(من عَمَّرَ أرضاً)، أي: أحياها بالتعمير؛ لأن التعمير سواءً في السكنى بالبناء، أو في الأراضي الزراعية بالإحاطة، وهذا موجود إلى الآونة الأخيرة في المملكة، ونحمد الله سبحانه وتعالى أن هذا التشريع معمولٌ به إلى اليوم، ومن سبق إلى أرض ميتة فأحياها أصبحت اختصاصاً له ويتقدم إلى المحكمة ويثبت إحياءه لها، وتنظر قضائياً، ويعطى صك تملك عليها، وهذا من نعم الله سبحانه وتعالى.
وتعمير الأرض: هو تغيير وضعها البكر، كما يقولون عن المادة الخام: تغيرها وتطورها، فهذه الملابس التي تلبس ليست مادة خام وإنما مصنعة: أخذ الصوف عن ظهر الشاة، ثم ذهب إلى المغزل، ثم إلى المنسج ونسج، ثم إلى الخياط .. فهذا تطوير للمادة الخام.
وكذلك لقمة الخبز التي تأكلها ليست مادة خام، بل أصلها حبة البر، زرعت، وسقيت، وحصدت، وديست، وطحنت، وعجنت، وخبزت، ثم وصلت إليك خبزاً لتأكله، فهذه التطورات تسمى: تطوير المادة الخام، وكل حركة في هذا التطوير في مقابل؛ إذ هو عمل مشروع والأجر فيه مشروع.
وبذلك يرد علماء الاقتصاد على معاملات الربا: بأن المرابي يأخذ كسباً دون مقابل، بخلاف التاجر والصانع والزارع؛ فكل ما يحصل عليه في مقابل عمل داخل في تطوير المادة الخام، فإذا كانت الأرض ميتة فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى [فصلت:39] يحييها بماذا؟ ليس فيها روح لتتكلم، ولكن لكي تعطي ما وجدت من أجله وهو الثمار، فهذه حياتها تعطي ثمارها وزروعها.
فتعمير الأرض هو بجعلها تعطي ما وجدت من أجله وهو الزراعة والسكنى إلى غير ذلك، فمن عَمَّرَ أرضاً بالسكنى -وليس بلازم أن تكون عمارة ضخمة.. بل أقل ما يصدق عليه أمر السكنى- أو أحاطها بحائط ونصب خيمة داخلها، أو سكن داخل الحائط بدون خيمة فهو سكنى ويأخذ عليه حق التملك.
وكذلك الأرض الزراعية: إذا حفر البئر وأتى بالماء وحرث الأرض وسقى وزرع فإنما يكون إحياء لها، ولو أنه حفر بئراً دونما زرع ولا حائط ولا غرس ولا شيء فله أربعون ذراعاً نصف قطر الدائرة، حول البئر لبهائمه ومعطناً لحيوانه يشرب ويقيل فيه.
إذاً: (من عَمَّرَ) أي: جعلها عامرة، والعامر ضد الخراب، فجعلها صالحة للاستفادة منها.
[ قال عروة : وقضى به عمر في خلافته ].
وهذا منهج يسلكه مالك رحمه الله في الموطأ، وتبعه المؤلف هنا: وهل إذا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، هل لنا حاجة في أبي بكر وعمر ؟ ليس لنا حاجة، ولكن من حيث التأليف والتمكين والبيان والإيضاح ودفع الشبه يأتي بفعل الخلفاء بعد رسول الله، لأن العمل في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم قابل للنسخ والإحكام، ولكن إذا استمر العمل بهذا الأمر بعد رسول الله هل يمكن أن يدعي أحد نسخه؟ لا؛ لأن النسخ لا يكون إلا بنص متأخر يرفع حكم نص متقدم، وبعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس هناك أحد من حقه أن يورد نصاً ينسخ به حكماً حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: الحكم بتمليك الأرض بإعمارها ماض لم ينسخ، عمل به بعد رسول الله في خلافة أبي بكر وامتد العمل به إلى خلافة عمر ، فهل يحق لإنسان بعد ذلك أن يقول: لا يحق لإنسان أن يتملك الأرض بالإحياء أو بالتعمير؟ لا، هذا رسول الله حكم به، وهذا العمل ماض في خلافة أبي بكر بعد رسول الله، ويمتد العمل به إلى خلافة عمر.
إذاً: انتهينا من أنه حكم مشروع ثابت لم يعتره نسخ.
[وعن سعيد بن زيد رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أحيا أرضاً ميتة فهي له)، رواه الثلاثة، وحسنه الترمذي وقال: روي مرسلاً، وهو كما قال ].
نفس الطريق المتقدم، والمراد بميتة: لم يسبق عليها ملك لأحد.
قال: [ واختلف في صحابيه، فقيل: جابر ، وقيل: عائشة ، وقيل: عبد الله بن عمر ، والراجح الأول ].
يقول هذا تنبيهاً من ناحية السند، واصطلاح علماء الحديث: أن الحديث المرسل هو الذي لم يذكر فيه الصحابي الذي سمعه من رسول الله، وسبق أن قرأنا في البيقونية:
ومرسل منه الصحابي سقط وقل غريب ما روى راوٍ فقط
فالمرسل في اصطلاح علماء الحديث والسند: ما ذكر فيه الرواة إلى التابعي، وهو ولابد أن يكون قد أخذه عن صحابي، لكن من صحابي هذا الحديث الذي سقط من سنده؟ قيل: ابن عمر ، قيل: عائشة ، قيل: جابر ، وهل يضرنا جهالة الصحابي؟
جهالة الصحابي الذي أسقط من السند لا تضر؛ لأن علم السند نتتبع به الرجال الذين أسند إليهم الحديث لننظر: أعدول هم فنقبل الحديث، أم غير عدول فنرده، والصحابة بإجماع المسلمين كلهم عدول ولا يفتش عنهم.
إذاً: ذكر الصحابي أو لم يذكر فالأمر سواء، ولكن ما ذكر فيه الصحابي أقوى إسناداً مما لم يذكر فيه، لماذا؟
قالوا: هذا التابعي الذي يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هل نضمن أن الذي أسقطه صحابي أم تابعي مثله وصحابي؛ لأن التابعي قد يروي عن قرينه تابعي آخر، ونحن الآن عرفنا هذا التابعي الذي وقف عنده الإسناد، ولا ندري التابعي الآخر؛ لأن التابعي داخل في محل البحث والنقد.
وعلى كلٍ يقولون: إن المراسيل ضعاف، إلا مراسيل سعيد بن المسيب كما يقول الشافعي رحمه الله: سعيد بن المسيب إذا أرسل الحديث لا يفتش عليه؛ ولقد بحثت في مراسيل سعيد فوجدتها كلها متصلة. عرف الصحابة الذين أسقطهم سعيد بن المسيب في رواياته، إذاً انتهينا من هذا.
الحمى أو الحريم: حماه يحميه إذا دافع عنه، وحرمه يحرمه إذا منعه من غيره؛ لأن الحرام الممنوع.
جالت لتصرعني فقلت لها اقصري إني امرؤ صرعي عليك حرام
ومن هنا كان الحرام ضد الحلال، وحريم الرجل وأهله يمنعهم عن الآخرين، وحريم البيت يمنعه عن التعدي عليه، فالحريم بمعنى الحرام والمنع.
(لا حمى): كان بعض رؤساء القبائل والفرسان المشهورين يحمون منطقة لا يمكن لأحد أن يذهب ويرعى فيها؛ لأن فلاناً قد حماها، أي: منعها عن الآخرين، وتبقى خاصة بإبله ونعمه، فإذا جاء إنسان وتعدى كان له حق الانتقام منه.
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: (ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، فمن حام حول الحمى يوشك أن يرتع فيه).
إذاً: الله سبحانه وتعالى حمى المحرمات ومنعنا من ارتكابها، والملوك تحمي بعض الأماكن لخاصة نفسها، وكبار الشخصيات قد يحمون شيئاً لأنفسهم ولذويهم، فجاء الإسلام ومنع الأفراد أن يحموا شيئاً لأنفسهم؛ لأنه كما سيأتي في آخر هذا الباب، (الناس شركاء في ثلاث: الماء، والكلأ، والنار). الناس شركاء معك في هذا الكلأ، فلا تحمه لنفسك وتمنعه منهم.
(لا حمى إلا لله ولرسوله)، وأين سيحمي الله لنفسه؟ الملك كله لله، لكن بمعنى لله لأنه مالك الملك، وحمى الله عن طريق رسوله صلى الله عليه وسلم، وحمى رسول الله لله؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لما حمى الربذة وغيرها حماها لإبل وخيل الجهاد في سبيل الله، ولإبل الصدقة، لكي تجد المرعى الذي يتوافر لها لتؤدي واجبها على أكمل وجه، وظل الحمى إلى زمن عثمان رضي الله تعالى عنه، فكان يقول لعامله: (إياي وغنم ابن عوف وفلان، وإياك وذي الصريم -الغنمة والغنيمتين- فإنه إن تهلك غنمه يأتيني ويقول: عيالي وأولادي، والمرعى أهون علي من الذهب والفضة، أعطه إياه من بيت المال، لكن ابن عوف وفلان إذا هلكت ماشيتهم رجعوا إلى تجارة عندهم وأملاك أخرى)، فهو يحذره أن يرعى في الحمى أحد من الأغنياء؛ لأنهم في غنى عنه، ويتساهل ويسامح في صاحب الشاة والشويهة؛ لأنها رأس ماله فإن هلكت عليه هلك، وجاء لأمير المؤمنين وقال: أعطني من بيت مال المسلمين، فإن غنمي قد هلكت لأنك حميت الأرض.
إذاً: كان هناك الحمى للإبل والخيل التي تعد للجهاد في سبيل الله، فإذا جاء إنسان بعد ذلك إلى أرض موات نبت فيها الكلأ عن طريق الأمطار أو السيول أو العيون أو غير ذلك، وحماه لنفسه أو لقبيلته فإن ذلك ممنوع؛ لأنه لا يكون الحمى إلا لله ولرسوله.
إذاً: الحق في الحمى لرسول الله، ولكن هل بصفته صاحب النبوة والرسالة أو بصفته مسئولاً عن الأمة؟ بصفته مسئولاً عن الأمة.
إذاً: من يأتي بعده ويتحمل مسئولية الأمة فله حق في هذا الحمى؛ ولذا حمى عمر وعثمان وغيرهما ممن له الحق في أن يحمي لذاك الغرض. أما لغرضه الخاص ولتنمية دوابه أو بهيمة أنعامه ويمنع الناس منه فليس ذلك لأحد أياً كان، ولو كان ولي أمر المسلمين بنفسه لكن يحميها لدواب الجهاد وما تعد للقتال في سبيل الله، ليس لنفسه إنما لله ولرسوله، والله تعالى أعلم.
وله من حديث أبي سعيد مثله، وهو في الموطأ وهو مرسل].
هذا الحديث يعتبر أحد أربعة أو خمسة أحاديث يقوم عليها التشريع الإسلامي؛ لأن الشريعة بكاملها جاءت لجلب المنافع ولدفع المضار، وأنا أقول: فيه نصف التشريع؛ لأن الشريعة جاءت بجلب بما فيه نفع للمسلمين، وبدفع الضرر عنهم، ولهذا لا تجد أمراً في الشريعة إلا ويتضمن منفعة للمجتمع فرداً أو جماعة، ولا تجد نهياً إلا وهو يدفع عن الناس ضرراً.
إذاً: هذا الحديث يختص بأحد القسمين، ونصف التشريع في هذا الحديث.
وللعلماء في هذا الحديث شروح، فمنهم من يقول: لا تضر أحداً مطلقاً ولو كان ضاراً لك؛ لأنك إذا ضررت من ضرك كان ضراراً، وكل يسابق الآخر في مضرة صاحبه، وكل عمل يتضمن ضرراً على الشخص في نفسه أو غيره فهو منفي بالحديث، وكل مضارة بين اثنين انتقاماً لحق أو ابتداءً فهو داخل فيه ، إلا أن بعض العلماء يقول: يستثنى من ذلك: الانتقام من المعتدي، لقول الله: فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ [البقرة:194]، مع أن الاعتداء عليه فيه إضرار به، ولكن التحقيق: أن عقوبة المتعدي ليست بضرر، بل هي منفعة له برده عن مضرة الناس، ومنفعة لمن وقع عليه الضرر بكف ضرر هذا عنه.
ولا يدخل فيه الحدود: مثل قطع اليد في السرقة، فلا يأت أحد فيقول: كيف تقطع يده وأنت تقول: (لا ضرر ولا ضرار)، وأي ضرر أكبر من قطع اليد؟ لأن فيه مصلحة؛ لأن إقامة الحد في هذا الباب ستردع الآخرين وتحمي أموالهم، وترد أولئك الظلمة المعتدين على أموال الناس خفية وظلماً.
إذاً: فيه منفعة، لكن الضرر المطلق الذي لا حق فيه هو بسرقته الأولى؛ لأنه ضرر ليس في مقابل أي نفع، فالأخذ على يده وقطعها حداً، وإن كانت فيه مضرة تقع عليه لكن يتضمنها منفعة.
إذاً: (لا ضرر ولا ضرار) لا يستثنى منه شيء قط، وإن كان البعض يقول: يخصص بما فيه إيلام بوجه شرعي، نقول: إن ما فيه إيلام بوجه شرعي ليس محض ضرر، بل فيه منفعة.
وأبو هريرة رضي الله تعالى عنه كان يذكر مع هذا الحديث: (لا يمنعن أحدكم جاره أن يضع خشبة على حائطه)، ثم يقول: (ما لي أراكم عنها معرضين، والله لأرمين بها بين أكتافكم)، قالوا: كيف تضع خشبك على حائط الجار، أليس هذا فيه مضرة، قالوا: لا، ما دام الحائط يحتمل ذلك، أما إن كان لا يحتمل فلا يحق له أن يضعه.
إذا جئنا بهذا الحديث إلى الأسواق والبيوت والمعاملات وكل جانب من جوانب الحياة تجده موجوداً هناك، والمؤلف يسوقه هنا ليدلل لك على أنك إذا سبقت إلى أرض موات لتحييها وكانت إمكانياتك محدودة، فأنت تحيي بالتدريج، وقد يأتي إنسان بجوارك له إمكانيات عالية، وأنت لفت نظره إلى هذه الأرض، فيأتي وينزل ويأخذ منها فهذا ضار صاحبه، ولذا في بعض روايات الحديث: (وليس لعرق ظالم حق) وفيها ضعف، وفسره ابن عباس : بأن يأتي إنسان إلى أرض الآخر فيغرس فيها ويستثمر غرسها، فيكون العرق الذي غرسه هذا الشخص قد غرسه ظلماً.
إذاً: لا يحق لإنسان أن يحيي ما فيه مضرة على أهل القرية، فلا نأتي إلى ملتقى إبلهم وبمواقف سياراتهم ونحييه، وإلى مجرى السيول وتحييه مضرة على الآخرين، ولا يأتي الإمام الذي يريد أن يحمي حمى إلى ما هو ملك للناس ويحميه، لأن هذا مضرة أيضاً؛ لأنه أخذ لملك الغير بدون حق.
إذاً: لا مضرة لا في الحمى ولا في الإحياء.
كذلك إذا وجدت أرضاً فضاءً ومواتاً وجاء إنسان وأحياها، وهذه الأرض تحتاج إلى سعة بجوارها تجعل جريناً للحب ونجعل وموضعاً للتمر وللمنافع عامة.. مجمع للأسمدة أو للتراب أو للخشب أو لجريد النخل، هذه مرافق للبستان، يأتي إنسان وينزل ويبني فيها، فليس له حق؛ لأنها مرافق للأرض والمرافق تبع للأصل (لا ضرر ولا ضرار).
وهذا يأتي أيضاً في باب الجوار، أنت في ملكك وجارك في ملكه والجدار مشترك بينكما، فلا يحق لك أن تحدث في بيتك ما يتضرر به جارك، ولا أن تنصب رحى كبيرة إذا أدرتها هزت الجدران وأضرت بجارك، ولا أن تحفر بئراً في بيتك مقابل بيت جارك يسحب ماءه، أو أن تحفر البيارة مقابل بئره الذي يشرب منه فتفسد عليه ماء البئر، لا يحق لك أن تسيء إليه بدخانك، وهكذا، كل ما يمكن أن يضر به الجار جاره يأتي هذا الحديث ويخاصمه: (لا ضرر ولا ضرار).
يأتي المؤلف رحمه الله تعالى بهذا الحديث وما بعده ليبين مجمل ما تقدم من حديث الإحياء، وبم تكون حياة الأرض الموات، وكما في رواية مالك في الموطأ: (من عَمَّرَ مواتاًً فهو له)، فبم تكون عمارة الموات؟
جاء هنا بشيء من التفصيل، فقال: (من أحاط)، والإحاطة والشمول من الحائط الذي يحيط بالأرض، وهو الجدار الذي يسمى بالسور، فإذا ما أحاط إنسان أرضاً بحائط مبني فقد أحياها.
وتحت هذا الحديث يفصل العلماء بين الإحياء والتحجير؛ لأن التحجير كما يقال: بالحجرة، يقال في حجر إسماعيل: إنهم لما أرادوا بناء البيت قصرت بهم النفقة، فقصروا البناء على جهة الركنين اليماني والحجر الأسود، وما بقي من مساحة البيت حجروا عليه ببناء حجر إسماعيل حتى لا يضيع في المسجد، ويكون الطواف من وراء الحجر ليشمل شوط البيت كاملاً بناءه وما بقي من أرضه.
ولذا لما طلبت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها من الرسول صلى الله عليه وسلم أن تصلي في البيت، أخذ بيدها وأدخلها حجر إسماعيل، وقال: صلي هاهنا؛ فإنه من البيت، والتحقيق عند العلماء: أن الحجر يزيد عن مساحة البيت بأشبار، وأن ذرعة الحجر من جدار الكعبة إلى الجهة الأخرى ستة أذرع.
فالإحاطة بناء الحائط عن الأرض سواءً كان للسكنى أو للزراعة.
وفرق بين التحجير والإحياء: أن الإحياء يُمَلِّك، والتحجير يخصص، بمعنى: أن من حجر أرضاً فهو يختص بها وأحق بها من غيره، ولكن لا يملَّك بذلك، وبعضهم يقول: يعطى مهلة ثلاث سنوات؛ فإن أحيا تملك وإن لم يحي يقال له: ارفع يدك ليحييه غيرك، ثم يختلفون في نوع التحجير من الإحياء في بناء الحائط، فالبعض يعتبر بناء الحائط من الإحياء، والبعض يقول: التحجير: هو أن يحيط الأرض برصف من الحجارة. والبادية أو أهل الخلاء بعيداً عن المدن يسمون ذلك ظفير، والظفير: هو رص الحجارة مشتبكة بدون بناء بارتفاع نصف متر إلى متر حول الأرض. هذا الظفير يعتبرونه تحجيراً، وهذا في الأراضي التي تسقى بماء المطر، والجمهور الذين يقولون بإحياء الموات لا يعتبرون الأرض التي تسقى بماء المطر وتزرع عليه محياة؛ لأن إحياءها متوقف على نزول المطر وقد يتأخر، ولا يتأتى غرس على ذلك، إنما هي زراعة موسمية، وحينما يأتي المطر وينصرف عن الأرض تكون بعلية، وإذا تشبعت الأرض بالماء يضع البذرة فيها فتنبت على ثرى الأرض المشبعة بالماء، أو تشرب من مجرى السيول.
وفي بعض البلاد يسوق الله سبحانه وتعالى السيل للقرية فتسقي أراضيها على سبيل المناوبة، أعالي السيل يسقي ثم ينزل ويفيض على من بأسفلها، ورأيت هذا النظام متقناً في سامطة حيث التربة هناك خصبة، فبعد أن يجف الماء في الأراضي يتركه صاحبها إلى ارتفاع لا يقل عن نصف متر، ثم يفيض إلى من بعده، وهكذا إلى من بعده إلى أن يسقي الجميع، فإذا ما شربت الأرض الماء جاء وأخذ البذر ووضعه في تلك التربة المشبعة بالماء، ويسميه الفلاح زراعة بعلية، وهذا أجود ما يكون إذا كانت التربة خصبة.
وقد أخبروني هناك بأن الزراعة البعلية مثل الذرة تحصد مرتين، المرة الأولى التي وضع بذرها تأتي وتحصد، ثم ينبت الشفير وهو النبات الصغير من الجذور التي في الأرض وتؤتي محصولاً ثانياً على إثر ذلك الماء الذي أتى به السيل، هذه الأرض التي تزرع بهذه الحالة لا تُمَلَّك، ولكنهم من قديم الزمان توارثوها، وأخذ كل القطعة التي تحت يده من أب عن جد وتوارثوا على ذلك وتواطئوا عليه، فلا يعتدي أحد على أرض أحد.
فهل الحائط إحياء يستوجب التمليك أم أنه تحجير يجعل لصاحبه اختصاصاً على غيره، فلا يحق لأحد أن يعتدي عليه وإلا كان صاحب عرق ظالم، وكما جاء عن مالك فيما نقله عنه ابن عبد البر : أن العرق الظالم هو: إما حفر: يحفر بئراً، أو غرس: يغرس نخلاً أو شجراً، وإما زرع وبناء، فهذا هو الظلم الذي لا حق لعرقه فيه، ويجب عليه أن يزيل ما أنشأ. ويقول ابن عبد البر : يفعلون ذلك ليتملكون الأرض، والحال أنها مملوكه للغير.
إذاً: من أحاط أرضاً فهي له بالتحجير أو بالتمليك، على هذا التفصيل.
أما من لم ير التحجير إحياء، فقال: هذا تحجير ويعطى المهلة حسب العرف، والبعض يقول: ثلاث سنوات، إن أحيا وزرع وغرس وحفر بئراً يكون ضامناً لسقيها. فهذا إحياء، وإن لم يحفر بئراً ولم يغرس ولم يحي، قيل له: إما أن تحيي ما حجرت أو ترفع يدك ولا تحجر الأرض على غيرك ممن يستطيع أن يحييها.
وكما جاء عند ابن عبد البر : (من أحيا أرضاً مواتاً فله أجره)، يؤجر على ذلك لما قيل: إن الفلاح يؤجر على غرسه وزرعه لما يحدث من ذلك من إطعام جائع ومسكين، وشرب الحيوانات، وأكل الطيور، ولذا الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (والعوادي صدقة)، يعني: أن ما طرأ على الزرع من اعتداء غير مقصود من بني آدم، وما سقط وأكله الطير أو الوحش الطارف الذي يمر به، أو الضيف كل ذلك صدقة لصاحب الزرع.
وهكذا يكون الإحياء مصلحة دنيوية وأخروية؛ لأنه استثمار للأرض الموات، وجلب النفع له ولبني الإنسان والحيوان.
إذا كانت إحاطة الأرض إحياء على من يقول بأن الإحاطة إحياء، أو اختصاص على قول من يرى أن التحجير اختصاص، فيأتي بنوع آخر من أنواع الإحياء، وهو: حفر البئر، وبعض الفقهاء يقول: وإجراء النهر، إذا كان هناك مسيل دائم، أو نهر، أو عين فوارة عامة، وجاء واحتفر بئراً من هذا السيل، أو أجرى عيناً إلى أرض موات يزرع عليها، فهذا إحياء؛ لأن مجيء الماء إلى الأرض الموات ليسقيها ويزرع عليه فيه دوام للحياة، بخلاف التي تزرع على الأمطار، والتي تسمى بعلية؛ لأن صاحب البعلية قد يتركها ويأتي فيما بعد ويزرع بعلية أيضاً وهكذا، أما صاحب البئر فلا يتركه.
(من حفر بئراً فله أربعون ذراعاً) الذراع قسمان: ذراع باليد، وذراع اصطلاحي، وهو الذي يسمى الذراع المعماري، والعرف عند الناس أن الذراع المعماري خمسة وسبعون سنتيمتراً، والآخر يعدل اليد من المرفق إلى آخر الأصابع، وقد يستعمل هذا في قياس القماش ونحوه، ويستعمل ذاك في قياس الأراضي والعقار إلى غير ذلك حسب العرف المتبع.
(من حفر بئراً)، أي: واستنبط ماءه، أما إذا حفره ولم يحصل منه على ماء فليس له شيء؛ لأنه يتركه عجزاً عن الوصول إلى الماء، ولو حفر مائتي متر، وقد يوجد في بعض البقاع على بُعد مترين فقط ويحصل على الماء، وهذا بحسب اختلاف التربة، وحسب اختلاف المياه، فالبلاد ذوات الأنهار التي تجري دائماً تكون الأرض فيها مشبعة بالماء بما يتسرب من الأنهار تحت الأرض، إلى غير ذلك من أنواع التربة وقرب الماء وبعده.
(من احتفر بئراً فله أربعون ذراعاً): الأربعون ذراعاً تكون قطر الدائرة للبئرِ.
وأحمد رحمه الله يقول: له خمسة وعشرون ذراعاً، وهو يقول بذلك مستنداً إلى رواية أخرى فيها خمسة وعشرون، وهم كلهم متفقون على أن الآبار قسمين: بئر عادية، وبئر محدثة.
والبئر العادية: أي: القديمة، نسبة إلى عاد، والعرب تنسب كل قديم إلى عاد؛ لأنها كانت قوية ومضى عليها زمن بعيد؛ فينسب كل ما كان بعيد التاريخ أنه من عاد، وهكذا كما يقولون: عبقري، نسبة إلى وادي عبقر؛ لأن العرب تزعم بأن وادي عبقر هو مسكن الجن، والجن أصحاب الأفكار أو الرؤى البعيدة، فينسبون كل ذكي إلى وادي عبقر، فيقولون: فلان عبقري، فهنا البئر العادية، أي: القديمة.
والقديمة هذه ما شأنها؟ تكون موجودة من قديم، ثم إن السيل والهوام وعوامل التعرية طمستها واختفى ماؤها، فيأتي إنسان ويجدد حفرها ويخرج منها الفضلات حتى يصل إلى مائها، فهو أحياها بذلك، فهذه العادية لها خمسون ذراعاً، أما الجديدة المستحدثة -كما يقال: البئر الإسلامية- التي احتفرها أهل الإسلام فهذا الحديث يقول: لها أربعون ذراعاً، لماذا تكون دائرة قطرها أربعون ذراعاً؟ حتى تكون معطناً لإبله، تسرح وتطلب المرعى وتبعد اليوم واليومين وترجع بعد الثلاث والأربعة الأيام ما شربت ثم يوردها صاحبها على بئره هذا، فلابد لها من مكان يجمعها وبروكها وعطنها إلى أن تشرب وتنزح عن البئر.
فمن حفر بئراً أحياها، وأعطي أربعون ذراعاً كحريم للأرض، وإن كانت قديمة وجدد إحياءها فلها خمسون ذراعاً؛ لأن العادة في القديمة أن يكون ورادها أكثر، وعلى هذا من حفر بئراً استحق ملكها وملك حريمها معها.
أما إذا كان في وسط قرية والأملاك متواصلة ومتحادة ويفصل بعضها عن بعض بما لا يزيد عن ذراع أو نصف ذراع، فحفر بئراً في ملكه فلا يتعدى ملكه شبراً واحداً؛ لأن ما حوله هو أملاك سابقة، فلا يتملك ملك الغير بحفر بئر في أرضه، حتى لو وجدت أرضاً فارغة وسط أراضي القرية وكانت مساحتها عشرة أذرع فقط فليست لك إلا هذه المساحة، ولا يتجاوز الأرض الفضاء ويتعدى بحفر البئر إلى أراضي الآخرين.
ومن أنواع الإحياء أيضاً: أن يجري الماء ببئر أو نهر أو عين ثم يغرس على هذا الماء، والغرس الثابت من عوامل الإحياء، يغرس نخلاً أو ليموناً أو عنباً أو أي شجر مثمر فهو إحياء، وهنا في الغرس لا تحديد عليه، لا يقال: أربعون أو خمسون بل بقدر ما يستطيع من غرس الأرض ما لم يتعد ملك الغير، فإذا كانت هناك أراضي محياة ويمتلكها أشخاص آخرون وجاء إنسان ليحيي أرضاً بجوارهم فليس له أن يتعدى عليهم، كما تقدم: (وليس لعرق ظالم حق)، بأن يجد إنساناً كان متحجراً أرضاً، فبدأ يحيي فأحيا جانباً وبقي جانب آخر، فجاء إنسان ليحيي بجواره، لا يحق له أن يتجاوز أرضه إلى الجزء الباقي في التحجير لغيره؛ لأنه من اختصاص الغير، وهكذا الغرس والزراعة ونحو ذلك ليس فيها تحديد، فإذا عجز عن إحياء ما حجره فعلى الإمام أو ولي الأمر أن ينذره: إما أن تحيي وإما أن ترفع يدك.
إذاً: من أنواع الإحياء، بناء الحائط، حفر البئر، غرس الشجر، بناء البيت للسكنى بأقل ما يمكن أن يقال عنه سكن، فلو أنه جاء داخل هذا الحائط وبنى غرفة يمكن أن يسكنها بقدر ذلك ولو لم يوجد فيها مرافق السكن العادية من دورة مياه أو مطبخ، فلا بأس؛ لأن العرب وعامة الناس في البادية لا يألفون ذلك، بل إنهم يأنفون أن يجعلوا دورة المياه معهم في سكناهم.
وفي أول الإسلام كان النسوة يخرجن بالليل إلى الخلاء، ويستأنفون أن يجعلوا ذلك في بيوتهم استئنافاً واستقذاراً، ثم بعد أن كثر الناس وشاع أمر خروج النسوة اتخذن بيوت الخلاء في بيوتهن، وألفوا ذلك وتغير الوضع.
فإذا بنى في هذا الحائط غرفة واحدة أو ما يصلح لسكناه ويعتبر سكناً وافياً بالنسبة إليه، فيكون ذلك إحياء يتملك به.
هنا بجانب الإحياء يذكر الإقطاع، والإقطاع هو: أن يمنح السلطان شخصاً من الناس قطعة من الأرض، هذه القطعة التي أقطعها السلطان لفرد من الأمة، هل يكون ذلك تمليكاً أو اختصاصاً؟
الجمهور على أنه تمليك، والآخرون يقولون: اختصاص، فلا يحق له أن يبيعها؛ لأنه أقطعه إياها إرفاقاً به لينتفع بها، والإقطاع على نوعين:
النوع الأول: أن يقطعه أرضاً يحييها ويغرسها ويستفيد بها، ويتملكها وتورث عنه.
النوع الثاني: يقطعه ثمرة أرض محياة، أو قرية يقطعه زكاتها، فيقول له: أقطعتك زكاة القرية الفلانية فهو لك، فيذهب ويأخذ زكاة زروعهم وأموالهم ويكون له، وهذا عارض فيه كثير من العلماء؛ لأن الزكاة لأصناف معينة؛ فلا يحق للإمام أن يخصها بشخص.
وقد وجدنا في السنة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرسل الفقير أو الذي لزمته كفارة أو ما شابه إلى أناس ليأخذ صدقاتهم من باب حاجته إليها، ولكن يقال: هذا في حاجة، وهذا أرسله لفقره أو للحوق الدين به، فهو من مصارف الزكاة، لكن يأتي لشريف من الأشراف، أو لأمير من الأمراء ويقطعه زكاة قرية بكاملها لينتفع بها أو يتملك أو يترفه؛ فهذا ممنوع عليه.
وقد نبه الصنعاني في شرح هذا الحديث: أنه كان هناك إقطاع في اليمن تأسف وتحسر عليه؛ لأنه مخالف للكتاب والسنة.
إذاً: للأمير أن يقطع شخصاً، ولكن أين يقطعه؟
يشترط في الأرض التي تقطع للفرد: أن تكون من الموات، ولا يحق له أن يقطعه ما كان من مصلحة المواطن، أو اختصاصه، أو منفعة القرية، وتقدم الحديث: (لا ضرر ولا ضرار)؛ لأن السلطان إذا أراد أن ينفع إنساناً لا يكون ذلك على حساب مضرة الآخرين، ولا يملكه ملك الآخرين، إنما يقطعه مما يملك.
وهناك حديث: (موات الأرض لله، وأنتم عباد الله)؛ فالرسول الله صلى الله عليه وسلم نبه على أن موات الأرض لله والملك كله لله، وولي الأمر يتصرف باسم الله في ملك الله مع عباد الله، فلا يظلم أحداً من أجل أحد آخر، فلا يحق لولي الأمر أن يقطع إنساناً ما يمنع إحياءه من الآخرين، ولا يحق له أن يقطع مجرى الوادي لأنه مصلحة للأمة، ولا عيناً فوارة تسقي ما حولها، ولا مرافق القرية، ولا ما فيه طريق المسلمين، وهكذا.
قاعدة: ما يمنع الفرد من إحيائه يمتنع على ولي الأمر إقطاعه.
وقد جاء في بعض الروايات: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم أقطع إنساناً أرضاً كانت يستخرج منها الملح الحجري، فقيل: يا رسول الله! أتدري ماذا أقطعت؟ قال: لا، قال: أقطعته ما فيه إرفاق بالمسلمين)، فاسترجعه من صاحبه؛ لأنه لا يحق لولي الأمر أن يقطع ما فيه مصلحة أو منفعة عامة لجميع الناس فيخص بها إنساناً.
وكذلك مواضع المعادن: إذا كان هناك معدن من ذهب أو فضة أو كبريت أو ملح أو غير ذلك فهو حق للأمة، لا يجوز إقطاعه لفرد.
الرسول صلى الله عليه وسلم أقطع الزبير، والزبير حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما أجلا بني قريظة أقطع النبي صلى الله عليه وسلم الزبير حضر فرسه، يعني: الفرس يأخذ شوطاً للنزهة، فلما أقام الفرس وفق ما اكتفى بهذا رمى بسوطه، (لو أن لابن آدم وادٍ من ذهب لتمنى الثاني)، لو أن له حضر فرس لتمنى فرساً آخر، لكن حرص الإنسان سجية فطر عليها، فقال صلى الله عليه وسلم: (أعطوه حيث بلغ السوط)، ليس عند موقف الفرس، لا؛ لأن هذا تابع لذاك.
إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم أقطع أرضاً معروفة إلى الآن بأرض الزبير ، وهي: ما وراء بئر عثمان رضي الله تعالى عنه.
إذاً: هذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وهل يجوز لأحد بعد النبي أن يقطع أحداً؟
قالوا: نعم، لولي الأمر أن يقطع من يراه صالحاً لذلك وفيه مورد للمسلمين، يعني: مساعدة إليهم، فإذا كان الأمر كذلك فعلى ما تقدم، ويكون ولي الأمر بعد رسول الله له أن يقطع بعض المسلمين بعض الأراضي، لكني ما وقفت على إقطاع لـأبي بكر ولا لـعمر ولا لغيره كما فعل صلى الله عليه وسلم، كما وقفنا على ما صدر من عمر أنه حمى لإبل الصدقة، واعتذر للناس وقال: (والله لولا إبل الصدقة ما حميت على الناس شبراً؛ لأنهم يرونها أرضهم كانت بأيديهم قبل الإسلام وقاتلوا عليها وأسلموا عليها، فيرونني قد اغتصبتها، ووالله لولا إبل الصدقة ما حميت عليهم شبراً واحداً).
إذاً: الحمى لإبل الصدقة من شأن ولي الأمر، والإقطاع لبعض الأفراد من شأن ولي الأمر، والله تعالى أعلم.
(وعن رجل) رجل هذه نكرة، وأي الرجال؟ فإنه كما يقولون: النكرة تعم بالبدل، هذا رجل، هذا رجل، وهكذا تطلق على كل ذكر من بني الإنسان، (رجل من) خصص عموم رجل من بني الإنسان بصحابي بهذا الوصف، فهذا الوصف قيد في النكرة يخصصه عمومها.
بقي من هو من الصحابة؟ لا علينا إذا لم نعرف من هو ولا اسمه؛ لأنه ما دامت ثبتت له الصحبة فهو مأمون ولا نبحث عنه؛ لأن الصحابة ليسوا خاضعين للنقد وللتفتيش وللتجريح والتوثيق؛ فهم موثقون عدول بطبيعة الصحبة.
قال: (غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول: الناس) والناس من ناس ينوس إذا تحرك، يشمل كل إنسان، (شركاء في ثلاثة) شركاء بدون تخصيص أو تمييز، وهي: (الماء، والكلأ، والنار).
يقول بعض العلماء: هذه الثلاث هي أصل قوام الحياة؛ لأن الماء: وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الأنبياء:30]، والكلأ للدواب ورعيها، والإنسان لا يستغني عن بهيمة الأنعام، والنار: نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ [الواقعة:73]، لا تمكن حياة بدون نار، لا نضج طعام ولا حتى صناعة؛ لأن إذابة الحديد وتصنيع المعادن لابد لها من النار. هذه الأمور الثلاثة هي قوام الحياة، ولكن أي المياه وأي الكلأ وأي النيران التي تكون فيها الشراكة.
وما هو المراد بالنار: حقيقة النار المشتعلة أو وقود النار من حطب ونحوه؟
وما المراد بالماء: الماء في القربة، أو في المسيل أو في النهر؟
بعض الناس استغل هذا الحديث بما أساء إلى المجتمعات، وجعله دليلاً على الاشتراكية، واستدل به على تشريك من لا يملك شيئاً منها لمن يملك من ذلك، والغرض في هذا الحديث: أن التشريك إنما يكون في العام الذي لا خصوصية لأحد فيه، فالمراد بالماء هنا الماء في النهر الجاري، الماء في مجرى السيول، العين الفوارة التي لا تختص بأحد، فكل إنسان شريك فيه يأتي إلى النهر فيأخذ ما يريد، يأتي إلى مجرى السيل فيأخذ ما يحتاج، وهكذا ماء العين.
أما إذا ذهب إنسان وملأ قربته أو خزانه بالماء في الوقت الحاضر، فليس لأحد شراكة في هذا الماء الذي حازه بعض الأشخاص، أخذت الماء إلى بيتك هل يدخل جارك ويأخذ من هذا الماء ويقول: نحن شركاء فيه؟ لا، لأنك حزته. اذهب وخذ حيث أخذت أنا وغيري، فإذا حازه إنسان إلى نفسه فقد أصبح ملكاً له وليس لأحد شراكة فيه.
وأما الكلأ فهو النبات الذي ينبت في الأرض الموات وليس في أرض مملوكة لإنسان، فما كان في أرض مملوكة لإنسان فصاحب الأرض أحق به، ولا يجوز لأحد أن يحتشه إلا بإذنه، أو يدخل ملك غيره يرعى بغنمه إلا بإذنه، أما الذي في بطون الأودية، وظهور الصحاري، والأراضي الموات، فكل مشترك فيه، يذهب الكل ويرعى بغنمه أو يحتش ويأخذ لما عنده في بيته من بهيمة الأنعام.
والنار قيل: المراد بلهبها يستضيء به كل إنسان، أو يستدفئ عليه، أو يأخذ قبساً منها ليوقد ناره، لا أن يأتي لإنسان جمع حطباً وأوقد ناراً لينضج عجينه خبزاً أو إدامه طعاماً، فيزيل قدره عنه ويأخذ قسماً من النار إلى نفسه، ويقول: أنا شريكك في النار، فيقال: لا.
وقيل: شركاء في أصل النار وهو الحطب وقوداً لها، فالناس يحتطبون الحطب من الجبال وسفوحها، ومن الخلاء والصحاري وهم شركاء، يخرج الحطابون كلاً بفأسه وحبله، ومن يسبق إلى شجر يابس فيقطع ويجمع فهو له، لكن بعد أن حزم الحطب وجمعه وذهب به إلى بيته هل يأتي جاره ويقول: أنا شريكك في هذا الحطب؟ لا. لأنه اختص به بعمله وبجهده.
فأخذ الرجل يبكي وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ما بال العلماء يسكتون؟ قلت له: من المشانق التي نصبتموها، ثم كانت أشياء كثيرة بيني وبينه، فقال: أعاهدك، قلت: على ماذا؟ قال: أني إذا رجعت سآخذ المصحف معي من المدينة، قلت: المصاحف تأتينا من بلادكم، فخذها من هناك، قلت: ولماذا؟ قال: لأحفظ أبنائي كتاب الله، فلقد حفظتهم كتاب الميثاق، وسوف أحفظهم كتاب الله من المصحف كما حفظتهم الميثاق، وقال: جزاك الله خيراً.
ثم قلت له: أنت درست التاريخ الإسلامي كمادة، فهل كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عثمان بن عفان جهز جيش العسرة؟ وأن عبد الرحمن بن عوف تصدق بقافلة بما تحمل من مواد التجارة وما فيها من عبيد وإبل في سبيل الله؟ وكان هناك أبو هريرة يصرع من الجوع في المسجد، وقال: كنتم تشتغلون بالصفقات والزراعة، وأتبع رسول الله على ملء بطني، فهل أخذ رسول الله من عثمان شيئاً يعطيه لـأبي هريرة ليقيم صلبه؟ قال: لا.
بل الرسول صلى الله عليه وسلم انتقل من الدنيا بكاملها ودرعه مرهونة عند يهودي في آصع من شعير، فهل أخذ من ابن عوف أو عثمان أو غيره لنفسه ولبيته؟ قال: لا، قلت: إذاً: ما لم يكن في ذلك الصدر وفي ذلك التاريخ المبارك النير هل يكون في هذا الوقت؟!
ما كان لنا أن نتكلم في هذا الموضوع وقد انتهت الشيوعية وتقوضت أركانها بحمد الله، وعرف الناس الحق، وهم يرجعون الآن عن الباطل تدريجياً إلا لمرور هذا الحديث، لأنه كان عدتهم.
ثم قلت له: أنتم تناقضون مبدأكم الآن، قال: لماذا؟ قلت: الماء الذي تدخلونه في العمارات الناس فيه شركاء، وأنتم تضعون عداداً باللتر أو المتر المكعب وتأخذونها وتبيعونها عليهم، تيار الكهرباء الذي يدخل البيوت ويشغل الأجهزة، أليست هذه نار وطاقة أو هل جعلتموهم شركاء فيها أو جعلتم عدادات تعد بالإمبير وتأخذون القيمة؟ إذاً: ناقضتم أنفسكم.
إذاً: يا إخوان نحن وللأسف تعرضنا لهذه النواحي وإن كانت قد انتهت، لكن لنبين زيف ما كانوا يتمسكون به، ولنبين لإخواننا الذين يغترون بمقالات الآخرين بأن الشركة في هذه الثلاث إنما هي حينما تكون عامة، أما بعد الاختصاص فلا دخل لأحد فيما عند الآخر، وبالله تعالى التوفيق.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر