ولهذا لو رأيتَ إنساناً يتلف ريالاً ويشعل فيه النار أو يقطعه لقلتَ: هذا مجنون، ولو رأيتَ إنساناً يدفع الملايين في عقار لقلت: والله هذا ناجح، هذا رابح، مع أنه دفع الملايين؛ لكن في عوض يقابل ذلك، وهكذا.
حتى قال بعض العلماء: المقايضة قائمة بين الإنسان والحيوان، وذكروا قضية التمساح مع الطائر الذي يأتي وينقب ما بين أسنانه وينظفها، والطائر يشبع.
وذكروا قصة الرجل الذي جاء واشتكى بعيره إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (قوموا بنا إلى بعيره، ولما وصلوا إلى البستان قال
فإذا كان قانون المعاوضة هو الذي يحكم قانون الحياة فهؤلاء الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله، من أين العوض لهم؟ أم أنه خرج عن القاعدة؟
ما خرج عنها، ولكن العوض كما بين سبحانه: مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ [البقرة:261]، وبيّن المولى بأن هذا تعامل وقرض مع الله: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ [البقرة:245].
إذاً: المنفق في سبيل الله والمتصدق على المحتاجين يتبادل العوض مع الله، وهذا بمقضى إيمانه ويقينه بالبعث والجزاء والأجر على ما أنفق، أما المنافق الذي لا يؤمن بالبعث ولا بالجزاء أتراه يتصدق بشيء ينفع؟
لا. فماله الذي ينفق منه خبيث، يذهب إلى أردء ما عنده من أنواع التمر ويجيء به، وكانوا فيما سبق يأتون بالحشف، والمؤمنون يأتون بعذق النخل فيه الرطب والبسر والتمر يعلقونه لأصحاب الصفة، والمنافق يأتي ويعلق الحشف، كما بيّن الله في حق الأعراب: منهم مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً [التوبة:98]، غرامة رائحة عليه، ومنهم من يعتبر ذلك مغنماً وقربات عند الله ورسوله.
إذاً: الذي يتصدق هو يتعامل بقانون المعاوضة؛ ولكن مع الله وليس مع الخلق: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ [الإنسان:8-9] منكم، ما قال: لا نريد مطلقاً، لا. بل منكم أنتم؛ لأنكم فقراء فماذا نأخذ منكم؟! لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً [الإنسان:9-10] هناك يوم عبوس، هو الذي نعمل من أجله، فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً [الإنسان:11].
إذاً: تقديم الجهاد بالمال له أهميته، والجهاد بالنفس له خطورته.
وكونهم أحياء عند ربهم جاء الواقع يصدِّق هذا، ونحن لسنا في حاجة إلى أن نختبر كلام الله بتصديق الواقع؛ ولكن كما قال إبراهيم: وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة:260]: يذكر مالك في الموطأ في شهداء أحد لما جاءت قناة معاوية أو جاء السيل وكشف عن أرجلهم، قالوا: نرفعهم عن مجرى السيل، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان دفنهم في الربوة التي على حافة السيل، أو كانوا في بطن الوادي، وكان بقايا مبنى المصرع -كما يقال: الموضع- الذي صُرع فيه حمزة دُفن فيه في بطن الوادي، وبعد الأربعين سنة لما أرادوا نقلهم من مجرى السيل إلى الربوة وجدوا أبدانهم سليمة وكأنهم دفنوا بالأمس.. وهذا بعد أربعين سنة؟!
وحدثني بعض الإخوان من أعضاء هيئة الأمر بالمعروف في تلك المنطقة، قال -كانت هناك هيئة ثابتة دائمة-: توفيت لنا طفلة فتكاسلنا أن ننزل بها إلى البقيع وقلنا ندفنها هنا بجوار الشهداء، وهي طفلة ولن تؤذيهم، فذهب أبوها يحفر لها فإذا به يفاجأ بالدم يفور في وجهه، فألقى المسحاة وأخذ يبحث فإذا المسحاة أصابت فخذ رجل وانبعث منه الدم، فأخذ غترته وعصب على محل الجرح وردم عليه التراب، وأخذوا البنت وذهبوا بها إلى البقيع. هذا في عام (1370هـ) أو دون السبعين. يعني: بعد قرن وثلث والدم في جسمه.
فإذا كان الإنسان مؤمناً وصادقاً في إيمانه أنفق المال في سبيل الله، والحسنة بسبعمائة وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ [البقرة:261]، وإن قتل فهو حي عند ربه يرزق.
إذاً: لا يتوانى ولا يتأخر ولا ينهزم ويكون بيقينه هذا من جانب المال ومن جانب النفس ينطلق يجاهد في سبيل الله، أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحجرات:15].
أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ [الحجرات:16]: والله لا يخفى عليه شيء؟
وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [الحجرات:16]، ومن ضمن ذلك دينكم لا يخفى عليه، ما دام يعلم ما في السموات وما في الأرض على سبيل العموم والشمول.
إذاً: فهو يعلم حقيقة دينكم، فتعلِّمون الله بشيء غير موجود؛ لأن الله يعلمه أنه غير موجود، وهذا رد على ادعائهم وبيان أن ادعاء غير الواقع لا يخفى على الله سبحانه وتعالى.
يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحجرات:17-18].
بعدما بين موقف الأعراب وأظهر حقيقة حالتهم جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن باب التسلية ومن باب الوقائع: هؤلاء جاءوا يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا [الحجرات:17]، وأنت لا تتحمل منة أحد، وما لهم حق أن يمنوا عليك. دفاعاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والمن هو: ذكر أيادي الشخص على شخص آخر؛ لأن ذكر ذلك فيه ثقل على النفس. وبعض العلماء يقول: المن: نوع من الوزن أكثر من القنطار، يقولون: قنطارٌ ومَنٌّ، والمن ربما يوجد في الشام وربما يوجد في نجد، فالمن نوع من الوزن أكثر من القنطار، (يَمُنُّونَ)، يعني: يثقلون عليك بهذا الوزن الثقيل، وذلك لما جاء بعض الأعراب الذين تحدَّث عنهم من بني أسد فقالوا: (يا محمد! جئناك مسالمين ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان -يعني: يمنون عليه أن أسلموا بدون قتال ولا كلفة من المسلمين- قال لهم: لا).
وبعضهم يقول: المن ليس من الثقل وإن كان فيه نوعاً منه؛ لكنه العطاء دون أن تنتظر ممن أعطيت مكافأة ولا مجازاة ترفعاً عليه، فهنا لما قالوا: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا [الحجرات:17]، قال: لا جميل لهم، أو لا يد لهم عليك في إيمانهم؛ لأن إيمانهم لهم إن كانوا فعلاً آمنوا.
قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ [الحجرات:17]، لماذا؟
لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يتمنى أن العالم كله قد أسلم، فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا [الكهف:6]؛ ولكن لا، هوِّن على نفسك، ما كلفناك مثل هذا.
وهنا يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ [الحجرات:17]: إن كانت هناك فعلاً منة على أحد من الأطراف أنا أو أنتم فلا، المنة لله عليكم.
(أَنْ) وهذه للتعليل، هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ [الحجرات:17]، يعني: وهل هم آمنوا حتى هداهم للإيمان؟ قالوا: هداهم، أي: الهدى الظاهر؛ لأن الهدى قسمان:
* هدى بمعنى البيان والإرشاد.
* وهدى توفيق وإيمان يستقر في القلب، إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص:56]، يعني: لا توجد الهداية القلبية اليقينية في القلب؛ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56].. وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ [فصلت:17] أي: بينا لهم فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى [فصلت:17] أي: الضلال عَلَى الْهُدَى [فصلت:17].
إذاً: بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الحجرات:17] في دعواكم، وهذا يُشعر بعدم الصدق.
ويبين لنا منة الله على العباد: ما جاء في غزوة حنين، لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم وقسم الغنائم ولم يعط الأنصار من غنائم حنين شيئاً؛ مع أنه أعطى بعض المؤلفة قلوبهم من مكة (1000) شاة، و(100) بعير، والأنصار الذين جاءوا معه من المدينة لم يعط أي واحد منهم شاة واحدة، فقال بعضهم: لقي أهله فآثرهم علينا ولم يعطنا شيئاً، فبلغت المقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لـسعد : اجمع لي الأنصار ولا تجمع معهم أحداً، فجمعهم إليه ليلاً وأتاهم، فقال: (هل فيكم من غيركم؟ قالوا: فلان خالنا، قال: خال القوم منهم، ثم خطبهم وقال: يا معشر الأنصار! ما مقالة بلغتني عنكم؟ قلتم: كذا وكذا، ثم قال: أتعتبون عليَّ في لعاعة من الدنيا أتألف بها قلوب أقوام؟! ثم ذكر: ألم آتكم ضُلالاً فهداكم الله بي؟! قالوا: المنة لله ولرسوله. ألم أجدكم عالةً فأغناكم الله بي؟! قالوا: المنة لله ولرسوله -هذا محل الشاهد، أن الله منَّ علينا بهذا- وذكر أشياء ثم قال: ما لكم لا تجيبونني؟! قالوا: وماذا نقول؟ قال:-وهذا الإنصاف-: تقولون: كفر بك قومك وآمنا بك، طردك قومك وآويناك، و.. و.. إلى آخره. قالوا: الله ورسوله أمنُّ، أو الفضل لله والمنُّ، ثم قال: يا معشر الأنصار! والله لولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار، الناس دثاري، والأنصار شعاري
الناس دثاري: الدثار: اللباس الخارجي. (والأنصار شعاري): أي اللباسين أقرب للإنسان؟ الشعار.
والشاهد في هذه الحادثة: (ألم آتكم كذا وكذا، فيقولون: المنة لله). أي: لأن الله هو الذي امتن علينا بمجيئك إلينا، ومن علينا بما حصل لنا بهذا المجيء المبارك، والله أعلم.
إذاً: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ [الحجرات:17]؛ لأن إسلامكم راجع إليكم، لأنكم أنقذتم أنفسكم من النار، ولأنكم سلَّمتم أو ضمنتم سلامة دمائكم وأموالكم وأعراضكم بهذا.
إذاً: إن كنتم آمنتم فبمنة من الله عليكم، بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الحجرات:17] في دعواكم: آمنا.
يقول العلماء: هذا عَوداً على بدء، فقوله: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الحجرات:18] تأكيداً لقوله: إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الحجرات:17]، والله لا يخفى عليه الصدق من الكذب؛ لأنه يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الحجرات:18]، وانظروا إلى أول السورة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الحجرات:1]، في أول السورة ينبههم بصفات الله سبحانه ألَّا يقدموا بين يدي الله ورسوله وهو سميع عليم لما يقدمون أو يؤخرون.
وفي آخر السورة أيضاً يرجع إلى هاتين الصفتين الكريمتين، وكأنه ينبه في أول السورة على مراقبة الله؛ لأنه يعلم ويسمع، وكذلك في آخر السورة بعد هذا المشوار الطويل.
وبالله تعالى التوفيق. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر