الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فهذا الحديث السابع والثلاثون في فضل الله ورحمته.
عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى قال: إن الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بين ذلك، فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما بهذه الحروف.
في هذا الحديث النبوي الشريف يخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن رب العزة سبحانه أنه كتب الحسنات والسيئات، و(كتب) هنا بمعنى: أعلم الملائكة كيف تكتب الحسنات والسيئات على بني آدم، وما يكون موقفهم عند عمل العبد فعلاً أو عزمه على العمل، وبين لهم الهم بالفعل والتنفيذ العملي، وعلمهم ماذا تكتب الملائكة على الإنسان في هذا كله.
فقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب الحسنات والسيئات) بمعنى: بين منهجاً للملائكة كيف تكتب إذا عمل العبد فعلاً أو عزيمةً.
وقيل: المعنى يرجع إلى القضاء والقدر، أي: أن الله قدر الحسنات والسيئات، ولكن تتمة الحديث تؤيد المعنى الأول؛ لأن الحديث يبين ماذا للعبد في عمله وماذا للعبد في عزمه على العمل فهو بيان الإحصاء، وكيفية تسجيل الملائكة على العباد أعمالهم.
فبين النبي صلى الله عليه وسلم الأقسام الأربعة وهي: الهم بالحسنة، وفعل الحسنة، والهم بالسيئة، وفعل السيئة، ويلحق بذلك ترك فعل السيئة، فهي أربعة أقسام يلحقها قسم خامس، وبدأ صلى الله عليه وسلم ببيان أمر الحسنة فقال: من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة كاملة، فإن عملها كتبت له عشر حسنات، ويضاعف الله لمن يشاء إلى سبعين ضعفاً، إلى سبعمائة ضعف، إلى إضعاف كثيرة هذا مبدئياً، ويقابل هذا قوله: من هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة كاملة؛ لأنه ترك السيئة، ولو فعلها كانت سيئة واحدة.
متى يكون العزم أو الهم مؤاخذاً عليه أو غير مؤاخذ عليه؟ وهل المضاعفة قاعدة عامة مطردة أم أن لها أحوال استثنائية فتتضاعف السيئات وتتضاعف الحسنات؟
وجاء التأكيد بكلمة: (كاملة) حتى لا يظن ظان بأنه يكتبها حسنة دون الحسنات المعتادة، بل هي حسنة بكمالها.
ويستدل العلماء على اعتبار النية والقصد، -خاصة في فعل الخير- بما جاء في الحديث: (إنما الدنيا لأربعة: رجل أعطاه الله مالاً وعلماً فهو يعرف حق الله فيه، فيؤدي حق الله، فهو في أعلى عليين، ورجل لم يعطه الله مالاً وأعطاه علماً، فقال: لو أن لي مالاً لعملت فيه من الخير والحسنات كما يعمل فلان، فهما في الأجر سواء)، فهذا شخص لم يعط مالاً ولم ينفق، ولكن لما كان حريصاً على الخير، ولم يمنعه منه إلا قلته أو عدم وجوده، كان بحسن نيته وبعزمه على الفعل مع الفاعل بالفعل متساويين في الأجر.
وقد قال صلى الله عليه وسلم في بعض الغزوات: (إن بالمدينة أقواماً ما هبطتم وادياً ولا صعدتم مرتفعاً، إلا شركوكم في الأجر، أقعدهم العذر).
إذاً: حسن القصد وحسن النية يلحق العبد -إذا لم يتم له الخير لعجز أو تقصير أو مانع- بمن فعل ونفذ الفعل مباشرة، ومن هنا ينبه العلماء على أنه ينبغي للعبد أن يحرص على نية الخير، وعلى تجديد العزم، وعلى فعل الخير دائماً، يقول ابن رجب في شرحه لهذا الحديث: جاء رجل يطوف في المسجد الحرام، ويقول: من يدلني على عمل أداوم عليه ويرضي ربي؟ فقالوا له: جدد العزم دائماً على أن تفعل الخير، فإن لك أجر الخير ما دمت ناوياً فعله.
فأي الحسنات التي تتضاعف، وأي الحسنات التي تقف عند العشر؟
يقول العلماء: المضاعفة ليس مردها للفعل من حيث هو، ولكن للفاعل ولظروف الفعل، فإذا كان الإنسان مقبلاً على العمل بنية خالصة وإقبال على الله، وراغباً في الخير، ومؤمناً بوعد الله، فهو ليس كشخص يساق إلى العمل سوقاً، فإذا وجبت الزكاة على رجل، فتلكأ فيها حتى أخذها منه الإمام، فليس كالشخص الذي يبادر، وينتقي خير ماله، ويدفع الزكاة طيبة بها نفسه، وهو يرجو فضل الله!
أيضاً: لا يستوي الشخص الذي يؤمن بجزائه على عمله، ويعلم أنه يتعامل مع الله على حد قوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا [البقرة:245]؛ والشخص الذي يخشى من الإمام، ويخاف عقابه لعدم إخراج في الزكاة، فيحاول أن يخرج الواجب فقط، فذاك شخص يريد الكمال في الأداء؛ وهذا شخص يريد أن يقف عند أدنى حد الإجزاء فهل هما سواء؟!
ليسوا سواءً، فالشخص الذي يحاول أن يقف عند أدنى حد فيما يجزئه؛ ليس كالشخص الذي يصل إلى القمة فيما يجب عليه، فالمولى سبحانه ينظر إلى قلب هذا المؤمن، وقلب هذا المؤمن، فيضاعف لمن يشاء بقدر قوة إيمان كل منهما: (إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولكن ينظر إلى قلوبكم) فبقدر الإخلاص في القلب، وبقدر الإيمان تكون زيادة الأجر عند الله سبحانه وتعالى.
فمثلاً: في الصلاة يكون الناس في صف واحد، يركعون ركوعاً واحداً، ويرفعون رفعاً واحداً، ويسجدون سجوداً واحداً، ويكون ما بين صلاة هذا وذاك كما بين المشرق والمغرب! فهل هما سواء، ليسوا سواءً.
وبعض العلماء يقول: المضاعفة تكون خاصة للصدقة في سبيل الله، وما كان من الأمور الأخرى كصدقة لفقير أو مسكين أو لقضاء حاجة فهي تضاعف إلى حد العشرة، والذي في سبيل الله هو الذي يتضاعف إلى سبعمائة، ولكن قد تضاعف صدقة المسكين في حاجة، من الحاجات أشد خطراً، وأعظم بالاً، وأشد احتياجاً عند هذا المسكين من تلك الأموال التي تذهب في سبيل الله، فالمضاعفة تكون بحسب الواقعة وبحسب الشخص.
وقالوا أيضاً: الحسنات تزداد وتتضاعف بحسب قلب صاحبها ويقينه وإيمانه، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بالحلق والتقصير للتحلل من الحج أو العمرة أنه دعا للمحلقين ثلاث مرات فقال: (اللهم ارحم المحلقين، قالوا: والمقصرين، قال: اللهم ارحم المحلقين، قالوا: والمقصرين، وفي الثالثة قال: والمقصرين) فحينما دعا صلى الله عليه وسلم بهذه الصورة، قالوا: يا رسول الله! ما بال المقصرين؟ أي: لماذا لم تترحم عليهم؟ وما بال المحلقين تخصهم بهذا الدعاء؟ قال العلماء: المحلقون ما كانوا في أي شك، وما شكوا في الأمر بالتحليق، فحلقوا شعورهم وهم موقنون كل اليقين بأن هذا هو الحق، وأن هذا هو الحكم، وأن هذا هو امتثال أمر الله ورسوله؛ لأنه أمرهم أن يحلقوا رءوسهم، ولكن المقصرين لم يطمئنوا لذلك، فكأن المقصر يقدم رجلاً ويؤخر أخرى، والمقصر مقصر في حد ذاته كما يقولون.
إذاً: ليسوا سواء، وفرق بين الذي يقبل على العلم إيماناً ويقيناً وبين الذي يدفع إليه دفعاً.
إذاً: تتضاعف الحسنة بحسب ميزان الإيمان في قلب المؤمن.
فمن المفاضلة في ساعة من الأربع والعشرين الساعة ساعة يوم الجمعة، قال عليه الصلاة والسلام: (فيه ساعة لا يوافقها عبد قائم يصلي، يسأل الله شيئاً إلا أعطاه إياه)، وهذه ساعة في يوم الجمعة، ويوم الجمعة بكامله أيضاً أفضل أيام الأسبوع، وقد حثنا صلى الله عليه وسلم على كثرة الصلاة والسلام عليه في ذلك اليوم، ووهو يوم خلق فيه آدم عليه السلام، وفيه أسكن الجنة، وفيه سرت الملائكة إليه، وفيه أهبط إلى الأرض، وفيه تاب الله عليه، وفيه تقوم الساعة، وفيه ساعة لا يصادفها عبد يسأل الله خيراً إلا أعطاه إياه.
وكذلك عرفة، قال عليه الصلاة والسلام: (خير يوم طلعت فيه الشمس يوم عرفة)، وصوم يوم عرفة يكفر سنتين، وصوم يوم عاشوراء يكفر سنة، فتلك الأيام لها فضائلها، وتتضاعف فيها الأعمال ما لا تتضاعف في غيرها.
وشهر رجب جاء عنه صلى الله عليه وسلم (أن رجلاً جاءه وسلم عليه، فرد عليه السلام وكأنه لم يبال به، فسأله: ألم تعرفني يا رسول الله؟! قال: من أنت؟! قال: أنا الرجل الذي جئتك العام الماضي وأسلمت ورجعت، قال: قد تغير حالك، وكانت صفتك كذا وكذا، فقال: منذ فارقتك ما أفطرت يوماً أي: كان مداوماً على الصيام قال: صم من كل شهر ثلاثة أيام، أو صم الإثنين والخميس، أو صم يوماً وأفطر يوماً، وصم من الأشهر الحرم وأفطر)، فالأشهر الحرم يستحب الصوم فيها، والصوم فيها أفضل من غيرها.
وكذلك العشر الأول من ذي الحجة، بين صلى الله عليه وسلم: (أنه ما عبد الله في أيام خيراً منها)، وأقسم الله بها في قوله: وَالْفَجْرِ [الفجر:1] وَلَيَالٍ عَشْرٍ [الفجر:2].
وكذلك ليلة القدر هي خير من ألف شهر، أي: من ثلاث وثمانين سنة، فهذه من الأوقات الفاضلة التي فضلها الله على غيرها، والتي تتفاضل فيها الأعمال.
ونأتي إلى الأمكنة: فهذا المسجد النبوي (صلاة فيه تعدل ألف صلاة)، وهذا لا يتعلق بالمصلي، إنما أوقعت الصلاة في مكان منحه الله فضل مضاعفة الصلاة، وجاء في حديث ضعيف مذكور في أعذب الموارد: (رمضان بالمدينة يعدل سبعين رمضان في غيرها)، لكن هذا حديث سنده ضعيف، لكن حديث (ألف صلاة) صحيح ثابت.
وإذا جئنا إلى مكة: (فصلاة في المسجد الحرام تعدل مائة ألف صلاة)، فالأمكنة تتضاعف فيها الحسنات.
الحديث فيه: (ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة)، إن قيل: كيف يهم بالسيئة وإذا لم يفعلها تكتب له حسنة، فكل الناس يهمون بالسيئات؟!
الجواب: إذا هم بالسيئة وترك فعلها، فإنا نسأل: ما موجب الترك؟ هل تركها رغبة عنها من أجل خوفه من الله، أو تركها لعارض منعه قهراً؟
يختلف العلماء في هذه النقطة فقط، فبعضهم يقول: إن هم بالسيئة ولكنه لم يفعلها لمانع قاهر له، فإنه يأثم على هذا الهم، يقولون: لأنه يوجد خاطرة وفكرة، وهمٌّ وعزيمة.
فالفكرة والخاطرة: شيء يخطر بالبال ويمر، ولا يبقى عندك، ولا تتردد الخاطرة في فكرك، فإن استقرت في قلبك فهي هَمٌ وتصميم، فإن أردت التنفيذ فهو العزم، فالعزم هو: الهم الأكيد، والهم والهمة: أخذ الأهبة للعمل.
فإذا هم الرجل بسيئة فننظر: هل أخذ في أسباب تحقيقها أم هو مجرد خواطر تجول في ذهنه؟ فإذا كان مجرد تفكير بلا عزم، والهم بالتنفيذ لم يأت بعد، فيتفق العلماء على أن مجرد الخواطر ومجرد التفكير قبل الأخذ في أسباب التنفيذ لا يؤاخذ عليها، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها، ما لم تعمل أو تتكلم) فحديث النفس خواطر لا يؤاخذ بها.
لكن إذا جالت الفكرة في فكره وذهنه ثم رسخت وأصبحت عزماً، وهم بالفعل، ولكن عرض له عارض خارج عن إرادته منعه من التنفيذ مع وجود التصميم منه، فهل يقال: تكتب له حسنة، أو تكتب عليه سيئة؟
بعض العلماء يقول: هذه لا يسلم منها؛ لأنه ما منعه من السيئة إلا شيء خارج عن إرادته، وعزمه لا زال موجوداً، فهذا العزم المؤكد على فعلها الذي لم يتراجع عنه يؤاخذ عليه، واستدلوا بحديث: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قالوا: هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه)، وهذا الذي كان حريصاً على قتل صاحبه هل موقفه مجرد الحرص ومجرد العزم أم أنه باشر أسباب القتل؟
باشرها، والتقى بخصمه، وجعلا يتضاربان ولكنه عجز، فوجد مع الهم: العزم والتصميم والأخذ في الأسباب ومباشرة السبب، ولكنه عجز، فهذا يأثم على همه هذا، ومثله كمثل شخص أراد أن يسرق، وجلس في بيته، وقال: والله! فلان بيته خالٍ، فلو كسرت القفل، ودخلت لآخذ الفلوس، ثم أشتري سيارة وأذهب إلى مكان كذا، وأخذ يبني قصوراً على الرمال في الخيال وهو في محله! وقال: ليس هذه الليلة، لكن غداً، حتى ما قال: إن شاء الله غداً أذهب وأنفذ، وبات على هذا، وجاء بالمقص الذي يقص القفل، وتركه عنده إلى يوم الغد، ولكن في الغد لم يذهب، وقال: ربما تأتي الشرطة، وربما يأتي صاحبه، وربما المسألة تصل إلى قطع اليد، فترك السرقة، ماذا تقولون في مثل هذا؟
إنه ترك السرقة مع عدم الأخذ بالأسباب، ولم يأت إلى خطوة التنفيذ، فتكتب له حسنة؛ لأنه رجع من قبل نفسه، لكن إذا ذهب بالمقص، ووضع المقص على القفل، وصار يحاول كسره، فسمع نحنحة الحارس آتياً فرمى بالمقص وهرب، فهل هذا هم بسيئة فلم يفعلها، فتكتب له حسنة؟
بل تكتب عليه سيئة واحدة فقط، وهذا من رحمة الله الواسعة، فإنه لم يكتبها سيئتين، وهذه الصورة لا يسلم منها، ولا تكتب له حسنة، والحديث يقول: (من هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة)، فهل ندخل بينه وبين رحمة الله الواسعة؟! لا، ولكن لا نترك الناس يعبثون.
إذاً: اختلف العلماء فيمن هم بالسيئة، وأعد لها كل العدة، ولم يمنعه منها إلا مانع قهري، فقيل: كيف تكون له حسنة في ذلك؟ والرسول صلى الله عليه وسلم وإن أطلق لكن مقتضيات الأحكام العامة أو مقتضيات النصوص كلها تدل على أنه يأثم، كحديث: (إنما الدنيا لأربعة...) وذكر أن أحدهم قال: لو أن لي مالاً لعملت من الخير مثلما يعمل فلان، فهما سواء في الأجر، (ورجلاً لم يعطه الله مالاً، ولم يعطه علماً)، فلم يعرف حق الله فيه، فهو في أسفل السافلين؛ لأنه صرف ماله في معصية الله، وعمل المعاصي بالفعل، والرجل الثالث: لم يعطه الله مالاً، ولم يعطه علماً، فقال: لو أن لي مثل مال فلان لعملت من الخير ومن المتعة والشهوة مثل ما يفعل فلان، فهو مثله في الإثم، فهذا ليس لديه المال، ولكن تمنى أنه لو تمكن لفعل كما فعل فلان، فلحق به في الدرك الأسفل، فهو همّ وتمنى أن يكون ولكن أعجزه قلة المال.
فإذاً: العزم المصمم الذي يجعل الشخص حريصاً على المعصية، ولم يكف عن المعصية إلا لعارض منعه قهراً؛ فهذا يأثم.
الهم همان:
1- هم مؤكد ومصمم على الفعل بعزم، ولم يمنع منه إلا العجز، كحديث: اللذين التقيا بسيفيهما، فالقاتل موجود همه وعزمه، والمقتول لا ينقص عنه في الهم والعزيمة، ولكن القاتل ظفر بالقتل، والمقتول عجز، فقبل وقوع القتل هما لا يتفاوتان في الهم والعزيمة بل هما سواء، فكل منهما حريص على قتل الآخر، فوجد الحرص والهم المؤكد من كل منهما.
2- هم بمجرد الخطرات، مثل رجل أراد أن يسرق وفكر وعمل كل التخطيط، ولكن لم يرد التنفيذ، وما عنده عزم، بل هو مجرد خاطرة في البال، فقال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، نقنع بالقليل، ونترك الذنب، فتأتي الفكرة تراوده مرة أخرى في أن يسرق دكان فلان، ثم يقول: لا، هذا مال زائل، وسيأتي ثم يذهب في طريقه، وما أتى بالحرام سيذهب في الحرام، وسأقنع بما أعطاني الله، فهذا الذي يفكر في مجرد السرقة، ولم يكن عنده التصميم والعزم الأكيد، ولم يذهب بالفعل إلى المحل الذي يريد سرقته، فله حسنة.
إذاً: الهم الذي يصحبه العزم المؤكد شيء، والهم الذي هو مجرد خاطرة في البال شيء آخر، ومن هنا يبحث العلماء في تفسير قوله تعالى في قصة نبي الله يوسف عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام مع زوجة الملك: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا [يوسف:24]، هل كان الهم من الجانبين متساوياً؟ لا والله! قالوا: إن همها كان مع سبق الإصرار والعزم المؤكد؛ لأنها كما قال الله: وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ [يوسف:23] أي: هلم، أو تهيئت لك، فعندها عزم مؤكد وتصميم سابق على ما تريد، ولكن هم يوسف هو أمر خاطر، وهمه بها ليس هو الهم الذي يؤدي إلى الفعل، فرأى برهان ربه، فهمه هو: الخاطر والغريزة الجبلية في الإنسان، لكنه قاومها ودافعها، ولم يسترسل مع خواطر نفسه مثل زوجة العزيز، فإنها لم يمنعها من تنفيذ ما كانت تريده إلا ما قاله الله: وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ [يوسف:25]، فهمها وهم يوسف مختلفان، ولذا قال الشاهد من أهلها: إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين، وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين.
يهمنا قوله في الحديث: (من هم بسيئة فلم يعملها...)، لماذا لم يعملها؟
جاء في بعض الروايات: ( إنما تركها من جرائي)، أي: تركها مخافة الله، فهذا الخوف من الله هو سبب الحسنة التي تكتب له، فكأنها توبة من جديد.
إذا قدر أنه عمل سيئة بالفعل: سرق أو زنا أو كذب فتكتب له سيئة واحدة، ولم يقل: كاملة كما نبه عليه المؤلف رحمه الله، فالحديث أكد الحسنة بأنها كاملة، حتى لا يظن أنها الحسنة رقم اثنين أو رقم ثلاثة، بل هي حسنة كاملة رقم واحد، وجاء هنا بسيئة، وما قال: سيئة كاملة؛ لأن سيئة الفعل ليست كحسنة الفعل، بل قال: (كتبها سيئة واحدة)، وكأن في كلمة (واحدة) نوع من التقليل، نعم هو لم يقل: ناقصة، لكن الفرق في اللفظ واضح، وهو يعطينا نوع تخفيف، ويشعرنا بذلك أنه جاء في بعض الآثار أن العبد إذا أذنب يقول ملك الحسنات لملك السيئات: انتظر لعله يستغفر، انتظر لعله يتوب، إذاً: هي سيئة واحدة، لكنها قابلة للمحو، وقابلة للإزالة، فقد تزول بأي مكفر من مكفرات الذنوب.
يقول العلماء: الحسنة والسيئة تتضاعف -كما أشرنا- بالزمان، وتتضاعف بالمكان، وتتضاعف بالأشخاص، فالصلاة تتضاعف في هذا المسجد النبوي الشريف، والحسنة أيضاً تتضاعف في مكة، وجاء في حديث مضاعفة السيئة في مكة، ولم يأت ذلك في المدينة، بل في مكة، قال الله تعالى: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج:25]، فقال: (ومن يرد)، وقد سئل أحمد رحمه الله: هل يحاسب العبد على همه بالمعصية؟ قال: لا، إلا بمكة، ولو كان في عدن ونوى قتل إنسان عند البيت لكتب عليه الوزر، ولو كان خارج مكة ونوى ارتكاب الإثم في مكة فإنه يضاعف له الإثم على ذلك.
ولذلك يقول العلماء: من عصى الملك في بلاطه أو على بساطه ليس كمن يعصي الملك وهو في آخر مملكته وفي آخر بلاده، ولله المثل الأعلى، فحرمة البيت عظيمة عند الله؛ وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض، فلا تحل لأحد، وإنما أحلت لي ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها إلى يوم القيامة)، ومن هنا كان لها أحكام خاصة، وقال الله: وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [آل عمران:97]، يأمن فيه الإنسان والحيوان والطير، بل حتى الشجر يأمن أن تقلعه أو تعتدي عليه؛ لأنه في حرم الله، فهو مأوى كل مسلم من مشارق الأرض ومغاربها، فإذا لم يكن الإنسان آمناً على نفسه، آمناً على ماله فكيف يؤدي حق الله؟!
قال الله: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ [التوبة:36] أي: تعظيم حرمات تلك الأشهر فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ [التوبة:36]، والأشهر الحرم هي: شهر رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ثلاثة أشهر متواليات، ورجب الفرد.
وقال الله: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [البقرة:197]، وما هي الأشهر المعلومات؟ هي: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة، فشوال انفرد بأشهر الحج، والمحرم انفرد بالأشهر الحرم، وذو القعدة وذو الحجة اشتركا في أشهر الحج والأشهر الحرم، فإذا كان شوال وذو القعدة وذو الحجة هي أشهر الحج، والمحرم من الأشهر الحرم، فالمولى سبحانه يقول: لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ [المائدة:2]، فيحرم على الناس في منازلهم، وعلى القبائل في أماكنهم، أن يحلوا شعائر الله، ولا آمين البيت الحرام الذين يبتغون فضلاً من الله.
أي: فلا تحلوا الأشهر الحرم، ولا تحلوا الشعائر، ولا القلائد، ولا آمين البيت، وهم قاصدو البيت الحرام من الحجاج والمعتمرين، فقد كان الحاج من قبل يأتي من أقصى الجزيرة أو من البحرين أو من دول الخليج متجهاً إلى مكة، ويحتاج في مجيئه إلى نحو شهر ونصف، فلو خرج من نصف شوال، وجاء إلى مكة، وأدرك عرفة، فيقضي شهراً ونصفاً في سفره وحجه، ثم إذا أراد أن يرجع فمعه بقية ذي الحجة وشهر المحرم، فيذهب الحاج الذي من أقصى الجزيرة ويرجع إلى أهله في الأشهر الحرم، وهو معصوم الدم، آمناً من تلك القبائل، فوقت الحج يتزامن مع الأشهر الحرم لتحفظ حرمة الحاج.
وفي الوقت الحاضر يأتي الحجاج من الصين، ومن موسكو، ومن واشنطن، ومن أقصى العالم، فقد يصل في عشر ساعات بالطيران، فيأتي ويرجع في الأشهر الحرم، وإذا وصل إلى مكة فهو في الأشهر الحرم، وفي البلد الحرام، فحينئذٍ يؤدي حجه آمناً مطمئناً، قد أمنه المولى، ومن اعترض الحاج، ومن أزعج الحاج أو أزعجه أو أقلقه أو أخافه؛ فهو محارب لله؛ لأن الله أمنه، فيأتي هذا ويخفر ذمة الله.
الله يقول: يا عبادي! هلم إلى بيتي آمنين، بيتي أعددته لكم ومن دخله كان آمناً، ثم يأتي هذا ويتعدى على من أمنهم الله! وهم في غفلة عن هذا، فكل من أهاج حاجاً، وكل من آذى مسلماً جاء للحج، وكل من أخاف إنساناً في حرم الله، فقد توعده الله بالعذاب الأليم.
لو أن إنساناً دخل بيتك، ثم جاء إنسان وفتح الباب واعتدى عليه، فقد اعتدى على صاحب البيت أيضاً، فالمولى سبحانه جعل الحرم آمناً، وجعله عتيقاً من الجبابرة، وأمن هواءه وأرضه وسماءه، ثم يأتي إنسان فيستهين بتلك الحرمة، ويعتدي على حرم المولى لعباده الذي جعله آمناً فوالله إنه لإجرام كبير، ولا يؤمن على هذا المعتدي مكر الله.
قالوا: من هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة، إلا إذا كان في مكة، فإنه يؤاخذ على هذا الهم، فإن عملها ضوعفت عليه السيئة، قال مجاهد وهو ممن أخذ عن ابن عباس : الحسنة تتضاعف في مكة والسيئة كذلك، ومن هنا لما أمر أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه ابن عباس أن يقيم للناس الحج، أي: يكون مفتياً للحجاج، قال: لا أستطيع أن أسكن بلداً تتضاعف فيه السيئة كما تتضاعف فيه الحسنة، ولكن أسكن الطائف، وإذا جاء وقت الحج نزلت إلى مكة مدة الحج، فسمح له بذلك، ثم توفي ابن عباس في الطائف لهذا السبب.
روى النسائي وأبو داود وأحمد رحمهم الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خصلتان لا يحافظ عليهما مسلم إلا دخل الجنة، وهما يسيرتان، وقليل من يفعلهما! إذا قال بعد كل صلاة: سبحان الله، الحمد لله، الله أكبر، عشراً عشراً، فتلك خمسون ومائة) أي: لأن كل واحدة عشر مرات، فهي ثلاثون، يقول ذلك عقب كل صلاة، فثلاثون في خمس صلوات بمائة وخمسين، قال: (وإذا أوى إلى فراشه سبح الله وحمد الله وكبره مائة مرة، فتلك خمسمائة وألفا حسنة) أي: لأن مائتان وخمسون في عشرة بـ(2500)، قال: (وهو لن يفعل سيئات بهذا العدد)، أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
وهذا الحديث والتوجيه النبوي الكريم معادلة، لتعرف كم حسناتك في اليوم وكم سيئاتك، فإذا حرصت على سبحان الله، الحمد لله، الله أكبر، عقب كل صلاة عشراً عشراً، كان مجموع ذلك مائة وخمسين؛ فمائة وخمسون في اللسان، ولكن في الميزان تكتب ألفاً وخمسمائة؛ لأن مائة وخمسين في عشرة بألف وخمسمائة، وعند النوم تقولها مائة مرة، فهي بألف، فيكون لديك ألف وخمسمائة عقب الصلوات ولديك ألف عند الإيواء إلى الفراش، فمجموع الحسنات عند الله ألفان وخمسمائة حسنة، ولن يعمل العبد إن شاء الله سيئات بقدر ذلك.
فلو عملنا هذا، فحصيلة الحسنات أكثر بلا شك، فما عمل من خير بعد ذلك فهو فضل له، وهو سيعمل خيراً غير هذا؛ فسيلقي السلام، وسيلقى أخاه بوجه طلق، وسيعاون هذا، وسيتصدق، وسيقول كلمة الحق، وكل ذلك حسنات له، ومع هذا كله يأتي إنسان يوم القيامة وسيئاته أكثر من حسناته!!
نسأل الله السلامة والعافية، ونسأل الله أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الجواب: أليست الحسنات في ذاتها أيضاً تتفاضل؟ قال الله سبحانه: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ [فصلت:34] يقول أبو حيان : (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة) فيها احتمالان:
الأول: الحسنة من حيث هي من باب الحسن، والسيئة من حيث هي من باب الإساءة لا يستويان، فهذه حسنة معروفة، وهذه سيئة قبيحة، فهما متباعدان ونقيضان.
الثاني: ولا تستوي الحسنة في ذاتها، بل يوجد حسنة رقم واحد، وحسنة رقم اثنين، وحسنة رقم عشرة، وكذلك السيئة تتفاوت، وقد أشرنا إلى تفاوت الحسنات بحسب عمل العبد، وقد قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (سبق درهم مائة ألف درهم!)، والدرهم واحد، لكنه يقول لهم: (سبق درهم مائة ألف درهم!!) فميزان العقل والمنطق والحساب والرياضيات يتساءل: كيف هذا والجنس واحد؟! فالدرهم هو الدرهم، وهذه مئات الآلاف من الدراهم، فكيف هذا العدد كله يتأخر ويسبقه درهم واحد؟!
فبين صلى الله عليه وسلم ذلك فقال: (رجل معه درهمان، فتصدق بأحدهما، ورجل عنده مال كثير فأخذ من عرض ماله مائة ألف وتصدق بها).
فانظروا هذه المقارنة، فشخص عنده درهمان فقط، فتصدق بواحد، فنسبة الصدقة من رأس المال (50%)، والباقي معه بعد الصدقة (50%)؛ لأن الباقي واحد فقط، وهذا الذي عنده مال كثير، مثلاً مليون، وجاءه مشروع من المشاريع، فمرة يبيع بيته أو يبيع أرضه فربح عشرات الملايين، وقال: هذه مائة ألف، أو مائتا ألف ريال صدقة، فلو تصدق صاحب عشرة ملايين بمائتي ألف، فالمائتا الألف من العشرة الملايين، نسبتها واحد من مائتين، فأين واحد من مائتين من خمسين في المائة؟! فهي نسبة مئوية بعيدة جداً.
ولو أن صاحب العشرة الملايين تصدق بمليون، فهي عشرة بالمائة وسيبقى له بعد ذلك تسعة ملايين، ولا يشعر بشيء خسره.
إذاً: هناك فرق كبير بين القلب الذي يسخو بنصف رأس ماله ولم يبق بيده إلا درهم واحد، والشخص الذي تصدق بشيء لم يشعر به، ويبقى عنده ما يغطي ما تصدق به عشرات المرات، فالدرهم الواحد إذا خرج من قلب نقي، وصاحبه يكثر من ذكر الله، فهو أفضل من صاحب المئات التي خرجت من قلب لا يحس بأثرها كإحساس قلب صاحب الدرهمين، ومن هنا تتفاضل الحسنات فيما بينها.
وأنت لو تصدقت لإنسان محتاج، وعنده (70%) من قدر حاجته، فأعطيته (30%) لسد حاجته، وأتيت لإنسان محتاج لـ(100%)، وأعطيته (20%) من حاجته، فهل صدقة (20%) التي أعطيتها لهذا تعادل (30%) التي كملت بها لصاحب السبعين؟ وأيهما أشد سداداً لصاحبها؟
فصاحب (70%) لا بأس بحاله، حتى لو كان صاحب (50%)، لكن هذا الذي ليس عنده شيء، فهو مسكين لاصق في الأرض كما قال الله: أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ [البلد:16]، وليس لديه شيء يحركه، فأنت حركته وأنعشته بصدقتك، فهي أفضل.
إذاً: الحسنة في ذاتها تتفاوت بحسب حاجة المحتاج، كما أنها تتفاوت بتفاوت الزمان والمكان، والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبيه محمد وآله وصحبه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر