الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
فلا زلنا عند قوله عليه الصلاة والسلام لـمعاذ : .. رأس الإسلام... وذروة سنامه الجهاد...
وإذا تأملنا في هذا الحديث النبوي الشريف وجدنا أنواع التشبيهات والاستعارات، أولها: الإسلام كالرأس للإنسان، والثاني: الصلاة كالعمود للبيت الذي يقوم عليه، والثالث: الجهاد كسنام البعير وذروة سنامه الجهاد، وبتأمل هذه التشبيهات الثلاثة نجد كل مثال في موضعه يعطي حكم موضوعه.
والبيت بعموده، فكذلك الصلاة هي عماد الدين، وقد جاء في الحديث أنه بني الإسلام على خمس، وذكر صلى الله عليه وسلم الصلاة، وبيّن في أحاديث أخرى بأن ذاك البناء لا يقوم إلا بالصلاة: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر)، واعتنى بها صلى الله عليه وسلم في تنشئة الصبيان والأطفال والناشئة فقال: (مروا أبناءكم بالصلاة لسبع سنين، واضربوهم عليها لعشر سنين، وفرقوا بينهم في المضاجع)، إلى آخر ما يتعلق بهذين المثالين.
وإذا جئنا إلى سنام البعير نجد أحوال المسلمين وموضوع الجهاد أشبه ما يكون بسنام البعير، لأن السنام هو ذروة البعير وأعلاه، وسِمَن السنام عنوان على صحة البعير وقوته وخصب مرعاه، وضعف السنام واضمحلاله يدل على ضعف البعير وقلة مرعاه.. وهكذا الأمة الإسلامية كلما قويت شوكتها سمنت ذروة سنامها، وكانت في أقوى ما تكون وأكمله. وإذا ما تضعضعت، ذاب السنام ولصق الجلد بالعظام، وهكذا ذروة السنام.
ومن ناحية أخرى نجد أن الأعمال بدون الإسلام لا قوام لها، وكذلك البيت بلا عمد لا ظل ولا إيواء، بل هو طنب مطوية أو لائطة بالأرض، أما السنام فقد يسمن ويكبر، وقد يهزل ويصغر والبعير قائم على حاله، كذلك الجهاد بالنسبة إلى الإسلام تارة فتارة، تارة يكون واجباً فرض عين، وتارة يكون مندوباً إليه، وتارة يكون فرض كفاية، فتتغير أحوال الجهاد في الأمة كما يتغير حال السنام في البعير.
والجهاد كما يقول العلماء: بذل الجهد، وهو أقصى ما يستطيعه الإنسان، تقول: فلان يجتهد في حمل الصخرة، ولا تقول يجتهد في حمل النواة، لأن النواة لا تحتاج إلى بذل جهد، تقول: أخذ الكتاب بيده، وتقول: حمل الكيس الكبير أو حمل الصخرة الثقيلة بعد جهد جهيد.
ومن هنا أخذ الاجتهاد في مسائل العلم، وهو: بذل الطاقة والجهد في البحث والتنقيب، فكذلك جهاد العدو، لأن المجاهد يبذل غاية جهده وطاقته ليتغلب على عدوه، وليس بعد الدفاع عن نفسه والظفر بعدوه من جهد، ومن هنا كان الجهاد شاقاً وثقيلاً على النفس؛ لأنه يكلفها أقصى جهدها وطاقتها.
والواقع أن القضية نسبية، والقرآن سوى بين الأمرين، قال تعالى: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً [التوبة:122]، أي: لا يمكن أن ينفروا جميعاً لأنهم يتركون الذراري، ويتركون العجائز ويتركون الأعمال والزراعة والإنتاج، فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [التوبة:122]، فندب القرآن لطائفة أن تنفر في سبيل الله، وطائفة أن تنفر في طلب العلم.
واستدل القائلون بأن طلب العلم أهم من الجهاد بأنه -أصلاً- لن يجاهد إنسان إلا بعد العلم والمعرفة، ولن يرسم طريق الجهاد الصحيح إلا العلماء، وعليه طلب العلم أولاً ثم الجهاد، وليس كل واحد منهما يعطل الآخر.
ثم أيضاً الجهاد يكون بالسنان وباللسان وبالمال وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ [الصف:10-11]، فقدم الأموال، والعادة أن التقديم له تأثير، فكيف يقدم المال على النفس، والجندي المجاهد هو الشهيد؟
والجواب: لأن الجهاد بالمال أعم وأشمل، وهو جهاد الصغير والكبير والمرأة والرجل، وكل من يملك المال يمكن أن يتبرع، وماذا يفعل الرجل بنفسه إذا لم يجد ذخيرة أو زاداً يتزود به؟ وخاصة في مثل أيامنا، حيث صارت الحرب حرب اقتصاد والغلبة غلبة إنتاج، وليست كثرة رجال وصليل سيوف، أصبحت الآن المعدات الحربية والتكتيك العسكري له تأثير عظيم، وقد كان الاعتماد سابقاً على قوة الرجال، أما اليوم فبقوة الآليات، والآليات تحتاج إلى مال لكي تشتريها.
وهكذا تقديم المال يعطي الصورة الحية لسعة مجال الجهاد الحقيقي، ثم يأتي الرجال بعد ذلك.
وميادين الجهاد عديدة، منها: قتال العدو، طلب العلم، حرب المنكرات، جهاد النفس، جهاد الهوى، كل ذلك من ميادين الجهاد، كما أن الجهاد يبحث أيضاً في آلته: الجهاد بالكلمة، الجهاد بالإنتاج، قائد القوات البريطانية في الحرب العالمية الأخيرة كان يأتي بشخصيات غير بريطانيين للجيش فعِيب عليه، فقال: الجندي الذي يعمل في الميدان يحتاج إلى سبعة جنود وراءه لتمويله، من يخبز له، ومن يطبخ له، ومن يخيط لباسه؟ ومن يقدم له عتاده؟ ومن يشغل المصانع التي تمونه بالذخيرة؟ ومن يمهد له الطريق؟ ومن يوصل له حاجاته؟ وكل أولئك جنود يعملون.
وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بقوله: (إن الله عز وجل يدخل بالسهم الواحد الجنة ثلاثة)، السهم الواحد يُرمى في سبيل الله يدخل فيه ثلاثة الجنة (صانعه، والممد به، والرامي به في سبيل الله عز وجل).
فهذا الجندي في الميدان وراءه عدة جنود، إلا أن موضوع التموين كان في صدر الإسلام كل جندي يمون نفسه، وكل جندي مدرب قبل أن يأتي الإسلام، فقد كانوا كل يوم في غارة وكل يوم في قتال، فهم مدربون بفطرهم، لحماية أنفسهم أو للبغي والغارة على غيرهم، كما قال الشاعر:
وأحياناً على بكر أخينا إذا ما لم نجد إلا أخانا
وحبذا لو دُرِست غزوة الخندق، من ناحية الأسباب والنتائج ومواقف الناس فيها، لتكون منهجاً في حالة السلم والحرب؛ لأن فيها من المبادئ العسكرية الشيء الكثير، فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الجيش تحت لواءين، لواء للمهاجرين ولواء للأنصار، وقسم الجميع عشرات، في تسلسل هرمي ينم عن عقلية عسكرية فذة.
واختلفوا في سلمان هل يكون تحت لواء المهاجرين أم تحت لواء الأنصار، المهاجرون يقولون: هو منا لأنه جاء مهاجراً من بلاد فارس، والأنصار يقولون: بل هو منا لأنه كان موجوداً حين جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيحكم الرسول صلى الله عليه وسلم في قضية النزاع، ويقول: (
أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تمـيم
أبوك من يا سلمان؟ لم يقل فلان ابن فلان، مع أن أبوه كان من سدنة بيت النار، لكن كل ذلك أُلغي، فقال: أبي الإسلام.
فحفروا الخندق بإشارة سلمان، وحينما هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة واجه تيارات فكرية مختلفة، وأزمات اقتصادية، فالمدينة محصورة بين لابتين، والإنتاج لا يكفي كل من يأتيها، وليس هناك ميادين عمل، علي رضي الله تعالى عنه يؤاجر نفسه على أن ينزع كل دلو ماء بتمرة، لكن القضية ليست قضية إنتاج واقتصاد، فبدأ صلى الله عليه وسلم بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وبين المهاجرين أنفسهم، ووجد المهاجرون قوماً يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، فآثروهم بأموالهم واتسعت صدورهم لهم وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ [الحشر:9]، والمهاجرون يتعففون عن أموالهم.
عبد الرحمن بن عوف يقول له أخوه من الأنصار: هلم أقاسمك مالي، ولي زوجتان، فانظر إلى من شئت منهما أطلقها وتعتد وأزوجك إياها. فيقول: بارك الله لك في مالك وفي زوجاتك، دلني على السوق.
لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحشر:8]، يقابلهم: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9].
يأتي القسم الثالث: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا [الحشر:10].
ومن هنا يقول الإمام مالك رحمه الله لما سأله المهدي هل للخوارج حق في الفيء؟ قال: لا، كل من يبغض سلف الأمة وأصحاب رسول الله ليس له شيء من الفيء؛ لأن الله قال: مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحشر:7-8]، يقابلهم: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا.. [الحشر:8-9].
فمن لم يقل في سلفه رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ ولم يقل وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا [الحشر:10]، فليس له في الفيء نصيب، وكل من كان في قلبه غل لصحابي واحد فليس له في الفيء نصيب.
كان هذا هو المجتمع الأول، ماذا يفعل مع اليهود وهم أصحاب وطن وأصحاب إقامة؟ كتب وثيقة عهد المسلمين وبين اليهود، واليهود ثلاث قبائل، وكل قبيلة لها حلف مع الأوس أو الخزرج.
فعالجها صلى الله عليه وسلم بتلك الوثيقة، وأصبح مرد النزاع في المدينة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وجاء في تلك الوثيقة أن على اليهود ألا يعينوا عدواً على المسلمين، وأن يدافع الجميع عن المدينة إذا داهمها عدو من الخارج، لأنها بلد الجميع.
فلما جاء الأحزاب نقضوا العهد وعزموا على قتال المسلمين مع المشركين، وبلغ الخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل رجلين فقال: اذهبا وتحسسا، فإن رأيتما حقاً فارمزا لي رمزاً، وإن كان غير ذلك فاجهرا وصرحا، والعلة في عدم تصريحهم بنقض اليهود حتى لا يقع الروع في قلوب المسلمين، فذهبا وجاءا فقالا: عظل والقارة. وفهِمها صلى الله عليه وسلم.
قال صلى الله عليه وسلم: أنت رجل فرد، يعني لو حملت السلاح ماذا تفعل، كواحد من الجماعة، ولكن ثبط عنا -الحرب الباردة- فذهب إلى يهود وكان حليفاً لهم، قال: يا معشر يهود لقد تورطتم مع أبي سفيان ، ونقضتم العهد الذي بينكم وبين محمد، وأبو سفيان جاء بقريش، وجاء بالعرب من مكة ليس له هنا عشيرة ولا أموال ولا رباع، إن وجدها له استمر، وإن وجدها عليه رجع وترككم مع الرجل ولا طاقة لكم به.. قالوا: فماذا نفعل؟ وأنت صديقنا فماذا تنصحنا؟ قال: أنصحكم أن تتثبتوا من أبي سفيان ، قالوا: بأي شيء؟ قال: اطلبوا منهم أربعين رجلاً يكونون عندكم كرهائن حتى لا يفر ويرجع ويترككم. قالوا: صدقتنا.
وذهب إلى أبي سفيان فقال: يا أبا سفيان ! إن اليهود ندموا على نقض العهد مع محمد، ولن يقاتلوه معك، وقد فكروا في مكيدة.. وسيطلبون منك أربعين رجلاً رهائن، ليقدموهم لمحمد ليضرب أعناقهم تكفيراً عن خطئهم في نقض العهد، قال: وما الرأي؟ قال الرأي إذا طلبوا منكم فلا تعطوهم. قال: صدقتنا.
ومن الغد -وكان ذلك يوم جمعة- أرسل أبو سفيان لليهود.. طال الحصار، ونريد أن نناجز الرجل، فقالوا: لا يا أبا سفيان ، تعلم أن يوم السبت لا نعمل فيه شيئاً، وتعلم ما وقع لأسلافنا في يوم السبت.
معلوم أن الله سبحانه وتعالى مسخهم قردة وخنازير كما في قوله: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [البقرة:65].
فقالوا: يوم السبت لا عمل، ومع ذلك أيضاً لن نقاتل محمداً معك حتى تقدم لنا رهائن، لئلا تتركنا وتذهب عنا ونبقى مع الرجل وحدنا، فقال أبو سفيان : صدقنا نعيم .
فقال أبو سفيان : والله ما نعطيكم رجلاً واحداً، فقالوا: صدق نعيم .
ومن الغد وقع النزاع بين الفريقين، وحصلت الفرقة بينهما.
فكلمات قليلة عملت أعظم مما قد يعمله جيش بأكمله، وكانت النهاية أن الله سبحانه وتعالى رد المشركين بغيظهم لم ينالوا خيراً، وأرسل عليهم الرياح تطفئ نارهم وتكفأ قدورهم وتهدم خيامهم.. إلى آخره.
إذاً: (ذروة سنامه الجهاد)، الجهاد يكون بالمال، وبالنفس، وبالكلمة.
وقد يكون بأكثر من هذا، ولكن كل ما يمكن أن يخطر في بالك يدخل في باب المال، تقدم المستشفيات، تقدم العلاج، تقدم السلاح، تقدم اللباس، تقدم أي شيء للغزاة في سبيل الله، يقول صلى الله عليه وسلم: (من جهز غازياً في سبيل الله فقد غزا، ومن خلف غازيا في سبيل الله بخير فقد غزا).
والمعنى صحيح ولكن ليس على هذا الأساس، حقيقة الجهاد الأكبر جهاد النفس، من حيث إنك تجاهدها في العبادات على الإخلاص في العمل، وتجاهدها على أداء الواجب من إقام الصلاة التي قال الله عنها: وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ [البقرة:45] فتحتاج إلى جهاد.
الصدقة.. يقول صلى الله عليه وسلم: (ما تصدق إنسان بدرهم حتى يفك عنه سبعين لحي جمل) .
فالشح كأنه بمثابة سبعين جملاً، يمسكون على المنفق ليردوه عن نفقته، ولا يتصدق التصدق إلا بعد انفكاك منها، ولن يكون ذلك إلا إذا كان عنده يقين وإيمان وتصديق بما سيعوضه الله من الأجر عن صدقته يوم القيامة.
ولهذا قالوا: جهاد النفس مقدم على غيره من أنواع الجهاد، وقال بعض العلماء بتقديم جهاد العلماء؛ لأن الأصل أن الشخص لن يحمل السيف بيده ويذهب إلى المعركة إلا بعد جهاد داخلي يقتنع عن طريقه بحقيقة الجهاد الخارجي، أما أن نترك الجهاد للعدو، ونعتكف ونجلس لنهذب أنفسنا ونروضها ونترك قتال العدو، فهذا لا يقوله عاقل.
والقرآن أشار إلى أمر عجيب، يرجع إلى هذه القضية ويبين أن جهاد النفس وإصلاحها هو المرتبة الأولى، لكنه لا يكون مقدماً عملياً على جهاد العدو.
أعتقد أن أكبر غزوة في الإسلام هي بدر الكبرى، مع أن صلح الحديبية كان فتحاً، لكن بدراً كانت غزوة غير متوقعة، بل كما قيل: كانت بدر بقيادة السماء.
ومن المعلوم أن كل غزوة لا بد لها من مقدمات، ولا بد لها من تهيئة، ولا بد لها من سوابق، إما أن تفرضها أنت أو تفرض عليك، وفي كلتا الحالتين تكون عالماً بظروف العدو عدداً وعدة وزماناً ومكاناً ودوافع، وبدر بخلاف هذا كله، فإنهم خرجوا لعير يأخذونها، وليس فيها إلا أربعين رجلاً، فخرجوا خفافاً: (من كان ظهره حاضراً فليركب)، وكانوا ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً، فيندبهم النبي صلى الله عليه وسلم لذلك، ليستردوا بعضاً من أموالهم التي تركوها في مكة وأخذها كفار قريش، إذاً: أخذ المسلمين للعير ليس قطع طريق كما يقول المغرضون في ذلك، بل إعادة للحق إلى أهله.
خرجوا ولكن ذهبت العير وأتى النفير، ويخبر الله عما كان يجيش في صدور الصحابة فقال: وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ [الأنفال:7]، فيأتي النفير، ويشاور النبي أصحابه، فيتفقون على النفير، ثم يأتي أرض المعركة، وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ [الأنفال:42]، وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَان مَفْعُولاً [الأنفال:44]، حتى الحِس يختلف، ترونهم قليلين، ويقللكم أيضاً في أعينهم، فكما تنظرون إليهم قلة هم ينظرون إليكم قلة، ليطمع الكل في الثاني، سبحان الله!
ويصف الموقف: : إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ [الأنفال:42]، منزل المسلمين يكون في العدوة الدنيا، هي أرض رملة تغوص فيها الأقدام، ومنزل المشركين أرض سبخة صلبة قوية، وحينما يتراءى الجمعان ينزل الله المطر من السماء، فتتماسك الرملة وتثبت عليها الأقدام، والأرض السبخة حينما يسقط عليها المطر تصير أرضاً زلقة، فالمطر ينزل فيكون لأقوام نصراً ولأقوام هزيمة، وهذا كله لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا [الأنفال:42].
إذاً: ميادين القتال عديدة، ووسائل الجهاد أيضاً متعددة، وجهاد النفس مقدم، وما انتهت معركة بدر إلا والمسلمون أسروا سبعين وقتلوا سبعين، ورجعوا بالغنائم، وقد نزلت الملائكة تقاتل معهم يقودهم جبريل.
وبعد المعركة اختلفوا في أمرين: في الأسارى والغنائم، وقد جاء فيها قوله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ [الأنفال:1]، وأول حديث عن غزوة بدر لا يتكلم عن الانتصارات ولا عن الصبر ولا عن الثبات، إنما تكلم عن الأنفال أنها لله وللرسول، وأنتم اتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم.. سبحان الله، أي: قبل أن تنتصروا على العدو لا بد أن تنتصروا على ذات بينكم، لأن الجماعة إذا لم تكن مصلحة ذات بينها ومتلاحمة كالجسد الواحد وكالبنيان، فلن تستطيع أن تنتصر على عدوها فمن لم ينتصر على داخليته، ويحسن الارتباط بينه وبين أخيه، لن يستطيع أن ينتصر على عدوه الخارجي ولا أن يصلح غيره من بعده.
إذاً: لا شك أن جهاد النفس هو المبدأ، حيث ينطلق بعد إصلاح نفسه إلى قتال العدو، ولا أقول بترك قتال الأعداء، والجلوس لترويض وتهذيب أنفسنا في المساجد أو في المعتكفات، ونترك العدو يحتل الديار، لا يقول هذا عاقل أبداً.
وجاء إليه آخر فقال: (أي العمل أفضل يا رسول الله؟ قال: إيمان بالله، قال ثم ماذا؟ قال: بر الوالدين).
وجاء آخر فقال: (أي العمل أفضل يا رسول الله؟ قال: إيمان بالله، قال ثم ماذا: الصلاة على وقتها).
سبحان الله.. سؤال واحد والإجابة مختلفة.. جهاد، بر والدين، صلاة؛ لأن كل شخص له ما يلائمه، أو أن كل زمن له جهاده، فإذا كانت المعركة مقبلة، فالأفضل أن تحمل السلاح، وإذا كان سلماً ورأيت شخصاً عاقاً أو مقصراً في حق والديه فالأفضل أن تأمره ببر والديه، وإن جدت شخصاً مقصراً عن أداء الصلوات في أوقاتها أمرته بالمحافظة على الصلاة في أول وقتها.
إذاً: المفتي طبيب يصف الدواء على حسب الحاجة، فمن كان أهلاً لحمل السلاح وجهناه للسلاح، ومن كان ذا أبوين يحتاجانه وهو مقصر في حقهما وجهناه إلى والديه، وهكذا في أمر الصلاة، بل ونقول في جميع الأمور، كل بحسب صلاحيته.
وأشرنا سابقاً إلى الشاب الذي خرج على المسلمين والرسول صلى الله عليه وسلم في مجلسه مع أصحابه، وكله نشاط وحيوية، فقال أحد الجلساء:لو كان هذا في سبيل الله -أي: لو كان هذا النشاط وهذه الطاقة توجه إلى سبيل الله- فقال صلى الله عليه وسلم: (إن كان خرج يسعى على ولده فهو في سبيل الله، وإن خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج رياء وتفاخراً فهو في سبيل الشيطان)، فالرسول صلى الله عليه وسلم يجعل الساعي ليعف نفسه أو ليكفها عن الحرام ويعول أسرته -أبويه أو زوجه أو أولاده- في سبيل الله.
إذاً: الجهاد ميادينه واسعة وكل بحسبه.
نأتي إلى الجهاد في الميدان وهو الذي يكثر فيه الكلام وينصرف إليه المعنى عند الإطلاق.
فالجهاد الذي هو دفاع عن النفس لا ينبغي لاثنين أن يختلفا في حكمه، لأن في شرعة كل كائن حي أن من هوجم يدافع، أرأيت لو جئت إلى دجاجة معها فراخها وهاجمتها ماذا تفعل معك، أتستسلم لك أم تدافع عن نفسها؟ تدافع.
فالدفاع عن النفس فرض عين حتى عند الدجاج.. إذاً: هذا القسم لا ينبغي لأحد أن يتكلم فيه.
ولهذا أجمع المسلمون على أن الجهاد قد يكون فرض عين على كل شخص، رجل، امرأة، صغير، كبير، بإذن، بدون إذن، وذلك حينما يداهم العدو بلدة وجب مدافعته على كل مستطيع من أهل تلك البلدة.
بل كما يقولون: حتى لو لم تجد المرأة سلاحاً، فلها أن تدافع ولو بغطاء القِدْر.
الدفاع عن النفس لا ينبغي لأحد أن يتكلم فيه ولا يثير فيه خلافاً، إنما الخلاف والكلام في القتال ابتداءً وطلباً، حينما يذهب المسلمون إلى الكفار في ديارهم ويقولون: الإسلام أو الجزية أو القتال.
فهذا قتال طلبي وهذا الذي شُرِع على المسلمين لكن بتدرج، يقول صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ...) الحديث، إذا القتال ابتداءً مفروض في الإسلام، ولكن حينما تكتمل لهم القوة، ويقدرون على ذلك، وقد أخذ هذا النوع في الإسلام باب التدرج، ففي مكة كان المسلمون يصبرون على التعزير، ويصبرون على العذاب، وربما يموت الشخص تحت التعذيب، ومع ذلك لم ينتصر واحد لنفسه، ولما جاء الأنصار وبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عند العقبة قالوا: يا رسول الله! ائذن لنا أن نميل على أهل الموسم بأسيافنا.
فيقول: إنا لم نؤمر بقتال بعد. لماذا لم يدعهم وتكون هذه مقدمة تخوِّف العرب؟ لأنه لم يؤمر؛ ولأن الوقت لم يحن، فإذا كان المسلمون في حالة تجمع وحالة وحدة وحالة قوة، فرض عليهم أن يذهبوا إلى الكفار ويدعوهم إلى الإسلام، فإن لم يسلموا فالجزية، فإن لم يدفعوها استعانوا بالله وقاتلوهم.
ولكن اليوم كل دولة بحدودها وسيادتها، وكل دولة لا تستطيع أن تتدخل في شئون الأخرى، ولا توجد دولة من الدول تستطيع أن تفعل ذلك وحدها، أخبروني من هي الدولة التي تستطيع أن تذهب إلى روسيا أو إلى بريطانيا أو إيطاليا أو أمريكا وتقول: أسلموا أو الجزية أو القتال؟
إذاً: القتال ابتداءً فرض على مجموعة المسلمين، وفي الوقت الحاضر إذا استطاعوا القيام بالنوع الثاني -الدفاع عن النفس ومجاهدة العدو والاحتفاظ بما بأيديهم- فذلك ظفر كبير.
أما إذا دوهمت دولة من الدول -عربية كانت أو إسلامية- واستنفر إمام تلك الدولة الشعب على قتال عدوه، وجب على الجميع أن ينفر معه، وإذا عيَّن، وقال: عندنا قتال في الجهة الفلانية ويصلح له فلان وفلان وفلان، لخبرتهم أو لمعرفتهم، فيتعين على هؤلاء أن يجيبوا، وكذلك الشخص المتطوع في الحراسة في الثغور، إذا نشبت الحرب وجب عليه أن يشارك، ولا يحق له أن يرجع.
وقضية إعلان الجهاد وإعلان الهدنة باب واسع، يقول الماوردي : على الأمة أن تجيب ولي أمرها في أربع حالات: إعلان الجهاد على العدو، وقبول الهدنة معه، ونوع المكيال والميزان، ونوع العملة التي يتعاملون بها.
فإذا أعلن ولي أمر المسلمين حرباً وجب على الأمة أن تساعده، وإذا أعلن قبول الهدنة وجب على الأمة أن تساعده، وإن كان في نظرهم غير مصيب؛ لأن النظر في هذه الأمور لا يكون إلا لولي الأمر، كما وقع في صلح الحديبية، حيث قبل صلى الله عليه وسلم شروط المشركين على مضض، ولم يقبلها عمر ، وقال له الرسول صلى الله عليه وسلم : (إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري)، أي: أسير على نور الله من الله، وبتوجيه من الله، فلا ينبغي للأفراد أن يختلفوا على ولي أمرهم إذا أعلن حرباً أو قبل هدنة، أو أنزل عملة ما، أو مكيالاً وميزاناً ما؛ لأن هذا من المصالح العامة التي هي من حق الإمام.
فأخرج صلى الله عليه وسلم لسانه وقال: (أمسك عليك هذا)، ولم يقل: أمسك عليك لسانك، بل أخرج لسانه صلى الله عليه وسلم وأشار إليه بإصبعه، ليجعله في صورة حية أمام معاذ ، مع أن معاذاً يعرف اللسان ويفهم الكلام، لكن ليبرز الموضوع عملياً، فقال معاذ : (أوإنا لمؤاخذون بما نتكلم؟)، أي: بالصغير والكبير!! قال: (ثكلتك أمك)، الثكل هو: إذهاب الأولاد حتى لم يبق إلا واحد.
ثم قال: (وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو قال على مناخرهم -شك من الراوي- إلا حصائد ألسنتهم)، وهذا تشبيه ثان، الإنسان في الحياة يزرع والحياة مزرعة، والحصاد يكون يوم القيامة، وهذا كقوله عليه الصلاة والسلام: (الدنيا سوق) ، وقوله: (كل الناس يغدو فبائع نفسه)، فتارة تكون الدنيا سوق وأنت السلعة، وتارة تكون مزرعة وأنت الزارع، ما تزرع هنا تحصده هناك.
(حصائد ألسنتهم)، لم يقل: حصاد، بل: حصائد، كأن اللسان يزرع أنواعاً، ومن زرع الشوك يجني شوكاً، ومن زرع الورد يجني ورداً وفلاً.
ومن زرع الخير يجده، ومن زرع غير ذلك يجد ما زرع؛ لا ظلم اليوم.
إذاً: الكلمة هي من أخطر ما يكون، ولا يمكن أن يوفي إنسان حصاد اللسان في لحظات، ولكن لنعلم أن أخطر حصاد اللسان الصدق والكذب، (وإن الرجل ليكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً، وإن الرجل ليصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً)، والكذاب مآله إلى النار.
يقول الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه: إبليس استحيا من أن يكون كذاباً حينما قال: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [ص:82]، ثم قال: إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [الحجر:40]. لو لم يستثن هذه لكان كذاباً لأن هناك أشخاصاً لا يغويهم، فاحترس لذلك لئلا يكون كذاباً.
وأبو سفيان وهو أشد أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يسلم، عندما مُثل بين يدي هرقل ، وقال له هرقل : إني سائلك عن هذا الرجل، ويقول لمن معه: كونوا من ورائه، فإن صدق صدقوه، وإن كذب كذبوه. ثم سأله، فلما خرج من عنده قال: ما منعني أن أكذب وأحقر من أمر محمد عنده إلا أنني خشيت أن يؤثر عني الكذب!! إلى هذا الحد.
إذاً هذا الموضوع مهم جداً، ويكفينا دلالة على ذلك ما قاله صلى الله عليه وسلم في التحذير من آفات اللسان -ومصداقاً لذلك فقد قال الشافعي : كل حديث له دليل من كتاب الله- قوله سبحانه: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18].
وأسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياكم جميعاً لما يحبه ويرضاه، ويجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ويجعلنا وإياكم من الصادقين، وأن يجنبنا وإياكم الكذب والغيبة والنميمة، وكل ما لا يرضى سبحانه وتعالى، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر