الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فيقول المؤلف رحمه الله تعالى، ونفعنا بعلومه في الدارين آمين:
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه رواه البخاري ومسلم .
أكثر الأحاديث التي تقدمت تتعلق بالإسلام وأصوله، وهذا الحديث يتعلق بمكارم الأخلاق، ومكارم الأخلاق من صلب الشريعة الإسلامية، بل سر الشرائع كلها، كما أخبر صلى الله عليه وسلم أن الرسالة كلها، والبعثة بأكملها؛ من أجل مكارم الأخلاق، فقال صلى الله عليه وسلم: (إنما) وإنما أداة حصر، إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق، وقال صلى الله عليه وسلم: البر حسن الخلق ، وقضية منطقية -كما يقولون- بين آية من كتاب الله وحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، تبين أن كل جهات وجوانب التشريع في حسن الخلق، قال الله: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ [البقرة:177]، وكل هذه الجوانب الخيرية من الإيمان باليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين، خبر عن البر، فالبر من مجموع تلك السلسة من فضائل الأعمال والواجبات، وكلها تندرج تحت عنوان: (البر حسن الخلق).
إذاً: حسن الخلق هو البر، والبر هو كل الخصال الكريمة التي قد تكون أصولاً أو فروعاً.
وهذا الحديث يشتمل على كثير من تلك النواحي.
لأنه في اليوم الآخر يجازى على فعل الخير، ويعاقب على فعل الشر، ولولا إيماننا بالبعث والجزاء والحساب، لصرنا أشبه ما نكون في غابة، فمنطلق أي عمل هو الإيمان باليوم الآخر؛ ولو أخذنا المصحف الشريف فأول ورقة فيه بعد الفاتحة، فيها قوله سبحانه: بسم الله الرحمن الرحيم الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:1-2]، ومن هم المتقون؟
(الذين..)، وفي علم البيان في البلاغة أن مجيء الجملة بعد الجملة معطوفة بواو فهي مغايرة؛ لأن العطف يقتضي المغايرة، ولكن إذا جاءت بدون واو، فالجملة الثانية إما تفسير لما قبلها، أو جواب على سؤال فيها، أو جزء منها، فهنا قال:
هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة:2-3]، فالمتقون هم الذين يؤمنون بالغيب، إذاً: الآية جاءت مفسِّرة لما قبلها، وهي مفسرة بما قبلها أيضاً بينت من هم المتقون، وكلمة المتقين تبين لنا الذين يؤمنون بالغيب.
إذاً: علة وجود التقوى عند المؤمن هو إيمانه بالغيب، وعطف على الإيمان بالغيب توابع: يقيمون الصلاة، يؤتون الزكاة، ومما رزقناهم ينفقون، والإيمان بالماضي، وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [البقرة:4]، فكأنهم يرون القيامة بين أعينهم يقيناً، ما هو مجرد تصديق، بل يقين، ومراتب علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين.
ويقول علماء التربية الإسلامية: كل عضو خارجي مفتوح ما عدا اللسان فعليه قفلان: فك الأسنان والشفتان، ومع هذا يتفلت منهما، وقال صلى الله عليه وسلم مبيناً خطر الكلمة: (إن العبد ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار سبعين خريفاً)، يستهين بها ولعل فيها هلاكه! كالذين تناولوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بكلام أهلكهم وأوبقهم، فقد يصاب الإنسان ويقتل بكلمة يقولها بلسانه، وكما قالوا: جرح اللسان ليس له التئام، وجرح السنان قد يلتئم.
ومن تعاليم الإسلام تعويد هذا اللسان على نطق الخير، وزجره والحذر منه، حتى لا ينطق بكلمة سوء ولو كانت في محلها، كما قال صلى الله عليه وسلم: (لا تلعنوا الشيطان، واستعيذوا بالله منه)، يقول بعض العلماء: هو ملعون فلن تأتي بشيء جديد، بل يخاف عليك أن تتعود هذا اللفظ فتوقعه في غير محله، فتبوء بإثمه عياذاً بالله!
وفي بعض الروايات: (فإنه يتعاظم في نفسه)، فلا تعود لسانك النطق بهذه الكلمة، وإذا كان الإنسان يتحرى قول الخير أو يصمت عن الكلام، فلن يقع في غيبة، ولن يقع في نميمة، ولن يقع في كذب، ولن يقع في تدليس، وكل المخاطر يتجنبها.
فيقول صلى الله عليه وسلم: (من يستضيف ضيفي الليلة وله الجنة؟) ، فقام أبو طلحة وأخذ الضيف إلى بيته، وقال لزوجه: أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: ليس عندي ما أكرمه، إنما يوجد عشاء عيالي، وهي معذورة، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (ابدأ بنفسك) ، فقال: علليهم حتى يناموا، وإذا ناموا فأحضري العشاء، فأجلس أنا والضيف للأكل، وقومي أنتِ واعمدي إلى السراج كأنك تصلحينه فأطفئيه، وأنا سأمد يدي مع الضيف ليشعر أني أشاركه الأكل، وسأرفع يدي خالية من الطعام، وأوفر الطعام للضيف، فتطيع المرأة الكريمة زوجها، وتعين الزوج الصالح على فعل الخير، ولم تضع العقبات، ولم تتوجع لأطفالها، إنما فعلت كل ما طلب منها، فأكل الضيف وشبع، وباتوا جائعين! فماذا كانت النتيجة؟ لا يخفى على الله شيء، فهو عالم بكل شيء، سميع بصير، فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم يستقبل الرجل ويبتدئه بقوله: (لقد ضحك ربنا من صنيعكما البارحة!) وهو صنيع ليس بالهين، وحيلة لكن لمرضاة الله. ولو قلبنا صفحات الماضي لوجدنا اليهود يحتالون على استحلال ما حرم الله، حينما حرم عليهم الشحوم، جملوها وأذاوبها وباعوها، واشتروا بثمنها ما يأكلونه، فلما أنكر عليهم قالوا: نحن ما أكلنا الشحوم أبداً!! ولما منعوا من العمل يوم السبت، وامتحنوا بالحيتان إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ [الأعراف:163] احتالوا، فألقوا الشباك يوم الجمعة، وعلقت فيها الحيتان يوم السبت، وأخذوها يوم الأحد، وقالوا: ما عملنا شيئاً يوم السبت! حيلة يتوصلون بها إلى استحلال ما حرم الله. وأما حيلة ذاك الصحابي فليتوصل بها إلى مرضاة الله، حقاً قال الله: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110]؛ لذلك قال صلى الله عليه وسلم: (لقد ضحك ربنا من صنيعكما البارحة)، وفي حديث آخر أن رجلاً قال: (أويضحك ربنا يا رسول الله؟! قال: نعم قال: ما عدمنا خيراً من رب يضحك).
وأحذرك ثم أحذرك! أن تفتح المجال لمخيلتك وذهنك وتفكر كيف يضحك، لا تفكر في ذات الله، ولا يتوجه السؤال إلى الله بالكيفية أبداً، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، إنما نثبت لله ما أثبته لنفسه، وهو أعلم بذلك، ونثبت لله ما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا أحد أعلم بالله من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأسماء والصفات توقيفية، قال الإمام الشافعي رحمه الله: نؤمن بالله، وبما جاء عن الله، على مراد الله، ونؤمن برسول الله، وبما جاء عن رسول الله، على مراد رسول الله، والإمام ابن تيمية رحمه الله الذي ولد في القرن السابع يقول: نحن أمرنا بإيمان إثبات، لا بإيمان تكييف، وكما قال الإمام مالك لما سأله رجل عن الاستواء: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وأراك مبتدعاً أخرجوه عنا.
إذاً: مكارم الأخلاق في الإسلام قد تصعد إلى درجة الواجب، ومما جاء في عهود أهل الصوامع، أنهم يُقْرون من يمر بهم في الطريق، وكانوا يفعلون ذلك، والكرم من أفضل خصال الخير، وكما يقول علماء الأدب: الكرم يغطي كل نقيصة.
ويقول علماء الأخلاق: الكرم والشجاعة صنوان، ولا تجد كريماً جباناً أبداً، ولا تجد شجاعاً بخيلاً أبداً؛ لأن الشجاع:
يجود بالنفس إن ظن البخيل بها والجود بالنفس أقصى غاية الجود
فإذا كان يجود بنفسه فهل سيبخل بالمال أو بالحيوان؟ لا، ومن حق الضيف على مضيفه أن يقدم له طعامه وشرابه، وأن يدله على موضع وضوئه، وأن يحضر له الماء وكل ما يحتاجه، ومن حق المضيف على ضيفه ألا ينتقص طعامه، وألا يتكلم على نواقص وقعت عليه، وأن يستر ما يرى من أهل البيت، إلى غير ذلك مما يذكره العلماء في آداب الضيافة.
قال عبد الله بن عمرو بن العاص -كما في الأدب المفرد للبخاري-: ( ذُبحت شاة في بيته فقال لغلامه: أعط فلاناً، وأعط جارنا اليهودي، فقال الحاضرون: اليهودي يا أبا عبد الله ؟ قال: نعم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصي بالجار، ويقول: (لا زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه).
القسم الأول: الجار المسلم القريب، وله ثلاثة حقوق: حق الإسلام -الأخوة الإسلامية- وحق الجوار، وحق القرابة -صلة الرحم-.
القسم الثاني: المسلم غير القريب، وله حقان: حق الإسلام -الأخوة الإسلامية-، وحق الجوار.
القسم الثالث: الجار غير المسلم، كيهودي أو غيره: له حق واحد، وهو حق الجوار.
ومما يروى في ذلك أن الإمام أبا حنيفة كان له جار يؤذيه، وفي يوم من الأيام لم يجد علامات الإيذاء التي تعود عليها، فسأل عن جاره، فقالوا: إنه في السجن، فسأل عن السبب؟ فقالوا: سجنه الوالي لأمر ما، فذهب إلى الوالي وشفع عنده بأن يطلق هذا الشخص، ولم يعلم الجار بالذي شفع له، فجاءه أمر الإطلاق من السجن، فذهب يسأل لأي شيء أطلقت؟ فقالوا: جاء جارك فلان، وشفع فيك، وعفا عنك الوالي، قال: جاري فلان!! وتذكر إيذاءه له، وكيف قابل إساءته بالإحسان، فذهب يعتذر إليه، وعاهد الله ألا يؤذيه.
ويذكر لنا بعض شيوخنا في المدينة، وهو الشيخ عبد الرحمن الإفريقي رحمه الله، أنه كان يسكن في المدينة، وأولاده يلعبون مع أولاد الجيران، فتشاجر الأولاد مع بعض، فجاء والد أحد الأولاد وضرب ولد الشيخ، وذهب الأولاد واشتكوا، فأخذ الرجل وحبس، وفي الظهر علم الشيخ بذلك، فقال: أين الرجل؟ قالوا: محبوس، فذهب بنفسه إلى الشرطة وقال: هذا ولدي، وأنا وليه، وليس لنا دعوى على أحد.
والذي يهمنا التأكيد على حقوق الجار، سواء كان أجنبياً أو كان قريباً مسلماً، أو غير مسلم، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان له خادم يهودي، فمرض هذا الخادم، فسمع صلى الله عليه وسلم بأن خادمه اليهودي مريض، فقال لمن عنده: (هلموا بنا نزوره)، سيد الخلق يزور خادماً يهودياً، فالعوام يقولون: اجتمعت فيه الخستان، كونه خادماً، وكونه يهودياً، ولكن مكارم أخلاقه صلى الله عليه وسلم تطغى على هذا كله، فذهب ومعه أصحابه، فوجد الخادم في النزع، فقال صلى الله عليه وسلم: (يا غلام! قل: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، فنظر الغلام إلى أبيه وكان عند رأسه، فقال الأب للغلام: أطع أبا القاسم يا بني! فنطق بالشهادتين ومات في الحال، فقال صلى الله عليه وسلم لمن معه من أصحابه: تولوا أمر أخيكم)، لأنهم صاروا أولى به من أبيه؛ لأنه دخل في جماعة المسلمين.
بماذا يكرم الجار؟
إذا رجعنا إلى مصالح المجتمع، نجد كل إنسان يعمل لجلب نفع له، ولدفع ضر عنه، فكل ما فيه نفع لجارك فيجب أن تبذله له ما استطعت، وكل ما فيه مضرة عليه فمن حق جارك عليك أن تدفعه عنه؛ ولهذا رأى ابن مسعود رجلاً يجري فقال له: ما لك؟ قال: أستدعي الشرط -الشرطة- قال: لماذا؟ قال: لجاري، قال: ما به؟ قال: يشرب الخمر، قال: هل نصحته؟ قال: لا، قال: ارجع فانصحه أولاً بينك وبينه، فمن حق الجار النصيحة.
ومن حق الجار على جاره أن يحفظ له ماله، كما يحفظ مال نفسه، فلا تجوز إساءته في دوابه ومتاعه، ذكر البخاري في الأدب المفرد أن امرأة جاءت إلى عائشة رضي الله عنها وقالت: إن أحدانا يطلبها زوجها فتمتنع -إما مريضة وإما متعللة- فهل عليها من شيء؟ قالت: نعم، لو دعاها زوجها وهي على رأس جبل، لكان عليها أن تجيب، وأحدثك أني كنت بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم في فراشه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم صائماً، وعندي قدح شعير، فطحنته وصنعت قرصاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من عادته إذا خرج أن يقفل الباب معه، فخرج وترك الباب مفتوحاً، ودخلت داجنٌ لجارنا، ثم جاء صلى الله عليه وسلم إلى فراشه، وجئت جواره، فنهضت الداجن إلى قرص الشعير فنهضت إليها، فقال: (على رسلك يا
إذا كان الحفاظ على الجوار إلى هذا الحد، فكيف يكون ما عدا ذلك؟! لو غضب جارك عليك، لو أساء إليك، لا تبادر بالانتقام.
إذاً: حقوق الجار من الحقوق الاجتماعية العامة التي يجب أن تكون بين الأسر والبيوت والأفراد، ليرتبط المجتمع كله بعضه مع بعض، وهذا الجوار ليس في البيوت فقط، بل حتى في الدكاكين وفي الوظائف والعمل.. إلخ.
والمفهوم من قوله صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره)، أن من لم يكرم جاره، ومن لم يكرم ضيفه، فليس إيمانه مكتملاً باليوم الآخر، وكذلك من لم يحفظ لسانه!
الخلاصة: هذا الحديث من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، وينبه فيه عليه الصلاة والسلام على نقاط ثلاث: حفظ اللسان، والحذر من مساوئه قدر المستطاع، وألا يتكلم العبد إلا فيما هو خير، وكذلك ترابط المجتمع وتأمين السبيل لذلك بإكرام الجار وإكرام الضيف، ونسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه، وأن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم، والسلام عليكم ورحمة والله وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر