الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد:
إن هذا الحديث النبوي الشريف بهذا السياق والنسق الجميل، يعطينا منهجاً متكاملاً في توجيه الأمة إلى ما فيه سعادتها في الدنيا والآخرة، وهو في كماله كحديث جبريل عليه السلام (حينما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صورة رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يعرفه أحد من الحاضرين، فجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع يديه على فخذيه -وهذه جلسة المتأدب المتعلم-، وقال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام؟ فأخبره صلى الله عليه وسلم عن أركانه، ثم قال: أخبرني عن الإيمان ؟ فأخبره صلى الله عليه وسلم عن أركانه، ثم قال: أخبرني عن الإحسان؟ فأخبره به، وكلما أخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: صدقت. يقول ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ردوا علي الرجل، فلم يجدوه، فقال: هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم
وهذا الحديث الذي معنا عن أبي مالك الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم يبين لنا آثار تلك الأركان في ذاك الحديث، من الشهادتين، والصلاة، والصيام، والزكاة، وهنا يبين لنا صلى الله عليه وسلم آثار الطهارة وذكر الله: (الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملأان أو تملأ ما بين السماء والأرض)، وسبحان الله والحمد لله هما مؤدى لا إله إلا الله؛ لأنهما إثبات صفات الجلال والكمال لله، وفيهما نفي وتنزيه المولى سبحانه من صفات النقص، ثم قال بعد ذلك: (والصلاة نور)، وفي ذاك الحديث ذكر أركان الإسلام، الشهادتين ثم الصلاة، فيبين هذا الحديث آثار ذاك الحديث الأول، وتقدم الكلام عن قوله: (الصلاة نور، والصدقة برهان)، وهي أعم من الزكاة، وكذا قوله: (والصبر ضياء)، وهذه هي أركان الإسلام التي جاءت في حديث جبريل، ولم يبق منها إلا الحج، والحج مستقل بذاته: لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ [الحج:28]، بل إن الحج يجمع جميع أركان الإسلام في مناسكه، فالشهادتان: لبيك لا شريك لك، والصلاة: يلزم أن تصلي ركعتين بعد الطواف، والزكاة: أنت تنفق المال من أول ما تخرج من بيتك إلى أن ترجع، والصوم: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ [البقرة:196] .
إذاً: الحج هو العمل الإجمالي أو التطبيقي العملي لأركان الإسلام كلها.
تقدم معنا الكلام بإيجاز عما جاء في أوائل هذا الحديث، إلى قوله صلى الله عليه وسلم: (والقرآن حجة لك أو عليك).
وكلمة الناس من: ناس ينوس، أي: تحرك، وسمي الناس ناساً لأنهم يتحركون، والنواس الحركة والصوت.
(يغدو). أي: يصبح مبكراً من الغدوة؛ لأن الغدو أول النهار وآخره العشي: بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ [الأعراف:205]، كل شخص يغدو من الصباح مبكراً.
(فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها): إذا جئنا إلى هذه الجملة الختامية من هذا الحديث نجده يجعل الإنسان سلعة في سوق الحياة، وتأتي هذه الجملة بعد حجية القرآن، ولو أردنا أن نقف على معناها، فلنرجع إلى أول المصحف لنرى كم قسم المولى سبحانه الناس، فبعد ذكر المسألة العظيمة في سورة الفاتحة: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، والرفقة الكريمة: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7]، والابتعاد عن طريق الكافرين: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7]، نجد أن الناس -كما في أوائل سورة البقرة- ثلاثة أقسام، فهو حجة لقسم، وحجة على قسمين، وبيان ذلك على النحو الآتي:
والوصل والفصل أسلوب بلاغي، وعدم العطف يدل على أن الثاني عين الأول، قال تعالى: هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [البقرة:2-3].
وهذا يوافق ما في الحديث: (الصلاة نور، والصدقة برهان).. وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [البقرة:4]، جاءت أركان الإسلام وأركان الإيمان، فالإيمان بالغيب يقتضي الإيمان بكل ما جاء عن الله في كتاب الله أو أخبر به رسول الله في سنته.
فهم يؤمنون بالغيب (يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ)، وقال الله تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ [البقرة:285]، أما غير المسلم فيقف إيمانه عند مرحلة معينة، فاليهود يقفون عند رسالة موسى عليه السلام ويجحدون عيسى، والنصارى يقفون عند رسالة عيسى ويجحدون رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، أما المسلم فيؤمن بكل رسالات الله: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران:7].
وقوله: يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [البقرة:4]؛ لأن اليقين باليوم الآخر منطلق كل خير، وهو رادع عن كل شر؛ لأنه إذا أيقن بيوم فيه حساب وجزاء وعقاب فإنه يحسب لكل خطوة حسابها، وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ [الأنبياء:47]، فهو يعلم بأن هناك موازين توضع، فيقيس أعماله، ويزن خطواته؛ لأن أعماله موزونة وليست مهملة، فهؤلاء هم القسم الأول، والقرآن هدى لهم، وإذا كان هدىً لهم فيكون شاهداً لهم وحجة لهم.
إذاً: القرآن يكون حجة للمتقين: ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة:2-5]، جعلنا الله وإياكم منهم.
قال: (وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ)، أي: لا يبصرون آيات الله الكونية، ولا يعتبرون بما وقع في الأمم السابقة، ولا يتعظون ولا يتذكرون بما في الكون من آيات الله وقدرته التي تدعو إلى الإيمان.
وفي أول الفاتحة يقول الله: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، والرب هو الموجد المصلح المدبر، وانظر إلى هذا النظام البديع المتقن في الأرض: من نبات، وحيوانات، وفي السماء: من كواكب وأفلاك تجري بحساب دقيق: لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس:40]،إذا نظرت إليها تأملت وتفكرت: من الذي يدبرها ويسير أمرها ويحفظ نظامها؟ إنه الله.
الحيتان في البحار والأنهار تتواجد وتتكاثر، والطيور تتواجد ويتكاثر، والوحوش في الفلوات تتواجد وتتكاثر، والبشر في القرى والمدن والبوادي يتواجدون وتتكاثرون، ومن الذي يدبر ذلك كله؟! إنه الله سبحانه.
ولذا فإن الله سبحانه وتعالى لما أراد أن يلزم ويفحم الجاحدين لربوبيته، ألزمهم بقاعدة منطقية إلزامية، يقول سبحانه: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ [الطور:35-36].
فالمؤمن يؤقن باليوم الآخر، وهؤلاء لا يوقنون، ونقف مع هؤلاء على سبيل النقاش فنقول لهم: أيها الخلق الذين يجحدون ربوبية الله! أخبرونا عن أنفسكم، وانظروا في ذواتكم وأشخاصكم، أخلقتم من غير شيء؟! و(شيء) هنا يرجع إلى أمرين: إما أنهم خلقوا من غير مادة، أو خلقوا من مادة، فهم يقرون بأنهم خلقوا من مادة المني، فمن الذي خلق المادة التي أنتم جئتم منها؟
وقيل في قوله تعالى: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ) أي: من غير خالق. وهذا هو الأرجح، بدليل المقابلة في قوله: (أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ)، وبالسبر والتقسيم نقول: أنت موجود مخلوق، ووجودك في الدنيا لا يخلو من أحد أمور ثلاثة: خلقت بلا خالق، خلقت نفسك، خلقك خالق قادر، وأي هذه الأمور الثلاثة صحيح؟ وأيها باطل؟ هل خلقت من غير شيء؟ لا، فالعدم لا يعطي وجوداً، والوجود لا يتأتى من عدم؛ لأن العدم لا شيء: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [الطور:35]، وإن قلت: أنا خالق نفسي، فنقول لك: قبل أن توجد كنت في العدم، فمن الذي أوجدك في الوجود لتخلق نفسك؟ فيبطل ادعاؤه أنه خلق نفسه.
ولم يبق أمام العقل إلا أن يؤمن بوجود خالق خلقه، وهذا هو -كما يقول علماء الكلام- دليل الإلزام.
نرجع إلى أقسام الناس في القرآن، وقد ذكرنا القسم الأول وهم المتقون أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة:5].
وذكرنا القسم الثاني وهم الكفار، وسبب عدم إيمانهم أنهم لا يوقنون، وكانت النتيجة أن ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم، وفي الحديث: (إن العبد ليذنب الذنب فينكت على قلبه نكتة سوداء، ثم يذنب الذنب فينكت على قلبه نكتة سوداء حتى يغلف بالسواد )، وبهذا يحجب عنه النور الذي بداخله المعبر عنه بقوله تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ [النور:35]، وهو نور الإيمان في قلب المؤمن، فيحجب هذا النور في قلب هذا المسلم حينما يذنب تلك الذنوب، قال صلى الله عليه وسلم: (حتى يصبح كالكوز مجخياً لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً)، وقد جاء في القرآن الكريم: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:14]، فالكافر بكفره وعدم إيمانه وتصديقه ويقينه باليوم الآخر، يختم على قلبه وعلى سمعه، وزيادة على ذلك: يجعل الله على بصره عشاوة، فلا يرى حقائق الأمور، ولا يبصر آيات الله الدالة على أنه الواحد.
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
ولكن.. خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة:7]، والقسم الأول فيهم عدة آيات تذكر صفاتهم ومعتقداتهم، بخلاف القسم الثاني قال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة:6]، ثم ذكر النتيجة وهي الختم على قلوبهم، والغشاوة على أبصارهم، وانتهى أمرهم .
قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا [البقرة:8-10]، وانظروا إلى الإعجاز: قال في حق الكفار: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ [البقرة:7]، وقال عن المنافقين: فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا [البقرة:10] فالقلب الذي عليه ختم يرجى صلاحه برفع الختم؛ لأن القلب أصله سليم، وغاية ما فيه أنه ختم عليه، فإذا أراد الله هدايته كشف عنه هذا الختم، ولكن الذي في قلبه مرض، فقد أصبح القلب بنفسه مريضاً، فيحتاج إلى علاج، والقلب المختوم لا يحتاج إلا إلى رفع الختم عنه فيشع النور بداخله، فهو أقرب إلى الخير من ذاك القلب المريض الذي يحتاج إلى معالجة؛ لأن المرض يؤدي إلى الموت، وقد يموت قلب المنافق.
ولهذا نجد المشرك في شدة عدوانه للإسلام وللرسول صلى الله عليه وسلم، وفي لحظة من اللحظات يؤمن وتشع له الحقائق وتنكشف له الأسرار فيبادر إلى الإسلام، وبقدر ما كان قاسياً شديداً على الإسلام يكون رحيماً كريماً مع المسلمين.
وأقرب مثال: إسلام عمر رضي الله تعالى عنه، فقد كان عمر آخذاً بالسيف ويسأل: أين محمد؟ فقيل له: لماذا؟ فقال: أريد أن أقتله، فقد سفه أحلامنا، وفرق جمعنا، وقال، وقال، فقيل له: على مهلك! اذهب وانظر إلى أختك وزوجها في بيتك. قال: وما في بيتي؟! قالوا: أختك وزوجها قد صبئا فرجع من الطريق إلى بيت أخته فسمع همهمة، فلما أحسوا به اختفى المقرئ، فدخل والصحيفة في يد أخته، فقال: أعطني الصحيفة، قالت: إنك رجس، وهذا كتاب الله لا يمسه إلا المطهرون، فلطمها على خدها وفي يده خاتم، فخرج الدم من وجهها، فرقّ للدم، فقال: أريني الصحيفة ولا أريك إلا خيراً، قالت: اذهب فاغتسل أولاً، ثم أعطيك الصحيفة، فذهب واغتسل، ثم قرأ الصحيفة من كتاب الله، فإذا به يتحول من عدو لدود لأصحاب رسول الله إلى مؤمن محب لهم، وقذف الله في قلبه الإيمان، وكشف عن قلبه الغطاء، وكشف الغشاوة عن بصره، وتحرك النور في قلبه، وأبصر بعينيه وبصيرته حقيقة الأمور، فخرج الرجل الذي كان مختفياً، وقال: ماذا تريد يا عمر ؟! قال: دلني على محمد، فذهب به، وطرق باب دار الأرقم بن أبي الأرقم، فقالوا: من ؟ قال: عمر ، ففزع كل من كان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ائذنوا له، إن كان جاء لخير يصيبه، وإن جاء لغير ذلك يكفيكم الله)، فأدخله اثنان والتزماه بعضديه مخافة على رسول الله، حتى جلس بين يدي رسول الله، فأمسكه صلى الله عليه وسلم بردائه وجذبه، وقال: أما آن لك أن تؤمن يا عمر؟! فإذا عمر ينطق بالشهادتين بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يقول عمر رضي الله عنه: لماذا نبقى هنا؟! لماذا لا نخرج إلى الكعبة ونطوف، ونعلن الإسلام؟ فقال المسلمون: نحن ضعفاء. فقال: لا والله! لا نستتر بعد اليوم، وخرجوا إلى الكعبة يلبون ويهللون، ويذكرون الله ويعلنون الشهادتين، قال السلف: ما زلنا أعزة منذ أن أسلم عمر .
إذاً: يقول الله في حق المشركين: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ [البقرة:7]، ويقول وفي حق المنافقين: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [البقرة:10] .
قال الله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا إلى قوله: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [البقرة:8-16]، سياق طويل ينتهي بصفقة خاسرة.
هؤلاء المنافقون اشتروا الضلالة بالهدى. اشتروا بمعنى: (استبدلوا)، قال بعض الرجاز:
اشتريت الجمة برأس أزعرا
والثنايا البيض بالدردرا كما اشترى المسلم إذ تنصرا
أي: استبدل بالإسلام النصرانية، فكذلك هؤلاء اشتروا الضلالة بالهدى، والباء تدخل على المتروك، تقول: اشتريت الكتاب بـدرهم، فالدرهم هو قيمة الكتاب، اشتريت الكتاب بثوب، كلاهما سلعة، فيكون الباء على الشيء الذي خرج من يدك، فهؤلاء كذلك: اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [البقرة:16].
يقول بعض العلماء: على بيت كل إنسان رايتان: راية في يد ملك من ملائكة الرحمان، وراية في يد شيطان وكل يدعوه إليه، فإن ذهب في ظل راية الملك فهو إلى طاعة الله، وإن ذهب في ظل راية الشيطان فهو إلى معصية، عياذاً بالله!
إذاً: الذي يبيع نفسه ويعتقها فإنه يبيعها لله، وكل عمل بر فهو طاعة لله، والصفقة الكبرى مع الله إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [التوبة:111].
إذاً: الدنيا سوق، والناس هم السلعة، والثمن الجنة.
أثامن بالنفس النفيسة ربها وليس لها في كل الخلائق ثمن
بها تشترى الآخرة فإن بعتها بشيء من الدنيا فذاك الغبن
إن أنا بعت نفسي بدنيا أصيبها فقد ذهبت نفسي وذهب الثمن
فالله هو المشتري، وهو الخالق، والرازق، والنعمة منه، فإذا بعت الصنعة لصانعها، وبعت المخلوق لخالقه، واشترى المولى نفوس عباده، وثامنهم عليها بأن لهم الجنة، فأي صفقة أربح من تلك؟ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185]، سبحان الله العظيم! يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ [الانشقاق:6]، فصاحب الجنة يكدح إليها، وصاحب النار -عياذاً بالله- يكدح إليها، مع أن الكادح إلى النار أشد شقاء ونصباً من الكادح إلى الجنة، والكادح إلى الجنة يتوضأ، ويأتي متطيباً متطهراً، ويدخل من أبواب المسجد ويجلس فيه أين شاء، ويجالس الإخوان في غاية من الهدوء والسرور والطمأنينة، أما صاحب المعصية فإنه يترقب ويتوجس ويحترس، فإن دخل بيتاً ليسرق توقع كل عوامل الهلاك، وإن ذهب إلى بيت ليقتل أو ليزني فإنه يتحرز ويتعب، بخلاف الذي يسعى إلى صدقة، أو إلى صلاة، أو حج، أو عمرة، مع أن هذا يكدح وهذا يكدح.
إذاً: ما دامت الحياة كلها كدحاً فليكن الكدح في طاعة الله، وهذا الذي يؤدي إلى الجنة، فيغدو من الصباح فيبيع نفسه لله، وأعلى صفقة للإنسان هي: الجهاد في سبيل الله؛ لأن الله ساوم الخلق عليها: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا [التوبة:111]، القتال فيه يقاتلون ويقتلون، وهذا أمر طبيعي، والجنة هي الغنيمة، وقال الله في سورة الصف: وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ [الصف:13]، فهذا هو نصر في الدنيا، والشهادة والجنة هذا هو المكسب الكبير، وبعض العلماء يقول: لو أن إنساناً أعطاك بيتاً من ذهب، وبيتاً من خزف، وقال لك: بيت الذهب تسكن فيه مؤقتاً على ما تحب، وبيت الخزف إلى الأبد، فالعاقل يبيع الذهب الفاني بالخزف الباقي، ويختار الخزف الدائم بالستر والوقاية على أن يتمتع بالذهب ثم بعدها يطرد إلى الشارع، وقالوا: من باع خزفاً باقياً بذهب فانياً فهو مجنون أحمق، فما بالك بمن يبيع الذهب الباقي بالخزف الفاني؟!
الدنيا وإن تزخرفت فهي خزف، ولا قيمة لها في الآخرة، فكيف تبيع الآخرة التي هي ذهب دائم بالدنيا التي هي خزف فانٍ؟! وفي ختام هذا الحديث يبين لنا مآل البشر جميعاً، وأن الدنيا -التي هم فيها- سوق قائمة، وهم فيها سلعة، والبيع فيها إجباري، والمشتري هو الرحمن لمن كان في طاعة الله، بأي طاعة، كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (أنه كان جالساً، فمر شابٌ قوي، فقال رجل من الجلساء: لو كان هذا الشباب والقوة في سبيل الله -يعني بذلك الجهاد-، فقال صلى الله عليه وسلم: إن كان خرج يسعى على نفسه يعفها أو على أهله ليكفيهم فهو في سبيل الله) أي: إن خرج عاملاً ليعمل في مصنعه، أو خرج زارعاً ليزرع في مزرعته، أو خرج بائعاً ليبيع في متجره، أو خرج يتسبب في طلب الرزق، ويتعفف عن سؤال الناس، فهو في سبيل الله.
ولذا قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى تعالى عنها:
(من بات كالاً من عمل يده؛ بات مغفوراً له).
وعلى هذا فمن خرج في غدوة نهاره يسعى في عمل مباح فهو في طاعة الله، وهو بائع نفسه ليعتقها.
كان بعض السلف يقول: الإنسان في الدنيا أسير، وعليه أن يعمل في فكاك نفسه، وذكر ابن رجب أن من السلف من اشترى نفسه من الله مرتين أو ثلاثاً، يزن نفسه بالفضة، ويتصدق بها، ويخرج من ماله صدقة في سبيل الله، ليعتق نفسه من النار.
إذاً: آخر هذا الحديث يبين لنا مدى حجية القرآن للعبد، ومدى حجيته عليه.
والله أسأل أن يوفقنا وإياكم جميعاً لما يحبه ويرضاه، وأن يجعلنا وإياكم من أهل القرآن، ممن يحل حلاله، ويحرم حرامه، ويؤمن بمتشابهه، ويتبع ما جاء فيه، وأن يجعلنا وإياكم ممن يكون القرآن حجة له، وأن يشفعه فينا، وأن يرزقنا وإياكم شفاعة نبينا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يوردنا حوضه، وأن يسقينا منه شربة هنيئة مريئة لا نظمأ بعدها أبداً.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد الصادق الأمين، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر