الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
عن أبي يعلى شداد بن أوس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته) رواه مسلم .
إن هذا الحديث لهو القمة في التوجيه النبوي الكريم، وفي بيان حكم ومحاسن الإسلام في كل شيء، (إن الله كتب الإحسان على كل شيء).
والمتأمل في كتاب الله يجد الثناء العاطر على أهل الإحسان، وحديث جبريل عليه السلام حينما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في أحسن صورة، وجلس أمام النبي صلى الله عليه وسلم في أكمل جلسة، وسأله عن الإسلام، والإيمان، وعن اليوم الآخر، ومما سأله عن الإحسان، وأجابه النبي صلى الله عليه وسلم أجابة شاملة فقال: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) بأي شيء؟ بكل العبادات، على أية حالة؟ فالإحسان هو: مراقبة الله في كل حال.
وإذا جئنا إلى منطوق الحديث النبوي الكريم: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء)، فيقول العلماء: هل هذا من قبيل الإنشاء أم من قبيل الإخبار؟ أي: هل هذه الجملة إنشائية أم خبرية؟ ومعنى خبرية أو إنشائية أي: هل الرسول صلى الله عليه وسلم يخبر عن الله أنه فعلاً كتب الإحسان على كل شيء وأوقع الإحسان في كل شيء؟ كما قال: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام:54]. فالله خلق كل شيء على أحسن ما يكون، وعلينا أن نحسن أعمالنا، وانظر في قوله تعالى: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ [السجدة:7] أحسن كل شيء خلْقه أو خلَقه، بالمصدر أو بالفعل الماضي. ولذا قال: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا * الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ [الملك:2-3] .
وقوله: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين:1-4].
فإن كان الحديث يراد به الإخبار فإن الله قد أحسن كل شيء، ولا شك في ذلك، فهاهو العالم علويه وسفليه يسير في نظام دقيق من أبدع ما يكون كما نحس ونشاهد: لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس:40].
يقول علماء الفلك: لو أن الشمس اختل ميزانها ودنت من الأرض دقيقة ضوئية لأحرقت العالم، ولو ارتفعت عن الأرض دقيقة ضوئية لتجمد العالم من الثلج.
إذاً: قوله: (إن الله كتب الإحسان...) يمكن أن يكون على سبيل الإخبار.
وإن كان على سبيل الإنشاء: أي: يأمرنا صلى الله عليه وسلم أن ننفذ ما كتب الله، (وكتب) بمعنى: حكم وقضى وأمر: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [البقرة:183] .. كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاص [البقرة:178] .. كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ [البقرة:180] ، و(كتب) بمعنى فرض وأوجب، والذي يليق بالمسلم أن يكون كل ما يصدر عنه حسناً، سواء في صناعة أو في تجارة، أو في أي معاملة كانت، بل ورد: (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقوم يحفرون قبراً، فنظر إليه فرأى فيه اعوجاجاً، فأوصى بتسوية القبر، فقالوا: إنه ليهودي. قال: ألستم مسلمين؟!) أي: عليكم أنتم أن تحسنوا العمل؛ لأن العمل ينظر فيه إلى من صدر عنه، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: (أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك) ؛ لأنك إذا خنت من خانك صرت أنت وهو في الخيانة سواء، ولذا قال تعالى: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ [فصلت:34]؛ لأنك إن قابلت السيئة بسيئة مثلها كنت معه في الإساءة سواء.
ولذا يأتي الإسلام بالتسامي في مكارم الأخلاق، فيقول الله: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ [البقرة:194]، ويقول: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ [النحل:126]؟ يربطه بالسبب، ويقول: وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ [النحل:127] النتيجة معية الله: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل:128].
إذاً: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء)، ولو أن الناس طبقوا هذا الحديث بالعموم والشمول المطلوب لاستغنينا عن القضاء والشرطة ، وهذا الحديث من جوامع الكلم التي أعطاها الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، مثل حديث: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) لو طبق هذا الحديث عملياً لأقفلت المحاكم، وسرح الشرط، وهدمت السجون؛ لأن كل إنسان سيعامل الناس بما يحب أن يعاملوه به، ووجدنا تطبيق النبي صلى الله عليه وسلم لهذا المبدأ مع الشاب الذي جاء وأسلم، واستأذن الرسول صلى الله عليه وسلم في الزنا، فلما سمع هذا الصحابة هموا به، فقال عليه الصلاة والسلام: اتركوه، وقال له: ادن، فلما دنا، قال له: (أترضى ذلك لأختك؟ قال: لا، قال: فكذلك الناس لا يرضونه لأخواتهم، أترضاه لبنتك؟ قال: لا. قال: فكذلك الناس لا يرضونه لبناتهم، أترضاه لأمك؟ قال: لا، قال: كذلك الناس لا يرضونه لأمهاتهم) فخرج وما على وجه الأرض أكره إليه من الزنا.
وهنا لو أن المسلمين طبقوا حديث الإحسان في كل شيء لاستغنينا عن القضاء، والشرطة، والمفتشين، والمراقبين، وكان كل إنسان على جادة الإحسان، إن كان صانعاً وأراد أن يغش تذكر هذا الحديث: (إن الله كتب الإحسان) ؟ أو كان عاملاً في أي مهنة وأراد أن يغش تذكر هذا الحديث، وإذا تذكر أيضاً: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، وعمل بالحديثين معاً سيحب لعملائه ما يحبه لنفسه وسيحسن عمله، وهكذا إذا جئنا للمزارع في زراعته، وللمهندس في ورشته، وكل ما فيه تخطيط وتنسيق داخل تحت هذا الحديث: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء)، تأتي بالعامل وتتركه يعمل لوحده بدون مراقبة؛ لأنه يعلم أن الله كتب الإحسان على كل شيء، ويعلم أنه لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وبذلك يستيقظ الضمير في نفوس البشر فلا تجد حقداً ولا حسداً، ولا غشاً، ولا سرقة، ولا تدليساً، ولا شيئاً مما تحاربه الحكومات بمبادئ الإسلام، واعتقد أن هذا الحديث يخاطب طلبة العلم في دراساتهم، وفي تنظيم أوقاتهم وكتبهم، وربما تدخل بيت الإنسان فتجد الكتب مبعثرة فينبغي أن يرتبها، وينسقها، كما جاء عن زيد بن ثابت ، الصحابي الجليل الذي جمع القرآن، قالوا: كان في بيته مع أهله كالطفل، ومع الناس في مقابلتهم ومعاملتهم أدق ما يكون وأظرف ما يكون وأجمل ما يكون، ومصعب بن عمير كان فتى مكة في شبابه وجماله، وكان أعطر أهل مكة.
إذاً: طالب العلم يكون عليه الإحسان في ذاته ويكون بقدر استطاعته أنموذجاً، (إن الله كتب الإحسان على كل شيء)،
ويقال: إن مالكاً رحمه الله كان يبيع خشب البيت في ثيابه وأكل اللحم، ولما جاء إليه هارون الرشيد ليسمع الموطأ نزل في بيت الإمارة، وأرسل إليه: هلم بكتابك لتقرأه علينا. فرد عليه مالك رحمه الله وقال: العلم يؤتى إليه ولا يأتي، فجاء هارون إلى بيته فتأخر عليه، فلما أذن له بالدخول قال: ما هذا يا مالك ! طلبناك إلينا فامتنعت علينا، وجئنا إلى بيتك فحبستنا على بابك؟ قال: يا أمير المؤمنين! إن مجيء الملوك إلى العلماء يعلي قدرهم، ومجيء العلماء إلى الملوك يزري بقدرهم، فعلمت أنك لم تأت لمال ولا لدنيا، إنما جئت لتسمع حديث رسول الله، فتهيأت لحديث رسول الله، واغتسلت وتطيبت ولبست أحسن ما عندي. فعمله هذا كان من قبيل التكريم للحديث، وكان رحمه الله يكره أن يسأل في الشارع، ويقول: هذه إهانة لحديث رسول الله!.
فعلى طالب العلم أن يكون محسناً في ذاته ودراسته، فيرتب أوقاته مع دروسه، فإن كانت دروساً نظامية فعلى الجدول، وإن كانت غير نظامية فحسب الأولوية، وهكذا العامل في عمله يرتب أدواته، وكل ما يترتب عليه حياة الإنسان يدخل تحت الإحسان. فصاحب الحديقة والبستان إذا أراد أن ينشئ حديقة جديدة، فينبغي أن يرتبها بأبعاد متساوية وبقدر ما تسع من الشجر، ويحسن في كل شيء: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء).
ثم يأتي الحديث في تتمته على سبيل المثال، ويأتي إلى القمة التي لا يتصور إنسان أنها محل إحسان، فإذا تفريع جزئيات: إن الله كتب الإحسان على كل شيء، ومن كل شيء تلك الجزئية: (فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة)، ثم بين بم تكون الذبحة حسنة؟.
والقتل يكون بأحد هذه الأمور: إما جهاد في سبيل الله، وإما قصاص، وإما حد كما تقدم في الحديث: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة)، فإذا ارتكب المسلم ما يوجب قتله سواء كان نفساً بنفس، أو ارتد عن دينه ، أو كان ثيباً وزنى، أو قتل يقتل، وقد يقتل في ميدان الجهاد عند مجاهدة العدو الكافر المشرك بالله، وفي هذه يتجلى أدب الإسلام حتى مع الكافر المشرك والمحارب، فلو قتل في المعركة فلا ينبغي أن يمثل به، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: (قاتلوا على بركة الله باسم الله، لا تقتلوا وليداً ولا امرأة ولا تمثلوا)، فإذا كان هذا في حق المشرك بالله المحارب للمسلمين، فكيف بغيره؟!
فإذا كان القتل في الإسلام، وكان القتل لحد من حدود الله فقد بين صلى الله عليه وسلم أن إقامة الحد إن كان موجباً للقتل فيجب أن تكون القتلة حسنة، ولا تكون على سبيل التعذيب، واتفقوا بأن الحدود ضربة بالسيف من خلف العنق؛ لأنها أقرب للنخاع الشوكي، وإذا قطع النخاع مات الإنسان، وكان الناس يستعملون المشنقة والخنق أو غير ذلك، لكن السيف أسرع ما يكون.
ويقال: القصاص مأخوذ من المقص، وإذا قصصت الثوب بالمقص تساوى طرفا القماش المقصوص، فإن كان في المقص اصطلامات وانحناءات فستظهر تلك الانحناءات في طرفي القماش.
أي: يجب أن يكون القصاص مماثلاً، بمعنى: لو أن إنساناً قتل إنساناً بحجر في رأسه فيقتل بحجر في رأسه، ولو أن إنساناً خنق إنساناً وكتم نفسه، فيقتص منه بالخنق وكتم النفس وهكذا عند الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد ، إلا إذا كان قتله بمحرم فلا ينبغي أن ينفذ حكم الله بمحرم، كأن يكون سقاه خمراً مسكراً، أو سقاه شيئاً مما هو محرم حتى قتله، ومعلوم عند الأطباء أن من شرب الخمر وزادت نسبة الكحول في دمه إلى ستة في المائة فإنه يموت في الحال، وعلى هذا قالوا: فلا يقتل بخمر؛ لأن الخمر حرام، ولكن يمنع عنه كل الطعام ويسقى بخل حتى يحترق الكبد ويموت؛ لأن الخل حلال ويأتي بالنتيجة.
لكن الإمام أبا حنيفة رحمه الله يقول: كل قصاص ضربة بالسيف، والذي ضرب أو خنق أو رض آثم وخطؤه على نفسه ونحن لا نخطئ مثله، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة)، وقال أبو حنيفة رحمه الله : هذا حكم عام في كل قتل ولو كان قصاصاً.
والجمهور يستدلون بقضية اليهودي الذي وجد جارية وعلى رأسها أوضاح، -يعني: شيء من الحلي- وفي بعض الروايات: (بأطراف المدينة) وفي بعضها: (بخربة من خربات المدينة) فرض رأسها بين حجرين وأخذ الأوضاح، فجيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانوا يسألونها: فلان فعل بك هذا؟ فترفع رأسها كأنها تقول: لا، فيسألونها: فلان؟ فترفع رأسها، حتى ذكر ذاك اليهودي فخفضت رأسها، فجيء به فاعترف فرض رأسه بين حجرين، فقال الجمهور: فهذا قتل بما قتل به فقد رض رأس الجارية بين حجرين، -بمعنى: أضجعها وجعل تحت رأسها حجراً، وجاء بحجر آخر ورض رأسها فماتت- ففعل به مثلما فعل.
وهنا نقف مع قضية هذه الفتاة، ونخاطب بها الشرطة، والمجتمع، والأبوين.
فاليهودي وجد الجارية في أطراف المدينة في خربة، وقتلها لأن عليها أوضاحاً، أي: قطع من الذهب والفضة، فنقول للشرطة وعمد الحارات: لا تتركوا الخربات في أطراف المدينة فتكون مأوى للمجرمين، بل عمروها، أو اهدموها؛ لأن تلك الخربات يأوي إليها أصحاب الجرائم.
ونقول للأبوين: تبذلوا المال للأطفال، فهذه فتاة صغيرة سبب قتلها حليها، فما حاجة الفتاة الصغيرة للأوضاح؟ فلا تلبسوها الذهب والفضة وتسرحوها في الشارع، وإلا فأنتم تشاركون في قتلها.
إذاً: على الأبوين أن يصونوا أولادهم، وألا يكونوا سبباً في إلحاق الضرر بهم في زيادة التنعيم.
نرجع إلى القضية نص الحديث حيث يقول: (إذا قتلتم فأحسنوا القتلة) هل القتل ضربة بالسيف في جميع الحالات، أم أن الإحسان في القتل أن يكون بالمماثلة؟ فحينما يرى أهل الجارية جاريتهم مقتولة بهذه الصورة البشعة يتألمون، وحينما يتذكرون أن رأس قاتلها رض بين حجرين كما فُعل بها فإن ذلك يخفف عليهم من المأساة، لكن بخلاف ما لو ضرب عنقه بالسيف فهذا لا يساوي عندهم قتل جاريتهم، فالجمهور رحمهم الله والأئمة الثلاثة قالوا: (كتب الإحسان) صحيح، وإحسان القتلة صحيح، والقتلة: بمعنى فِعلَة، أي: هيئة القتل، ومن الإحسان فيها: أن نشفي صدور أولياء الدم، وأن يفعل بالجاني مثلما فعل بالمجني عليه.
ولكن الإمام أبا حنيفة رحمه الله يقول: (إذا قتلتم فأحسنوا القتلة) فلا يكون القتل إلا ضربة بالسيف.
ويذكر ابن رجب : (أن جزاراً فتح باباً على شاة فهربت، فجرت حتى جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ برجلها، فنظر إليه صلى الله عليه وسلم وقال: أحسن في ذبحها، ثم نظر إليها وقال: اصبري لقضاء الله).
ومن إحسان الذبحة: (فليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته) يحد الشفرة -السكين- ولكن لا يحدها أمام الذبيحة، ولا يسمعها صوت الشفرة (وقد مر صلى الله عليه وسلم برجل يحد الشفرة أمام الشاة وهي تنظره بعينيها، فقال: هلا كان قبل ذلك) أي: هلا حددت الشفرة قبل أن تضجعها وهي تنظر إليك.
ومن إحسان الذبحة: ألا يذبحها أمام أمها أو أمام أولادها، ويذكر أيضاً أن رجلاً ذبح عجلاً أمام أمه وهي تنظر إليه فخبل في عقله. فمشى يوماً في طريق فنام تحت شجرة، فإذا بعش طائر سقط منه فرخ على الأرض، فأشفق عليه ورده إلى عشه، فرد الله عليه عقله، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه مر ببيت للنمل محترق فنهى صلى الله عليه وسلم أن يعذب بالنار وقال: (لا يعذب بالنار إلا رب النار)، ولهذا نهى صلى الله عليه وسلم أن يعذب أحد بالنار، وتروى روايات عن بعض السلف أنهم حرقوا بعض الأشخاص في الردة أو في فعل كذا أو كذا، وجاء النهي صريحاً: (لا يعذب بالنار إلا رب النار).
ومن إراحة الشاة الذبيحة: حد الشفرة بعيداً عن الشاة، وعرض الماء عليها قبل أن يذبحها، ولا يذبحها أمام حيوان آخر ينظر إليه، والحديث المتقدم: (هلا كان قبل ذلك؟ أتريد أن تميتها موتات عديدة)، فهي كلما رأت الشفرة تحد كأنها ماتت موتة، لكن إذا أخذها بغتة وفاجأها بالذبح انتهى الأمر.
قوله: (وليرح) يتفق العلماء أنه يرفق بها حينما يضجعها، وإن كان تحتها من الأحجار أو من النواتئ أو من الأشواك فيجب أن يزيلها ويضجعها مستريحة: (ورأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً واضعاً رجله على صفحة الشاة متكئاً عليها ليذبحها، فقال: أتميتها موتتان أو عدة موتات).
إذاً: في هذا الحديث يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم الأمة في أن تحسن في كل شيء حتى القتلة والذبحة.
وقوله: (كتب الإحسان) هل الكتابة للفرض أم للندب والتوجيه؟ يقولون: كلا الأمرين، فالإحسان واجب فيما لا يتم الواجب إلا به، وتعلمون قصة المسيء صلاته -والإساءة ضد الإحسان- الذي رآه النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فجاء يسلم على رسول الله فقال له: (ارجع فصل فإنك لم تصل)، يعني: عدم الإحسان ألغى العمل، ورده صلى الله عليه وسلم مراراً حتى جاء وقال: (علمني يا رسول الله! والذي بعثك بالحق لا أحسن إلا هذا، فعلمه: وقال: إذا توضأت فأسبغت وضوءك، وجئت واستقبلت القبلة فكبر، ثم اقرأ ما معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع من الركوع حتى تطمئن رافعاً.)، وهنا نخاطب بعض الناس الذين تراهم يركعون ولا يطمئنون في ركوعهم، فترى الواحد منهم كأنه ينفض شيئاً عن ظهره، وكذلك الجلسة بين السجدتين، ويقولون: مذهبنا أنه ركن خفيف، فنقول: ليس في الأركان خفيف وثقيل، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يركع حتى يطمئن راكعاً، ويرفع حتى يستقر ويعود كل فقار في مقره، ويعود كل عظم في مكانه، والحركة الخفيفة ليست استقراراً.
فالإحسان هنا واجب؛ لأنه إذا تغيب الإحسان بطلت العبادة، فقد رده صلى الله عليه وسلم مراراً ليحسن صلاته، إذاً: الإحسان في الواجبات من حيث إتمامها وكمالها واجب، وإن كان الأصوليون يناقشون مداعبة للطلاب: القدر الذي به يتم الواجب من الطمأنينة، وما زاد عنها، وهل الزيادة واجبة أم القدر الذي تصح به الفريضة هو الواجب والباقي مندوب؟ فيقولون: أقل شيء فيه الطمأنينة في الركوع سبحان الله ثلاث مرات وهي الفريضة، وإذا سبح عشر مرات فهي إحسان، وزيادة في الإحسان.
إذاً: الإحسان قد يدخل الفريضة وقد يدخل النافلة، وكما يقولون: (الإحسان في كل شيء بحسبه).
وإذا رجعنا إلى تتمة الحديث وأمر الذبح والقتل والإرفاق بالمخلوقين حتى الحيوانات، نجد قوله صلى الله عليه وسلم لما قال في قضية المرأة التي سقت الكلب، والمرأة التي حبست الهرة فقال: (دخلت امرأة النار في هرة حبستها فلا هي أطعمتها وسقتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض)، وقال في الحديث الآخر: (إن امرأة بغياً رأت كلباً في يوم حار يطيف ببئر، قد أدلع لسانه من العطش، فنزعت له بموقها فغفر لها ) فإذا كان الأمر كذلك فإن هذا الحديث بعمومه وشموله لو طبقه الإنسان في فعل الواجبات وترك المحرمات، وفي كل ما طلب منه لكانت الحياة كلها على أحسن ما تكون.
إذاً: على كل إنسان أن ينظر في منهج حياته، أولاً: في كسبه الذي يقتات به، هل اكتسبته من طريق إحسان أم لا؟ ولينظر في الطريق الذي ينفقه فيه، هل هو طريق إحسان واضح جلي أم فيه ما فيه؟ ونقول لأولئك الذين يبذرون الأموال في المحرمات كالدخان: هل أحسنتم؟ لا. بل أسأتم عدة مرات، أسأتم في ضياع المال، وفي فعل ما حرم الله، وفي إفساد البدن والمجتمع.
إذاً: هذا الباب لا يستطيع إنسان أن يوفيه منتهاه، ولكن القواعد العامة فيه: ما ذكر صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء)، و(كل شيء) لا يخرج منها شيء: (فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة) هذا على سبيل التمثيل في أقسى المواقف في الحياة، ومع ذلك لابد أن يكون مع الإحسان.
وبالله تعالى التوفيق، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر