الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين؛ سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصبحه أجمعين.
أما بعد:
فقد قال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه سبحانه وتعالى : (يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نسه ). هذا آخر الحديث، يبين لكم أن المسألة راجعة لكم أنتم.
فهنا قال أخرى: (يا عبادي!) يناديهم شفقة بهم ورحمة، لا لمصلحة يُحصلها منهم، وأي مصلحة عندهم؟!
فالعبد صنعه وخلقه، طعامه من عنده، وكسوته من عنده، وهدايته ورزقه من عنده، وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا [هود:6] وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:56-58] خزائنه ملأى على ما سيأتي إن شاء الله.
ينبه القاضي عياض وغيره من علماء التربية والتوجيه هنا إلى شيء مهم، وهو من نفائس الكلمات، لماذا قال: (لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم)، قالوا: لأن وحدة القلب في التقى أشمل وأجمع وأعم.
وبعض العلماء يقول: من هو هذا الرجل الذي يكونون على أتقى ما يكون على قلبه وحده؟ بعضهم يقول: النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي المقابل: (على أفجر قلب رجل) قالوا: هو الشيطان، وأنه فرد من الجن؛ لأنه قال: (وإنسكم وجنكم) ومن باب المجانسة فرد من الجن يعتبر كرجل، والله تعالى أعلم بذلك.
إذاً: الطاعة لا تزيد في ملكه سبحانه، والمعصية لا تُنقص من ملكه.
ثم قال سبحانه وتعالى: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني) كلٌ بأمانيه: (فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المحيط إذا أُدخل البحر)، هذه الصورة يقول فيها القاضي عياض : لماذا هذه الصورة التي تجمع الخلائق كلها؟ لماذا لم يُعط كل واحد مسألته على حده وانفراده؛ بل قال:(لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد)؟
الصعيد: الأرض المنبسطة، أي: لو أن الخلائق كلها من الإنس والجن فعلوا ذلك ما ضرني فعلهم.
ولما جاء مال البحرين وجاء الجني في صورة إنسان يسرق قبض عليه أبو هريرة ، ولما اعترض الجني لرسول الله وهو يصلي بالليل، همّ أن يمسكه، ثم تذكر قول نبي الله سليمان: وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي [ص:35]، يقول صلى الله عليه وسلم: (لولا دعوة أخي سليمان لأمسكت به إلى الصباح حتى ترونه ويلعب به صبيانكم)>
فإنكار الجن إنكار للواقع ومكابرة له، ولا أريد أن أخرج بكم عن الموضوع، ولكن كان شخص يسكن معنا هنا في المدينة اسمه محمود جاوي كان إذا قرأ القرآن تحتاج أن تصغي إليه لتسمع منه، وكان لا يرفع صوته، ولكن لو قرأ شهراً كاملاً لم تنصرف عنه، فقد كانت قراءته هبة من الله سبحانه، فجاءني يوماً مذعوراً، فقلت: ماذا دهاك يا محمود؟
قال: لا أستطيع أن أخبرك، قلت: لماذا تأتيني إذاً؟ قال: وقع أمس أمر عجيب، وقبل أمس، وقبل أمس، منذ أسبوع إلى الآن وأنا نائم، فإذا بي أسمع باب الغرفة يفتح، فنهضت إلى الباب قال: يا محمود خليك، قال: نهضت إلى السراج طبعاً ولم يكن هناك كهرباء، أخذت الكبريت لكي أشعل الفانوس، فقال: لا تشعل النور.
قلت له: من أنت؟ قال: واحد من جيرانك هنا.
قلت: ماذا تريد؟ قال: قم واقرأ القرآن.
قال: قمت من الخوف وقرأت وأنا أرتجف، قال: أنت خائف، لا عليك.. يكفي قراءة هذه الليلة فنم، ومن الغد آتيك في الموعد.
ولما جاء كنت أقل خوفاً، فقرأت حوالي نصف ساعة، وفي الليلة الثالثة جاء على الموعد فقرأت نحواً من ساعة، وفي الليلة الرابعة كأني استأنست به، ثم جاء فقلت: إني متعب أريد النوم، فقال: قم واقرأ، ثلاث مرات، ثم قال لي: أما تستحي! إنما آتيك وأطلب منك قراءة القرآن، ولم أطلب منك عشاء وكسوة ومالاً، وإنما أطلب منك أن تقرأ القرآن، ثم تقول: أريد أن أنام، غداً ستنام في القبر طويلاً.
يقول: فانتقلت. وذكر لي المحل الذي انتقل منه، وكان يسمى (سقيفة الرصاص سابقاً).
قال: فمن الغد جاءني وأيقظني قال: عجباً يا محمود ! نحن كلانا مهاجر في المدينة، أتريد أن تخرج منها؟ أم تريد أن أتركك؟ قلت: اتركني.
وأنا لا أقول هذا استشهاداً على وجود الجن، ولكن تأكيداً للذين يستبعدون أن يكون هناك جن، والرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا: (بأنهم يهاجرون إلى المدينة كما تهاجرون أنتم)، ونهى عن قتل الحية البيضاء قبل أن تآذنها لما وقع في غزوة الخندق، حيث كانوا يحفرون الخندق، وكان رجل حديث عهد بعرس فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرجع إلى بيته، فقال: (خذ سلاحك معك إني أخاف عليك يهود ولا تحدث شيئاً)، فجاء الرجل وعندما أقبل على باب البيت فإذا عروسه الجديد واقفة على الباب، فأخذ سيفه غيرة من أن تقف على الباب هكذا، فقالت: لا تعجل، ادخل بيتك وانظر فراشك، فدخل البيت فإذا بحية على طول الفراش، فأهوى عليها بالسيف فضربها، تقول الزوجة: والله لا أدري أيهما كان أسبق موتاً، فذكر الخبر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (إنه من مهاجر الجن إلى المدينة انتقم له إخوانه، إنهم يهاجرون إليها كما تهاجرون أنتم، فإذا رأيتم شيئاً من هذه الحيات في بيوتكم فلا تقتلوها حتى تآذنوها ثلاثاً).
هذه الصورة لو مثّلنا بمثال بسيط بطلاب فصل، العدد النظامي للفصل ما بين الثلاثين إلى العشرين، فمثلاً: دخل الأستاذ فبدأ الطالب الأول وسأل سؤالاً وأجابه، والثاني.. وهكذا على الترتيب حتى انتهوا، هل هناك مشقة على الأستاذ؟ لا، ويمكن نقول إن الأستاذ متمكن من المادة فأجاب على الجميع.
لكن إذا قام كل من في الفصل وكل واحد يسأل عن مسألته، فهل يستطيع أن يجيب الجميع في تلك اللحظة؟ وهل يستطيع أن يفهم كلامهم؟ هل يستطيع أن يسعهم بصدره؟ فهنا إذا كثر السؤال اختلطت الأصوات واختلطت الأحوال، لكن المولى سبحانه لا تشتبه عليه الأصوات، ولا تختلف عنده اللغات، ولا يتكاثر عليه السؤال، فيجتمع الأولون والآخرون من إنس وجن في صعيد واحد وكلٌ يطلب مسألته فيعطيه في الحال، أي قدرة هذه؟!
تأمل هذا بعقلك وتصوره، ألم نشهد جزئية صغيرة من هذه كل سنة في الحج، ألم يجتمع الحجاج في عرفات، وكلٌ يرفع يديه إلى الله، ويدعوه بلغته، فأنت بجانب شخص لا تفهم لغته، والآخر بجانبك لا يفهم لغتك، لكن هل اختلفت على الله؟ ندخل في الصف عربي وعجمي وهندي وطويل وقصير، كل إنسان يقول: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، ثم يسجد ويدعو بلغته، وكل واحد له حاجته ومسألته.
فكما يقولون: كثرة الناس تُدهش، وكذلك كثرة المسألة، فلو جاء ألف شخص لأكبر إنسان عنده خزائن الدنيا وطلبوا أن يسعفهم في يوم واحد -لا نقول في لحظة- فإنه لن يقدر أن يصرفهم، مجاعة مصر لما كانت في زمن العزيز ويوسف على خزائن الأرض، كان كل واحد له كيل بعير بتالعداد والنظام.
إذاً: هذه الصورة من الإعجاز، أن يقوموا في صعيد واحد من إنس وجن، السابق واللاحق، ويسألون حاجاتهم المختلفة كل على حدة وفي لحظة واحدة، ويعطي الجميع مسألته، كم يكفيهم هذا لو كان كل إنسان يطلب درهماً واحداً فقط، ماذا يكفي هذا العالم كله؟
معاوية لما جاءه أعرابي وقال: يا أمير المؤمنين! أسألك بالرحم الذي بيني وبينك إلا وصلتني، قال: من أين أنت؟ قال: من كذا، وما الذي يجمعني معك في الرحم؟ قال: يجمعني أنا وأنت آدم وحواء، قال: صدقت، والله إنها لرحم أصيلة وثابتة ولها حق، وأخذ ورقة وكتب إلى وزير بيت المال.
ففرح الأعرابي بصلة رحم أمير المؤمنين، الرحم القوية الكبيرة آدم وحواء، ولما جاء الأعرابي بيت المال فإذا به يعطيه درهماً واحداً، قال: هل تهزأ بي، أهذه صلة أمير المؤمنين لرحم آدم وحواء؟ قال: هذا الذي كتب لك، قال: دعها عندك، ثم رجع إلى معاوية : ما هذا يا معاوية ! هذه صلة رحمك بآدم وحواء بدرهم؟! قال: اصبر يا أخا العرب! والله لو أني وصلت هذه الرحم ما بقي في بيت المسلمين ولا درهم.
انظروا الأساليب! أين الأدباء والبلغاء والكتاب؟ لو قال: ما نقص شيء، لكانت الكلمة تمر هكذا على الأذن بلا تأثير، ولكن هذا الأسلوب يعطي في ذهنك صورة عملية وأنت الذي تحكم، يقول لك: أنا أُعطي، لكن ما الذي سيحصل؟
خذ إبرة واغمسها في البحر وارفعها، وانظر قدر ما نقص من البحر، فذلك هو الذي سينقص عندي، أنت بنفسك تقول؟ ليس بناقص شيئاً، وذلك وذلك كما في الآية الكريمة: كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ [الرعد:14]، لو قال لك: ليس ببالغه شيء، لما انطبعت الصورة، لكنه يصور لك صورة (كاريكاتورية) كما يقولون عنها، إنسان عطشان ويأتي على حافة بئر أو نهر ويفتح فمه ويمد كفه مبسوطة والماء بعيد في قعر البئر فهل يصله الماء؟
كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا [العنكبوت:41] : ومتى يسكن الإنسان بيت العنكبوت، كأنك تقول: لا شيء.
وهنا وقفة مع قصة الخضر مع موسى عليهما السلام، لما جاء العصفور وشرب، وقال له: ما ينقص علمي وعلمك إلا كما ينقص البحر من هذا العصفور.
في كلمة: (إذا أدخل البحر) أي البحار يريد؟ أظن أهل الجغرافيا يقولون: البحار هي المحيطات: الهندي والهادي والأطلسي والبحر الأبيض، وأظن أن البحر الميت لا يسمى بحراً ولكن بحيرة لوط، والحديث يقول: (إذا أدخلت في البحر)، فهل في نظر القرآن تلك البحار بحار متعددة أو هي بحر واحد؟ وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ [لقمان:27] .. قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي [الكهف:109].
إذاً: تسمية الجغرافيين البحار إنما هي بتسمية أماكنها التي تمر بها، وجميع بحار العالم بحر واحد، ونحن نعرف هذا، فكلها متصلة لا يوجد حاجز بينها، وكما يقولون: ربع الأرض يابس وثلاثة الأرباع مياه، إذاً: في البحر يعني في بحار الدنيا التي تسمونها كذا وكذا.
والجواب أنه لم ينقص شيء، وهنا يقول العلماء: إن المولى سبحانه خزائنه ملأى، وفي بعض العطاء كلام إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82].
وهذه زلة اعتزالية، يريدون بها أن ينفوا عن المولى سبحانه قوله: (كُنْ)، بل المولى سبحانه له صفة الكلام وهي صفة قديمة أزلية، أزلية الصفة متجددة الحدوث، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق) ؛ لأنه بكلماته يأمر هذا فيتسلط على هذا، وينهى ذاك فيكف عن إيذاء ذاك، وكذلك في الحديث: (إذا كان ثلث الليل الأخير ينزل ربنا إلى سماء الدنيا فيقول)، هل يقول بالإرادة أو يقول كما قال سبحانه؟
نقول: كما قال الله، كيف يقول؟ كيف يتكلم؟ هذا ليس لك ولا يحق لك أن تتساءل عن ذلك؛ لأنك تصف الله بما وصف به نفسه على مراده وعلى حد قوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11].
الآن في الوقت الحاضر، الأمم المتسلطة هي القوية، الدولة الضعيفة الآن لا حول ولا قوة لها إلا بالله، اللغة التي تفهمها الأمم هي لغة القوة، لأنه ليس المقياس دينياً بخلاف الإسلام دين الله، ففيه العدالة، والرحمة، والرأفة، والصلة، والمساعدة، فأول نعمة من نعم الله على الأمة في هذا الحديث أنه حرم الظلم، وإذا ارتفع الظلم جاءت العدالة, وإذا وضع ميزان العدل في الحياة استقرت ووجد الأمان والطمأنينة وسعد الناس في ظلها.
حرم الظلم، ثم هدى من ضلال، ثم أطعم من جوع، ثم كسى من عري، ثم غفر ما كان من ذنب، فماذا تريدون فوق هذا؟! من الذي سيأتي بشيء آخر؟ ماذا بقي من مطالب الخلق؟
بقيت الجنة، إن شاء الله إذا جاءوا إلى الجنة وجدوا أبوابها مفتوحة.
ثم يبين غناه المطلق، وأن عطاءه فضل محض منه سبحانه، ويقول للعباد: أنتم لا تقدرون على ضري، ولن تستطيعوا نفعي، وأنا مستغن عنكم، ثم يأتي يبين غناه وسعة فضله، فكأنه يقول: التجئوا إليه واطلبوه.
ثم ختاماً لهذا العرض الكامل: دعاكم للاستغفار وأنتم مخطئون ومحتاجون للاستغفار، فالخطأ من لوازم البشر؛ لأن الإنسان ليس معصوماً، وأفراد البشر المعصومون هم الرسل لأدائهم الرسالة، ليكونوا نموذجاً كاملاً في البشر لما يمكن أن يصل إلى درجة الكمال في الإنسان، وما عدا ذلك فهم يخطئون.
فقال هنا: (أحصيها لكم)، فعل (أحصى) يتعدى باللام ويتعدى بعلى، يقول: أحصيت لك ما لك عندي، أحصيت عليك ما لي عندك، وهنا الحديث يقول: : (إنما هي أعمالكم أحصيها لكم) وهذا من فضل الله وكرمه.
لفتة كريمة في الحديث تنبه شعور المسلم إلى سعة فضل الله الكبير المتقدم: لو اجتمع أولكم آخركم، إنسكم جنكم فأعطيتكم كل شيء ما تغير عندي شيء، إذاً: من كرمه أن يحصي لنا الخير ولا يحصي لنا الشر، ولو كان يعاملنا بالشر كما يعاملنا بالخير لقال: (أحصيها لكم وعليكم)؛ لكنه لم يقل: (عليكم) ولم يقل: (لكم وعليكم) مع أن أعمالنا قسمان: عمل خير وعمل شر، وهي تحسب بالذرة فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7-8] لكن الكلام هنا في معرض المنة، ففي معرض العطاء والرحمة وإفاضة الخير قدم جانب الخير، وكأنه غطى وألغى جانب الشر.
الحديث له ذوق وإحساس، وليس مجرد قوالب وألفاظ، لكن نأخذ من غضون الكلمات والتعبير -ويكفي أنه حديث قدسي-: (إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله)، فمقابل الخير الشر، ولكنه لم يقل: (ومن وجد شراً)، وكأنه استمرار في إخفاء جانب الشر.
نرجع مرة أخرى: (إنما هي)، هي: ضمير فصل مؤنث، فهل هو مفسر لمجمل قبله، أو هو كما يقولون: ضمير القصة وضمير الشأن، فقوله: (إنما هي) أي: القصة والحالة، أو أن هناك مسبوقاً ظاهراً يرجع إليه هذا الضمير؟ الراجح أنه ضمير راجع إلى مذكور.
لما قال سبحانه: (إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني) يبقى هنا خطأ استغفار، وكل من الخطأ والاستغفار من عمل الإنسان، إذاً: (إنما هي أعمالكم) إن أخطأتم وإن استغفرتم، فإن استغفرتم فلكم المغفرة، وإذا كان الاستغفار مطلوباً كالتوبة من باب أولى.
إذاً: (إنما هي) يرجع إلى الأعمال المعروفة المطوية في قوله: (تخطئون في الليل والنهار، فاستغفروني أغفر لكم).
إذاً: (إنما هي) أي: أعمالكم، وقد صرح بها في قوله: أحصيها لكم.
(أحصيها لكم): أحصيها: أضبطها، هناك في سورة الكهف مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا [الكهف:49] أي: عدداً وضبطاً ونوعاً، وقال: وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49] هي أعمالكم فربك لا يظلم، وكذلك ما تقدم: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7-8] ، يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا [آل عمران:30]، فلا يغيب عنه شيء.
إذاً: أعمالكم، لا نريد أن نقف مع المعتزلة في إسناد العمل إلى العبد، وادعائهم أن العبد يخلق عمله، ومعارضة القضاء والقدر، بل نقول: إن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان وخلق له القدرة، وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد:10]، وجعل له اختياراً فيما يذهب إليه، وكل ما كان في الكون فلا يخرج عن إرادة الله وعلمه، وهذا موقف زلت فيه أقدام لا حاجة لنا به؛ لكن تنبيهاً لطلبة العلم عند المرور على هذه النقطة في شرح الحديث، فإن الله أضافها للعبد على سبيل الكسب.
فإذا ما استغفر وتاب بعد ذلك، فإن الله يبدل سيئاتهم حسنات، فانظروا إلى فضل الله: الحسنة تضاعف إلى عشرة أضعاف بل إلى سبعمائة ضعف والله يضاعف لمن يشاء، والسيئة واحدة.
وإن استغفر استبدلت، ومن همّ بسيئة فلم يفعلها كتبت له حسنة، كما جاء في الحديث: (الناس أمام أمور الدنيا أربعة أقسام: رجل أعطاه الله مالاً وعلماً يعرف حق الله فيه فهو في أعلى عليين) فاجتمع له الدين والدنيا، (ورجل أعطاه الله علماً ولم يعطه مالاً، فقال: لو كان لي من المال لعملت فيه مثل ما يعمل فلان -أي: في طريق الخير- فهو معه في الأجر سواء، ورجل لم يعطه الله علماً وأعطاه مالاً فلا يعرف حق الله فيه فهو في أسفل الدركات، ورجل لم يعطه الله مالاً ولا علماً قال: لو أن عندي مالاً لعملت فيه مثل ما يفعل فلان، فهو معه)، فاثنان جوزيا بالفعل واثنان بالنية، فصاحب نية الخير لحق صاحب الخير بنيته، وصاحب نية الشر لحق صاحب نية الشر بقصده وإرادته ورغبته.
يوم تشهد عليهم الأيدي والألسن والأرجل، وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ [فصلت:21]، أتنكر يا عبدي؟! ألم تفعل كذا وكذا؟ فيقول: ما فعلت، فتقول اليد: ضربت وقتلت وسرقت، وتقول اللسان: اغتبت وكذبت وقلت، وكل الأعضاء تشهد بما عملت.
وإذا كان رب العزة يقضي بالبينة، فكيف تقضي أنت يا أيها العبد بغير بينة؟ ولذلك أجمع الأئمة الأربعة وغيرهم على أن القاضي في منصة الحكم لا يقضي بعلمه، فلو مشى في الطريق ورأى زيداً يسرق بيت عمرو ومن الغد جيء بالسارق بين يديه، وجاء عمرو يقول: هذا سرق بيتي، فعليه أن يقول: أنا الآن في منصة القضاء ولابد من البينة؛ فإن جاء بشهوده قضى بمقتضى الشهود، وإن لم يأت لم يجز له أن يقضي بما علمه هو.
ولذا جاء عن عمر رضي الله تعالى عنه: ( أن رجلاً اشتكى إليه في قضية حصلت أمام عمر ، ثم بعد ذلك حصلت فيها منازعة، فجاء المدعي وقال: يا أمير المؤمنين! القضية كذا وكذا، قال: بينتك، قال: أنت تعلم، قال: إن أردتني قاضياً فائتني بشهود، وإن أردتني شاهداً فاحتكم عند غيري واستشهد بي).
فقال صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق وهو الذي لا ينطق عن الهوى، وهو الذي يبلغ من الله بأقل شيء في الصلاة، كان في نعليه أذى فجاء إليه جبريل فأخبره، فخلعه في أثناء الصلاة، ولم ينتظر حتى يكمل، وحفصة فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ [التحريم:3] .. قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ [التحريم:3]، فيقول لهما.
فكان كل منهم يقول: نزلت عن حقي لأخي ولا أريد شيئاً، فكانوا متخاصمين ثم صاروا متصالحين.
لكن هنا تنبيه للحكام والقضاة:
الإنسان حينما يقع تحت تأثير العاطفة أو يقظة الضمير يكون ذا حساسية وشفافية وزهادة، فانظر إلى هؤلاء بعد أن كانوا متشاحين ومتخاصمين لما سمعوا (قطعة من النار) تنبه الضمير، وكل كأنه يرى سعير النار ولهبها يلفح وجهه فتنحى وتباعد، لكن بعد هذا المجلس قد يرجع إلى طبيعته وتهدأ عواطفه ويبرد إحساسه ويرجع يتأسف، ولذا لا ينبغي للحاكم ولا للقاضي أن يأخذ الشخص عند تأثير العاطفة، فقال صلى الله عليه وسلم: (أما وقد قلتما ذلك؛ فارجعا واقتسما وتحريا في القسمة واستهما، وليبح كل منكما صاحبه).
انظروا إلى النقاط: (ارجعوا فاعملوا قسمة، وتحروا في القسمة، وذلك حتى لا تعود بعد أيام وشهور وسنين وتقول: يا ليتني فعلت، ضحك عليّ، فمن الآن تحريا، وبعد التحري استهما واعملا قرعة، وبعد القرعة كل واحد يقول للثاني: سامحني.
يهمنا أنه يقول: (لعل أحدكم يكون ألحن بحجته من الآخر فأقضي له على نحو ما أسمع) مع أنه لو ترك الأمر إليه واجتهد ولم يصب الحق لأتاه الوحي حالاً لأنه لا يقر على خطأ.
وهذه والله رحمة للمسلمين، فإذا كان النبي يأتيه الوحي في كل قضية، فالقضاة من بعده من أين يأتون بالوحي، فوضع منهج البينة على من ادعى واليمين على من أنكر.
وهنا: (أحصيها لكم)، وبمقتضى هذا الإحصاء أنتم تشهدون عليه، فكل إنسان يقرأ كتابه وكفى بنفسه على نفسه حسيباً، فكل إنسان يقر على نفسه، وكما يقولون: الإقرار سيد الأدلة، وانظر في آية الدين: إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ [البقرة:282] بعد ذلك: كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ [البقرة:282]، ثم: وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ [البقرة:282]، لم يقل: الذي له الحق، بل الذي يملل على الكاتب هو الذي عليه الحق؛ لأن كونه يملي على الكاتب فهو إقرار منه، فإن كان الذي عليه الحق ضعيفاً أو سفيهاً أو لا يستطيع أن يملي الكاتب فيملي وليه.
فهذا إقرار من الولي عن موليه في هذا الدين، فالإقرار سيد الأدلة.
وهنا أنت تقرأ كتابك وترى عملك بنفسك، إقامة للعدل ومقتضى تحريم الله الظلم على نفسه.
(ثم أوفيكم إياها): التوفية: الجزاء الوافي بدون نقص.
نرد على المعتزلة بسرعة، هنا: وجد خيراً فيما عمل وأحصاه الله له: هذا الخير الذي وجده العبد من عمله يوم القيامة، من جانب الله الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ [الأعراف:43] وقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ [الزمر:74]، فالحمد لله.
إذاً: الفضل كله راجع لله، وفي نهاية المطاف نحمد الله، هنا يقول بعض العلماء: سبعة من لازم عليها عاش سعيداً ومات حميداً، يقول: إذا بدأ عملاً قال: باسم الله، وإذا ختم عملاً قال: الحمد لله، وإذا رأى ما يكره قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، وإذا رأى ما يعظمه قال: لا إله إلا الله، وإذا أصيب بمصيبة قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، وإذا أذنب قال: أستغفر الله، وإذا أراد أن يفعل شيئاً قال: إن شاء الله.
ولهذا كان عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما يقول عند قوله سبحانه: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ [البقرة:186] يقول: إني لا أهتم بالإجابة فقد وعد بها الله، بقدر ما أهتم أن يوفقني للدعاء، فإذا وفقني للدعاء فقد استجاب.
إذاً: فمن وجد خيراً فليحمد الله؛ لأن الله الذي وفقه وهداه، وهذه نتيجة الهداية، إذاً: الحمد هنا راجع لله، لأنه وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات:96] فالعبد هو وعمله من الله سبحانه وتعالى.
(ومن وجد غير ذلك)، كان في المقابل: ومن وجد شراً فلا يلومن إلا نفسه، ولكن قال: (ومن وجد غير ذلك)، ومعنى (غير ذلك): الشر، ولكن كما يقول العلماء: المولى سبحانه نزه الحديث أن يصرح فيه بالشر، فكيف بك أنت تقع فيه إذا كان مجرد ذكره لا ينبغي: فمن السمو في الأدب ألا تصرح بشيء مكروه، فكيف بك أن تفعله وتنغمس فيه.
ولماذا خص النفس؟ لأن نفسه هي التي أغوته وطلبته وراودته وهواه هو الذي غلب عليه، فكما أنه أطاع نفسه في ذاك الذنب في الليل والنهار ولم يستغفر، فليرجع على تلك النفس باللوم، كما قال تعالى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ [الجاثية:23].
إذاً: فلا يلومن إلا نفسه، وكما جاء في الحديث : (والشر ليس إليك)، أي: لا ننسبه إلى الله سبحانه وتعالى تنزيهاً، ولا نحتج بالقدر على وقوعه، فإن لك الاختيار ولك كل إمكانيات الفعل وعندك الطريقان، وكما تقدم: (كل الناس يغدو؛ فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها) قالوا: إذا أصبح العبد في الصباح وغدا في النهار من بيته، وجد رايتين على باب بيته، إحدى الرايتين هي لملك من ملائكة الرحمن، والأخرى بيد شيطان، فإن خرج في ظل راية الملك فهو في طاعة الله، وقد باعها إلى الله، والعكس بالعكس.
يقول بعض العلماء: إن يحيى عليه السلام خرج يوماً فلقيه إبليس قال: أخبرني عن أصناف الناس؟ قال: أنت وإخوانك الرسل عصمهم الله منا، فاستراحوا منا واسترحنا منهم، وقسم هم في أيدينا كالكرة في يدي الصبي نلعب بهم كيف شئنا، وقد أراحونا من أنفسهم، وقسم لم نيأس منهم ولم نتركهم قال: من؟ قال: قوم نجلب عليهم ونوقعهم في المعاصي ونحملهم عليها، فإذا بالواحد ينتبه في لحظة فيستغفر الله فيغفر له، فكل الذي بنيناه يهدمه، فنرجع مرة أخرى؛ فلم نيأس منهم، ولم نطمع فيهم، ولم نسترح منهم).
إذاً: (ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)؛ لأنها هي التي حملته على تلك الطريقة وأبعدته عن منهج الله الذي يدعوه ليل نهار ليستغفر فيغفر له.
وهكذا أيها الإخوة! في هذا الحديث بدأ سبحانه وتعالى بالتحذير عن أعظم ذنب أو أخطر مسلك وهو الظلم، وانتهى بالتحذير والتهديد بأن كل ما عملته يحصى وتلقى الله سبحانه وتعالى على ما قدمت، إلا أن هناك جوانب يذكرها العلماء: بأن هذا الإحصاء أكثر ما يكون للخير، ولذلك قال: (أحصيها لكم) لأن ما كان عليكم قد يمحى فلا يكون موجوداً يوم القيامة، بخلاف الخير فإنه باق محفوظ كله.
وهناك تكون المقاصة بالأعمال والحسنات والسيئات على ما يأتي بالحديث الذي بعد هذا، وحديث البطاقة الذي بيّن صلى الله عليه وسلم فيه سعة فضل الله تبارك وتعالى على العبد، وهو حديث الرجل الذي جيء به وله سجلات من السيئات قد رجحت بكفة ميزانه وأيقن في نفسه أنه هالك، فقال الله سبحانه: (أنظروا عبدي، فإن لك عندنا أمانة، فيؤتى ببطاقة، يقول: هذه أمانتك عندنا، فيقول: رب وما تفعل تلك البطاقة بتلك السجلات).
وماذا في تلك البطاقة؟ فإذا فيها (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، فتوضع في كفة الحسنات فتثقل بها وتطيش كفة السيئات، فهذه مما أحصاه الله للعبد، وقد لا يدركه، ولكن كما يقول العلماء: في حديث: (من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة) ، والأحاديث التي تقيد هذا: (إلا بحقها) وحقها: العمل بأركان الإسلام، أو امتثال الأوامر واجتناب النواهي.
والله أسأل أن يعاملنا بلطفه وإحسانه وفضله، إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وبالله تعالى التوفيق.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر