الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وإمام المرسلين، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فيقول المصنف رحمه الله: [عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده) متفق عليه ].
(ما حق امرئ مسلم) كذلك ولا امرأة؛ لأن المرأة مثل الرجل في التكاليف، إلا ما اختص به الرجل دونها، (ما حق) أي: لا يجوز، ولا يجب، (ما حق) ما نافيه، وحق اسمها وخبرها يأتي فيما بعد، (امرئ) مذكر امرأة، وامرأة مؤنث امرئٍ.
(له شيء) أي: حق والحق هنا يكون مالي واعتباري: كحق في الشفعة، أو حق في القصاص، أو حق في الدية، أو حق من حقوق الجوار، فكل تلك الحقوق داخلة في عموم (له شيء).
والبعض قال: الوصية واجبة، وهذا المبحث هو مبحث حكم الوصية.
الوصية تعتريها الأحكام الخمسة.
وقوله: (ما حق امرئ له شيء يريد أن يوصي فيه ويبيت ليلة أو ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده) ما هو الحق الذي يريد أن يوصي به؟
قالوا: يوصي بما كان عنده من حقوق للناس ولا يعلمها الناس، ولا يعلمها إلا هو صاحب الحق فقط، كإنسان أتى إلى صديقه، أو إلى جاره وقال: يا جاري! أو يا صديقي! هذا الكيس فيه ألف ريال أمانة عندك حتى أطلبه، ولم يشهد على ذلك، فأخذ جاره أو صديقه الكيس ووضعه عنده، ولم يكتب عليه ما يعرّفه وأصبح في صندوقه مع أكياس ماله، فلو مات غداً هذا المال الذي في ذمته ما حكمه؟ ولو جاء صاحبه وطالب الأولاد فقالوا: ما أخبرنا، وما قال لنا، فهل عندك بينه؟ فقال: لا، والله! ما عندي، فأنا ائتمنه لأنه صديقي أو جاري؟
قالوا: مثل هذا تتعين الوصية في حقه؛ لأنه لا يدري هل يأتيه الموت بعد ليلة أو بعد ليلتين، أو يأتيه الموت قبل الليلة أو الليلتين، فحيث أن ذمته قد تحملت بحقٍ للآخرين وهو لا يضمن الموت فلا يحق له أن يبيت الليلة أو الليلتين إلا ووصيته مكتوبة بهذا الحق.
ومثل هذا لو كان هناك قضية بين اثنين ولم يشهدها إلا هو، وحينما يتنازع هذان الشخصان لا إثبات لهما إلا عنده، فهو لن يأتي بالشهادة قبل أن يستشهد، ولكن إذا مات وتنازعا فمن الذي يثبت الحق لأحدهما؟ ليس هناك إلا هو، فيجب عليه أن يكتب: (عندي شهادة في موضوع كذا وكذا) ويدعها ورثته.
وقد تكون الوصية تارةً واجبة، كما إذا كان مديناً بدين، أو اشترى سلعة وبقي في ذمته من قيمتها شيء، ولم يعلم أولاده، وصاحب السلعة لم يوثق البيع بكتابة، فإذا خشي أن يأتيه الموت ولم يخبر الورثة بالدين الذي في ذمته، فيتعين عليه أن يوصي ويكتب ما عليه من دين، حتى إذا جاء أصحاب هذا الدين أو ذاك دفعوا إليهم دينهم.
إذاً: (ما حق امرئ مسلم عنده شيء يريد) هذه الإرادة قد تكون بحكم الوجوب وقد تكون بحكم الندب، فإذا كان عنده مال وأولاده في غنى عنه، وأراد أن يجري على نفسه صدقة بعد موته عملاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مات الإنسان انقطع..)، فلا يسوّف حتى يفاجئه الموت وهو لم يوص فقد تفوت عليه الصدقة ويحرم من هذا الخير.
إذاً: تندب الوصية هنا؛ لأن عمل الصدقة له بعد موته ليس للوجوب إنما هو للندب والاستحباب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم زيادةً لكم في أجوركم) .
وإذا كان عنده مال محدود وعنده عيال كثير وهم في حاجة إلى العشر من تركته، فذهب وأوصى بثلث ماله، فهل الورثة في حاجة إلى هذا الثلث أو هم في غنى عنه؟ الجواب: هم في حاجة إليه.
فإذا كان ورثتك هم أولى من الآخرين، فلماذا توصي بالثلث للفقراء والمساكين المشتتين في العالم، أو في بلدك، وعيالك وأولادك في حاجة إلى هذه الوصية؟! فإذا أنفقت على زوجك فلك أجر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حتى اللقمة تضعها في فيِّ امرأتك فلك بها أجر) وكذلك اللقمة التي تضعها في فيِّ ولدك أو بنتك، كما سيأتي في حديث سعد قال صلى الله عليه وسلم: (لأن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تتركهم عالة يتكففون الناس) فدع الثلث لعيالك، وهنا الوصية تكره، ولهذا كانت المضارة في الوصية من أكبر الكبائر.
إذاً: الوصية تعتريها الأحكام الخمسة بحسب حالات الموصي وما يوصي به، ومن يُوصى إليه، والمضارة في الوصية سيأتي الحديث عنها في محلها إن شاء الله.
إذاً: (ما حق امرئ مسلم عنده شيء يريد) هذه الإرادة تحتمل الأحكام الخمسة: (يريد) لأنها متعينة عليه في دين خفي، (يريد) لأنه يحب فعل الخير من بعده.
(يريد) لأنه يريد أن يفعل شيئاً مطلقاً. أي: في جانب الخير، فتكون مباحة ومندوبة وواجبة.
إذاً: ما كان لا يقرأ ولا يكتب عجزاً ولا كراهية، ولا نقصاً في العلم والتعليم، فقد افتتحت رسالته العظمى بقوله سبحانه: اقْرَأْ [العلق:1]، سبحان الله!
وقد جاءت الوصية بالكتابة في آية الدين: فيملي الذي أخذ، وإذا كان عاجزاً يملي عنه وليه مع وجود شاهدين وكاتب.
فإقرار الكتابة عند رسول الله أقوى من عند أي شخص آخر.
إذاً: هو يكرم ويقدر القراءة والكتابة، وكذلك الشعر، قال تعالى: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ [يس:69] فلماذا منعه من الشعر، وقد كان النابهون عند العرب الشعراء؟ علماء الأدب يذهبون في هذا مذاهب عديدة وقد سبق أن كتبت رسالة في الأدب في الصدر الإسلامي، وكانت مقررة في الجامعة.
وإنما منع الله رسوله من الشعر تكريماً له، كما قال سبحانه: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ [يس:69] أي: ليس هو من أهلة، ولماذا؟
قال سبحانه: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ [يس:69]، فهذا هو شغله، وهذه هي ميزته، فهو لا يتميز على الرجال بالشعر والنبوغ فيه وإنما بالنبوة: (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ [يس:69]، ولو جئنا وقلنا: وما الذي يمنع من أن يكون شاعراً، وعنده ذكر وقرآن؟ قلنا: يمنع من هذا أن العرب في الجاهلية عند أن دعاهم إلى الإسلام قالوا عنه: شاعر، وكاهن، ومجنون.
فإذا كانوا قد اتهموه بالشعر وهو لم يقل شعراً ولم يعرف به فكيف لو اشتهر قبل الرسالة بالشعر؟!
فلو كان شاعراً وجاء بمثل قوله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق:1]، فسيقولون عنه: هذا شعر من ضمن الشعر الذي كان يقوله، ولكن ليس بشاعر.
وكذلك لما قالوا: إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ [النحل:103]، قال الله رداً عليهم: لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [النحل:103] أي: فليس بينهما صلة.
إذاً: في عدم تعليمه صلى الله عليه وسلم القراءة والكتابة معجزة؛ لأنه أصبح معلماً للناس القراءة والكتابة، وأول قضايا العناية بالتعليم هي تعليم الصبية الصغار بعد غزوة بدر، فقد كان من لم يجد فداءً لنفسه من المشركين وهو يعرف القراءة والكتابة، يفادي نفسه بتعليم عشرة من صبية الأنصار القراءة والكتابة، فكان الذين يفادون بالتعليم مثل الذين يفادون بأربعمائة أوقية، أو بخمسمائة، أو بألف، أو بأكثر، أو بأقل.
إذاً: (إلا ووصيته مكتوبة):
الكتابة لها اعتبار في الشرع، في المعاملات وفي تحقيق المناط في الكتابة من حيث معرفة الخط، ولهذا يقول العلماء: هذا مبدأ من مبادئ علم الحديث وهو الرواية بالوجادة؛ لأنهم يقولون: إذا كان هناك طالب علم يقرأ على شيخ، ومات الشيخ ووجد في كتبه ما لم يسمعه منه، فيجوز له أن يقول عن فلان بالوجادة؛ لأنه وجد بخطه أحاديث بأسانيدها مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فكأنه أخذها بالسماع إلا أن السماع أعلى رتبةً؛ لأنه مواجهة ومشافهة، فإذا وجدت الوصية بخط الموصي ولو لم يكن عليها إشهاد فخطه شاهد عليها، ويعمل بها.
واستدلوا أيضاً: بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث بكتبه إلى الملوك ولم يشهد عليها، وبمجرد ما يصل الرسول برسالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى من أرسل بها إليه يصدقها، فإن كان متأدباً وأراد الله له الخير عظم هذه الرسالة واحترمها وتأدب في الجواب عليها، كما فعل المقوقس مع حاطب فإنه لما رأى الرسالة أكبرها وحفظها وتآنس معه، حتى روي أنه قال: ألستم تقولون: إن محمداً حبيب الله، ورسوله، وأنه يدافع عنه ويحبه؟! قال: بلى، قال: فلمَ تركه لأهل مكة يخرجونه ليلاً، ويختفي في الغار -هذه كما يقولون: حجج قوية-؟ فقال له: وأنت أيها الملك! ألا تؤمن بأن عيسى رسول الله؟ قال: بلى. قال: ألا تؤمن في اعتقادك أنه ابن الله؟ قال: بلى، قال: فلمَ تركه أبوه لليهود يصلبونه؟! فقال: حكيم جاء من عند حكيم، ولهذا العامة يقولون: إذا أرسلت فأرسل حكيماً ولا توصه.
يقولون في حكاية عن بعض أصحاب الملك ابن عبد العزيز : أنه أرسله إلى جهة وقال له: قبل أن تذهب غداً ائتني، فلما جاء قدم له رسالة فقرأها إلى آخرها ثم قال: ما هذا؟ قال: أن تعمل بما فيها، فقطعها ورماها أمامه!! فقال له: ما هذا؟! قال: الحاضر يرى مالا يرى الغائب، فأنت هنا قاعد في محلك لا ترى ما يكون هناك، وأنا هناك أشاهد ما يطرأ من الأمور وأنظر أشياء مستجدة أنت لا تدري عنها، فلن أتقيد بكتابتك، ولكن سأعمل بما أرى، وهكذا. فقالوا: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث الرسائل إلى الملوك ولم يوقع عليها أحد من الصحابة.
وقوله:( إلا ووصيته مكتوبة تحت رأسه)، تحت رأسه، هل يتركه للأولاد يلعبون بها؟ وهل يتركها تذهب وتجيء مع الفراش وتضيع؟ الجواب: لا. وإنما الغرض شدة الحرص على كتابة الوصية قبل أن يصبح، وقالوا: ليس الغرض بالليلة أو الليلتين التحديد ولا مفهوم لها، فتصح ولو بعد أسبوع ولكن الحديث جاء للحث والتأكيد على الإسراع بالوصية.
ويلحق العلماء هنا حكم الأمر بكتابة الوصية، فلو أنه أشهد جماعة من الناس في مكان من العادة أنهم يجتمعون فيه، في ناديهم، أو في مسجدهم، أو في مجلسهم الذي هو محل اجتماعهم فقال: أشهدكم أن فلاناً له عندي دين قدره كذا، أو أشهدكم أن فلاناً له عندي أمانة بكذا، أو أشهدكم أني أوصي بالنخل الفلاني صدقة جارية بعد موتي، فيصح، يعني: أنه يجزئ عن الكتابة إعلانه بما يريد أن يكتبه على جماعته أو على أحد من رهطه الذين في محلته، حتى إذا فاجأه الموت وجاء صاحب الأمانة يطلبها وجد من يشهد له بها، أو جاء صاحب الدين يطلبه جاء من سمعه المدين فشهد له بدينه وهكذا، والغرض من ذلك حفظ الحقوق.
وبهذا يبين لنا المصنف رحمه الله تعالى حكم الوصية في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما حق امرأ مسلم...) الحديث، ويؤيد هذا قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ [البقرة:180].
وقد أشرنا إلى الأحكام التي تعتري الوصية من الوجوب إلى الندب إلى الكراهية إلى الإباحة إلى التحريم، فلو أوصى لكنسية أو لكتب بدعة فهي وصية محرمة ولا تنفذ.
حديث سعد رضي الله تعالى عنه هذا هو أصل في مقدار الوصية.
قوله: (مرض سعد ) قيل في عام الفتح، وقيل في حجة الوداع، (فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده) ، وهذا من مكارم أخلاقه صلوات الله وسلامه عليه أنه كان يعود أصحابه إذا مرضوا، ويشيعهم إذا ماتوا، (فلما دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله! قد بلغ بي من الوجع ما تراه، وعندي مال كثير وليس يرثني إلا ابنة واحدة أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: لا، قال: بنصفه؟ قال: لا، قال: بثلثه؟ قال: نعم، والثلث كثير)، وفي رواية عند مسلم : (كبير) ، (لأن تذر) تذر -كما يقولون- فعل الأمر فيها ذر (لأن تذر ورثتك) وهو يقول: ما عندي ورثة إلا بنت، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول له: ورثتك، فهل ورثتك جمع أم فرد؟
الجواب: جمع، وهو يقول: عندي بنت واحدة، فقال له صلى الله عليه وسلم: (لأن تذر أو تدع ورثتك أغنياء -بمالك- خير من أن تدعهم يتكففون الناس السؤال).
إذا أوصيت بثلثي المال وبقي الثلث، وبطريق الإيحاء والإلهام سيكون لك ورثة ولهذا قال: (لأن تذر ورثتك أغنياء)، ولم يقل: وريثتك هذه البنت، بل قال: ورثتك، وفي بعض الروايات: (أخلف بعد أصحابي يا رسول الله! قال: ... ولعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام ويضربك آخرون...) إلى آخره.
وقالوا: قد ولد له بعد ذلك فمنهم من قال: أربعة، ومنهم من قال: ستة، ومنهم من قال: ثمانية من الأولاد ذكوراً وإناثاً، ومنهم من قال: أقل، ومنهم من قال: أكثر من ذلك، وهنا كون سعد يقول: أوصي بثلثي مالي، وجاءت رواية أخرى: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليه فقال: أوصيت؟ قال: نعم، قال: بكم؟ قال: بجميع مالي فقال: (لأن تدع ورثتك...) إلى أخره، فقال: بكم أوصي؟ قال: بالعشر، ولا زال يقول وأقول: يعني هو يزيد قليلاً وأنا أنقص قليلاً حتى قال: (الثلث والثلث كثير).
والثلث كثير. يعني: انقص منه، والثلث كثير فيه الخير والبركة وفيه الكثرة التي أنت تريدها، فيكون على هذا الثلث هو الحد الأقصى فيما يمكن أن يوصى به.
وقالوا: إن هذا الحديث من معجزاته صلى الله عليه وسلم، وهو أنه أخبر سعداً وهو مريض بأنه سيعيش وسيأتي له الأولاد ويكون له الورثة العديدون، وقد كان كما قال صلى الله عليه وسلم.
إذاً: الوصية لا تجوز أن تزيد عن الثلث، وابن عباس رضي الله عنهما كان يقول: (لو غض الناس عن الثلث لكان خيراً)، وكان يقول: (أحب إليَّ أن يكون الربع)، والربع فيه الخير.
وهنا قد يحصل فعل الخير؛ لأن الإنسان عند موته يزهد في الدنيا بكاملها، حتى في أهله وأولاده، وينظر إلى ما بعد الموت، ويريد أن يقدم كل ما يمكن أن يستطيعه لآخرته، فهو تحت تأثير الرغبة والرهبة: الرهبة فيما هو مستقبل أمامه، والرغبة فيما عند الله من الأجر، فهل نتركه تحت تأثير الرغبة والرهبة أو ننصحه؟
الجواب: ننصحه، ونبين له الصواب، ونخرجه من تحت وطأة هذا التأثر، وفي قضية الشخصين الذين اختصما في مواريث بينهما قال لهما صلى الله عليه وسلم: (إنكما تحتكمان إليّ وأنا بشر فأقضي لبعضكم على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فإنما أقتطع له قطعه من النار)، فكل منهما قال: حقي لصاحبي، لا أريد شيئاً، فما الدافع الذي جعله يقول: حقي لصاحبي، وهو يتخاصم معه ويقول: أريد حقي منه، والآن يقول حقي لصاحبي! ما الدافع لذلك؟ الجواب: الخوف من النار؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أقطع له قطعة من النار).
إذاً: كل واحد منهما وقع تحت تأثير الخوف من النار، فهل قال لهما النبي صلى الله عليه وسلم: اذهبوا وائتوا بالمال نفرقه على المساكين؟ لم يقل لهما ذلك، وإنما قال: (أما وقد قلتما ذلك فارجعا فاقتسما وتحريا في القسمة، واستهما وليبح كل منكما صاحبه).
وماذا بعد هذا من الاحتياطات؟! قال: (اقتسما وتحريا القسمة)، أي: لا تتساهلا، ولا تقولا: نحن متسامحان، بل تحريا؛ لأن -كما يقولون- بعد السكر صحوة، فأنتما الآن تحت تأثير الخوف من النار قد تتسامحان، وبعد هذه المدة تنسيان النار ويطالع كل منكما في نصيبه مع الآخر، فإن كانا قد تحريا في القسمة قال: لا، مالي شيء عنده، وإن كانا قد تساهلا، قال: نعم، والله! لقد تساهلت معه، فالفرس الفلاني مقابل كذا هذا فيه غبن علي أو.. أو... إلخ.
فلم يتركهما صلى الله عليه وسلم تحت تأثير مخافة النار، وإنما وجههما لما ينبغي أن يكون بينهما، عملاً للمستقبل نفسياً، وهنا إذا كان الإنسان يموت فإنه يريد أن يترك الدنيا، ولا يهمه من الذي يريد، ولا من الذي يشحت، صلى الله عليه وسلم: (أن تدع ورثتك أغنياء...) الحديث، وهكذا تكون التربية النفسية، والأخلاقية، والاجتماعية، ومصلحة الأولاد فيما بعد، ولئلا يضارهم في الوصية كما سيأتي إن شاء الله.
وهنا قال: (لأن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون -أي: يمدون أكفهم إلى الناس- الناس) والله سبحانه وتعالى أعلم.
لهذا يا إخوان! أنبه على أنه ينبغي على القضاة -كما هي السنة- أن القاضي يعظ كلاً من الخصمين بالحق، ويخوفهما من قضاء يوم القيامة، فإذا وجد إنساناً وقد وقع تحت تأثير الموعظة فلا يأخذه بذلك، بل يبين له حقيقة حقه وبيان أمره، فقد يقول: تنازلت، أو تركت الدعوى، أو أصالحه؛ لأنه قد وقع تحت تأثير ما، فلا يأخذه في تلك الحالة النفسية الاضطرارية، ولكن ينبهه على حقه ليكون على بينة، والله تعالى أعلم.
في حديث عائشة رضي الله عنها هذا عدة جوانب من المباحث الفقهية: قولها رضي الله تعالى عنها: (أن رجلاً) ورجل: نكره لم يعرف من هذا الحديث من هو؟ ومعلوم عند علماء الحديث أن النكرة غير المعرفة، ولا يؤخذ بحديث الرواي حتى يعرف من هو؟ وهل هو عدل، ثقة، ضابط أم لا؟ ولكن كون الرجل أتى النبي صلى الله عليه وسلم وسأله، دل على أنه صحابي، والصحابة كلهم عدول عند أهل السنة، لا يفتش عن أحد منهم، فسواء عرف بشخصه وبذاته، أو جهلت شخصيته وذاته، فما دام أنه قد ثبتت صحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد عرف هذا الرجل من روايات أخرى أنه سعد بن أبي وقاص فقد جاء: (أنه خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم غازياً، ثم ماتت أمه في غيبته..) الحديث، وجاء في رواية: (أنه قيل لها: أوصي؟ قالت: بمَ أوصي والمال مال
وهنا يقول: (إن أمي افتلتت نفسها).
أي: ماتت فجأة دون أن تعطى فرصة للتصدق، وقال: (إنها لو تكلمت) أي: في آخر حياتها لتصدقت. أي: لأوصت بالصدقة، وهنا النبي صلى الله عليه وسلم يقره على أنها لو أوصت لصحت وصيتها.
ثم يتساءل (وأظنها) لما يعلم من رغبتها في الخير في حياتها، (أنها لو تكلمت لتصدقت)، بمعنى: لأوصت بالصدقة؛ لأنها في تلك الحالة ليست في حالة إخراج صدقة فعلاً؛ لأنها مريضة وقد افتلتت نفسها، فليس هناك إمكانية لإجراء الصدقة بالفعل، فأقره صلى الله عليه وسلم على أن لها ذلك وأن الوصية عند الموت جائزة، كما تقدم وكما سيأتي، وحدود ما شرع الله هو الثلث كما تقدم في قضية سعد أنه قال: (يا رسول الله! أنا ذو مال كثير ولا يرثني إلا ابنة واحدة أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: لا، بشطر مالي؟ قال: لا، بثلث مالي، قال: نعم، والثلث كثير)، وجاء في الروايات الأخرى: (تصدق بالعشر، فلا زال يتكلم وأتكلم حتى قلت الثلث؟ قال: والثلث كثير) وحدود وصية أو تصرف المريض مرض الموت في ماله محصورة في الثلث.
هذا جانب من جوانب الحديث.
إذاً: العمل من الولد للوالد بإجماع المسلمين، وقد تقدم تقسيم العلماء الأعمال الخيرة التي يرجوها الإنسان لغيره أو يعملها ويهبها لغيره وقالوا: إن أعمال القرب تنقسم إلى قسمين:
قسم بدني محض: كالصلاة، والصيام، والدعاء، وتلاوة القرآن.
وقسم مالي محض: كسداد الديون، والصدقة عنه، وأداء الكفارات.
وهناك قسم ثالث يجمع بين الأمرين: كالحج ففيه نفقة، وفيه حركة البدن فهو حل وارتحال، فأجمعوا: على أن كل قربة مالية من الولد لوالده أنها تصله وينتفع بها، ثم وسعوا الدائرة وقالوا: كل صدقة مالية من أي مسلم لمسلم آخر تنفعه ولو لم يكن ولده، كما جاء في قضية شبرمة ، عند أن قال رجل: لبيك اللهم! عن شبرمة فقال له صلى الله عليه وسلم: (ومن يكون؟ قال: أخ لي، أو صديق لي، قال: حججت عن نفسك؟ قال: لا. قال: حج عن نفسك ثم حج عن
وأما القسم البدني المحض، فممن ذكر هذا المبحث الإمام ابن تيمية رحمه الله وهذا المبحث موجود في عدد من صفحات كتاب المجموع، وذكر: أن الصحيح أن عمل الإنسان البدني للميت ينفعه وذكر فرداً فرداً عن الصلاة، واستدل بحديث الرجل الذي جاء وقال: (كنت أبر أبي في حياته فكيف أبره بعد موته؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم له: تصلي له مع صلاتك وتدعو له مع دعائك) فقال: هذه صلاة من الولد للوالد، فله أن يصلي ركعتين ويقول: أجرها وثوابها لوالدي.
ومثل هذا أيضاً: ركعتي الطواف في الحج، وإن كانت تبعاً لكنها صلاة أجزأت عن ميت، وكذلك الصوم قال صلى الله عليه وسلم: (من مات وعليه صوم صام عنه وليه)، ثم قال: بقي بعد ذلك الدعاء وتلاوة القرآن قال: والدعاء هو كما جاء في الشرع تكليف للأمة بكاملها، والدعاء للميت قد جاء في عمل من جحده فقد كفر وهو الصلاة على الجنازة، فإننا في التكبيرة الثالثة ندعو للميت بما يسر الله سبحانه وتعالى، فقال: هذا عمل مشروع وهو من حق الميت على الحي، وهو فرض كفائي، ثم بعد ذلك له أن يدعو له بظهر الغيب، وكذلك الاستغفار، ثم بحث المسألة من الجانب العقلي، وقرر ثبوت ذلك وجوازه. وهنا قال: (وأظنها -أي: ظن يقين- لو تكلمت تصدقت أفينفعها إن تصدقت عنها؟ قال: نعم).
والغرض من إيراد هذا الحديث هنا هو بيان صحة الوصية في مرض الموت، هذا مع أن المريض مرض الموت لا يحق له أن يتصرف في ماله؛ لأن المال أصبح مال الورثة، كما قال الصديق رضي الله تعالى عنه لأم المؤمنين عائشة : (والله! يا ابنتي! ما أحد أحب إلي غناً منك، ولا أحد أعز علي فقراً منك، وقد كنت نحلتك جذاد خمسين وسقاً، فلو كنت حزتيه لأخذتيه، ولكنه الآن مال وارث)؛ لأنه أحس في مرضه هذا الذي هو فيه أنه مرض الموت.
فإذا وصل الإنسان إلى مرض الموت وتأكد الأمر في ذلك فليس له حق التصرف في ماله، وكذلك في الحالات التي هي مظنة الوفاة كالمرأة في حالة النفاس، لا يحق لها أن تتصرف في مالها، وكذلك الرجل إذا وقف بين الصفين في القتال؛ لأن نفاس المرأة مظنة الوفاة، لما تجد من معاناة وشدة، وكذلك الإنسان إذا كان في أرض المعركة أمام العدو فإنه يحتمل إحدى الحسنيين، فهذه الأحوال أو تلك الحالات تمنع الإنسان من أن يتصرف في ماله، إلا إذا كانت وصية وفي حدود الثلث على ما تقدم وعلى ما سيأتي إن شاء الله.
هذا الحديث تكلم عنه المؤلف، وتكلم عنه الشارح أيضاً، وذكر عن الشافعي رحمه الله أنه قال: لقد وصل إلى حد التواتر، وإن الأمة قاطبة تعمل به.
إذاً: إذا وصل إلى هذا الحد فلا حاجة إلى البحث في رواياته مادام أنه قد جاء عن مثل هذا الإمام الجليل رحمه الله ورضي الله تعالى عنه القول بأنه قد وصل إلى حد التواتر، والمتواتر لا يبحث في سنده، حتى لو كان فيه غير عدول لقبلت أقوالهم مع الآخرين تأييداً للواقع.
والمتواتر هو: ما جاء من طرق متعددة يرويه جمع عن جمع يستحيل في العادة تواطؤهم على الكذب، ويكون نهاية استنادهم الحس، وليس الظن والاجتهاد وإنما الرؤيا أو السماع، فمثلاً: لو حدثت حادثة في الحج كأن نزل مطر وفيه برد، ويقولون: قد نزل البرد في عرفات حتى تمزقت بعض الخيام و.. و.. و..، فالذي هو في المدينة أو في مصر أو في الشام أو في المغرب إذا رجع الحجاج وكل على انفراده أخبر بما وقع يوم عرفات فإن هذا العدد من الناس يستحيل أن يتواطئوا وأن يجتمعوا في مكان ويقولون: لنخبر أهل المدينة أنه وقع برد، ولم يكن قد وقع، فإذا استحال اجتماعهم وتواطؤهم على الخبر وكان مستند إخبارهم الحس، فقد رأوا، وشاهدوا، وجاءهم البرد على رءوسهم، فكل هذه استنادها على شيء محسوس فيقبل، وأما مقدار هذا العدد فالأصوليون يقولون: من ثلاثة إلى خمسة، وعلماء الحديث يقولون: بعدد لا يمكن حصره، فإذا وصل الحديث إلى حد التواتر كان العمل به لازماً ما لم يعارضه شيء آخر.
وهنا في هذا الحديث: (إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث)، لأن الوارث قد أخذ حقه، فلو أعطيناه زيادة على حقه الذي أعطاه الله فإننا، نكون قد غيرنا في أعطيات الله للناس في الميراث، ويكون في ذلك مضارة على غيره من الورثة، وهنا قالوا: إن هذا الحديث نسخ آية الوصية، وهي قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ [البقرة:180] لمن؟ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ [البقرة:180].
يقولون: قبل أن تنزل آيات المواريث، كان المال للولد، والوصية للوالدين والأقربين. أي: وصية بما جادت به نفسه، والمال من حيث هو كثر أو قل للولد، ثم أنزل الله الفرائض وجعل للذكر من الأولاد ضعف الأنثى، كما قال تعالى: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11]، وكذلك الإخوة والأخوات، وجعل للأبوين مع وجود الولد لكل واحدٍ منهما السدس، وجعل للزوجة ما بين الربع والثمن، وللزوج مابين النصف والربع، فأعطى كل ذي حق حقه.
وقد بحث هذا والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه في مذكرته وقال: من نظر الخلاف الموجود عند العلماء فإن الصحيح قول من يقول: المتواتر هو سنة -فعلية، أو قولية- جاءت عن الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى، فهي وحي، كما قال تعالى: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:4].
وإذا كان القرآن وحي وهذا المتواتر وحي فإن الوحي ينسخ بعضه بعضاً، وقال قوم: مهما كان فإن كان السنة أنزل رتبةً؛ لأن القرآن قطعي الثبوت، والسنة ظنية الثبوت ما لم تكن متواترة محققة، فلا ينسخ قرآن بسنة ولو متواترة، والآخرون قالوا: النسخ جائز، فالشيخ رحمه الله قال في ذلك: التحقيق في ذلك أنه جائز شرعاً ولم يقع فعلاً.
يقول: من حيث النظر الأصولي والتشريعي هو جائز.
أي: من حيث العقل، والقواعد العلمية، يجوز أن ينسخ الحديث المتواتر آية من كتاب الله، ولكنه لم يقع بالفعل، فلم يقع نسخ في كتاب الله بحديث متواتر.
إذاً: عملياً النسخ بالمتواتر لم يقع وأصبحت المسألة نظرية علمية، وقد أجمعوا على أن الحديث النبوي ولو كان آحاداً فإنه يخصص عموم الكتاب، كما جاء في قوله سبحانه: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ [المائدة:3]، فجاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أحلت لنا ميتتان ودمان...) الحديث، فخصص من عموم الميتة: الجراد والحوت، ومن عموم الدم: الكبد والطحال، فهذا تخصيص لعموم آية في كتاب الله بالحديث الآحاد.
وكذلك قد تضيف السنة تشريعاً كاملاً مستقلاً إلى كتاب الله كما جاء في قوله سبحانه: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ [النساء:23]، هذا نص في تحريم الجمع بين الأختين في النكاح، فجاءت السنة وألحقت بهذا قال صلى الله عليه وسلم: (لا تنكح المرأة على عمتها ولا بنت أخيها ولا تنكح المرأة على خالتها ولا على بنت أختها)، فهذه زيادة على تحريم الجمع بين الأختين، وهذا مما تلقي بالقبول والإجماع أنه لا يجوز.
إذاً: (إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث) أي: أن الوصية كانت مشروعةً لمن كانوا ورثة قبل مجيء آيات المواريث، وفي هذا الحديث بيان على أنه لا وصية لمن دخل في نطاق الورثة، وقد نبه أيضاً والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه وقال: القرآن في آيات الوصية نسخ بقرآن وهو ما جاء في آيات الفرائض، وهذا الحديث إنما هو دال على موقع النسخ وليس هو الناسخ، فقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه)، أي: أعطاه في آيات المواريث.
إذاً: أعطى أصحاب الوصية في المواريث حقهم فلا وصية لهم، والحديث دليل على موضع النسخ والناسخ هو آيات المواريث ضمناً، فقال رحمة الله تعالى علينا وعليه: إن الحديث لم ينسخ القرآن، ولكنه دل على موضع الناسخ من القرآن للقرآن.
شرعاً بهذه الزيادة المقبولة الثابتة، وعقلاً بأن أصل الميراث هو حق للورثة، فإذا أوصى الميت لبعض الورثة ببعض المال فجاء الورثة الذين يستحقون كل المال وقالوا: لا مانع من أن ننفذ وصية مورثنا، ونحن نجيز هذا القدر الزائد علينا، تنفيذاً لوصيته، فيقولون: أصحاب الحق قد تنازلوا عن حقهم، وأقروا المورث في وصيته لواحد منهم.
إذاً: الحق لا يعدوهم، فإن أجازوا فقد أجازوا من حقهم، وإن منعوا فقد منعوا في حقهم؛ لأن لهم أن يمنعوا.
إذاً: لو أوصى الموصي لأحد الورثة بشيء زائد عن حصته فلا بأس إن أجاز الورثة، وبعضهم يناقش في هذه المسألة ويقول: ينظر لماذا نفل هذا الوارث دون بقية الورثة؟ وهل هناك موجب لذلك؟ وأكثرهم يتكلمون عما يكون من هذا بين الزوجين، فقد يوصي الزوج لزوجته بحصة من المال أو بشيء من المتاع، كما جاء عن بعض السلف أنهم كانوا يوصون: لا يكشف عما في غرفة فلانة من المال، أو لا تفتش، أو ولا تكلف، أو ولا تطالب، أو ما في غرفتها فهو لها -أي: زيادة عن ميراثها-.
والمالكية يقولون: ننظر كيف كانت المعاملة بين هذين الزوجين، فإن كان يحبها في حياته وكان يقدمها على غيرها فهذه وصية مضارة بغيرها، وتنفيل لها بدون موجب، وإن لم تكن له زوجة أخرى وكانت الحياة متبادلة فيما بينهما فلعل بينهما حقوقاً أراد أن يعوضها عن تلك الحقوق بهذا الزائد من مالها الفعلي في بيته.
وكذلك قالوا: إذا كان الوارث الذي وصي له بشيء زائد عن ميراثه في حالة فاقة، وفي حالة احتياج إلى مساعدة من إخوانه وشركائه في الميراث ولو لم يكن ميراث فإذا راعاه المورث وأوصى له بشيء، فلا مانع إذا أقرت الورثة هذه الوصية. وهناك من يقول: لا وصية لوارث أجاز الورثة أو لم يجيزوا، وهذا مذهب الظاهرية، فإنهم منعوا الميت أن يوصي الوارث أياً كان؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا وصية لوارث)، ولم يجيزوا تلك الزيادة حتى ولو رضي بقية الورثة، قالوا: لأن الشرع قد أنهى الموضوع: (فلا وصية لوارث)، فلا يحق لأحد أن يوصي لوارث بشيء، ولكن مذهب الجمهور: أن الوارث إذا كان له صفة قائمة به تستدعي التعاطف معه وأجاز ذلك الورثة فإن الوصية تصح له. والله تعالى أعلم.
ولكن النقطة الحساسة في هذا هي: لو أنهم كلهم قالوا: نعم أجزنا، وبعد موت المورث وعند التنفيذ قام البعض وقال: أنا رجعت عن إجازتي، أو أنا لا أجيز تلك الوصية، فهل له حق في هذا الرجوع أو ليس له حق؟ يرى بعض المالكية أنه ليس له حق؛ لأن إجازته الأولى هي بمثابة الصدقة، والهبة، والهدية، فكأنه وهب لهذا الوارث ما أوصى به المورث، فإذا رجع في ذلك رجعنا إلى الكلام في العائد في هبته، وبعضهم قالوا: له أن يرجع؛ لأنه قد يكون إنما أجاز تكريماً لمورثهم، وبعض المالكية أيضاً قالوا: إذا كان هذا الذي رجع عن إجازته يعيش في كنف الموصي في حياته وخشي إن هو قال: لا أوافق أن تحصل عليه ضيقة في معيشته في كنف المورث، أو خشي أن يضيق عليه بسبب عدم موافقته، فوافق لتبقى حياته في كنف مورثه إلى النهاية، ولما أمن الأمر وتوفي الموصي رجع إلى حقه فقال: أنا لا أجيز، قالوا: يقبل رجوعه إن كان معللاً بهذه العلة أو بما يشبهها، والله تعالى أعلم.
وقوله: (إن الله تصدق) ما قال: أعطى، أو سمح، وإنما قال: (تصدق).
والصدقة في عرف اللغة والشرع هي: تمليك الغني للفقير بدون عوض.
فما وجه الشبه بين الصدقة وبين السماح للميت بالوصية في حدود الثلث عند موته؟ الذي يظهر من الجو العام والسياق النبوي الكريم هو: أن محل الصدقة هنا أنها صدقة من الله، فهو سبحانه تصدق عليكم بأموالكم التي في أيديكم، فإن قيل: كيف يتصدق علينا بما في أيدينا؟ قلنا: نعم. من جهتين:
الجهة الأولى: أن المريض إذا وصل إلى مرض الموت منع من التصرف في ماله، وأصبح المال مال وراث، فلما لم يصبح له ملك في المال، وجاءه ثلث ماله، كان هذا الثلث بمثابة الصدقة؛ لأنه قد منع من التصرف فيه، وأصبح غير ملك له، ومنع من أن يتصرف في أي جزئية منه، لكن الله سمح له بالثلث، فكأنه تصدق عليه بالثلث بعد أن منع منه.
الجانب الثاني: المال في أيدي الناس حقيقة هو مال الله، يعطيه من يشاء، ويحرمه من يشاء، قال سبحانه وتعالى: وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ [النور:33].
إذاً: حقيقة الأموال التي في أيدي الناس سواء كانت نقداً أو متاعاً أو طعاماً أو لباساً أو مساكن أو مزارع، كلها لله، فهو يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، وبيده الخير سبحانه.
إذاً: هو المالك لمالك الذي في يدك، وإنما أنت متصرف فيه بما شرع لك، فلما كفت يدك وكان المال هو مال الله، قال: خذ ثلث مالك وتصدق به عن نفسك زيادةً في أجرك الذي عملته قبل الموت.
إذاً: الثلث هذا هل هو عمل قبل الموت أم بعد الموت؟
الجواب: عمل بعد الموت؛ زيادة في أجوركم، فمهما عملت في حياتك من أعمال الخير، البدنية والمالية، والمشتركة بينهما وفعلت وفعلت فإن كل ذلك مسجل لك في صحيفتك، وعندما يأتي الموت تختم الصحيفة فيقال لك: لا. افتح اعتماداً جديداً صدقة عليك، فيكون تصريفك لهذا الثلث زيادة في أجرك -أجر عملك الذي علمته قبل أن يأتيك الموت- ويستمر أجر هذا الثلث الذي أنفقته بعد وفاتك.
إذاً (زيادة لكم في أجوركم) هذا كما في الحديث الآخر (إذا مات الإنسان انقطع عمله... صدقة جارية). والله سبحانه وتعالى أعلم.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيه محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر