الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
قال المصنف رحمه الله: [ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له). رواه مسلم ].
أنبه الإخوان إلى نماذج نعيش في كنفها وظلها، إذا نظرنا إلى السيوطي ، والسخاوي وغيرهما من العلماء، نجد مؤلفاتهم بالمئات، فهم انتقلوا إلى رحمة الله، والناس يستفيدون من علومهم إلى الآن، وهذا النووي له شرح مسلم والمجموع وغيرهما، وكأنه يعيش معنا، وابن حجر ألف هذا الكتاب، ونحن نعيش معه في تأليفه خطوة خطوة، ووالدنا الشيخ الأمين له أضواء البيان، وأصبح يتداول عالمياً، ويطبع عدة مرات شرعية وغير شريعة بغير إذن أولاده ومستحقيه، وهذا يدل فعلاً على مكانة العلم وانتفاع صاحبه به إلى اليوم.
مالك رحمه الله إمام دار الهجرة أتاه أبو جعفر المنصور الخليفة العباسي، وقال: يا مالك ! لم يبق في الناس أعلم مني ومنك، أما أنا فشغلتني الخلافة، وأما أنت فوطئ للناس كتاباً يسيرون عليه، وتجنب عزائم ابن عمر ورخص ابن عباس ، قال: فعلمني التأليف ذلك الوقت، فألف الموطأ ثم قرأه عليه، واستمعه منه، وقيل: إنه هارون الرشيد ، فقال: يا مالك ! ائذن لي أن أعلق الموطأ على الكعبة، وأنسخ منه نسخاً أبعثها إلى الأمصار ليأخذوا به، ويتركوا كل ما عداه، يعني: نوحد العالم الإسلامي على الموطأ.
فقال: لا تفعل يا أمير المؤمنين! قال: ولماذا؟!
قال: إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تفرقوا في الأمصار، وأخذ كل قطر بما جاءه من الصحابة الذين وفدوا إليه، فعملوا بما وصلهم عن أولئك الصحابة الكرام، والصحابة قد يختلفون في روايات الحديث، فتحويل الناس عما هم عليه صعب، أي: ما داموا قد أخذوا عن أصحاب رسول الله، وأصحاب رسول الله أخذوا عن رسول الله، فهم على حق، وتغييرك مذهبهم ولو إلى حق مثله صعب.
ونحن نتساءل الآن: أين خلافة أبي جعفر ؟ ذهبت في أدراج السياسة، أما مالك فموطأه يعمر العالم، ويتدارسه العالم، ويستفيد منه العالم، فما أعظم العلم الذي ينتفع به من الموطأ، وبالمقارنة بينه وبين خليفة المسلمين نجد الفارق عظيماً جداً، الخلافة انتهت بموت الخليفة، وقد يقتل في سبيلها عند تغير الأحداث، ولكن العالم علمه ينتشر، ويكون كالطائر الذي يحلق مدى الحياة، وكمطلع الشمس ومغربها، فبقي الموطأ في أيدي المسلمين، يستفيدون منه، ويسابقون إلى دراسته وتعلمه، ولا شك أن هذا الأثر من العلم الذي ينتفع به، فيستمر ثوابه يصل إلى مالك إلى ما شاء الله.
إذاً: ابن صالح أو بنت صالحة يدعوان له، وقالوا: الولد الصالح جزء من كسب الرجل، فالذين ينفون وصول عمل الغير للميت يقولون: الولد امتداد لحياة أبيه؛ لأنه جزءٌ منه، ولكن قوله: (ولد صالح) لتقرير الحال والأولوية، وإلا فكل مسلم يدعو لأي مسلم فإن دعاءه نافع له، ويشرع أن نصلي على الجنائز وإن لم نعرف أصحابها، وأُمرنا أن ندعو لهم؛ لأن صلاة الجنازة إنما هي دعاء، فقوله: (ولد صالح) هو لبيان الأقرب والأولى، ولكنه يشمل جميع المسلمين، فيشرع أن يدعو بعضهم لبعض، ومن أفضل الأعمال دعاؤك لأخيك بظهر الغيب.
فالصلاح هبة من الله، والإنسان مكلف بالتأديب والقيام بالواجب، أما خلق الهدى والتوفيق في قلب الولد فهذا بيد الله، وقد قال الله في سيد الخلق: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص:56]، وأما قوله: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52]،
فقالوا: إن إثبات الهدى للنبي صلى الله عليه وسلم هو هداية البيان، كقوله تعالى: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى [فصلت:17]، يعني علمناهم وبينا لهم، ولكنهم تركوا ما بينا، وذهبوا إلى غيره.
والرسول صلى الله عليه وسلم أنذر أبا جهل وأنذر عمر بن الخطاب ، وكان يقول: (اللهم! أعز الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك) فهدى الله عمر إلى الهداية القلبية والاستقامة الحقيقية، ولم يهد أبا جهل ، وكلاهما كان يسمع القرآن، والرسول كان يدعو الجميع، وليس عمر بأعقل من أبي جهل ، وقد كان يقال له: أبو الحكم ، فعقولهما متساوية، وأفهامهما متعادلة، ولكن التوفيق بيد الله: وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [البقرة:272].. وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [السجدة:13]، فالأمر بيد الله، ونحن لا نملك في صلاح الأولاد إلا التأديب والرعاية إلى أن يبلغ سن التكليف، ثم ترفع يدك عنه، ولا تملك إلا خالص الدعاء، فإن استجاب الله فالحمد لله، وإن لم يستجب فهذا حكمه، لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23].
والولد هبة ونعمة، قال الله: يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا [الشورى:49-50]، وكون الولد صالحاً هبة أخرى، ونجد أن الخضر عليه السلام قتل الولد حفظاً على صلاح الأبوين، وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا [الكهف:80-81].
إذاً: صلاح الأولاد هبة من الله، والأمور الظاهرية التي كلفنا بها هي الرعاية والتأديب، ويشترك في تربية الأولاد والتأثير عليهم مع الأبوين: المجتمع والمدرسة والمسجد ثم بعد ذلك السلطان؛ لأنه هو الذي له الولاية على الولد إذا دخل في سن التكليف.
فمن رزق بولد فليحمد الله، وليسأل الله أن يجعله صالحاً، فإذا صلح الولد كان نعمة في الدنيا والآخرة، قال الله سبحانه: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [الطور:21]، وإلحاق الذرية بالآباء يوم القيامة هبة من الله، وهو مما يستدل به على استفادة الميت بعمل غيره؛ لأن الذرية ما عملت شيئاً بعد الموت، وألحقها الله بآبائهم لتقر عين الآباء، إكراماً للآباء، وليس من أجل الأبناء، أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ [الطور:21]، أي: ما أنقصنا عمل الآباء مقابل مجيء الأولاد عندهم، فإلحاق الذرية بالآباء فضل من الله مع بقاء أجر الآباء كاملاً.
نسأل الله أن يصلح أولادنا وأولاد المسلمين! ونسأل الله أن يأخذ بنواصيهم إلى الحق! ونسأل الله أن يوفقهم وأن يهديهم، وأن يصلحهم في أمر الدنيا والآخرة!
هذا، وإن من صلاح الولد أن يدعو لأبيه، فإذا لم يكن صالحاً فإنه لا يدعو له، بل قد يدعو عليه!
إذا مات شخص فإنه كان في الدنيا مع الناس على أحد رجلين: إما أنه كان محسناً معه إليه، فإنه سيدعو له بعد موته لإحسانه إليه في الدنيا، وما الموجب الذي سيجعله يدعو له؟ إحسانه إليه، وقد يموت إنسان فيدعو عليه آخر، فما السبب؟ إساءة معاملته، كما أن الذي يدعو له إنما هو بسبب حسن معاملته.
إذاً: حسن معاملة الناس تستجلب دعاء الناس له بالخير، فحسن المعاملة للناس هي من كسبه في حياته، وقد ورّثت له دعوات صالحة ممن كان يحسن إليهم، فحسِّن معاملتك مع الناس لتستجلب منهم دعوات الخير بعد وفاتك، ولا تعاملهم بالإساءة والسوء.
إذاً: هذا الحديث يضع لنا منهجاً في السلوك، وهو أن تعامل الناس بالحسنى، وأقل ما يعود عليك من حسن معاملتك للناس أنهم يدعون لك بعد موتك، وهذا يدخل في الصدقة الجارية، وكما تنتفع من الولد الذي من صلبك وهو من كسبك، فكذلك تنتفع بدعاء الناس لك بعد موتك، وذلك بسبب حسن معاملتك لهم، وهذا من كسبك أيضاً.
إذاً: لينظر كل إنسان في معاملاته مع الناس عامة، ومع الرؤساء والمدراء خاصة، فينبغي لمن تحتهم أن يعاملهم بالحسنى، وبالكلمة الطيبة، فإذا لم ينجز له عمله فليسمعه كلمة طيبة، وليعده وعداً حسناً، لا أن يخاطبه بجفاء ويقول: مالك عندنا شيء أو لا أعرف شيئاً! فالمسألة ليست شخصية، والله سبحانه وتعالى أوصلك إلى هذا المكان لتخدم الناس، لا لتستخدمهم أو لتحجب حقوقهم عنهم، وهذا العمل ليس من شأنك ولا من رأس مالك ولا من كسبك، وإنما وليت عليه لتنفع الناس.
وهذا الحديث شغل بالي فيه سبب انتفاع الميت بدعاء عامة أفراد المسلمين، فظهر لي -والله تعالى أعلم- أن دعوات عامة المسلمين للميت إنما هي من كسب الميت في حياته، بسبب حسن التعامل مع الناس.
قال: (أصاب عمر)، ولماذا لم يقل: أصاب أبي؟
ليبرز لنا صاحب الحديث لو قال: أصاب أبي، فمن يكون أبوه غير عمر؟ لكن قال: أصاب عمر ليُبرز شخصية عمر ، وهو من الخلفاء الراشدين، وسنته متبعة، ومنزلته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم هي هي، وكذلك عقليته وفقهه، قال عنه النبي عليه الصلاة والسلام: (كان يكون في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي منهم أحد فإنه
وقوله: (أصاب أرضاً بخيبر)، هل خيبر فتحت عنوة أم صلحاً؟
عنوة، فلو كانت صلحاً لم يصب منها شيئاً، فهي فتحت عنوة، وقد فتحت حصناً حصناً، ولما أظفر الله سبحانه وتعالى المسلمين بهم، عقد الصلح على أن يعمل اليهود فيها، ويكون لهم نصف الثمرة والزرع، وكانوا أشد خبرة بالغرس والزرع، وكان المسلمون مشغولين بالجهاد، فأصبحت ملكاً للمسلمين؛ لأنها فتحت عنوة.
والأرض التي تُفتح عنوة تقسم على المجاهدين، فكانت حصة عمر من خيبر كما قال: (لم أصب مالاً قط هو أنفس عندي منه)، أي: من هذا الجزء الذي أصبته من خيبر.
هذه القصة تدعو إلى سخاء النفس، والحث على التطلع إلى ما عند الله، والاستظلال بقوله سبحانه: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92]، ليس مما تكرهون أو تكونون زاهدين فيه، وما له غرض عندكم، أو ما له قيمة، بل تنفق الشيء النفيس الذي تحبه، كما قال سبحانه: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ [الإنسان:8]، ويختلفون في ضمير (حبه) هل يرجع للطعام أم المعنى على حب الله؟
يقول والدنا الشيخ الأمين : أحياناً يأتي في الآية ما يدل على رجحان أحد القولين من أقوال العلماء، وهنا فيها قرينة تدل على أن ضمير (حبه) راجع للطعام، لأن ذكر الله يأتي في الآية بعدها: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ [الإنسان:8-9]، فقوله: نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ يدل على أن (حبه) يرجع للطعام، فمع حبهم للطعام يطعمونه.
جاء ضيف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل صلوات الله وسلامه عليه إلى بيوت زوجاته التسع يطلبهن عشاءً للضيف فلم يجد، فقال: (من يضيف هذا الليلة رحمه الله؟!)، فذهب صحابي به إلى أهله، وقال لها: هذا ضيف رسول الله، فأكرمي ضيف رسول الله، فقالت: ما عندي إلا عشاء الأولاد، فقال: علليهم حتى يناموا، واعمدي إلى السراج لتصلحيه فأطفئيه، وأنا سأدلي بيدي وأرفعها خالية لأوهمه أني آكل معه؛ لأوفر له الطعام الذي يشبعه.
انظر الحيل! حيلة لوجه الله، فيقابل بالبشرى العظيمة، فحينما غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصباح قال له: (قد عجب الله من صنيعكما بضيفكما الليلة!)، فعلاً حيلة تضحك! وبعض الناس يحتال على المحرم ليصل إليه، وهذا يحتال على الحلال ليصل إلى رضوان الله، وإرضاء رسوله صلى الله عليه وسلم.
وهذا عمر يقول: (لم أصب مالاً قط هو أنفس عندي منه)، وأبو طلحة لما نزلت الآية جاء إلى رسول الله وقال: (إن الله يأمرنا أن ننفق مما نحب من المال، وإن أحب مالي إلي بيرحاء)، وبيرحاء كانت شمالي المسجد، وكانت موجودة قبل هذه العمارة الأخيرة لخادم الحرمين، وكانت بئرها موجودة، وحولها آثار بستان وبعض النخيل، ولا نقول: إنه من ذاك الوقت، لكن البيئة بيئة مزرعة، قال: (فضعه حيث شئت يا رسول الله!) فقال: (اجعله في الأقربين)، والشاهد عندنا قوله: (أحب مالي إلي بيرحاء)، وهكذا عمر رضي الله تعالى عنه يقول: (إني أصبت أرضاً بخيبر لم أصب مالاً قط هو أنفس عندي منه)، أي: هو أنفس مال عنده، فنصحه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوقفها.
وقوله: (إن شئت حبست أصلها)، يدل على أن الوقف لا يكون إلا لما له أصل يبقى، وتؤخذ منه منفعة، فالطعام لا يكون وقفاً بل صدقة؛ لأنه ليس له أصل يوقف، وتؤخذ منه منفعة كل سنة بل يذهب، والغرس المثمر يصح وقفه، والغرس غير المثمر لا يصح وقفه؛ لأنه لا فائدة فيه للموقوف عليهم، إلا إذا قلنا: ينتفع بها بأن يؤخذ منها حطب، ويباع وينبت غيره، كما كان الحال في المدينة، يؤخذ الخشب من شجر الطرفاء، وكانت الطرفاء وجذوع النخل هي أدوات البناء والسقف.
إذاً: يؤخذ من قوله: (حبّست أصلها، وتصدقت بها)، أن الذي يصح وقفه ما اشتمل على الأمرين: الأصل والثمرة، فيحبِّس الأصل ويسبل الثمرة، فلا يباع ولا يورث ولا يوهب، والتصرفات التي تنقل ملكية العين لا تجوز في الوقف، وألحق الفقهاء بها الرهن؛ لأن الغرض من الرهن توثيق الدين، فإن وفّى المدين دينه فالحمد لله، وإذا لم يوف دينه بيع الرهن، والحال أنه وقف، والوقف لا يباع، إذاً: لا يرهن.
فمعنى قوله: (حبّستَ): أن يبقى في محله محبوساً عن التصرفات التي تعتري الأملاك، فلا ينتقل إلى أحد ببيع، أو بهبة أو بميراث، وكذلك لا يرهن؛ لأن المرهون معرض للبيع وفاءً للدين.
وقوله: فتصدق بها عمر أنه لا يباع أصلها ولا يورث ولا يوهب، رد الرسول صلى الله عليه وسلم الأمر لـعمر ليتصدق هو؛ لأنه المالك، فتصدق بها عمر على أن الأصول لا تباع ولا تورث ولا توهب. (فتصدق بها في الفقراء وفي القربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف).
الوقف ينقسم إلى قسمين: وقف التبرر لعمل البر، والوقف الأهلي الذي يوقفه على أشخاص معينين، فيقول: هذا وقف على فلان، ويسميه باسمه، ومن بعده إلى أخيه فلان، ومن بعده إلى عمه فلان، فهذا وقف أهلي. والوقف الخيري يجري لمن عين له بالوصف، والوقف الأهلي إذا وصلت ثمرته إلى من هو موقوف عليه تعامل معها معاملة المالك، فلو وقّف هذه النخيل على ثلاثة أشخاص، فلما جاءت الثمرة قسمناها على الموقوف عليهم، وكانت حصة كل واحد منهم نصاب زكاة (خمسة أوسق فأكثر) فعليه أن يزكيها، لكن وقف التبرر على المساكين أو على ذوي القرابة أو على ابن السبيل، لو أن الصنف الموجود ناله من الوقف بقدر نصاب زكاة؛ فلا زكاة عليه؛ لأنها صدقة عليه، بخلاف الوقف الأهلي.
ونسمع عن بعض الدول أنها غيّرت وبدلت في الوقف، فألغت الوقف الخيري، وبعضها ألغى الوقف الأهلي، وكنا نسمع أن حكومة بلد من البلاد الإسلامية العربية أرادت أن تلغي الوقف الأهلي، ثم إن رئيس تلك الدولة أوقف عشرة أفدنة على ولده، فتوقف المشروع؛ لأنهم لا يستطيعون أن يبطلوا وقف رئيس الدولة، وكانت بعض الحكومات تحارب الوقف في الماضي، وكذلك في الوقت الحاضر بعض الدول ألغت الوقف فعلاً، ولم يعد هناك ما يسمى وقف، فأعادوا الأوقاف إلى أهلها، فإن كان الموقف حياً رجع إليه ملكه، وإن لم يكن موجوداً رجع إلى الورثة بحسب الميراث الشرعي.
وعمر رضي الله تعالى عنه وقّف أرضه وقف تبرر وقفاً أهلياً، وسنشرح ذلك جملة جملة.
فالصنف الأول للفقراء، وإذا وقف للفقراء، وكان للموقف قرابة أو أبناء اتصفوا بالفقر، فإنهم يستحقون من الوقف مع الفقراء؛ بوصفهم بالفقر لا بكونهم أبناء الموقف، ومن استغنى منهم لا يعطى من الوقف.
هناك عبدٌ قِنٌ، أي: ليس فيه شائبة حرية، ومبعَّض، أي: بعضه حر، وبعضه مملوك، وهو من أعتق بعضه، ومدبَّر، وهو الآن مملوك، ولكن حريته مدبرة بعد وفاة مالكه، ففي اللحظة التي يموت فيها سيده يملك حريته، ومُكاتب، وهو: الذي شارط سيده على مبلغ يؤديه إليه، فلو أن السيد أراد أن يبيعه لشخص آخر، فيقول له: أنا أشتري نفسي، ويكاتبه على مبلغ يتفقان عليه، وينجمه عليه تنجيماً، ويستحب له أن يسقط القسط الأخير مساعدة له، وهذا إذا علم فيه خيراً، لا أن يكون مفسداً شريراً، فيملك نفسه، ويفسد في الأرض، لكن يكاتبه إذا آنس منه الصلاح والاستقامة والقدرة على أداء مبلغ الكتابة، فإنه إذا تحرر نفع الناس، وكان صالحاً في المجتمع.
فأي نوع من أنواع الرقاب المراد هنا؟ بعضهم يقول: الرقاب الذين يحتاجون إلى المال، وهم المكاتبون؛ لأن المكاتب عليه أن يسدد بخلاف القِن ما عليه شيء، والمبعّض ما عليه شيء، والمدبَّر ينتظر موت سيده بفارغ الصبر؛ ولهذا كره تدبير العبد كما كرهت الرُّقبى.
فيعطى المكاتب ما يتحرر به، وبعضهم يقول: (وفي الرقاب) أن تشتري المملوك القن وتعتقه.
إذاً: هي دائرة في هذا الصنف من الناس، سواءً اشتريته وأعتقته أو ساعدته على وفاء دين كتابته.
والإسلام يتشوف إلى تحرير الرقاب، وقد يكون العبد قريباً لـعمر ؛ لأن العبد هو من أُخذ أسيراً في المعركة وهو يقاتل المسلمين، لا من خطف من الطريق.
فلا يسترق مسلم أبداً إلا إذا أسلم بعد أن أخذ أسيراً، وقسم على الغانمين، وبعد ذلك يسلم فهذا فضل الله. وقال الله: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا ، المسلمون فيهم مساكين، وَيَتِيمًا ، والمسلمون فيهم أيتام، وَأَسِيرًا [الإنسان:8]، لا يكون مسلم بيد المسلمين أسيراً؛ لأنه لا يحق لمسلم أن يأسر أخاه ولو تقاتل معه، والسلف عندما تقاتلوا لم يسترق بعضهم بعضاً، ولما قال القوم لـعلي : أقسم بيننا الأسارى، قال: لا يوجد أسارى في الإسلام، أيكم يرضى أن تكون عائشة في سهمه؟!
ولهذا لا يذفف على جريحهم، ولا تسلب أموالهم؛ لأن القتال غالباً لا يكون بين طوائف المسلمين إلا بسبب اختلاف وجهة نظر دينية.
فنجد جميع الكفارات فيها عتق، مثل كفارة اليمين، والظهار، والوطء في رمضان، وقتل الخطأ، وتبدأ الكفارة -سواءً كانت على الترتيب أو التخيير- بعتق رقبة.
ثم نجد الترغيب في عتق نفسه من النار، فقال عليه الصلاة والسلام: (من أعتق رقبة مسلمة أعتق الله بكل عضو منه عضواً من النار حتى فرجه بفرجه)، بل قد يكون العتق إجبارياً على الإنسان، فقال عليه الصلاة والسلام: (من أعتق شقصاً من عبد مملوك، فخلاصه عليه في ماله، فإن لم يكن له مال قوم العبد قيمة عدل ثم استسعي العبد غير مشقوق عليه)، يعني: قوم عليه الشقص الثاني، وقيل له: ادفعه لشريكك، ويصبح العبد حراً، فإن قال: أنا أعتقت النصف فقط، فيقال له: مادام قد أعتقت النصف فقد فتحت الباب، فأكمل، ويُجبر على عتقه كاملاً.
ومن لطم عبده فكفارته أن يعتقه، جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: كانت لي جارية ترعى غنماً لي قبل أحد والجوانية، فاطلعت عليها ذات يوم فإذا الذئب قد ذهب بشاة منها، وأنا من بني آدم آسف كما يأسفون، لكني صككتها صكة، فعظم ذاك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أفلا أعتقها ؟ قال: (ائتني بها. قال: فجئته بها فقال: أين الله؟ قالت: في السماء. قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله قال: اعتقها فإنها مؤمنة).
فالشريعة تتلمس الأسباب للعتق، بخلاف القوانين الأخرى، فإنه يشمئز الإنسان أن يوردها، كانوا يبيحون لأنفسهم إطلاق السباع الجارحة المفترسة على العبد في ميدانٍ ليتفرجوا كيف يفترسه الأسد! ولا أحد يمنعهم من ذلك، والقانون يبيح لهم ذلك! وهذا لطمها في حالة غضب أسفاً على الشاة التي أكلها الذئب، فيتأسف ويسأل عن عتقها، فيقول له صلى الله عليه وسلم: (اعتقها).
وهذا عزير بن عمير أخو مصعب بن عمير ، أخذ أسيراً يوم بدر، ولما قدموا به إلى المدينة، مر عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: (استوصوا بالأسارى خيراً)، قال: فكانوا يقدمون إلي الخبز، ويجتزئون هم بالتمر، حتى كنت أستحي منهم فأردها عليهم فيردونها عليّ.
فأي إكرام؟ وأي معاملة بالحسنى إلى هذا الحد؟
ومر عليه مصعب أخوه، فقال: شدوا وثاقه فإن أمه ذات مال لعلها تفديه منكم، فنظر إليه وقال: هذه وصايتك بي يا أخي! قال: لست أخي، إنما إخوتي هؤلاء المسلمون.
والذي يهمنا أنهم كانوا يقدمون له الخبز، وهم يأكلون التمر عملاً بوصية رسول الله: (استوصوا بالأسارى خيراً).
وعمر رضي الله تعالى عنه جعل حصة من وقفه للرقاب.
فما الذي يفعل في حصة (سبيل الله) التي أوقفها عمر ؟
إذا كان هناك غاز ليس عنده جهاز ولا مئونة ولا زاد، ووجد أن له حقاً في وقف عمر ، فإنه يأخذ منه، مثل إنسان يريد أن يغزو، وعنده طعامه لكن ما عنده سلاح، فيأخذ من الوقف ما يشتري له به سلاحاً؛ لأنه في سبيل الله.
قالوا: لأننا لا نعلم عن هذا الغريب شيئاً، ولكن السبيل هو الذي جاءنا به، فلولا السبيل أو الطريق لما رأيناه، فنحن وجدناه على الطريق، فهو ابن الطريق، كما يجد إنسان إنساناً في غابة فنقول عنه: ابن الغابة؛ لأنه وجد فيها، وهكذا.
فابن السبيل يراد به المسافر المنقطع الذي يريد ما يبلغه إلى بلده، ويبحث العلماء فيما يأخذه ابن السبيل، وفيما يأخذه الغارم الذي سعى بين الناس بالصلح، فهل ما يأخذاه تملك أو استحقاق لغاية؟
فإن كان تملك، قدرنا له ما يوصله إلى غايته، فإن أعطيناه ألفاً ثم هو قتر على نفسه، وأنفق نصف الألف فقط، فهل يرد الباقي أم يكون في ملكه؟
إن قلنا: يأخذ ما يبلغه فقط، فإنه يرد الباقي، وإن قلنا: يتملك ما قدرناه له، وما وفّره فهو ملك له؛ لأنه وفره على حظ نفسه، وقد يكون حرم نفسه من بعض الأشياء، ووفر بعض قيمتها فيكون ما أخذه ملكاً له.
وقد حث الإسلام على إكرام الضيف والضيافة، لها أحكامها الخاصة، قال عليه الصلاة والسلام: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ... فليقل خيراً، ... فليكرم جاره).
وإكرام الضيف من مكارم الأخلاق، وهو من بقايا شيم العرب، وتعرفون أخبار حاتم في الكرم، وقصة الحطيئة لما أكرم ضيفه وقال له:
يا أبت اذبحني وهيئ له طعماً
والقصيدة طويلة، فكان العرب يعنون بإكرام الضيف، وكانوا يتغنون بذلك، وكما قال الآخر:
وبات على النار الندى والمحلق
والمحلق هذا كان عنده عدة بنات، وما جاءه خاطب لهن، فقدم بعض الشعراء ونزل عنده، فما اهتم له كثيراً، فقيل له: هذا الشاعر فلان، فحالاً أكرمه بزق من الخمر، وبشاة مشوية، فقام يمتدحه بقصيدة فيها:
وبات على النار الندى والمحلق
والندى: يعني الكرم، فشاعت القصيدة في العرب، وبعد مدة خطبت بناته كلهن.
يهمنا الكرم وأثره، والضيف له حق، كما في الحديث، وقال بعض المتأخرين: إن الضيف له حق ثلاثة أيام، فاليوم الأول فرض، والثاني مندوب، والثالث كذا، وما عدا ذلك فهو صدقة.
وعمر رضي الله تعالى عنه لما فتح بيت المقدس شرط على الرهبان، وعلى أصحاب الصوامع: أن يضيفوا من مر عليهم من أبناء السبيل، وبعض المتأخرين يقول: انتهى أمر الضيافة؛ لأنها كانت عندما كان الغريب لا يجد ما يأكل وما يشرب، وبعضهم يقول: لا، من كان مقيماً في صحراء، وعنده سعة؛ فالضيافة عليه واجبة، وإن كان في مدينة من المدن، وفيها الفنادق، وفيها المطاعم؛ فلا تجب الضيافة على أحد؛ لأنه إن لم يستضفه أحد سيجد في الفندق والمطعم ما يسد به حاجته، وفي ذاك الوقت لم يكن هناك فنادق ولا مطاعم ولا مخابز، ولا غيرها مما يسد الغريب حاجته فيها بما في يده، وقد يكون معه الثمن لكن لا يجد من يبيعه، فتجب حينئذ ضيافته، فالأماكن التي لا يجد الغريب فيها حاجته بالثمن، فالضيافة واجبة على أهلها.
ونعلم بقصة الرهط الذين نزلوا عند حي، فأبوا أن يضيفوهم، وسلط الله العقرب على سيد ذاك الحي، وقضية الخضر عندما أقام الجدار في القرية التي أبى أهلها أن يضيفوهما، فهذا عيب عليهم من ذاك التاريخ، وهذا يدل على أن الضيافة ثابتة في الأمم جميعاً.
فإذا كان الغريب لا يجد ما يطعمه وما يأويه تعينت الضيافة، وإذا كان يجد ذلك بالنقد أو بالمروءة ما يطعم ويأوي فلا حق في الضيافة بالفرض على أحد.
ولو كانت نفقته ألف ريال، وأجرة مثله خمسمائة ريال، فإنا نعطيه أجرة المثل وهي الأقل؛ لأن هذا حماية للوقف، وكذلك الأمر فيمن ولي مال اليتيم.
فهذا الذي يليها يأكل بالمعروف غير متمول مالاً، وهذا الصديق يأكل بالمعروف، وهذا الضيف يضيفه بالمعروف لا أن يتمول من هذا الوقف مالاً، بأن يقتطع جزءاً من الوقف لنفسه، فهذا لا يجوز، ومرت علينا قضايا في المحكمة تضحك وتبكي من أعمال نظار الوقف، وكذلك لا يتمول بأن يجمع من ثمار الوقف ما يبيعه ويختزن ثمنه حتى يتمول مالاً من وراء الوقف.
وقد ورد الإذن لابن السبيل إذا مر على حائط، أن يسد جوعه غير متخذ خبنة، فلا يحمل معه من الثمرة ويذهب، بل كل ما يشبعك في مكانك، ولا تحمل معك شيئاً.
قال رحمه الله: [وفي رواية للبخاري : (تصدَّقَ بأصلها: لا يباع ولا يوهب، ولكن ينفق ثمره)]
ينفق ثمره على من تقدم من تلك الأصناف.
وفي قضية عمر هذه، يقولون: إنه ولاها ابنته حفصة ، وكانت هي ناظرة هذا الوقف تقوم عليه، وهل يشترط في الوقف قبض الموقوف عليه أو من يليه باعتبار معنوي أم لا؟
فالذين يشترطون ذلك يقولون: عمر أخرجها من ذمته، وولى عليها حفصة ، وهي تولّت القبول باسم الفقراء وباسم ابن السبيل، لأن هؤلاء الأصناف لا يتأتى منهم قبول لعدم إمكان حصرهم.
والآخرون يقولون: ليس بلازم، وهو مذهب الحنابلة.
ومباحث الوقف عديدة ومتوسعة، وما أكثر ما يكون فيها من مشاكل وإشكالات في الجهات الموقوف عليها، مثل أن يقف ويقول: على أولادي وأولاد أولادي، أو على أولاد الظهور دون أولاد البطون، وهذا من الخطأ الذي يرتكبه بعض الناس، أو أن يوقف المال مضارّة للورثة، عنده مال، فيوقف نصف المال ليحرم الورثة ميراثهم بهذا الوقف، فإذا فعل ذلك مضارّة بطل الوقف، وبعضهم يشترط فيه شروطاً لا تصح، مثل أنه يحق له أن يرجع في وقفه، ويحق له البيع والشراء، وأن يستبدل طائفة عن طائفة، والجمهور أن تلك الشروط باطلة.
ويشترط في الوقف اتصال البداية واتصال النهاية، اتصال البداية مثل أن يقول: وقفت على بني فلان وهم موجودون، ولو قال: وقفت على أولادهم وذرياتهم وأعقابهم، فلم تتصل النهاية، فيكون باطلاً، لكن يقول: وقفت على كذا وعلى كذا وعلى كذا، فإذا انقرضوا فعلى المساكين أو فعلى طلبة العلم، فطلبة العلم والمساكين لا ينقطعون؛ لأنهم موجودون دائماً.
يسوق المؤلف رحمه الله تعالى هذا الحديث ليبين أن العتاد والمحبّس في سبيل الله لا زكاة عليه، والحديث يورد في باب الزكاة؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عمر ومعه آخر على الصدقة، فلما رجع قال: يا رسول الله! منع الصدقة خالد وابن جميل والعباس ، فقال صلى الله عليه وسلم: (ما ينقم
هكذا الحديث مطولاً، ويورده العلماء في باب الزكاة على هذا الأصل، وقوله صلى الله عليه وسلم: (إنكم تظلمون
ومن هنا يذكر العلماء هذا الحديث بعينه في موضوع جواز تقديم الزكاة قبل موعدها، أي: قبل ثبوت وجوبها ببلوغ الحول.
وقوله: (عم الرجل صنو أبيه) الصنو: معروف عند أصحاب النخيل، تكون نخلتان أصلهما في الأرض واحد، فالأصل واحد، وتتشعب كل نخلة منهما إلى جهة مقابل الأخرى، فيتفرع الأصل إلى فرعين، وهكذا العم بالنسبة إلى الأب، فإن أصلهما واحد وهو الجد، فالجد لأب هو الأصل، ثم انفصل عنه وتفرّع عنه أبو المتكلم وعمه؛ لاجتماعهما في أصل واحد وهو الجد، ويعني: أن العم والأب يتساويان.
والشاهد هنا: أن خالداً رضي الله تعالى عنه احتبس أعتاده في سبيل الله، و(احتبس) يحتمل أن يكون المعنى: أوقف، ويحتمل أن يكون أعد، أي: أعد أدراعه وأعتاده، والأعتاد أو العتاد: هي الخيل، والأدراع: نسج من الحديد يلبس وقت القتال، قالوا: هذا يدل على صحة وقف العروض كالدروع وآلات الحرب من سيوف ورماح وغير ذلك، وكذلك صحة وقف الحيوان؛ لأن الحيوان يدخل في عموم قوله: (وأعتاده).
فمن هنا أتى المؤلف رحمه الله تعالى بهذا الحديث، وكأنه يشير إلى خلاف الفقهاء فيما يجوز وقفه وما لا يجوز؛ لأن البعض قد عارض في جواز وقف المنقولات، فعند الإمام أبي حنيفة رحمه الله عدم صحة وقف المنقولات؛ لأنها تتغير وتتلف ويعتريها طوارئ الأحوال، بخلاف العقار الثابت، والوقف إنما يجعل على التأبيد، والمنقول ليس فيه ضمان للتأبيد فهو معرض للتلف، ومعرض للضياع؛ فلا يتم فيه الوقف.
أما إذا كان الوقف على خير وعلى بر، كأن يقول: أوقفت هذا النخيل على طلبة العلم، فهو متصدق به على أشخاص غير معيّنين، ولا يمكن حصرهم، فمن حضر منهم في بلده استحق الوقف، فحينئذٍ يأخذه الطالب باسم الصدقة، وهو أوقفه وأخرجه عن ملكه باسم الصدقة، فإذا كانت عين الثمرة بكاملها صدقة لا نطلب الصدقة من صدقة على الآخرين، فهؤلاء الذين أخذوا بوصف العلم أو بوصف الفقر والمسكنة لا زكاة عليهم فيما أخذوه.
يقول صلى الله عليه وسلم في حق خالد رضي الله تعالى عنه: (احتبس).
وجاء في الخيل حديث: (الخيل لثلاثة: فهي لرجل أجر، وهي لرجل ستر، وهي على رجل وزر)، وفسرها صلى الله عليه وسلم بقوله: (فأما الذي هي له أجر فالذي يحتبسها في سبيل الله)، أي: أعدها في سبيل الله ولم يخرجها عن يده وقفاً إنما أعدها لتكون مهيأة وجاهزة للقتال في سبيل الله، فالشخص الواحد يعد ويهيئ عتاده من سيف ورمح وخوذة على رأسه أو درع يلبسه أو.. أو.. إلى آخره.
وفرساً يعده للجهاد، فهذه لم تخرج عن ماله، فإذا أراد الزكاة قومها وقدرها؛ لأنها ممتلكاته، وليست من عروض التجارة، فهي للقنية، لكن يطلق عليه أنه أعدّها في سبيل الله، فقالوا في قضية خالد : إنه حبس أدراعه، فحبس بمعنى: حبّس وأوقف فلا زكاة فيها، أو حبس بمعنى أعد؛ ولذا ليس لكم طريق إلى مطالبته، وهو يعرف ما يجب عليه من حق الله في الزكاة.
لكن المؤلف يسوق هذا الحديث هنا ليبين أمرين:
الأمر الأول: صحة الوقف في المنقول.
الأمر الثاني: عدم وجوب الزكاة فيما أوقفه صاحبه تبرراً لوجه الله، والله تعالى أعلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر