الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
أيها الإخوة! في هذه الآية الكريمة نداء للمؤمنين بأحب الأشياء إليهم، قال الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونََ [الحجرات:11].
في هذه المقدمة من هذه الآية الكريمة ينادي المولى سبحانه عباده المؤمنين الذين التزموا بلوازم الإيمان، وهو: التصديق والعمل بكل ما جاء عن الله ورسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك: هذا التعليم القرآني الكريم.
أشرنا سابقاً بأن آيات القرآن يرتبط بعضها ببعض، ولذا لو رجعنا قليلاً لوجدنا قوله: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا [الحجرات:9]، فهنا طائفة متقاتلة مع طائفة أخرى، والطائفة هي الجماعة، والجماعة هي القوم، ولما انتهى القتال وجاء الإصلاح وتدخل المؤمنون قال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ َ [الحجرات:10]، ثم جاء تصفية ما عساه أن يكون من بقايا القتال بين الطائفتين، فقد تكون طائفة أقوى من الأخرى فتفخر عليها وتسخر من الطرف الثاني، فجاء التعبير بالقوم بناء على أنه تقدم عندنا طائفتان.
وسامع الذم شريك لقائله ومطعم المأكول شريك الآكل
الذي سمع ما ذم إنساناً لكنه سمع ورضي وتلذذ بذلك، كما قيل: لم آمر بها ولم تسؤني؛ فهو مشارك للذي سب، أو ذم غيره، وعليه فهو مشترك في الإثم، وهكذا هنا الجماعة الواحدة؛ فالذي يتكلم منهم ويسخر من الطائفة الثانية كأنه تكلم باسم الجميع، والجميع يتحمل الإثم؛ لأنه سكت ورضي.
وهكذا أي إنسان ذكر إنساناً بسوء وعنده من إخوانه من لم يرد عليه ولم يمنعه؛ فمن رضي بذلك فهو مشترك في الإثم معه بسكوته عنه وعدم نهيه عن فعله، ولذا جاء في بني إسرائيل: كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة:79]، ويقول علماء الأصول:الترك فعل في صحيح المذهب، فإذا رأى إنسان منكراً وهو يستطيع أن ينكره وترك النهي فهو كالذي فعله، ولو أن إنساناً وجد آخر يسبح في الماء وأوشك على الغرق، ويستطيع أن ينقذه دون مضرة عليه؛ فتركه حتى غرق فهو مشارك في مسئولية غرقه، ويقولون أيضاً: لو أن إنساناً في فلاة ووجد ظمآناً يكاد أن يهلك من العطش، وعنده فضل ماء يزيد على حاجته وتركه ولم يسقه فمات فهو مسئول عنه.
وأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يقول: (لو أن إنساناً مات جوعاً في حي من الأحياء لألزمتهم ديته لأنهم تركوا إطعامه)، هم لم يقتلوه ولكنهم أمسكوا فضل طعامهم ومائهم؛ فبإمساكهم ما به حياة إنسان يكونوا قد فعلوا ما يوجب الموت بالفعل، وهنا إشارة لطيفة في التعبير بلفظ بدل من لفظ، كان ممكن أن يقول: لا يسخر إنسان من إنسان، مسلم من مسلم، مؤمن من مؤمن، وهي تؤدي المعنى، ولكن يأتي بلفظ: (قوم)، والحاصل: أن السخرية لا تنشأ إلا من شخص واحد، إذا الواحد الذي أنشأ السخرية يمثل القوم، والقوم موافقون وراضون وساكتون، أما من ينكر ذلك فقد خرج منهم.
وكما يقولون: السخرية لا تكون إلا في جمع من الناس؛ لأنه لا يسخر من إنسان بينه وبين نفسه، وقد يكون هذا يتنقصه في نفسه ولكن العادة أنه لا يسخر من إنسان إلا بحضور آخرين، ويسخر منه ويتنقص في أمر يسخر منه، قد يسخر قوي من ضعيف.. غني من فقير.. سليم من مريض، كل هذه الأنواع المتغايرة المتفاضل فيها قد يسخر من الناقص منها.
ولكن يقول سبحانه: (عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ)، الخيرية هذه لها جهتان:خيرية في الدنيا، وخيرية في الآخرة. عسى أن يكونوا خيراً منهم عند الله، أنت تسخر منه وهو خير منك عند الله، يبقى فالسخرية حينها ترجع عليك أنت، كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه مر عليهم -وهو في أصحابه- رجل قوي جلد ذو هيئة فقال: (ما تقولون في هذا؟ قالوا: نعم الرجل، إن استأذن أذن له، وإن تحدث أصغي إليه وإن خطب زوج. فسكت عنهم حتى مر إنسان مسكين نحيف الجسم ضعيف الحال، فقال: ما تقولون في هذا؟ قالوا: إن تحدث لا يصغى إليه، وإن استأذن لا يؤذن له، وإن خطب لا يزوج. قال: لهذا خير من ملء الأرض من ذاك عند الله)، فهذا الذي تنظرون إليه على أنه ضعيف أو تزدريه أعينكم خير من ملء الأرض من ذاك الذي ملأ أعينكم وأخذ إعجابكم. هذه الخيرية عند الله.
لكن وإن قال جميع المفسرين هذا ولكن نقول:هذا في الدنيا؛ أنت غني تسخر من فقير، وما يدريك أن هذا الفقير على مكارم الأخلاق، وأحسن العادات.. صدوق في الحديث، وفيّ في العهود، محافظ على أوامر الله، يقيم الصلاة، يصوم رمضان، بينما أنت مفرط في بعض ذلك. قد تسخر منه لصحتك وهو مريض، وما يدريك لعله في مرضه يقوم الليل ويناجي ربه، وأنت غارق في النوم.
إذاً: قد تكون الخيرية في الدنيا بجوانب أخرى، أنت استنقصته بفقره والله عوضه من ذلك، ولهذا جاء عن الإمام علي رضي الله تعالى عنه أنه قال: (إن الله تعالى قسم العطاء على الخلق، ولو نظرت في أحوال الناس لوجدتهم من حيث العطاء سواء) قد تقول: كيف هؤلاء متساوون: هذا فقير وهذا غني، وهذا صحيح وهذا مريض، قال: (إن أعطى هذا مالاً ومنعه من هذا، فقد يعطي هذا راحة بال وطمأنينة نفس خير من مال هذا)، قد يكون المال مشغلاً لصاحبه، مقلقاً له، مؤرقاً إياه، ولكن هذا راض بما قسم الله له، والرضا عطاء من عند الله، فيبيت مطمئناً راضياً قانعاً، فيكون أسعد حالاً، وقد يعطي الله هذا مالاً ويمرض هذا ويعطيه من الحكمة والعلم ما يساوي مئات المرات مما أعطى هذا من صحة ومال.
وكما جاء عن عروة بن الزبير : أنه سافر إلى العراق إلى معاوية وحصل له في الطريق ما حصل، وهناك أصيبت ساقه، فجاء الطبيب فقال: لابد من بترها حتى لا يتفشى المرض في باقي الجسم فتقضي على حياتك، أخيراً: قطعت الرجل، فلما جاء إلى المدينة غطاها، وكان الناس يأتون يسلمون عليه ويعزونه في رجله، فدخل عليه أناس من أصحابه الأخصين، فقال لابنه:(اكشف عن رجلي ليراها فلان، فنظر إليه فضحك، قال: ما يضحكك على هذه المصيبة؟ قال: نحن ما أعددناك للسباق والصراع، ولكن أعددناك للعلم والفقه -وكان عروة أحد الفقهاء السبعة- قال: والله ما عزاني أحد فيها كما عزيتني أنت)؛ فلئن ذهب جزء من الساق أو الساق بكاملها فقد أعطاه الله سبحانه وتعالى من العلم والحكمة ما يفوق على الدنيا وما فيها.
إذاً: عسى أن يكونوا في الدنيا بجوانب أخرى خيراً منكم؛ فلا يسخر قوم من قوم.
إذا رأى الإنسان من نفسه تطلعاً أو تطاولاً وجاء الشيطان وأغراه فليقمع الشيطان عنه، وليعلم بأن هناك صفات أخرى إما معنوية أو حسية هي خير مما يسخر به هذا الإنسان.
إذاً: فالأحمق وغير العاقل هو الذي يسخر من أخيه الإنسان، ألفقره وغناك تسخر منه؟ فالغنى ليس بمحض جهدك بل الله سبحانه وتعالى يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، لينظر هل يشكر أم يكفر، يصبر أم يضجر؟ فهو عطاء من عند الله، والصحة كذلك ليست من جهدك ولا من عطائك، وهكذا لا ينبغي لعاقل قط أن يسخر من إنسان آخر رآه في حسبانه هو أنه منقصة في هذا الشخص الآخر، لا وكلا، ولذا جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (والله إني لأخشى لو أنني سخرت من كلب أن يمسخني الله كلباً).
أنس رضي الله عنه لما تزوج ودخل على زوجه -ما كان رآها قبل ذلك- فلما نظر إليها كأنه كان يتوقع أحسن من هذا، فعرفت ذلك في وجهه، فقالت: يا أنس ! إن الله تعالى يقول: كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [البقرة:216].
وهو رجل فقيه لما سمع كلام الله وفي وقت حرج مثل هذا قال: قبلنا، فرزقه الله منها بـمالك فعوضه الله بأعلى من المستوى الذي كان يريد، ومالك جاء بجارية ورزق منها بهذا الولد الذي أصبح إمام دار الهجرة، والله لو كان سيزنها بالذهب فإنه لا يعادلها، لو أن امرأة أخرى في جمالها وحسبها رأت تلك المرأة التي تزوجها أنس لازدرتها، ولو كانت تعرف بأنها سوف تنجب مالك بن أنس ، في تلك الساعة ازدرت نفسها عند تلك المرأة.
يقول بعض العلماء: إن القسمة هنا ثنائية رجال من رجال. هذا قسم، نساء من نساء. هذا قسم آخر، ولم يأت ذكر رجال يسخرون من نساء، ولا قسم نساء يسخرن من رجال؛ لأن بين الرجل والمرأة بون شاسع، وكمال الرجل لا يجعله يضع نفسه في مقارنة مع امرأة؛ لأنه ينظر نقائصها فلا يسخر منها، وكذلك المرأة مع الرجل؛ لأنها ترى أن الرجل أعلى منزلة منها، فلا تضع نفسها في رفعة حتى أنها تسخر من الرجل، فرجولته تغطي كل شيء، ولذا جاء بالفريقين فقط: قوم من قوم، ونساء من نساء.
ويقولون: إن أول معصية وقعت إنما هي الحسد، أي: حسد إبليس أبانا آدم على ما أكرمه الله به من أنه خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأمر الملائكة بالسجود إليه، وأمر بسكناه الجنة، وإبليس لم يجد شيئاً من هذا، فحسده على تكريم الله إياه، وأقول: إن قبل الحسد كانت السخرية، فإبليس ما حسد آدم إلا من بعد ما سخر منه واحتقره، ولما احتقره استكثر نعم الله عليه وأنه لا يستحقها، وهذا الذي يجري عند الناس إذا رأوا نعمة الله على عبد قالوا: لا يستحقها. وليس أهلاً لهذا، يعني: يسخر منه ويتنقصه ويستكثر نعم الله عليه، فهو محارب لله في عطائه لبعض خلقه.
أقول: إن السخرية سبقت الحسد، والحسد جاء بسب السخرية، وكانت نتيجة الحسد الكبر، ونتيجة الكبر العصيان قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَاسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنْ الْعَالِينَ [ص:75]، رجع إلى أصله الذي خلق منه، وسخر من آدم ومن أصله الذي خلق منه، وهو مخطئ في هذه المقدمات، ومخطئ في هذه النظرية، ويقول العلماء: إن الطين خير من النار، ولولا الطين ما كانت النار، أَفَرَأَيْتُمْ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ [الواقعة:71-72].
وقود النار من الشجر الذي ينبت في الطين، فالطين أصل، ويقولون: لو أخذت نواة وألقيتها في النار فإنها ستحترق ولا تنبت، ولكنها إذا رميت في الطين فإنها ستنمو وينتفع بها الغير، فأصل الطين ينبت ما هو خير، وأصل النار يهلك غيره، وعلى هذا يقول: نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [الواقعة:73-74]، وعلى هذا يحذر الإنسان العاقل من أن يقف موقف السخرية من أي إنسان كان حتى وإن كان كافراً، فإنك تستعيذ من حاله، وقد تشفق عليه لمآله، لكن لا تسخر منه، فإن الله كتب عليه هذا، ولو استطعت أن تدعو له بظهر الغيب أن يهديه الله ويأخذ بيده إلى الإسلام والإيمان كان خيراً من أن تسخر منه.
إذاً: هذا كله مبدأ عظيم في هذه السورة الكريمة، وكما أشرنا سابقاً أننا نسميها سورة الآداب أو سورة الأخلاق، وهذا من أعظم تهذيب أخلاق الأمة الإسلامية،بأن لا يسخر بعضها من بعض لا أفراداً ولا جماعات.
ومجيء النهي: (وَلا تَلْمِزُوا)؛ لأن من سخر من إنسان في نفسه لمزه بلسانه عند غيره،فهذا مترتب على ذاك،وهذا من الإعجاز القرآني والسبك في الأسلوب، وترتيب الأحداث بعضها على بعض.
وهل الإنسان يلمز نفسه؟
يقول العلماء: نعم، وهذا بوجهين:
الوجه الأول: كما في قوله: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ [النساء:29]، لا أحد يقتل نفسه إلا المنتحر والعياذ بالله.
حينما تلمز أخاك المسلم فكأنما لمزت نفسك؛ فأنت وهو شيء واحد، والأمة الإسلامية كلها كالجسد الواحد، (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد)، أو كالبنيان المرصوص بعضه يربط بعضاً، فلما كان الإسلام يعتبر الأمة كياناً واحداً؛ فمن لمز فرداً من الأفراد فقد حمل نفسه في عموم الوحدة الإنسانية باللمز الذي طرأ على غيره، وهذا غاية الترابط والتراحم والتآلف.
الوجه الثاني: لا تلمز إنساناً ولو كان بشيء واقع فيه، ولا يرضاه، فسيلمزك بمقابل هذا سواء كان فيك أم لا، صدقاً أو كذباً؛ انتقاماً لنفسه وانتصاراً لشخصه؛ فتكون أنت قد لمزت نفسك بلمزك أخاك، كما قال الله: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:108] هذا سداً للذريعة، وجاء في الحديث: (لا يسب الرجل أباه ولا أمه، قيل: أو يسب أحد أباه أو أمه؟ قال: نعم،يسب أبا الرجل فيسب الرجل أباه، ويسب أمه فيسب أمه)، فيكون هو المتسبب في سب أبيه وأمه.
وعلى كلا المعنيين -وكلاهما جليل- على الإنسان أن يتحفظ من ذلك.
(وَلا تَنَابَزُوا)، أي: لا يلقي بعضكم على بعض الألقاب السيئة التي يتأذى منها صاحبها ولو كانت فيه حقيقة، وهذا يستثنى منه عند علماء الحديث في معرفة الرجال، وتجدون في بعض الروايات: عن فلان الأعرج، أو الزيات، أو الخرقي، يعني: بائع الزيت أو بائع الخرق، وهي ألقاب قد تستنكرها العرب لكن لكونه لا يعرف إلا بذلك أو اشتهر عند الناس بذلك فلا مانع أن يذكر للتعريف لا للنبز ولا للإهانة.
ويذكر ابن جرير الطبري عن مجاهد عند قوله تعالى: (وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ) بأن هذا داخل بالألقاب التي تتصل بالإسلام، كأن يقول إنسان لشخص لخطأ ما: يا فاسق. يا منافق. يا فاجر.. فيقولون: هذا هو التنابز بالألقاب -أي: الصفات التي لا يرضاها الإسلام، وبعضهم يقول: هي أعم من هذا، وعلى هذا الرأي: إذا كان التنابز بالألقاب يختص بصفات الإسلام ومخالفاتها فنحن نقول اليوم: لا تنابزوا بقولكم: فلان متعصب، فلان مقلد، فلان مجتهد، فلان صفته كذا، فلان يحمل كذا، لا ينبغي لطالب العلم أن يصف زميله في طلب العلم بصفة لا يرضاها لنفسه، وماذا في ذلك إذا كان ما يأخذه من المذهب حق، ومستند إلى مستند شرعي؟
نعم. الحال أن يتمسك بما يراه حقيقة أو أرجح، لكن الذنب فيما إذا كان طالب علم ووجد مسألة خلافية والمذهب الذي هو ملتزم به أخذ بجانب لا دليل عليه،أو عنده دليل وعند المذهب الآخر ما هو أرجح وأقوى منه وأخذ به الجمهور؛ فلا يحق له أن يتعصب لهذا الرأي الضعيف لمجرد أنه مذهب صاحبه، لا ينبغي هذا، ولكن لا نعيبه في الدين، إنما هو أمر اجتهادي، ورأى إمامه هذا الرأي وأخذ به؛ فلا ينبغي أن نجعل ذلك موضع لمز وغمز وتنابز بالألقاب، ويأتي إنسان ويقول: هذا متطرف،لأنه يأخذ بكذا وكذا.. لا ينبغي أن يكون الاختلاف في الرأي موضعاً للتنابز بالألقاب، بل الواجب على طلبة العلم أن يصلوا الرحم الذي بينهم، ألا وهو العلم، فهو رحم بين أهله، وعلى هذا فإن الواجب على طلبة العلم أن يلتفوا حول العلم، فإذا كانت مسائل خلافية، أو اجتهادية؛ فلا ينبغي أن تكون سبباً في نبز البعض أو لمزه.
والفرق بين المسائل الاجتهادية والخلافية هو: أن المسائل الخلافية فيها نص واختلف في معناه، أو نصوص تعارضت واختلف فيما يؤخذ منها؛ لأن الذي بين المختلفين فيها الأدلة نفسها، أما المسائل الاجتهادية: فليس فيها نص، وإنما نظرها العلماء واجتهدوا فيما يحملونها عليه من قاعدة عامة، أو آية أو حديث، بمفهوم المخالفة، ومفهوم الموافقة، والقياس.. يكون هناك قرائن تحمل عليها؛ فهذه اجتهادية نشأت من اجتهاد العلماء فيها،وكلا الأمرين لا ينبغي الاختلاف فيه بين الناس، ولا يكون الاختلاف في الأدلة سبباً للنزاع والفرقة، وقد ذكرنا في رسالة: موقف الأمة من اختلاف الأئمة، وكان الأئمة إذا التقوا أو تلاميذهم على اختلاف ما بينهم بالمذهب لم يكونوا متفرقين، ومتخاصمين، ومتحزبين، ومن أغرب ما قرأت عن الشافعي رحمه الله: أنه لما جاء إلى بغداد، للأعظمية -حي الإمام الأعظم أبي حنيفة - وكان هناك مسجداً فلما صلى فيه لم يقنت في الفجر، فقيل: لم لم تقنت وهو مذهبك؟ قال: احتراماً لصاحب هذا القبر، وأبو حنيفة يرى القنوت في الوتر، والشافعي بعد وفاة أبي حنيفة يترك القنوت في الفجر حتى لا يكون مخالفاً لـأبي حنيفة عند قبره.
وعندما قيل للإمام أحمد : أتصلي خلف من أكل لحم الجزور ولم يتوضأ؟ وأحمد يرى الوضوء من أكل لحم الجزور، فقال: كيف لا أصلي وراء مالك وسفيان وفلان وفلان، هل اختلافي معهم في مسألة يمنعني من أن أصلي وراءهم؟
وقد أطلنا في هذه النقطة؛ لأنها -في نظري- تخص طلبة العلم أكثر من عوام الناس، فعوام الناس قد يفعلون ما يفعلون بجهل أو بدافع غريزة ما، ولكن طلبة العلم يقعون في ذلك عن قصد، وهذه هي الداهية الكبرى؛ لأنها تفرق بينما يجب عليهم أن يجتمعوا ويعملون على اجتماع الأمة لا أن يكونوا هم مصدر الخلاف والفرقة.
إذاً: (وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ) أياً كان هذا اللقب، كما قيل عن مجاهد : يا فاسق.. يا منافق.. يا سارق.. يا زاني.. يا شارب.. أو أنه كان فيه معان أخرى ويلحق بذلك ما أشرنا إليه مما يجب أن يكون عليه طلبة العلم من الابتعاد من أن يلمز بعضهم بعضاً بألقاب لا يرضاها هو لنفسه.
وإذا ما شرق أو غرب إنسان يسأل: ما اسمك؟ يقول: اسمي فلان، فيعرف باسمه.
(بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ) بعد ما كان يقال: يا مؤمن، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ [الحجرات:11]، فإذا وقعت السخرية كانت السخرية معصية، والمعصية خروج عن طاعة الله، والخروج لغة: الفسق، والفسق أعم من المعاصي، فقد يكون مخرجاً من الملة، وقد يكون كبيرة من الكبائر، وقد يكون صغيرة من الصغائر، أو مطلق الخروج عن الجادة وعن الصراط المستقيم.
يا أيها الذي ينبز بالألقاب لقد كان فعلك فسقاً، والآن يقال لك: فاسق بتنابزك بهذا الاسم بعد أن كان يقال لك: يا مؤمن؛ لأنك لم تؤذ غيرك.
بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ والمراد به: من وصف بالفاسق، أو المراد به من نبز غيره واستحق وصف الفسق بنبزه أخاه باللقب الذي يكرهه.
(وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ). أي: فتوبوا إلى الله من هذا العمل، وتوبوا إلى الله مما وقعتم فيه من سخرية واستهزاء ولمز وتنابز بالألقاب، توبوا من هذا كله.
وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ [الحجرات:11] لم يقل الفاسقون، مع أنه معصية وفسق، ولكن جاء بالوصف الأخص.
يقول علماء اللغة: إن الظلم لغة: وضع الشيء في غير محله، فإذا جاء إنسان وظلم آخر وأخذ ماله ووضعه في غير موضعه، كيد الغاصب والأصل أن يكون في يد مالكه؛ فقد ظلمه.
فكذلك هؤلاء جميعاً، فمن سخر من إنسان فقد وضع السخرية في غير موضعها؛ لأنه سخر من شخص عسى أن يكون خيراً منه، فإذا كان خيراً منه فلا موضع للسخرية وهو ظلم له، وإذا لمز إنساناً بعينه بعيب فيه أيضاً فقد يكون ظلمه؛ لأن هذا العيب لم يأت به هو وإنما أنت الذي أشهرته، فأنت ظالم في نقله إلى الآخرين، ومثله التنابز بالألقاب؛ فأنت وضعت هذا اللقب في غير موضعه؛ لأن صاحبه يكرهه ويتبرأ منه، لكنه لصق به.
إذاً: ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون، فالظلم درجات، أعلاها الشرك، كما قال لقمان لابنه: وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13] وكذلك الإنسان يظلم نفسه بالمعصية، وبالمكروه.. إلى غير ذلك.
تأملوا هذا النسق القرآني العظيم، بعد ذكره سبحانه وتعالى السخرية وما يتعلق بها من اللمز والنبز بالألقاب يأتي بقسم آخر من الأخلاق الفاضلة التي ينبغي أن يكون عليها المجتمع المسلم، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا هذه الخطوات الثلاث وما بعدها إيضاح لجريمة الغيبة.
قوله سبحانه: (اجْتَنِبُوا) بدل اتركوا أو لا تظنوا، يقول فيه والدنا الشيخ الأمين رحمة الله علينا وعليه: قال في الخمر: (فاجتنبوه) أبلغ في الزجر من اتركوه، أو لا تشربوه؛ لأن (تتركوه) قد يتركه وهو جنبه محتفظ به.. لكن (فاجتنبوه). أي: جنبوه عنكم بعيداً، وكونوا عنه عن بعد فإذا كان عنك بعيداً فلا أنت شارب له ولا محتفظ به.
وهنا: اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ ، أي: كونوا على جانب من البعد من كثير من الظن، وهذا أبلغ من: لا تظنوا , و(كَثِيراً) مفهومه: لو كان هناك ظن قليل وكان الظن للخير فلا مانع، كما قال تعالى: ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا [النور:12]. جلس أبو أيوب وأم أيوب في تلك الحالة فقال: يا أم أيوب ! لو كنت مكان عائشة أتفعلين ما يقال عنها؟ قالت: لا والله. ولا أرضاه لنفسي، فقال: لـعائشة خير منك، فقالت: وأنت يا أبا أيوب لو كنت مكان صفوان بن المعطل ، أكنت تفعل ما يقال عنه؟ قال: لا والله، ولا أرضاه لنفسي، فقالت: لهو خير منكم، فظنوا بأنفسهم خيراً، وكذلك ظنوا بأم المؤمنين أنها لا تفعل ذلك، فهذا ظن في الخير، فالظن في الخير كله خير، أما في الشر فلا.
إذاً: اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ ولا مانع أن يكون هناك بعض الظن في الخير، والظن هو: التوجس والتحسب، وأن يكون فقه على غير علم، لا عن محسوس بسمع ورؤيا.
ثم هذه السخرية وما يتبعها من الهمز واللمز والنبز بالألقاب جاء هنا مرة أخرى، فقال: اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ ، فإذا لم تجتنب وغلبتك النفس، ورأيت بعض العلامات أو الأمارات ورأيت أن بعض الناس يدخلون ويخرجون من بيت ما، فتقول: ماذا عند هؤلاء؟ وذهبت تقدر بأنهم يجتمعون على كذا، وأنهم يعملون كذا، فظننت بهم شراً، فقلت: لماذا الظن؟ لم لا أتأكد؟ فذهبت تتجسس عليهم لتتحقق ما ظننته فيهم.
إذاً: التجسس مبني على سوء الظن، فجاء الترتيب منسقاً، اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ فإذا ظننتم ولا بينة عندكم فلا تتبعوا سوء الظن بالتجسس لتتحققوا فيما ظننتم فيه، وهذا في غاية من البلاغة والتنسيق القرآني الكريم، ظننت ثم ذهبت فتجسست لحب الاستطلاع، فستجد نتيجة إما سلباً أو إيجاباً، فلما لم تجد شيئاً رجعت بخفي حنين، أو أنك وجدت شيئاً مما كنت تظن، فماذا يكون موقفك؟ قف عند هذا ولا تذهب تغتاب أخاك فيما رأيته من تحقيق ظنك السابق.
إذاً: يبدأ سوء الظن وهو عمل القلب، ثم تأتي الخطوة الثانية وهي: التجسس وهو عمل الجوارح، وتأتي الخطوة الثالثة بمقتضى تجسسك بأن تغتابه بذكر ما رأيت من معايب.
أرأيتم هذا النسق القرآني العجيب؟ هذا هو الإعجاز.
ثم يأتي تصوير القبح في هذا العمل: وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ [الحجرات:12]، أي: بما رأى من تجسسه، أو كما بين الحديث بصفة عامة: (ما الغيبة يا رسول الله؟ قال: ذكرك أخاك بما يكره، قال: أرأيت إن كان حقاً ما ذكرته فيه؟ قال: إن كان فيه فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول: فقد بهته) ؛ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً [الأحزاب:58]، فقد وسع الرسول صلى الله عليه وسلم في موضوع الغيبة إما ابتداء وإما نتيجة للتجسس لا يغتب بعضكم بعضاً.
ثم جاء بالصورة التوضيحية: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً [الحجرات:12]، هذا التمثيل التصويري صورة بصورة، جعل القرآن العظيم أن ذكرك أخاك في غيبته بما يكره كأن تنهش لحم أخيك الميت، بجامع أن الغائب لا يملك أن يرد عن نفسه حال غيبته، والميت لا يملك الدفاع عن نفسه لموته، وقبح الفعل يأتي بالتعبير عنه بقوله: (فَكَرِهْتُمُوهُ).
هذا أكل لحم أخيه لا لحم الغير، وهنا يبرز معنى الأخوة؛ لأن معنى الأخوة: العاطفة والرحمة والتآلف والتراحم، أما أن تغمز وتلمز وتغتاب أخاك وتصفه بما يكره، فهذه ليست من معاني الأخوة في شيء، ويذكرون الحديث النبوي الشريف في قصة ماعز لما اعترف وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم برجمه، فسمع الرسول صلى الله عليه وسلم شخصين يتحدثان ويقولان: (ما فتئ ستر الله عليه حتى جاء وفضح نفسه، حتى رجم رجم الكلب، فلما سمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم سكت عنهما، حتى إذا مر بجيفة حمار) وفي رواية: (تيس أسك ميت قد انتفخ فوقف عنده وقال: يا فلان ويا فلان -وسماهما- تعالا كلا من هذه الجيفة، قالا: يرحمك الله يا رسول الله، وهل هذه تؤكل؟ قال: والذي نفسي بيده! للذي قلتماه في أخيكم أشد عند الله من أكل هذه الجيفة، والله إنه الآن ليمرح في متع الجنة).
إذاً: هذه صورة يجعلها القرآن الكريم لمن اغتاب أخاه في غيبته سواء كان فيه ما قال أو لا؛ ما دام أنه يكره ذكر هذا فلا تذكره له، وهو تابع للتنابز بالألقاب المنهي عنه؛ كل ذلك إبقاء على وحدة المسلمين ووحدة الأمة ووحدة الصف؛ لأن هذه التوافه هي التي تمخض القلوب وتنفر بعضها من بعض، وتأتي بالفرقة بعد الألفة، فبين الله سبحانه وتعالى أن هذا الفعل كريه: (فَكَرِهْتُمُوهُ) وهذا فعلاً شيء مكروه، فما دمتم تكرهون الأكل من جيفة الميت فكيف ترضون ذلك من لحم أخيكم؟ وكيف ترضون بالغيبة التي تعادل ذلك بالصورة والإنكار.
(وَاتَّقُوا اللَّهَ) اتقوا: الوقاية مما عند الله بترككم ذلك وبالعودة إلى الله بالتوبة، وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ [الحجرات:12] سبحان الله! ما قال: أنا الغفور الرحيم، وإنما قال: (توبوا) وهذا يرجع إلى أحد أمرين: إما أن تكون راجعة لهذا الذي ظننت به السوء ونصبت نفسك شرطياً تتجسس عليه، فاعلم أن الله تواب رحيم، فإذا كان المولى ستر عليه ولم يفضحه فكن أنت صاحب سلطان؛ فالله الذي خلقه وخلقك تواب يتوب عليه ومرجعه إليه وأنت تذهب وتكشف سريرته، لا.
وإما راجعة إلى هذا الذي اغتاب وتجسس وسخر أنه إذا رجع إلى الله تاب الله عليه مما فعل.
فـ(تواب رحيم) صالحة أن ترجع إلى الطرفين، المعتدي والمعتدى عليه. وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا وسيدنا محمد.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الجواب: نعم، وهذا ظاهر من أمرين: الأول من قوله: (عليكم بسنتي)، وكيف يكون معنى هذا؟ وكيف نلزمها إذا كانت معرضة للضياع؟ فما دام أنا ملزمون بالالتزام بالسنة يكون هناك كالعهد بحفظها لنلزمها دائماً، والشيء الثاني: الآية الكريمة (إِنَّا نَحْنُ) الذكر الكريم يقول: مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الحشر:7]، وكان والدنا الشيخ الأمين رحمة الله علينا وعليه يقول: السنة بمجموعها قطرة من بحر القرآن الكريم، فحفظ القرآن يتناول حفظ السنة، لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل:44]، أي: يُبين لهم بالسنة، إذاً: تبيان القرآن محول على السنة، والقرآن فيه وعد من الله بالحفظ، فيكون وعد الله بحفظ القرآن وعد بحفظ السنة التي تبينه، والله تعالى أعلم.
الجواب: من قال هذا؟ بل هناك رسالة لأحد الإخوان من الجامعة الإسلامية وكنت مشرفاً عليها، فذكرت في صالة المحاضرات عند مناقشة الرسالة: أن الشائع عند الناس أن الإمام أحمد كان إماماً في الحديث، ولكن بهذه الرسالة وبالمسائل الفقهية التي ذكرها الطالب والمسائل الأخرى التي ذكرها أبو داود ، وولده عبد الله في عدة كتب بعنوان: مسائل الإمام أحمد . وهي المسائل الفقهية، تبين أن الإمام أحمد كان فقيهاً أكثر منه محدثاً.
إذاً: فالإمام أحمد كان يجمع بين الفقه والحديث وليس كما قيل: إنه لم يكن فقيهاً.. بل هو فقيه، والمسائل التي حصرت أو أخذت عنه تقوي هذا المذهب وزيادة، وما من مسألة فقهية عند الحنابلة أساسية إلا ولـأحمد رأي فيها.
وهناك بعض المسائل كما يقول: الوجوه والنظائر كمصطلح عند العلماء، هذه وجوه على أصل آخر روي فيه عن أحمد عنه قول أو نظيره،أو قول قاله الإمام أحمد.
إذاً: ما خرجت عن فقه أحمد رحمه الله.
الجواب: المحدث والفقيه يشتركان، إلا أن المحدث يكون شغله بالحديث وحفظه متناً وسنداً، والفقيه اشتغاله أكثر بالتفريعات الفقهية والجزئيات في أعمال الناس، وكلاهما فقيه محدث؛ لأن الفقيه لابد أن يكون له من الحديث استدلالاً في فقهه، والمحدث يكون فقيهاً بالحديث الذي يحفظه، لكن إذا غلب أحد الجانبين على أحدهما كان مشهوراً به، فالفقيه الذي كثرت مسائله في الفقه، والمحدث الذي كثر حفظه للأحاديث، وكلاهما يشترك في الحديث معاً وفي الفقه معاً، أي: أن الحديث والفقه شيء مشترك بين الجانبين، وكل بما اشتهر به، والله تعالى أعلم.
وقد تجدون في بعض الكتب: كل فقيه محدث، وليس كل محدث فقيه، وهذه المقولة فيها نظر؛ لأنهم يعنون بالمحدث الذي ليس بفقيه الذي يعنى بالأحاديث فقط، وقد وجدنا بعض الناس همه وشغله الشاغل بالأسانيد والرجال: صحيح، حسن، ضعيف، حسنه فلان، ضعفه فلان، أما الاشتغال بالفقه فيكونون في جانب واحد، فهذا الذي يقولون عنه: وليس كل محدث فقيه، أما المحدث الذي يعنى بالمتن مع السند فقهاً وحفظاً فكيف يكون غيره خيراً منه.
والله سبحانه وتعالى أعلم. وصلى الله وسلم على نبينا وسيدنا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر