إسلام ويب

على عتبة عام جديدللشيخ : محمد الفراج

  •  التفريغ النصي الكامل
  • مضى عام من حياتنا معدود في آجالنا، ومكتوب في أعمارنا، بما استودعناه من خير أو شر، فالمسلم الفطن هو الذي يقف مع نفسه وقفة محاسبة، فإن قدّم صالحاً شكر الله، وإن كانت الأخرى تاب إلى الله. فعلينا أن نستقبل هذا العام الجديد بالتوبة النصوح، فإن التوبة واجبة على كل مسلم، وهي من أحب الأعمال إلى رب العالمين.
    الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [آل عمران:26-27].

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا مدبر معه، ولا معقب لحكمه، ولا غالب لأمره، ولا إله غيره، ولا رب سواه، لا معطي لما منع، ولا مانع لما أعطى، له الأسماء الحسنى، والصفات العلى: وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [طه:7-8].

    وأشهد أن محمداً عبده المرتضى، ورسوله المجتبى، ونبيه المصطفى، صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه وأزواجه وإخوانه وأعوانه في الآخرة والأولى، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، وطاعته، واتباع أمره، والوقوف عند حدوده، والبُعد عن محارمه، والتمسك بسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ومحاذرة معصيته.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].

    العبرة الأولى: معشر الإخوة: بعد يومين نودِّع عاماً من أعوامنا وأعمارنا، معدود في آجالنا، ومكتوب في أعمارنا، بما استودعناه من خير أو شر، ونستقبل عاماً جديداً هو معدودٌ في أعمارنا، ومكتوب في آجالنا، ومحسوب في أوقاتنا.

    والمسلم الذي يرجو ثواب الله ويخاف عقابه, والقلب الواعي والمعتبر والمتدبر؛ يقف مع نفسه موقف المحاسبة والعبرة.. هذا هو شأن المسلم.

    وأما غيره من أصحاب القلوب المريضة أو الميتة -الذين لا يعتبرون بالنوازل ولا بالأحداث- فهم يعيشون عيشة الأنعام والبهائم، وهم وقود نار جهنم -عياذاً بالله من جهنم- وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف:179].

    والمسلم صاحب القلب الواعي والحي يقف مع نفسه مواقف ويأخذ في هذه المناسبة عدة عبر:

    أما العبرة الأولى: فهو أن نقف مع أنفسنا موقف المحاسبة والملاحظة والمراقبة:-

    ماذا قدمنا في ذلك العام؟!

    ماذا قدمنا في هذا العام المنصرم الذي يوشك أن نودعه بما استحفظناه من عملنا؟!

    هل قدمنا فيه عملاً صالحاً أو عملاً سيئاً؟!

    هل حافظنا فيه على الصلوات؟!

    هل حافظنا فيه على المكتوبات؟!

    هل أدينا فيه الزكوات؟!

    هل حفظنا فيه أسماعنا، وأبصارنا، وقلوبنا، وجوارحنا عن الحرام؟!

    هل حفظنا فيه بطوننا عن أكل الحرام؟!

    هل حفظنا فيه أوقاتنا وساعات أيامنا وليالينا، أو أننا ركبنا الشهوات واتبعنا المحبوبات، وتركنا الواجبات والمكتوبات، وسابقنا إلى الشهوات والملذات، وسارعنا إلى الحرام بأجسامنا، وبأعيننا، وقلوبنا، وآذاننا، وكل جوارحنا؟!

    فإن قدمنا عملاً صالحاً شكرنا الله وحمدناه، وإن كانت الأخرى استعتبنا وتبنا إلى الله واستغفرناه، فإن السيئة تمحوها الحسنة.

    والله عزَّ وجلَّ يقول: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ [آل عمران:135-136].

    ويقول سبحانه: إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ * وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ * وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد:19-24].

    ويقول نبينا صلى الله عليه وسلم: (اتقِ الله حيثما كنتَ، وأتبع السيئة الحسنة تمحُها، وخالق الناس بخلق حسن).

    إدبار الدنيا وإقبال الآخرة

    العبرة الثانية: أن يأخذ المسلم لنفسه العبرة من مر الأعصار، وتصرم الأعمار، وكر الليل والنهار، عملاً بقول الله عزَّ وجلَّ: يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْـرَةً لِأُولِي الْأَبْصَـارِ [النور:44].

    وهكذا -عباد الله- سنة على إثر سنة، وعام بعد عام، وشهر يتلوه شهر، ويوم فيوم، وساعة فساعة، فماذا قدمنا لقيام الساعة؟! إنما هي أعمارنا وحياتنا هي هذه الأيام التي نعيشها، وكل يوم تغرب شمسُه معدود في أعمارنا، ومحاسبون عليه، ندنو به مرحلة إلى القبر، ونبتعد به عن الدنيا، ونقترب إلى الدار الآخرة.

    قال الإمام علي بن أبي طالب عليه رضوان الله: [إن الدنيا قد ولت مدبرة، وإن الآخرة قد ولت مقبلة، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا].

    وقيل لـمحمد بن واسع عليه رحمة الله: [كيف أصبحتَ؟ قال: كيف أصبح من دنا إلى قبره مرحلة]

    وقال الإمام الحسن البصري عليه رحمة الله: [يابن آدم! إنما أنت أيام مَجموعة، فإذا ذهب يومٌ ذهب بعضُك]

    وقال أيضاً: [يابن آدم! إنما أنت بين مطيتين توضعانك، توضعك مطية الليل إلى النهار، ويوضعك النهار إلى الليل، حتى يُسلماك إلى قبرك].

    فمن أشد منك خطراً يابن آدم؟!

    نصيحة لمن كبر سنه وغاب عقله

    مر الفضيل بن عياض عليه رحمة الله، على رجل كبير طاعن في السن، غارق في معصيته، فقال له: يا هذا! كم مضى من عمرك؟ قال: ستون سنة، فقال الفضيل : رجل يسير إلى ربه منذ ستين سنة، يوشك والله أن يصل، فقال الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون، فقال الفضيل : كذبت! لو علمتَ أنك عبد لله لعلمتَ أنك إليه راجع، ولو علمتَ أنك إليه راجع لعلمتَ أنك موقوف بين يديه، ولو علمتَ أنك موقوف لعلمتَ أنك مسئول، ولو علمتَ أنك مسئول لأعددتَ للسؤال جواباً، فقال له: يا فضيل ! ما الحيلة؟ قال: الحيلة يسيرة، أن تحسن فيما بقي، فإن من أحسن فيما بقي غفر له ما مضى، ومن أساء فيما بقي أُخذ بما مضى وبما بقي.

    وفي هذا المعنى يقول الشاعر:

    وإن امرأً قد سار ستين حِجـةً     إلى منهل من ورده لقريبُ

    أيها المسلم: ما أقبح المعصية! وما أقبح الغفلة بالرجل العاقل! فكيف بذي الشيبة الطاعن في السن؟!

    وما أقبح التفريط في زمن الصبا     فكيف به والشيب للرأس شاعل

    وإن سفاه الشيخ لا حلم بعده     وإن الفتى بعد السفاهة يَحْلُمُ

    وقد قال صلوات الله وسلامه عليه: (أعذر الله إلى امرئ أنظر في أجله حتى بلغ الستين).

    أيها الإخوة: كنا نلوم الشباب، فرأينا كثيراً من ذوي الشَّيب، الذين طعنوا في الأعمار وتقدمت بهم الآجال، غارقون في شهواتهم ومعاصيهم.

    حُدِّثنا عن بعضهم: يسافر إلى بلاد الكفر والضلال، يعيش في أحضان البغايا، يبحث عن الزواني في كهوف النَّتَن والشرق والغرب، يبحث عن الشراب والخمور، ورأيت بعيني رأسي في شلة من هذه الشلل المتناثرة على الأرصفة التي نشاهدها كل مساء من أبناء المسلمين، يسهرون الليالي إلى الأسحار، يحاربون رب الأرض والسماء، يعزفون على الأوتار، ويقضون ليلهم باللعب واللهو، وشرب الحرام، والألعاب المحرمة، يقتلون بذلك أوقاتهم، رأيتُ مجموعة من هذه المجموعات، يترأسها شيخ كبير، لو أقسمتُ ألا تجد في شعره شعرة سوداء لم أكن حانثاً، فوقفت ووعظته، وجعل ينكس رأسه، وما ازداد من الله إلا بُعداً، ولا قلبه إلا قسوة -والعياذ بالله-.

    وما أقبح التفريط في زمن الصبا     فكيف به والشيب للرأس شاعلُ

    كل نعيم في الدنيا لا محالة زائل

    اتقِ الله، يا عبد الله! اتق الله، أيها المسلم!

    أيها المسلم: مهما عُمِّرت في هذه الحياة، مهما ملكت من الأموال، مهما عُمِّرت، فإن عمرك من الستين إلى السبعين، وهب أنك بلغت المِئِيْن، فمن دارك إلى قبرك، ومن قصرك إلى قبرك.

    أما قصورك في الدنيـا فواسعةٌ     فليت قبرك بعد الموت يتسعُ

    هب أنك تقلدت المناصب، هب أنك ملكت الجاه العريض، فوالله ستنسى ذلك كله في يوم لا ريب فيه، وسيبقى لك عملك، إن صالحاً أو سيئاً، ستنسى ذلك كله عندما تعاين ملك الموت، عندما يهجم عليك الموت، فتعاين ملك الموت وبشاعته، وتنـزل بك الحسرات، وترى السكرات.

    وفي الحديث: (والذي نفس محمد بيده لرؤية ملك الموت أشد على أحدكم من ضربة بالسيف ستين مرة).

    وستنسى ذلك كله حينما توضع في قبرك، إذا بت أول ليلة في قبرك ستنسى عمرك وجاهك العريض، ومركبك الوثير، وأموالك وجمالك ستنسى ذلك كله حينما يُهال عليك التراب، ويتولى عنك الأصحاب، وينفر منك الأحباب، وتودع في قبرك، ويبقى لك عملك إن صالحاً أو سيئاً، تنسى جميع عمرك، حتى لا تشعر أنك عُمِّرت إلا يوماً أو بعض يوم.

    لو عُمِّر الإنسان طيلة دهـره     ألفاً من الأعوام مالك أمره     

    متنعماً فيها بكل مراده     مترفهاً مترفعاً في قدره

    ما كان ذلك كله بمكافئٍ     لمبيت أول ليلة في قبره

    وستنسى ذلك كله -يا عبد الله- حينما يُفتح عليك قبرك، وتشاهد الناس، وتشاهد غربتك، وحيداً فريداً غريباً جائعاً عارياً، ويقال لك: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [ق:22] وتشاهد من الأهوال المفزعة، ومن الأحوال المحزنة المرعبة ما به تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:2] فتدرك أن عمرك ذهب عليك حسرة وندامة: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ [الروم:55].

    (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغٌ [الأحقاف:35].

    كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا [النازعات:46].

    أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [فاطر:37].

    إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً * كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً * مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً * خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً * يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً * يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً [طه:98-104]. ستنسى ذلك كله، ستنسى مالك وجاهك وعمرك وأيامك، حينما تغمس في النار غمسة واحدة إن كنت من أهلها -والعياذ بالله- غمسة في النار تنسيك كل ما مر بك من نعيم، كما جاء عن الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه قال: (يؤتى بأنعم أهل الأرض من أهل الدنيا، فيصبغ في النار صبغة واحدة -يغمس في النار غمسة واحدة- فيقال له: يابن آدم! هل رأيت خيراً قط؟! هل مر بك نعيم قط؟! فيقول: لا والله يا رب، ما رأيتُ خيراً قط! ما مر بي نعيم قط) نسي ذلك كله بغمسة واحدة في نار جهنم، فكيف بمن يعيش في نار جهنم أحقاباً؟! لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً * لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلا شَرَاباً * إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً [النبأ:23-25].

    يقول صلى الله عليه وسلم: (إذا بقي في النار من يعذب فيها أمر الله بهم فوضعوا في توابيت من نار، فيها مسامير من نار، فتوضع التوابيت في توابيت من نار، ثم توضع التوابيت في توابيت -توابيت في توابيت في توابيت- ثم تقذف في نار الجحيم، ما يرون أن أحداً يُعذب غيرهم) نعوذ بالله من نار جهنم.

    اغتنم حياتك قبل أن تندم عليها

    اغتنم لنفسك الحياة -يا عبد الله- وقدم عملاً صالحاً، وأنت تستقبل هذا العام الجديد، وتودع هذا العام المنصرم.

    اعلم يا عبد الله! أنك مسئول عن عمرك، وحياتك، وأيامك، وساعاتك، بل والله مسئول عن الدقائق والثواني، مسئول عن ذلك كله.

    يقول صلوات الله وسلامه عليه: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع: عن عمره فيمَ أفناه، وعن شبابه فيمَ أبلاه) هذان السؤالان الأولان.

    عمرك أمانة ووديعة ستُسأل عن عمرك وشبابك:

    هل قضيت العمر في طاعة الله، بحضور المساجد، والجماعات، والجُمع، بأداء الزكوات، بذكـر الله عزَّ وجلَّ، بمجالسة الأخيار، بحفظ السمع، والبصر، والبطن، والفرج عن الحرام؟!

    أو أنك قضيت حياتك وعمرك، وأمضيت شبابك في معصية الله، في السفر إلى بلاد الكفر والضلال، بالتسلي بمشاهدة الحرام، بتتبع عورات المسلمين، بشرب الحرام، بأكل الحرام، بالنظر إلى الحرام، بإمضاء الليالي على الحرام، بسماع الحرام.

    ستُسأل عن ذلك كله بين يدي الله عزَّ وجلَّ، حينئذٍ يقول الله عزَّ وجلَّ: كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ [المؤمنون:112] فتقول: لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فاسْأَلِ الْعَادِّينَ [المؤمنون:113].

    لا تدري هل لبثت يوماً أو بعض يوم؟! ولقد لبثت ستين أو سبعين أو مائة من السنين، ( فاسأل العادين ) اسأل الملائكة، لا حاجة إلى سؤال الملائكة، بل الله هو الشهيد الذي يُحصي على العادين سبحانه وتعالى، لا إله غيره ولا رب سواه.

    يقول صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس) أي: خاسر مغلوب فيهما كثير من الناس، إلا قليلاً ممن رحم الله (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة، والفراغ).

    فاتق الله يا عبد الله! واغتنم لحياتك، وأنت تستقبل هذا العام الجديد، اغتنم ذلك بالأعمال الصالحة.

    اغتنم في الفراغ فضل ركـوعٍ     فعسى أن يجيء موتك بغتة

    كم صحيح مات من غير سقم     ذهبت نفسُه الصحيحة فلتة

    ويقول صلى الله عليه وسلم: (بادروا بالأعمال الصالحة سبعاً: هل تنتظرون إلا فقراً مُنسياً، أو غنىً مطغياً، أو مرضاً مفسداً، أو موتاً مُجْهزاً، أو هرماً مُفْنِداً، أو الدجال فشر غائب يُنتَظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر).

    اغتنم حياتك يا عبد الله! البدار البدار إلى العمل الصالح، وإياك أن يأتيك الموت وأنت على حال لا ترضي الله عزَّ وجلَّ وأنت على غفلة ومعصية حينئذٍِ تقول: رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ [المؤمنون:99-100] فيقال لك: كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:100].

    وتقول: يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي [الفجر:24].

    تندم ولكن لات حين ساعة مندم!

    ندم البُغاة ولات سـاعة مندمٍ     والبغي مرتع مبتغيه وخيمُ

    اتقِ الله أيها المسلم! فوالله لا تدري إذا أصبحت يوماً هل تنتظر إلى الغروب؟! وإذا أمسيت ليلة هل تنتظر إلى الصباح؟! وإذا لبستَ ثوبك هل تخلعه بنفسك كما لبسته، أو لا يخلعه عنك إلا الغاسل؟! وإذا خرجت سليماً سوياً تمشي على قدميك، هل تعود على هذا الحال والصحة، أو تعود محمولاً على النقالة والنعش؟!

    كل ابن أنثى وإن طالت سلامتُه     يوماً على آلة حدباء محمولُ

    وما أدري وإن أملتُ عمراً     لعلي حين أصبح لستُ أمسي

    ألم تر أنك كل صباح يوم     وعمرك فيه أقصر منه أمسي

    اتق الله أيها المسلم! كم من مستبطئ للموت؟! كم من مستبطئ لأجله؟! كم من مستبعد لموته؟! كم من غارق في لهوه؟! كم من سابح في غيه اسبتطأ الموت واستبعده! فإذا هو على معصيته، وإذا هو غارق في فجوره، فأتاه الموت، فماذا قدم للموت؟! ماذا عساه أن يكون قدم للموت؟! وَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [النور:39].

    أيها الأحبة: ذُكر لنا عن شباب سافروا إلى بلاد الكفر والضلال، أدركهم الموت، وقد شربوا الخمر حتى ثملوا، وماتوا بين أحضان البغايا -والعياذ بالله-.

    وحدِّثتُ عن رجل كان يلعب الورق مع رفقته الضالة ويترك الصلاة، ويبيت الليالي إلى الأسحار على معصية الواحد القهار، كان يلعب الورق وفجأة صرخ: رأسي، رأسي فالتفتوا إليه فإذا هو قد فارق الحياة. مات فجأة، أصيب بجلطة قلبية -والعياذ بالله-.

    وحدِّثتُ عن رجل آخر -أيها الإخوة- فرق الورق بين زملائه في ليلة من لياليهم الحمراء، وانتظروا منه أن يلعب، فالتفتوا إليه، فإذا هو قد مال رأسه على كتفه، واندلق لسانه، وسال لعابه، وأصبح جسداً بلا روح، بئسـت والله الخاتمة.

    أيها الأحبة: ما أقبح أن يأتيك الموت وأنت على المعصية، وأنت على حالة تحارب الله عزَّ وجلَّ فيها.

    أما القصة التي عرفتُها ووعيتُها: قبل مدة ليست بطويلة، قبل سنين قليلة، كان هناك صاحب مطعم، يغوي العمال وقت صلاة الظهر، يأكلون وقت الصلاة، فإذا جاء المنبه للصلاة، أغلق عليهم الباب، وتظاهروا أن المكان خالٍ من الزبائن، وذات يوم، والله عزَّ وجلَّ مطلع عليهم، ولكنه يمهل للظالم ولا يهمله، وإذا أخذه لم يفلته سبحانه وتعالى، ذات يوم جاء المنبه للصلاة، فأغلق على زبائنه الباب، وهم يتركون الصلاة، ويحاربون رب الأرباب، فأراد الله سبحانه وتعالى أن يريهم عاقبة صنعهم، وأخذهم على حين غرة، وانفجرت أنبوبة الغاز، فأين يهربون والأبواب مغلقة عليهم؟! وبعد وقت طويل فُتح الباب، ومنظر ما كان أبشعه، فأكثرهم موتى، وهذا يجري ورأسه يشتعل ناراً، والآخر يجري في الشارع وثيابه تشتعل ناراً، وآخرون يجرون عرايا، إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ [البروج:12].

    ما أقبح أن يدركك الموت وأنت على المعصية؛ فاتق الله يا عبد الله!

    كـم من مغتر بشبابهِ     وملك الموت عند بابه

    كم من ضاحك ملء سنه     ولعله في آخر عمره

    كـم من غافل عن أمره     منتظر فراغ شهره

    كـم من غارق في لهوه وأُُنسِه     وما شعر أنه قد دنى غروب شمسِه

    نعوذ بالله من الغفلة.

    فاتقوا الله -عباد الله- يا أيها المغتر بربك الكريم! يا أيها الإنسان الغافل! يا من تمر عليه سنة بعد سنة، وعام بعد عام، ارجع إلى ربك، واستقبل هذا العام الجديد بتوبة صادقة نصوح، تمحو آثامك، وما سلف من أوزارك، وترفع درجاتك عند الله عزَّ وجلَّ، واعزم على توبة صادقة.

    اتقِ الله وأنت تفتح هذه الصفحة الجديدة، والله لا تدري لعلك تكمل هذا العام أو لا تكمله، هذا العام الذي تنتظره، بل والله لا تدري هل تتم هذا العام الذي أنت فيه والذي يوشك أن ترحل، أو يأتي هذا العام وأنت تحت أطباق الثرى، أو ينصرم العام وأنت ميت من الأموات.

    فاتق الله يا عبد الله! وبادر بتوبة نصوح: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ [التحريم:8].

    بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وتاب علي وعليكم، إنه هو التواب الرحيم.

    أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088974250

    عدد مرات الحفظ

    780278490