الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
فلا زلنا عند حديث معاذ ، ووصلنا إلى قوله عليه الصلاة والسلام: (الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار) ، تلك عادة الحياة ... أن الضد يقضي على الضد، فالماء ضد النار، والماء أقوى من النار.
ومن عجب أن يأتي حديث: (أن الملائكة لما وجدت خلق الجبال عظيم، قالت: يا رب هل خلقت خلقاً أعظم وأقوى من الجبال؟ قال: بلى، قالوا: ما هو؟ قال: الحديد، قالوا: هل خلقت خلقاً أقوى من الحديد؟! قال: بلى، قالوا: ما هو؟ قال: النار -النار تذيب الحديد- ، قالوا: هل خلقت خلقاً أقوى من النار؟ قال: بلى، الماء، وقالوا: هل خلقت خلقاً أقوى من الماء؟ قال: بلى، المؤمن يخفي صدقته فلا تعلم شماله ما أنفقت يمينه)، هذه قوة نفسية ومعنوية عجيبة.
فالضد يقضي على الضد، فالماء يطفئ النار، وهذا على سنن الحياة، ولكن قدرة المولى فوق هذا كله، فهو الذي أعطى النار خاصية الإحراق، ويقدر على أن يسلبها تلك الخاصية فتكون ناراً بلا إحراق.
وهذه نار النمرود، مكثوا سنين يوقدون النار ويجمعون لها، وبالمنجنيق ألقوا إبراهيم، فقال الله لها: قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69]، فسلبت خاصية الإحراق.
الماء سائل شفاف يضربه موسى بعصا صغيرة، قال الله: قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي [طه:18]، هي عصا عادية، فيضرب بها البحر فينفلق: كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [الشعراء:63]، فالذي سلب الماء سيولته هو الذي سلب النار إحراقها.
وكذلك الحال في ناقة صالح عندما خرجت من جبل أصم، وعصى موسى يلقيها في الأرض فتصير حية تسعى، ويمسكها فترجع إلى سيرتها الأولى.
فمظاهر القدرة الإلهية في هذا الكون تبين لنا أن الله فاعل مختار، يفعل ما يشاء سبحانه، وذلك حتى ينتزع من الإنسان الجحود العنيد، وليوجد عنده الإقرار بقدرة المولى سبحانه وتعالى التي لا يجحدها إلا معاند: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ [النمل:14] .
فالرسول صلى الله عليه وسلم يخبرنا بوقائع قانون الحياة: بأن الماء يطفئ النار، وهذا شيء مشاهد ملموس، وكما أشرنا سابقاً، فإن السنة والكتاب يصوران المعنويات في صورة محسوسة، فالصدقة هي شيء من الطعام أو من المال تخرجه، فيكون لهذه الصدقة تأثير على الخطيئة، وهذا الأثر أمر لا ندركه بالحس ولا بالعقل؛ لأنه ليس عندنا إمكانيات لنتصور هذا الأمر، فيحيلنا صلى الله عليه وسلم على محسوس ملموس ندركه.
لكن ما هي العلاقة بين الصدقة والخطيئة والماء والنار؟
الماء سائل شفاف بارد، والنار مادة ملتهبة محرقة ليس لها جرم.
فكذلك الخطيئة معصية، والصدقة طاعة، وكلاهما ضد الآخر، والخطيئة لها تأثير في النفس، والصدقة لها تأثير على النفس، هذه بالطمأنينة والارتياح، والخطيئة بالقلق والانزعاج، ولا تجد إنساناً يخطئ خطيئة ويطمئن أبداً.
والذي يهمنا: أن الصدقة في مقابل الخطيئة تلغيها، كما أن الماء في مقابل النار يطفئها، بأي كيفية؟ الله تعالى أعلم.
ويذكر بعض العلماء لهذا الحديث رواية عند أحمد : (الصدقة تطفئ غضب الرب)، وليس بينهما مناكرة، لأن حرارة الخطيئة من أثر غضب الرب، ولولا غضب الله سبحانه وتعالى على الخطيئة ما كان لها أثر يؤثر على الإنسان بالقلق والاضطراب، ولو كان المولى يرضاها ويحبها ما أثرت على الإنسان بشيء.
إذاً: لكونها داخلة تحت ما يغضب الله كان لها هذا التأثير، و(تطفئ غضب الرب)، أي: أثر الخطيئة التي أغضبت المولى سبحانه؛ إذاً لا منازعة ولا معارضة بين الروايتين.
وقد جاء في الترغيب في الصدقات: (اتقوا النار ولو بشق تمرة)، (كل امرئ في ظل صدقته حتى يفصل بين الناس)، ومن السبعة الذين يظلهم الله: الرجل الذي تصدق وأخفى الصدقة.
والأحاديث الواردة في هذا المعنى أكثر من أن تحصى، ويهمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر هذا الحديث وأضاف إليه الآية القرآنية، فالرسول صلى الله عليه وسلم يستدل بكتاب الله على سنة رسوله، والسنة والكتاب متلازمان، وعند الشافعي قاعدة عجيبة يقول: كل حديث لرسول الله عليه الصلاة والسلام له شاهد من كتاب الله، لكن لا يدرك ذلك كل إنسان، فهنا قرأ صلى الله عليه وسلم الآية مستدلاً بها على صلاة الرجل في جوف الليل.
وقد يقرأ النبي صلى الله عليه وسلم الآية في موقف لا يشابه ما نزلت بسببه، ويستدل بعموم اللفظ بصرف النظر عن خصوص السبب، ولذا قال الأصوليون: العبرة في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ومن ذلك حينما جاء صلى الله عليه وسلم إلى علي وفاطمة يوقظهما لصلاة الليل، فقال علي رضي الله تعالى عنه: (إنما أنفسنا بيد الله متى ما شاء أن يبعثها بعثها، فيخرج من عنده صلى الله عليه وسلم وهو ينفض ثوبه ويقول: وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا [الكهف:54] )، وهي إنما نزلت في سبب آخر، لكن أخذها صلى الله عليه وسلم بعموم لفظها واستشهد بها على قضية علي، إذاً: الآية تشمل كل جدال وقع من إنسان في أي موقع.
إذاً: الموضوع متحد، واستدلاله صلى الله عليه وسلم بالقرآن مع السنة تقوية للدليل.
ويتفق العلماء على أن أفضل وقت لأداء النوافل ما كان ليلاً، سواء كانت ذكراً عاماً أو خاصاً، أو صلاة أو تلاوة لكتاب الله، أو تفكراً في خلق السماوات والأرض امتثالاً لقوله تعالى: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:191]، وتفكرهم في ملكوت الله جعلهم يذكرون البعث والجزاء، ويخافون من النار، ويطلبون الله أن يقيهم عذاب النار.. نسأل الله أن يقينا وإياكم والمسلمين النار.
وقد أرشد الله رسوله إلى الاستعانة بقيام الليل على أداء الرسالة التي كلف بها: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا [المزمل:1-2]، ولم يكلفه قيام الليل كله حتى لا يكون في ذلك مشقة عليه، ولذا قال: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ [المزمل:2-4]، فالزيادة مردها إلى الطاقة والاستطاعة بدون تحديد، وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا [المزمل:4]، هنا يجمع المولى سبحانه في هذا التشريع بين قيام الليل بالصلاة وترتيل القرآن.
كل واحدة فيها مزايا؛ فكثرة الركعات فيها تكبير وركوع وسجود، وكل ركعة لها أجر، وأقرب ما يكون العبد إلى ربه وهو ساجد، وطول القراءة فيها إمعان وتدبر لكلام المولى سبحانه، وقد أجاب ابن عباس فقال: أنت مرتاد لنفسك، فاختر لنفسك.
والمرتاد: الراعي حينما يكون له غنم يرتاد لها مواطن الرعي، فحيثما يجد الخصب والمرعى الصالح يرتع، فكذلك المسلم هو يرعى ويسوم نفسه في مرعى وحدائق ورياض العبادة، فالعمل الذي يحبه ولا يراه شاقاً عليه فليفعله فأحياناً يرغب في القراءة، ويكون ذهنه حاضراً فيها، والله سبحانه وتعالى يشرح صدره، ولعله لو قرأ آية وأمعن فيها أن يفتح الله عليه بسببها ما لا يعلمه إلا الله، وأحياناً يكون ذهنه مشغولاً، أو فكره مشوشاً، وربما أن الحركة تكون أنسب له، في إذهاب ما يشغله، فأي الحالتين قدر عليها وسهلت عليه فهي الأولى بالفعل.
وهنا الله سبحانه وتعالى يجمع لرسوله قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا [المزمل:2-4]، يهمنا في قيام الليل ترتيل القرآن قليلاً كان أو كثيراً.
وقد جاء عن عثمان رضي الله عنه أنه كان يقرأ القرآن في ليلة، وقد ذكرنا بعض حالات من السلف، كان الواحد يقرأ القرآن في ليلة، فبدأ يتأمل حتى آل أمره إلى أن يقوم الليل كله بسورة الفاتحة، يتدبرها ويتأملها ويراجعها.
وقال الله عن جوف الليل: إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا [المزمل:6]، ناشئة الليل المقصود بها، صلاة الليل، كما عليه الجمهور، ويكفي ما أشارت إليه أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها في وصف قيام النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، ولما سئل عن ذلك قال: (أفلا أكون عبداً شكوراً).
وهل الإشارة في قوله: يَدْعُونَ رَبَّهُمْ يقصد منها الدعاء بذاته، أم الصلاة التي فيها الدعاء؟
ذكر ابن كثير عند هذه الآية الكريمة أن معاذاً كان مع النبي صلى الله عليه وسلم قال: كنت مع النبي في سفر فدنوت منه فسألته.. وذكر هذا الحديث، ثم روى ابن كثير حديث: (عجب ربنا لرجلين، رجل نهض من فراشه ومن تحت لحافه ومن بين أحبته وقام يصلي لربه) فالحديثان يدلان على أن القيام المقصود منه الصلاة، وهكذا ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في حق عبد الله بن عمر : (نعم الرجل
وقد قيل لـسعيد بن المسيب رضي الله تعالى عنه: انظر إلى بني فلان، يذهبون في وقت القيلولة إلى المسجد يصلون الظهر ويحيونه إلى صلاة العصر، يذكرون الله، قال: يا ابن أخي ليست هذه بالعبادة، العبادة التأمل في كتاب الله والتدبر في معانيه واستنتاج المسائل والفقه إلى آخره، وأشرنا إلى الشافعي الذي كان يبيت ليله مستلقياً يتأمل في حديث من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلى الصبح بوضوء العشاء.
إذاً: يدعون ربهم هنا عامة، فقد يجلس إنسان يدعو ربه، أو يتأمل في ملكوت الله في سكون الليل وليس هناك ما يشوش عليه، فيستجمع حسه كله، ويوجه فكره كله إلى هذا العالم، وما يجري فيه، ويستدل بهذا المحسوس على ما غاب عنه.
يقولون في بعض السير أن الله سبحانه عتب على موسى عليه السلام في حق قارون، فعندما أمر الله الأرض أن تأخذه، فكان يغوص فيها أمام مرأى ومسمع من موسى عليه السلام، وكان ينادي موسى عليه السلام، فلم يجبه، فقال الله لموسى: يا موسى يناديك قارون في حالة الشدة فلم تجبه، لو ناداني مرة واحدة لأجبته.
سبحان الله، ماذا كان يريد المولى منه إلا أن يرجع إليه، هل المولى كان يريد من قارون أن يظل في طغيانه، أو يريده أن يرجع له ويتراجع طغيانه وكبره؟ كان يريده أن يرجع إلى العبودية، فلو آمن قارون بما جاء به موسى عليه السلام لقبله الله؟
فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44]، سبحان الله، موسى كليم الله يوحي إليه الله أن يذهب إلى فرعون الطاغية ليقول له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى، وليقول له: هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى [النازعات:18-19]، ما جاء له وقال له: يا كافر.. يا بعيد.. يا خسيس.. كما يفعل بعض الناس مع إنسان يقع في هفوة، فيقوم بالسب واللعن، لماذا يا أخي؟ ما الفرق بينك وبينه؟ الذي ابتلاه قادر على أن يتبليك أنت بأخس من هذا؟ فإذا رأيت أن الله هداك ووفقك وجنبك هذا الخطأ، ورأيت أخا لك في الله، زلت به قدمه وتورط في خطيئة، فلا تزده ورطة إلى ورطته، بل مد له يدك لتنقذه.
الرسول صلى الله عليه وسلم لما جيء برجل قد شرب الخمر جلده، فتكلم رجل عليه بكلمة، فقال له عليه الصلاة والسلام: (لا تعن الشيطان على أخيك عليه) أي: أنك أنت إذا سببته فر منك، وإذا فر منك ذهب إلى الشيطان، كرد فعل عكسي!
وأذكر قصة هنا: رئيس المحاكم الشيخ عبد الله بن مزاحم الله يغفر له، في عام (63هـ) جاء إلى المدينة مع الشيخ ابن صالح والشيخ الخيال، وكان في منطقة بدر شجرة يعظمها الناس -مثل ذات أنواط- فأرسل رجلاً من الهيئة إلى أمير بدر ليأتي إلى تلك الشجرة ويقطعها.
عمر رضي الله تعالى عنه قطع الشجرة التي وقع تحتها بيعة الرضوان؛ لأنه لما حج ونزل هناك، وجد الناس، يصلون ثم يذهبون.. فسأل: أين تذهبون؟ فقيل له: يذهبون ليصلوا تحت الشجرة التي بايع عندها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بقطعها مخافة أن يفتتن الناس بها-.
الخلاصة: ذهب مندوب الهيئة ليقطع الشجرة، فذهب ليصلي المغرب، ومن الغد سينفذ مهمته، جاء إلى المسجد لصلاة المغرب ينتظر الأذان، فيأتي رجل فلاح فصادف أن جلس بجوار هذا الشخص الذي من الهيئة، وعند الجلوس قال: يا رسول الله، فالتفت إليه مندوب الهيئة وقال له: هل أنت مشرك؟ لا تقل هذا، بل قل: يا ألله! ولا تناد غير الله، فالتفت إليه الرجل وقال: أنا مشرك، بل المشرك أنت وأبوك وجدك.
وحصل نزاع بينهما، وفضَّه الناس.
ومن الغد ذهب مع رجال الأمير إلى الشجرة وقطعوها وانتهت قصتها.
وعلى رأس السنة ذهب الشيخ عبد الله في جولة إلى منطقة بدر، وبقدر الله الفعال لما يريد يدخل ذلك المسجد وينتظر الصلاة ويأتي ذاك الرجل نفسه ويجلس بجواره ويقول: يا رسول الله، فيلتفت إليه هذا العالم الجليل، ويقول: اللهم صل وسلم وبارك عليه، صلوات الله وسلامه عليك يا رسول الله. وقال للرجل: أرى أنك تحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: إي والله أحبه بأمي وأبي.
قال: ولكن أرأيت ما تقوله أنت عند قيامك وقعودك أحب إليك أم الذي كان يقوله صلى الله عليه وسلم إذا قام أو قعد.
قال: لا والله الذي كان يقوله عليه الصلاة والسلام أحب إلي ولو كنت أعلمه ما تركته.
قال: كان يقول: يا ألله، إذا جلس وإذا قام قال: يا ألله، وفي كل شئونه يقول: يا ألله.
فالتفت إليه الرجل وقال: يعلم الله إن وجهك وجه خير، في العام الماضي جاءنا واحد وجهه وجه شر، وذكر له قصته.
ثم قام هذا الرجل من عنده، وقال له: أين أنت نازل؟ قال له: عند الأمير.
ذهب هذا الرجل لأمير قبيلته، وعرض عليه أن يستضيف هذا الرجل، فأضافه عنده، ودار بينهما هذا الحوار.
قال الشيخ لهذا الرجل: أتحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قال: عجباً والله! هل من مسلم في الدنيا لا يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهل الإيمان إلا بعد محبة رسول الله، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين)، وأخذ الرجل يبكي.
قال له: علام تبكي.
قال: أبكي على ما سفك من دماء منا ومنكم.
قال له: لماذا؟
قال: جاءنا أشخاص جهال يكفروننا لأننا نحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يعلمونا حقيقة التوحيد، فلو جاء مثلك، وقابلنا أول الأمر أمثالك، والله ما اختلفنا معكم في شيء.
أقول أيها الإخوة: إن من صلب الدعوة إلى الله -لكل من يتصدى لهذا الأمر- أن يلتزم الداعية الحكمة والرفق بالمسلمين.
هذان شخصان مع شخص واحد وفي موضوع واحد، وفي لفظ واحد، كيف كانت نتيجة كل منهما؟ الأول خصومة ومشاجرة، والثاني محبة وقبول للحق ودعوة إليه، المولى عز وجل يقول: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام:108]، أي: لا تسبوا أصنامهم فيسبوا الله، بل اتركوهم وخذوهم بالحكمة، والرسول صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى الطائف يدعو ثقيفاً، وكان موقفهم في غاية من الإساءة، حتى سلطوا عليه السفهاء، فرموه بالحجارة، حتى أدموا قدميه، ويقف ذلك الموقف العظيم فيقول: (إلى من تكلني، إلى قريب يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، غير أن رحمتك أوسع لي، أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس..) وينزل ملك الجبال يقول له: تريد أن أطبق عليهم الأخشبين يقول: (بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا).
ويدخل مكة في جوار رجل مشرك، والأصنام معلقة مثبتة في جدران الكعبة بالحديد والرصاص، ويبقيها على ما هي عليه، ويأتي وقت الهجرة، ويخرج تحت ظلال السيوف، وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ [يس:9]، ويأخذ التراب ويضعه على رءوسهم ثقة بالله، الذي ملأ قلب رسوله يقيناً عندما أُسري إلى المسجد الأقصى وعرج به إلى السماوات.
وجاء في فتح مكة، فماذا فعل؟
يدخل في رحاب الكعبة، وهو يقول: وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا [الإسراء:81]، وبالقضيب يشير إلى الأصنام فتتهاوى وتتساقط.
مع العلم أن الأصنام كانت موجودة من أول بعثته صلى الله عليه وسلم، وربما استند إلى بعضها، ولم يلتفت إليها؛ لأن الوقت ما حان ليكسرها، ولو كسر صنماً واحداً لكسروا شوكة المسلمين، ولن يقاومهم أحد.
ولما جاء الأوان كان يهدمها بإشارة -قبل أشعة ليزر- قضيب يشير به، يقول ابن كثير : ما أشار لوجه صنم إلا خر لقفاه، ولا أشار في قفا صنم إلا انكب على وجهه.
فعندما دخل مكة في جوار رجل مشرك، قد كان يستطيع أن يأمر ملك الجبال أن يطبق عليهم الأخشبين، لكن حكمة الدعوة وسياستها اقتضت غير ذلك.
وقبل الهجرة بفترة يأتي جبريل إلى النبي عليه الصلاة والسلام ومعه البراق، ويركب إلى بيت المقدس، ويعرج به إلى السماوات السبع، وإلى سدرة المنتهى، ثم كان قاب قوسين أو أدنى.. إلى آخره، ويرجع إلى مكانه.
ولما أُمِر بالهجرة، هيأ أبو بكر الرواحل، وجهِّز الزاد، وبحث عن الدليل، وكان رجلاً مشركاً - ابن أريقط - ليمشي بهم في طريق غير مسلوك، ويخرجون في الليل ويدخلون الغار.
سبحان الله.. أما كان بإمكان البراق أن يوصلهم في نصف الليل؟!
لا. لأن رحلة الإسراء والمعراج رحلة تكريم وتشريف وإيناس، فقد كانت مواساة لما لاقاه النبي عليه الصلاة والسلام من أهل الطائف وأهل قريش، فالأنبياء يستقبلونه في بيت المقدس، ويقدمونه فيصلي بهم، فهذا تعويض كبير جداً، بل عرج به إلى سدرة المنتهى، بل يتجاوز السدرة ويقف جبريل ويقول هذه نهايتي.. تقدم أنت يا محمد.
ماذا يقدر الإنسان.. إذا كان موقف.. ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى [النجم:8-18].
دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ من يستطيع أن يحدد الدنو المكاني أو المكانة، أين الذات وأين المكان وأين الزمان وأين وأين، فهذه أمور لا يقدر العقل على تصورها، وتترك إلى قدرة المولى سبحانه.
وفي الغار وأبو بكر خائف يأتي المشركون بعددهم وبسيوفهم فيقفون على فم الغار، أعينهم تقول لهم: الأثر ينتهي هنا، وعقولهم تقول لهم: لم يدخل الغار أحد، وإلا لكان قد مزق نسج العنكبوت، وكسر بيض الحمام.. ولم يعلموا أن العنكبوت والحمام من جند الله، وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر:31]، فأرسل لهم جنوده، بل أرسل أضعف جنوده احتقاراً لهم، كأنه يقول: كيدكم وجمعكم وعددكم وعدتكم لا تساوي نسج العنكبوت عند الله.
يقول الصديق للرسول صلى الله عليه وسلم: والله يا رسول الله، لو نظر أحدهم أسفل نعليه لأبصرنا.
وبكل طمأنينة، وبكل ارتياح، وبكل يقين يرد عليه: (ما ظنك باثنين الله ثالثهما)، يقول الله حاكياً عن ذلك: إذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ماذا؟ ما قال اثنين، قال: ثَانِيَ اثْنَيْنِ [التوبة:40]، حتى لا يقال: يمكن العدد ليس له مفهوم، فيمكن أن يكونوا ثلاثة أو أكثر.
إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ [التوبة:40]، والغار لا منفذ له إلا من جهة من يطلبونهما، إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40]، وهذا هو برد اليقين الذي أخذه من رحلة الإسراء والمعراج؛ لأنه رأى ملكوت الله، ورأى آيات الكون، ورأى ثمار أعمال أمته، ورأى الجنة ودخلها، ورأى قصور بعض أصحابه، رأى قصراً لـعمر بن الخطاب وفيه الجواري فأراد أن يدخل فرجع، يقول: تذكرت شدة غيرتك يا عمر ، فيبكي عمر ويقول: أو منك أغار يا رسول الله؟
فالغيب عنده أصبح حاضراً مشاهد!
نرجع إلى الحديث: الرسول صلى الله عليه وسلم لما ذكر (الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار)، وذكر الصلاة في جوف الليل، واستطرد الحديث إلى الرفق في الدعوة، وإلى ما كان منه صلى الله عليه وسلم في صبره على قومه، وترك الأمور لأوقاتها ومناسباتها، وترك الأصنام معلقة، وجاء يوم الفتح ويشير إليها بقضيب، وانتهى الأمر وقضي على دولة الشرك في النهاية، نزل إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر:1]، ونزلت: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة:3].
وبيَّن (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) ، انظر كلمة (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ)، لماذا لم يقل: يدعون الله، مع أن الدعاء يتناسب مع الله، لأن الدعاء مخ العبادة، والعبادة إفراد الله بالعبادة.
الجواب -والله أعلم- أن لفظ الربوبية أقرب إلى العطاء، وإلى جلب الخير ودفع الشر، كما في أول الفاتحة: رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:2-3]، فالربوبية أقرب إلى العطاء، والألوهية أحق بالعبادة والإفراد لله وحده.
قال: يَدْعُونَ رَبَّهُمْ لأن ربهم عودهم العطاء، إذاً: عطاء من الرب لعباده، والألوهية استحقاق للإله على عباده، فالربوبية إعطاء العباد ما يربهم، أي: يصلحهم، والألوهية: تستوجب على العباد إفراد الله بالعبادة، ولذا يقول علماء العقائد: الربوبية فيض من الله على العبد، والألوهية عمل العباد إلى الله، فهي إفرادك الله بالعبادة، فلا تعبد غيره، وهو لا إله إلا الله.
الربوبية تفيض بفضلها وخيرها على العباد، والألوهية تطلب إفراد الله بالعبادة.
هل عندك طلب في حياتك أكثر من أن تجلب لنفسك نفعاً أو تدفع عن نفسك ضراً؟ لا يوجد.
الذي يهمنا في هذا أن الشخص عندما يقوم في جوف الليل ويسأل ربه، فإنه إما أن يقول: أعطني أو اكفني: أعطني دنيا.. أعطني ديناً.. أعطني ولداً.. أعطني صحة.. أعطني رضاك.. أعطني الجنة.. أو: اكفني شر نفسي.. شر الشيطان.. شر المعصية.. شر خلقك.. شر كل ما تعلم أنه شر يا ألله.
ولذا من الآثار: أسألك من خير ما سألك منه نبيك صلى الله عليه وسلم.. وما علمت منه وما لم أعلم.. وأستعيذك من شر ما استعاذك منه نبيك صلى الله عليه وسلم، ما علمت منه وما لم أعلم.
إذاً يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا بأن يكفيهم ما يخافونه، وأشد ما يخافه الإنسان هو النار.
وَطَمَعًا أعظم ما يطمع فيه العبد هو الجنة والنظر إلى وجه الله الكريم.
ولذلك لما أنشد النابغة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم:
بلغنا السماء مجدنا وجدودنا وإنا لنرجو فوق ذلك مظهراً
قال: إلى اين يا أبا فلان، قال: إلى الجنة، قال: إن شاء الله،
وقصة ربيعة بن كعب مع الرسول عليه الصلاة والسلام عندما قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (يا
وجاء عن الحجاج لما حضرته الوفاة، فعاده بعض من يتشفى به، فلما خلا بنفسه قال: يا ألله، كل الناس يسيئون الظن بي، وأنا أحسن الظن بك يا ألله.
إذاً: يدعون ربهم خوفاً وطمعاً، أي: منهم من يدعو ربه خوفاً، ومنهم من يدعو ربه طمعاً، بل إن الإنسان في ذاته يكون ساعة في خوف وضيق وحرج، فيسأل الله الفرج، كالثلاثة الذين انطبق عليهم الغار فدعوا ربهم لينجيهم.
وكذلك إذا كان في سعة من العيش، وإذا كان بعيداً عن الضيق، فإنه يسأل الله ربه العافية، ويسأل ربه طمعاً في الخيرات.
إذاً: (خَوْفًا وَطَمَعًا) تدور عليها مطامع العقلاء، وتتوزع عليهما أحوال الداعين، سواءً كانوا في مقتبل العمر أو في منتهاه، أو كانوا في ضيق أو في سعة، والآية جمعت بهذين اللفظين اللذين عليهما مدار السؤال كله أينما كان، وكيفما يكون.
وصلى الله وسلم على نبيه محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر