بسم الله الرحمين الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد:
قال المصنف رحمه الله: [عن أبي هريرة عبد الرحمن بن صخر رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم، فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم، واختلافهم على أنبيائهم رواه البخاري ومسلم ].
فقيل: كان اسمه عبد شمس في الجاهلية، فلما أسلم سمّاه الرسول صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن ، وكناه بـأبي هريرة ، وهريرة: تصغير هرة، قيل: كان في الجاهلية كان يرعى غنماً، فوجد هرة برية فاحتملها معه، وكان في الليل يضعها على غصن شجرة لتبيت عليه، فإذا جاء الصباح أخذها واصطحبها معه؛ مخافة عليها من الوحوش، فقيل له: أبو هريرة .
وقيل: إن الكنية كناه بها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه يحمل هرة صغيرة في كُمّه، فقال: (ما هذا يا
وقالوا: إن حمله إياها بعد الإسلام شفقة بها، بينما حمله إياها في الجاهلية تسلية، وإشفاقه على الهرة ناتج عن استشعاره للواجب الشرعي الداعي إلى الرفق بالحيوان؛ إذ أنه صاحب حديث: (دخلت امرأة النار في هرة حبستها، فلا هي أطعمتها وسقتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض) ، ومهما يكن من شيء فإن كنيته أصبحت أشهر وأعرف من اسمه عبد الرحمن .
وذكروا أ،ه أسلم وهاجر سنة سبع من الهجرة، ووصل إلى المدينة والنبي صلى الله عليه وسلم في خيبر وقت غزوة خيبر، فلحق به، وصحب النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث سنوات.
وترجمة أبي هريرة رضي الله تعالى عنه تعتبر من أهم التراجم لكل طالب علم؛ لأنه رسم منهجاً لطلبة العلم المتفرغين.
ويذكر لنا: (أنه رضي الله عنه وجماعة من أهل الصفة جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأى في وجوههم الجوع، فأتي بطبق فيه تمر، فأعطى كل واحد تمرتين، وقال: كلوا هاتين التمرتين واشربوا عليهما الماء فإنهما يجزيانكم يومكم، فأكل
ويقول: (خرجت فلقيني
انظروا هذه الكرامة يا إخوان! (لم يبق إلا أنا وأنت)، وفيها مساواة أبي هريرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الفضلة الباقية، فقال: (اشرب يا
معجزة عظيمة، قدح يسقي أهل الصفة حتى يفيض، ويشرب أبو هريرة حتى لا يجد له مسلكاً، ولو كان انفرد بالقدح لشرب كل ما فيه، ولكن معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من أن تحصى، والذي يهمنا أن أبا هريرة صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال عن نفسه: (على شبع بطني).
ومن هنا نرد على أولئك الذين يقولون: أبو هريرة راوٍ وليس بفقيه، فنقول: بل هو فقيه، وقد قال الإمام الذهبي في ترجمة أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: الإمام الثقة الحافظ الفقيه، وإذا لم يكن أبو هريرة فقيهاً فمن يكون الفقيه إذاً؟!
ولما أكثروا عليه، قال: تقولون: أكثر أبو هريرة! أكثر أبو هريرة!
وفي يوم وقف عند باب المسجد، فكلما رأى رجلاً خارجاً قال: قف! ماذا قرأ الإمام في صلاة العشاء؟ فيلتبس على البعض منهم، فيقول: الآن صليت مع الإمام ونسيت ماذا قرأ، وتريد أن تكون مثلي فيما حفظت عن رسول الله؟!
وامتاز أبو هريرة بخصيصة لم يمتز بها أحد من الصحابة، ففي الحديث: (جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وشكى إليه النسيان)، وفي بعض الروايات: (جلس صلى الله عليه وسلم، فأخذ شملة لي عن كتفي وبسطها) ، وفي بعض الروايات: (فأخذت ردائي فبسطته) ، وفي بعض الروايات: أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من أراد أن يحفظ فليبسط رداءه، فبسطت ردائي، فلما قضى حديثه صلى الله عليه وسلم قال: ضم إليك رداءك يا
ونحو هذا وقع للبخاري رحمه الله حينما جاء إلى بغداد، وقد سمع الناس بحفظه، فجعلوا له مجلساً وجاءوا بعشرة رجال، وأعطوا كل واحد عشرة أحاديث، ثم قلبوا الأسانيد، ثم سأله كل رجل منهم، ويقول: حدثنا فلان عن فلان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال كذا .. فيقول: لا أعرفه بهذا السند، ثم الثاني.. إلى العاشر، مائة حديث ويقول في كل حديث: لا أعرفه بهذا السند، فكيف يكون حافظاً؟ وكيف يكون طالب علم؟ مائة حديث لا يعرف منها حديثاً واحداً بذلك السند! لكنه واثق من نفسه، وقبل أن ينصرفوا قال: على رسلكم، أما أحاديث فلان الأول فإن حديثه الأول سنده كذا وكذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كذا، وحديثه الثاني: كذا وكذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كذا، وأعاد المائة حديث إلى أسانيدها الصحيحة، فحينئذٍ سلموا له بالإمامة والحفظ.
وبعضهم يأخذ عليه قوله: (إن عندي جرابين من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: جراب بثثته لكم، وجراب لو بثثته لقطع هذا -وأشار إلى حلقه-)، فقالوا: لماذا يخفيه؟ والجواب أنه لم يبثه على جميع الناس، ولكن لم يعدم أن يذكره لبعض الآحاد والأفراد وإلا لما وصلنا، وفي هذا الجراب الذي أمسكه أحاديث الفتن، وكان يمشي في السوق ويقول: (اللهم! إني أعوذ بك من سنة الستين، وإمارة الصبيان)، وكان يذكر أشياء ويدع أخرى، وله سلف، فأمير المؤمنين علي رضي الله تعالى عنه كان يقول: (حدثوا الناس بما يعقلون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟!)، ويقول الذهبي : لو أن أبا هريرة حدثهم بأن البيت يهدم أو يحرق، سيقولون: من يصدق أبا هريرة في هذا؟! ومن كان يخطر في باله أن الكعبة ستهاجم؟ فكان يحفظ أشياء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يحدث بها؛ لأن عقول الناس آنذاك لا تتحملها.
بمنهجه في تحصيل العلم عن رسول الله، ومن ينقطع للعلم يحصل على بعض ثمرته، والعلماء يقولون: أعطه كلك يعطك بعضه، إن أعطيت العلم كلك، وتفرغت له ليلاً ونهاراً، أعطاك بعضه.. وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:85]، فإذا أعطيته كلك ويعطيك بعضه؛ فكيف إذا كنت تعطيه البعض الأقل؟! كيف إذا كان يزاحمه في قلبك الشيء الكثير؟ ورحم الله الشاعر الشنقيطي الذي يقول:
جرع النفس على تحصيله مضض المرين ذل وسغب
ذل: أي تواضع لمن تأخذ عنه، تواضع لمن كان أكبر منك، وارحم من كان دونك، وابن عباس ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم يترجم لنا هذا عملياً، يقول: كنت غلاماً عند أن توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت لشاب: هلمّ نجمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه كثر، فقال: أتظن أن الناس يأتيهم يوم يحتاجون فيه إليك؟ قال: فقمت أنا، وقعد هو، فكنت أسمع بالحديث عند الرجل ولو آذنته لجاءني، فأتبعه من المسجد وأمشي خلفه، إلى أن يأتي إلى بيته، وأريد أن يلتفت عند دخوله البيت فيراني فيكلمني، فيدخل البيت ولا يتلفت، فأجلس على باب بيته حتى يخرج إلى الصلاة المقبلة، أضع ردائي على وجهي وتسفي الرياح على التراب، فيخرج الرجل فيقول: ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم! لو أعلمتني لجئتك، فأقول: العلم يؤتى إليه.
وكان ابن عباس رضي الله تعالى عنه يمشي مع زيد بن ثابت، وهو راكب، وابن عباس يمشي، فيقول: يا ابن عم رسول الله! إما أن تركب أو أنزل؟ فيقول: لا أركب ولا تنزل، هكذا أمرنا أن نكون مع علمائنا..
جرع النفس على تحصيله مضض المرين ذل وسغب
ليس ذل الصغار ولا الهوان، ولكن التواضع في طلب العلم.
لقد رسم لنا جبريل عليه السلام صورة طلب العلم، كما في حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه المشهور: دخل علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه أحد منا، فجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فوضع يديه على ركبتيه وقال: أخبرني عن الإسلام؟... وهذه جلسة المتعلم المؤدب، جلسة من يطلب العلم، ويوقر من يأخذ عنه.
وسغب في البيت المذكور هو الجوع، ويقولون: الإنسان إذا ملأ بطنه، وأعطى نفسه كل مطلوبها تبلد الذهن، ويقل الذكاء مع كثرة الشبع، ومن عادة العلماء في طريقة التعليم أنهم يلزمون الطالب في بداية النهار أن يحفظ قبل أن يفطر، وبعد أن يحفظ ويُسمّع ورده، يؤذن له بأن يتناول الإفطار بعد ارتفاع الشمس، ولذا يقولون: إذا أردت أن تحفظ أو تذاكر مسألة عويصة عليك؛ فلا تأتها وأنت على شبع، وإنما وأنت خالي المعدة، وقوله في هذا البيت: (ذل وسغب)، أي: لا تشغلك الدنيا وملذاتها عن طلب العلم.
ومن هنا أقول: إن فترة الدراسة بالمنحة الدراسية في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة هي الفرصة الذهبية في حياة طالب العلم؛ لأنه يقضي -على أقل تقدير- سبع سنوات، ثلاثاً في الثانوية، وأربعاً في الجامعة، وإن قدر له دراسات عليا أربع أو خمس سنوات كان مجموعها عشر سنوات، يقضيها منقطعاً للدراسة، ليس كالمهاجرين يشتغلون بالأسواق لطلب المعيشة، وليس كالأنصار يشتغلون في البساتين لإصلاح أموالهم، ولكن تجارته ومزرعته وكل شيء -في هذه الفترة- هو درسه وطلبه للعلم ما بين الجامعة والمسجد النبوي الشريف الذي جعل الله فيه البركة لكل طالب علم، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الآتي إليه معلماً كان أو متعلماً كالغازي في سبيل الله.
ولو تتبعنا ترجمة أبي هريرة لخرجنا عن موضوع الحديث، ويكفينا هذا القدر، ونرجع إلى ما رواه أبو هريرة رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم يشمل ما كان في السنة ابتداءً أو كان في كتاب الله، فهو المبلغ عن الله، فكل ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد نهى عنه الله، وما حكم النهي؟ اجتناب المنهي عنه، ولذا قال العلماء: النهي يقتضي الفساد، والنهي إما أن يكون في العقود وإما في العبادات، إما في عبادة أو معاملة، فالنهي في المعاملات يقتضي: الفساد، والنهي في العبادات يقتضي: التحريم والبطلان.
وإذا تتبعنا النواهي سنجد أنها شرعت لحفظ الكليات الخمس وهي: الدين، والدماء، والنفوس، والأموال، والأنساب.
وقال صلى الله عليه وسلم: (فاجتنبوه) بدلاً من (فاتركوه)؛ لأن الترك قد يكون بعد فعل، وقد يكون بمجرد الكف، أما (اجتنبوه) فمعناها: أن تكون أنت في جانب والمنهي عنه في جانب آخر، وبينكما مسافة بعيدة.
إذاً: (فاجتنبوه) أبلغ من (فاتركوه) أو (فلا تفعلوه).
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر