الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه محمد الأمين، وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد:
فيقول الإمام النووي رحمه الله تعالى:
عن أبي حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام؟ .
يبدأ هذا الحديث بسنده إلى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وتقدمت ترجمة عمر في الحديث الأول: (إنما الأعمال بالنيات) .
يقول رضي الله تعالى عنه: ( بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يعرفه منا أحد، ولا يرى عليه أثر السفر، فجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام؟ ).
وكلمة: (بينما) أو (بينا) يتفق علماء اللغة والمحدثون على أن (بينما) أصلها (بين) الظرفية التي تأتي للزمان وللمكان، تقول: جئتك بين العشاءين، وجئتك بين الظهر والعصر، ولقيتك بين المنبر والحجرة، وقوله صلى الله عليه وسلم: (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة)، وقد تأتي (ما) قبل (بين) وتكون موصولة، فإذا جاءت (ما) بعدها لم تضف (بينما) إلا إذا كانت بين مجموعتين لا بين فردين، و(ما) هنا ألحقت بها لتكفها عن الإضافة إلى الفرد فلا تعمل الجر بالإضافة فيما بعدها، ولهذا يعرب ما بعدها مرفوعاً على الابتداء.
(بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم)، وفي بعض الروايات: (في المسجد).
وهو المسجد النبوي الشريف، يأتي جبريل عليه الصلاة والسلام معلماً في صورة المتعلم، ولهذا حُقّ لطلبة العلم في المسجد النبوي أن يفخروا ويحمدوا الله سبحانه، لأنهم يدرسون في المسجد الذي جاء فيه جبريل عليه الصلاة والسلام معلماً في صورة المتعلم.
وقد قالوا: كان مالك رحمه الله أشد الناس عناية باللباس، خاصة إذا درّس الحديث النبوي الشريف، وربما يبيع بعض أثاث بيته ليكمل هيئته في لباسه من أجل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي قصة مجيء هارون الرشيد إليه، حينما جاء إلى المدينة وعلم بموطأ الإمام مالك ، وكان من قبل أبو جعفر المنصور أشار على مالك بهذا الكتاب المبارك.
وجاء هارون ومعه الأمين والمأمون وأراد لهما أن يسمعا الموطأ من مالك ، فطلبه بكتابه إلى دار الإمارة، فامتنع من الذهاب إليه، وقال: إن العلم يؤتى إليه ولا يأتي، فجاء هارون الرشيد بنفسه ليسمع الموطأ من مالك ، فلما وصل إلى باب بيته وأخبرته الخادمة أن هارون الرشيد على بابه، أبطأ حتى جاء إلى هارون وأذن له بالدخول، فقال له هارون الرشيد : ما هذا يا مالك ! طلبناك فامتنعت علينا، وجئناك فأوقفتنا على بابك؟!
قال: يا أمير المؤمنين! إن وقوف العلماء على أبواب الأمراء يزري بهم، ووقوف الخلفاء على باب العلماء يعلي شأنهم، ثم إني علمت أنك جئت إلى بيتي، لا تريد دنيا ولا مالاً إنما تريد العلم، فذهبت فاغتسلت، ولبست ثيابي وتهيأت كي ألقي عليك من سنة رسول الله وأنا على أحسن حال. وهكذا ينبغي لطالب العلم!
كان بعض إخواننا الذين درسنا معهم في هذا المسجد النبوي الشريف كتاب بلوغ المرام، ورياض الصالحين، ونيل الأوطار، وهذا الكتاب المبارك الموطأ، كانوا في النهار يعملون في الأسواق على لقمة العيش بعفة وباستغناء عن الناس، فإذا جاء وقت الدرس بين المغرب والعشاء، كأنهم أقمارٌ في هذا المسجد في نظافتهم وهيئتهم ونور وجوههم، وهكذا: فقد كانوا في النهار عمالاً يسعون على أرزاقهم وعند الدرس لا تفرق بين أحسن إنسان في المسجد وبين هؤلاء الطلبة.
وهكذا يرسم لنا جبريل الطريق، ثم ها هو يأتي في بعض الروايات: (أنه وقف بعيداً وقال: يا محمد أأدنو؟ قال: ادن، ثم دنا قليلاً، وقال: أأدنو؟ قال: ادن، إلى أن وصل إلى مكانه وجلس).
وبعض الكتب تذكر أنه كان للنبي صلى الله عليه وسلم مجلس خاص؛ لأن الأعراب حينما كانوا يأتون إليه لا يفرقون بينه وبين سائر المسلمين ولا يعرفونه، فجعل له مجلساً خاصاً يميزه عند من يأتيه وهو لا يعرفه فيقصده صلى الله عليه وسلم، ولكني لم أجد في من أرّخ للمسجد النبوي هذا المجلس الخاص.. يذكرون أسطوانة الوفود في الروضة، التي كان يستقبل عندها الوفود، ويذكرون غيرها من الأسطوانات مثل أسطوانة السرير عند الاعتكاف، وأسطوانة التوبة لـأبي لبابة ، وأسطوانة المخلقة التي كان يجلس عندها ويجلس عنده شيوخ بني هاشم أو شيوخ المهاجرين الذين يوجدون بالمدينة.. إلى غير ذلك من الأماكن.
ومن هنا أخذ العلماء كيفية حالة الطالب مع شيخه حين طلبه للعلم بين يديه، ومجيئه بكل وقارٍ واحترامٍ لأستاذه كما جاء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكذلك من حق العالم أن يتخذ مكاناً في المسجد يجلس فيه، ولا يحق لأحد أن يسبقه إليه، وإذا سبقه إليه أحد فمن حقه أن يقيمه عنه، وهذا موضوع سبق النزاع فيه في هذا المسجد في القرن السابع الهجري، وقام ابن فرحون وكتب كتاباً - وهو مخطوط موجود في مكتبة عارف حكمت، وتوجد منه نسخة في مكتبة الجامعة- وذلك عندما نازعه أشخاص في أن يختص بمجلس له، فكتب الرد عليهم، وبين مشروعية ذلك، وأتبعه بسؤال: هل الأفضل للعالم بعد أداء الدرس أن يجلس مع طلابه يتناقشون في مسائل درسهم ويصلي مكانه، أو أنه يتركهم ويذهب إلى الصف الأول لفضيلته؟
ورجح أن جلوسه مع طلابه يدارسهم ويسألونه ويجيبهم عما أشكل عليهم في درسه أفضل له من أن يتقدم إلى الصفوف الأول؛ لأنه حاضرٌ قبل أن يتم الصف الأول.
وفي تلك الهيئة، يسند جبريل ركبتيه إلى ركبتي النبي صلى الله عليه وسلم، ويضع كفيه على فخذيه، أي: فخذي النبي صلى الله عليه وسلم، كما يذكر بعض العلماء، وفي رواية عند النسائي فيها التصريح بأن جبريل وضع كفيه على فخذي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كيف تحول جبريل عليه الصلاة والسلام من هذا القدر العظيم إلى هذه الصورة؟ هذا عالمٌ نوراني لا دخل للعقل فيه قط، وكذلك نرى من أحوال الجن وهو عالم نيراني -أي: من النار- ما يتشكل ويتجنس، وإذا تشكل في صورة أحكمته أحكام تلك الصورة.
فجبريل عليه الصلاة والسلام يتشكل بهذه الصورة، وأحيانا كان يتشكل كما قال صلى الله عليه وسلم في صورة دحية الكلبي رضي الله عنه، وقد كان يأتي في خفاء عن الناس، وهنا يأتي ظاهراً عياناً لكأنه يُشهد الخليقة بأن هذا جبريل الذي يأتيني بالوحي ما كان خافياً فقد أصبح ظاهراً، وقد يراه بعض الناس وقد لا يراه.
وقد جاء في أحاديث حق الجار عن بعض الأنصار قال: (خرجت مع أهلي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا برجل يقاومه -يعني: قائمٌ معه، والمقاومة يكون فيها كلٌ شخص قائم لصاحبه- فجلست وظننت أن له حاجة، ولقد رثيت لرسول الله من طول القيام مع هذا الرجل، فلما ولى الرجل، جئت وقلت: يا رسول الله! والله لقد رثيت لحالك من طول قيامك مع هذا الرجل، قال: أرأيته؟ قلت: بلى، قال: أتدري من هو؟ قلت: لا. قال: إنه جبريل، ولو سلمت عليه لردّ عليك السلام؛ ما زال يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه).
وحديث ابن عباس ، وذلك لما (جاء
إذاً: جبريل عليه السلام وهو ملك؛ إما أن يتحول في صورة البشر ويقترب من البشر، ويقترب من رسول الله فيما يمكن أن يأخذ عنه ويلقي إليه، وإما أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم في حالة الوحي، وهي أعلى منزلة في حالة البشرية العادية، حتى يتلقى عن الملك في حالته الملائكية، وهذا بناءً على ما أجرى الله لرسوله من تلك التهيئة البدنية على خلاف العادة، حينما شق صدره وهو غلامٌ صغير، فقد كان ذلك تهيئة لما سيتلقاه من الوحي الذي لا يمكن للبشر العادي أن يتلقاه.
وهكذا جاء جبريل عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عياناً، وفي صورة رجل من أجل أن يؤدي المهمة العظمى ويعلم الناس أمر دينهم.
قال بعض العلماء: لأنهم كانوا لا يحسنون السؤال، أو ربما يسأل الإنسان عما تحمله به زوجته، أو عما يأتي به الغد، أو عن أبيه من هو؟ ولهذا حظر الله عليهم كثرة سؤال الرسول، وجعل بين يدي سؤاله صدقة، فمن أراد أن يسأل رسول الله، فقبل أن يسأل عليه أن يتصدق، وليس كل إنسان يجد الصدقة، فيكف الناس عن كثرة الأسئلة ولا يسأل إلا من تصدق ومن كانت له حاجة ضرورية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً
(فإذا لم تفعلوا) أي: لم تستطيعوا، فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [المجادلة:13]، وهذه الصدقة شرعت ثم نسخت، كأنها تقول: احذروا كثرة الأسئلة، فمن واجب الشخص قبل أن يسأل رسول الله أن يتصدق قبل السؤال، ويقولون: إنه لم ينفذ هذه الآية إلا علي رضي الله تعالى عنه، وبعضهم يطعن في سند هذا الحديث بالنسبة لـعلي .
المهم عندنا أنهم أمروا أن يقيموا الصلاة، وأن يلتزموا بتعاليم الإسلام، فكفوا عن بعض الأسئلة، وكان يقول أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: (كنا ننتظر الأعرابي يأتي ليسأل فنفرح بسؤاله لنسمع الجواب)؛ لأنهم كفوا عن الأسئلة، وما كانوا يسألون إلا في الضروريات، فإذا جاء إنسان من البادية، وليس عليه هيئة الحضر، ويسأل حاجته فيفرحون بالسؤال؛ لأنهم يسمعون الجواب، فها هو جبريل عليه السلام جاءهم بالمنهج السليم في طريقة السؤال، فهو عالم ومتعلم، وهو الذي جاء بهذه الأمور كلها بالوحي؛ ولكن ليعلم الحاضرين كيف يسألون، وليبين لهم حقيقة الدين ما هي.
وانظر إلى دقة الوصف: (شديد بياض الثياب)، كأنه خارج من الحمام، (شديد سواد الشعر)، كأنه لم يمش خطوة في شارع، (لا يرى عليه أثر السفر) لنصاعة بياض ثيابه، ونقاء شعره من وعثاء السفر.
(ولا يعرفه منا أحد) ، أي: لا هو مسافر من بعيد، ولا هو من أهل البلد نعرفه، فلو كان من أهل المدينة لعرفه منا أحد، فلم يكن أحد من أهل المدينة يعرفه، ولم يكن قادماً من سفر، إذاً: من أين جاء؟
عمر يصف لنا الواقع، ويصف صورة مجيء جبريل التي تثير التساؤل!
نحن الآن نفرض لو أننا جلوس ورأينا واحداً وهو قاعد في الوسط أطول من الحاضرين بمتر، لا نعرفه ولم نر عليه أثر السفر، نقول: من أين جاء؟ طلع من الأرض أو نزل من السماء؟! ما رأينا الأرض انشقت عنه، ولا رأينا السقف انفرج عنه ونزل، ولكن جاء بصورة رجل ودخل واستأذن، فهو رجلٌ؛ لكن من أين جاء؟ هل أحد قال: إنه رأى جدران المسجدان تنشق عنه وهو يخرج منها؟
فاقترب جبريل عليه السلام وجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم حتى أسند الركبتين إلى الركبتين، وأخذ كفيه وبسطهما ووضعهما على فخذي النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: (يا محمد!).
ومعلوم بأن نداء النبي صلى الله عليه وسلم باسمه لا يجوز، قال تعالى: لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا [النور:63] ، وإنما يقال: يا نبي الله، يا رسول الله، فكيف جبريل نفسه يقول: يا محمد؟ هذا الأسلوب يتخذه الأعراب، فكأن جبريل جاء ويسأل على الأسلوب الجاري عند أهل البادية وعلى طريقتهم بدون كلفة أو ألقاب ومقدمات.
ثم قال: (أخبرني عن الإسلام) فأجابه صلى الله عليه وسلم.
وهنا نتساءل: هل الرسول عرف بأنه جبريل حينما قال: يا محمد، ثم جاراه في الأسئلة والأجوبة، أم أنه لم يعرفه، وكأنه رجلٌ من الرجال يسأل عن الإسلام وهو يجيبه؟
يرى بعض العلماء أنه لم يعرفه، ويروي في ذلك: (ما التبس عليّ جبريل قط حينما يأتيني إلا هذه المرة، وما عرفته إلا بعد أن ولى)، فكأن الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه ما عرف السائل بأنه جبريل عليه السلام حتى ولى، فعرف من توليه أنه جبريل، وقال: (ردوا عليّ الرجل).
لماذا يقول: ردوه؟ فما دام سأل وأخذ الجواب، فلماذا لم يتركه يذهب لحاله؟
لأنه تذكر بأنه جبريل عليه الصلاة والسلام.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر