بقي ظلاً لا حقيقة له, وأصبح الحكم للنصيرية العلوية في حقيقتها, كما أنه تحول إلى حد كبير في العراق إلى مطية لمطامع شخصية.
جزاكم الله خيراً..
الجواب: القنوت وارد، قنوت النبي صلى الله عليه وسلم في المغرب، وفي العشاء، وفي الفجر، وفي غيرهما أيضاً, وذلك فيه كلام كثير لأهل العلم، منهم من قال: يشرع مطلقاً -كما هو مشهور عند الشافعية- ومنهم من قال: لا يشرع مطلقاً, ومنهم من قال: بالتفصيل, فقال: يقنت عند النوازل الكبرى التي تنـزل بالأمة، وأكثر ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم القنوت في صلاة الفجر, فقد مكث صلى الله عليه وسلم شهراً يقنت على قبائل من العرب قتلوا بعض أصحابه, ثم ترك القنوت بعد ذلك, أما قول أنس لم يزل يقنت حتى فارق الدنيا, فإن المقصود بالقنوت حينئذٍ طول الوقوف بعد الركوع, أنه عندما كان يرفع رأسه من الركوع أطال الوقوف، يقول: ربنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، ملء السماء وملء الأرض وملئ ما شئت من شيء بعد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد, لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد, ولا يمنع أن يدعو سراً بينه وبين نفسه، سواء أكان إماماً أم منفرداً أم مأموماً, فإن هذا من مواضع الدعاء كما ذكر ابن القيم وغيره.
الجواب: الجمع يسير, ويحتمل وجهين:
أ- الإسلام بدأ غريباً, ويعود غريباً، فإن نظرنا إلى الغربة بمعنى غربة مطلقة نهائية, فلا إشكال؛ لأننا عرفنا أنه في آخر الزمان يبعث الله ريحاً طيبة، فتقبض أرواح المؤمنين, ولا يبقى في الأرض من يقول: الله الله, لا يبقى إلا شرار الناس وعليهم تقوم الساعة, وهذه لا شك نهاية الغربة، لذلك جاء في حديث حذيفة وهو عند ابن ماجة وسنده صحيح، أنه صلى الله عليه وسلم قال: {يدرس الإسلام -يعني: في آخر الزمان يندرس وينمحي- كما يدرس وشي الثوب حتى لا يدرى، ما صلاة، ولا زكاة، ولا صيام، ولا صدقة، ولا نسك، وليسرى على كتاب الله عز وجل في ليلة، حتى لا يبقى في الأرض منه آية، ويبقى الشيخ الكبير والعجوز يقولون: لا إله إلا الله, أدركنا آباءنا يقولونها فنحن نقولها}, فقال صلة بن زفر لـحذيفة: ما تنفعهم لا إله إلا الله؟! فأعرض عنه, فلما رددها عليه ثلاثاً, قال: يا صلة تنجيهم من النار؛ لأنهم لا يعرفون غيرها وذلك مبلغهم من العلم.
ب- فإن نظرنا إلى الغربة بمعنى قلة الأنصار والأعوان، وهذا الاحتمال الثاني, فهذا أيضاً لا إشكال فيه, فنعلم أن الإسلام بدأ برجل، لذلك قال بعض أهل العلم: الإسلام بدأ برجل وينتهي برجل, يعني في بداية العهد النبوي الرسول عليه الصلاة والسلام كان معه حر وعبد, أبو بكر وبلال، وخديجة وعلي, أربعة، بعضهم يقولون: مكثت يوماً أو يومين وأنا ربع الإسلام, يعني المسلمين أربعة وهو واحد منهم.
وفي آخر الزمان لا شك أن الطائفة المنصورة يقل أفرادها, ويضعف شأنهم حتى ينتهوا وذلك عن طريق الريح التي ذكرت.
أو على شكل فردي يوجد في مناطق متعددة؟
الجواب: الطائفة المنصورة أعم من هذه اللافتات، وأعم من هذه الأطر التي يتعامل بها الناس, الطائفة المنصورة جزء من الأمة كما ذكرت, تلتقي على الحق، ليس لها راية تعرف بها, ولا اسم تتميز به بالضرورة, ولا بلد تنتمي إليه ولا قبيلة تنحاز إليها, ولا مصلحة دنيوية، قوم تحابوا في ذات الله، وتآخوا على غير أرحام بينهم, بل هؤلاء الأفراد، لهذه الطائفة ليسوا في بلد واحد, ولا أصحاب تخصص واحد, وليسوا بالضرورة متعارفين، قد يكون في هذا البلد أفراد طائفة منصورة يجاهدون, وفي بلد آخر أفراد طائفة منصورة يجاهدون, وبعضهم لا يعرف بعضاً, فليسوا محصورين بتنظيم معين أو تشكيل معين، أو لافتة معينة، أو راية معينة, بل هم أعم من ذلك كله, منهم العلماء والفقهاء، ومنهم الشجعان والمقاتلون، ومنهم أصحاب الخير الكثيرون، كما ذكر الإمام النووي, يدخل في ذلك أصحاب وأصناف كثير من الخير، منهم الطبيب، ومنهم المهندس, ومنهم المعلم، ومنهم المربي، ومنهم التاجر، ومنهم ومنهم.
الجواب: التوكل شرط للإيمان: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة:23], و"إن" شرطية, فالتوكل شرط للإيمان, لذلك المؤمن لا يكترث للجموع التي تجمع ضده, أرأيت نبي الله شعيباً عليه الصلاة والسلام؟
حين جمعوا له، وهددوه وتوعدوه، لم يخضع لهذه الأشياء، ولم يمتلئ قلبه بالرعب منها، بل قال لهم: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ [يونس:71], إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا [هود:56].
فالقلب الذي خلا من التوكل على الله عز وجل أصبح خواء، وأصبح مهباً للشائعات والأقاويل والمخاوف, ولذلك انظر المنافقين؛ لأنهم لا إيمان عندهم, كيف كانوا يتعاملون مع الأحداث؟!
يقول الله عز وجل يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ [المنافقون:4], المنافق عندما يسمع أحداً يعلن الجهاد, يقول: هذا الآن يريدني, أيضاً لما جاءت الأزمات، معركة الأحزاب إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً [الأحزاب:10-11], هنا تميزت المواقف، هنا بانت الحقائق، وظهرت الأمور، فأما من في قلوبهم زيغ وريب ونفاق فاضطربت قلوبهم واهتزت: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً [الأحزاب:12], محمد يعدنا قصور كسرى وقيصر, والواحد منا لا يستطيع أن يذهب ليقضي الحاجة؟!
أما المؤمنون فصقلت الأحداث قلوبهم وثبتتها، فآمنت وتوكلت على الله عز وجل وفوضت إليه, ولذلك قال الله عز وجل: وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً [الأحزاب:22].
انظر كيف الفارق بين قلوب المؤمنين وقلوب المرتابين، أو المنافقين، أو ضعفاء الإيمان, ولذلك تجد الناس فعلاً في هذه الأوقات بالذات، ظهرت حقائق كثير من الناس, فأصبح الواحد يركض يمنةً ويسرة، ويحسب كل صيحة عليه, يذهب إلى الأسواق يشتري المؤن والأكياس والسكر والشاي، وأشياء تكفيه لسنوات, حتى يتسبب في أزمة! وتجد الإنسان يسارع في تحويل العملة! وبعضهم يشتري سبائك من الذهب, وبعضهم يحزمون الأمتعة ليغادروا!
ولعل من الأسباب أيضاً في ذلك غياب التثبيت والتسكين من المؤمنين, ولذلك فإني أقول:
واجب العلماء، والخطباء والدعاة، وأئمة المساجد، والصالحين، واجبهم أن يسكنوا الناس ويثبتوهم، ويهدءوا قلوبهم, ويطمئنوهم، ولا يجعلونهم نهباً للإشاعات والإذاعات المرجفة المبطلة, التي تضخم الأحداث، وتهز القلوب، وتفزع النفوس، خاصة إذا كثر قيل الناس وقولهم وكلامهم، وفيهم الرجل والمرأة، والكبير والصغير، والعاقل وغيره.
فينبغي أن نتوكل على الله عز وجل ونفوض الأمر إليه, ونقول كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، حينما يأوي الواحد إلى فراشه: {اللهم وجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، وأسلمت نفسي إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك, آمنت بكتابك الذي أنـزلت، وبنبيك الذي أرسلت} وإلا ما معنى أن الإنسان يقول بكرة وعشية: حسبنا الله ونعم الوكيل, ثم يتوكل على غير الله! أو يحتسب على غيره وما معنى أن يقول الإنسان في صلاته ودبر الصلاة: اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد ثم يأخذ من غير الله، فيعتقد أن الأخذ والعطاء والمنع والضر، بيد غير الله عز وجل! لا! أبداً!
ينبغي أن تعرف أن الخلق كلهم بيد الله تعالى وما هم إلا أسباب ووسائل يجري الله تعالى، الأمر على أيديهم إذا شاء، لذلك قال تعالى: مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا [هود:56] مثلاً الطبيب الذي عالجك, ليس هو الذي شفاك، الله الذي شفاك، وأجرى الشفاء على يد هذا الطبيب، وفرق بين من يشفى ويقول: والله الطبيب شفاني, ويرسل بطاقة شكر, وبين من يقول: الحمد لله، من قلبه وهو يشعر أن الشفاء من الله, أنا لا أعترض على رسالة شكر للطبيب، لكن أقول مع إرسال بطاقة الشكر للطبيب يجب أن تعرف أن الذي عافاك حقيقة هو الله, فيجب أن تبالغ في شكره بقدر ما تستطيع.
وخلاصة ما يمكن أن أقوله باختصار: أن من ضمن المعاني التي ضمرت في نفوس المسلمين -مثل ما ضمر عندهم معنى العبادة مثلاً- معنى القضاء والقدر, ضمر في نفوس المؤمنين، ومعنى الجهاد, فأصبحنا إذا سمعنا كلمة الجهاد لا نفهم منها إلا حمل السيف، أو الرشاش، أو البندقية والقتال, وهذا قصر للأمر على بعض أفراده، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: كما في حديث فضالة بن عبيد وغيره, وهو حديث صحيح {المجاهد من جاهد نفسه في ذات الله, والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه}, فالجهاد شامل, هناك جهاد النفس, وجهاد المنافقين, والكفار, والظالمين، وجهاد الشيطان, فهي أنواع من الجهاد, وكلها تحتاج إلى جيوش من الناس تجاهد, فليس هناك شيء جديد لواقع المسلمين في موضوع تسلط المنافقين, في كثير من المجالات، والمؤسسات، والدوائر، والوسائل الإعلامية، والمواقع، بل والدول، تسلط المنافقون منذ سنين, إذاً لماذا لم نعلن الجهاد؟
وفتحنا جبهات لجهاد المنافقين, جهاد المنافقين ليس بالسيف, بل جهادهم بالحجة والعلم والمناقشة، والنـزول إلى الميدان, وبكشف ألاعيبهم وفضحهم بها.
ومن جانب آخر الجهاد أنواع: الجهاد بالمال، الجهاد بالنفس، الجهاد باللسان، وكل هذه ألوان من الجهاد, فليس صحيحاً أن الجهاد فقط أن يذهب الإنسان ويلقي بنفسه في المعركة, هذه صورة من مئات الصور المتصورة في الجهاد، وأقول للشباب المسلم خاصة: ينبغي أن نعيد النظر في فهمنا للجهاد, ليس الجهاد هو القتال, الجهاد أعم من ذلك بكثير, وألوان الجهاد ومجالاته كثيرة, والأمة لم يطرأ عليها جديد في واقع حياتها، فيما يتعلق بالجهاد بالمفهوم الأعم الواسع, والذي أحذر منه أن يتحول هذا المعنى العام للجهاد إلى معنىً خاص عند كثير من الشباب هو عبارة عن استجابة لثورة حماس مؤقتة، هنا أو هناك, تنتهي وتذهب أدراج الرياح.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر