إن الله سبحانه وتعالى جعل البركة مائة جزء، تسعة وتسعين منها في البيع والشراء، وواحد في بقية الأسباب الأخرى كلها: صناعة .. زراعة .. هكذا يقولون.
وأعتقد أن هذه النسبة أمر نسبي وليس قطعياً، وكم من صانع يبارك الله له في صناعته، وكم من زارع يبارك الله له في زراعته، وكان بعض الصحابة يثمر بستانه في السنة مرتين ببركة دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهنا الحديث: (البركة في ثلاثة)، وفي غيرها أم فيها فقط؟
كل شيء أراد الله سبحانه وتعالى أن يبارك فيه حصلت فيه البركة، هذا صاحب الدينار والشاة قال له صلى الله عليه وسلم: (بارك الله لك في بيعك وشرائك)، فكان لو التمس تراباً بارك الله له فيه وربح، وكان الناس يأتونه بأموالهم ليضارب بها؛ التماساً لدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم له بالبركة.
البركة: الزيادة والنماء، وحفظ الشيء والخير فيه، فهنا جعلها في ثلاث، وليس هذا من باب القصر الحقيقي، ولكنه قصر نسبي؛ لأن من أساليب البلاغة في القصر تعريف الطرفين، تقول: الشاعر زيد، مع أن أسلوب القصر: إنما الشاعر زيد؛ لأن (إنما) أداة حصر، و(ما وإلاّ) كذلك، ما الشاعر إلا زيد، ولذا نقول في كلمة الشهادة: (لا إله) نفي، (إلا الله)، وقالوا أيضاً: تقديم ما حقه التأخير: (إياك نعبد)، وأصل الترتيب العربي في غير القرآن: نعبدك، فكان الأولى أن كاف الخطاب تتأخر عن الفعل: (نعبدك ونستعينك ونستهديك ونستغفرك)، كما في الحديث، لكن لما قدم المفعول وكانت الكاف المتصلة انفصلت عن الفعل جيء لها (بإي) لتقوم عليها (إياك)، فتقديم ما حقه التأخير من أساليب الحصر، وتعريف الطرفين -أي: المبتدأ والخبر- من أدوات الحصر، فهنا (ال) أداة التعريف، (بركة) معرفة، ثم ذكر الثلاث وهي معارف كلها.
إلا أن هذا الحصر نسبي -كما يقولون- وليس قطعياً، أو حقيقياً. يعني: إن كانت البركة في أمور فتلك الثلاث منها، أو أن الله خص هذه الثلاث ببركة زائدة عن عموم البركة في بقية الأشياء، فيكون لها فضل اختصاص.
أول هذه الثلاث: (البيع إلى أجل) أما البيع إلى أجل الواقع الآن فهو بيع آخر. أما البيع إلى أجل الذي هو محل البركة: هو أن لا تزيد مقابل الأجل في سعر السلعة، إذا كانت بعشرة وبعتها بعشرة والثمن مؤجل إلى شهر .. شهرين أما هذا هو البيع إلى أجل، أما إذا كانت بعشرة وتبيعها إلى شهرين أو ثلاثة أشهر بخمسة عشر فما بعت لأجل، لأنك قبضت ثمن الأجل؛ لأن الغرض في البيع إلى أجل التخفيف والتيسير، واللطف والرفق بالمعسر، وهذا كله من باب التراحم بين المسلمين.
وتذكرون قصة الرجل من بني إسرائيل الذي كان يوصي عماله أن ييسروا على الناس ويقول لهم: يسروا على كل معسر لعل الله أن ييسر علينا، فلما لقي ربه قال له: ما عندك من عمل؟ لا لك عمل كبير، ولكنك كنت تيسر على المعسر، ونحن أحق بأن نيسر عليك، والجزاء من جنس العمل.
وعلى هذا فإن البيع إلى أجل منطلق من: الرفق.. الرحمة.. التيسير.. عدم التضييق على المدين الذي ليس عنده قيمة السلعة، وخاصةً إذا كانت من السلع الضرورية: طعام .. لباس .. أو ما يحتاجه المسلم في بيته، أما الكماليات فأمرها آخر.. كبعض الناس يسعى إلى تلفزيون ملون ودش، وفيديو، وما حاجة هذا كله؟! وفر لقمة العيش لأهلك أولاً، وهذه كماليات، أو ربما هي زائدة عن الحاجة، أو ممنوعة محرمة.
فإذا وجدت حاجة لذلك، وتدعوه الضرورة لأن يشتري السلعة وهو مسكين ليس بيده شيء، ماذا تعمل معه؟ تعسر الأمر عليه في ثمن لقمة الخبز وهو يريدها لأهله؟! تقول: أنا أبيع أربعة بريال، ما دام الثمن مؤجلاً فأبيعك اثنين بريال، إذاً: حملته عسراً فوق عسره، عسر زيادة الثمن، وعسر الذلة التي حملته إياها وأشعرته بها، ولو كنت أنت في مكانه كيف تريد أن يعاملك الناس؟! ألم يكن من مبادئ الإسلام أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك، ولكن ما أصعب هذا!! وأحياناً تحدث مشاكل بسبب اختلاف تعامل الناس، والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة.
هذا غير المعاملات الفاسدة في السوق، وكانوا يعطيه القرض ويوفي بحق الله وبعهده، كما ذكر ابن كثير: عن رجل تاجر جاء إلى بلد فنقصت عليه ألف دينار، فكان يذهب إلى التجار ويقول: أقرضوني أنا تاجر في بلدي، فيطالبوه بكفيل غارم، .. رجل غريب لا أحد يعلمه، من أين يأتي بكفيل حتى لو كان كفيلاً حاضراً، حتى جاء إلى رجل فقال: ائتني بكفيل، قال: كفيلك رب العالمين. قال: رب العالمين؟ قال: نعم. قال: قبلت، وأعطاه الألف دينار، ثقة بعهد الله، ومتى الموعد؟ قال: مثل هذا اليوم، في السنة القادمة.
ولما جاء الموعد حضَّر الرجل الألف وطلب سفينة ليذهب إليه فلم يجد، ومضت أيام طويلة وهو قلق، بينما صاحبه هناك ينتظر السفينة فلا يأتي أحد، وهذا ينتظر سفينة يركب أو يدفع المال أمانة ليسدد صاحبه، ولما طالت المدة رجع الرجل إلى بيته وأخذ خشبة وحفر داخلها، ووضع الدنانير في حفرتها، وأطبق عليها، وجاء بها إلى البحر، وقال: اللهم أنت كفيلي وهذه وديعتي أوصلها لصاحبها وفك عني ديني، ثم رماها في البحر، ورجع إلى بيته وأخذ يجمع ألفاً ثانية إن تيسرت له سفينة ذهب بها، وكان صاحبه هناك كل يوم يذهب إلى البحر ينتظر السفينة فلم يجد شيئاً، وفي يوم من الأيام رأى خشبة تتلاطمها الأمواج وتقذف بها، حتى جاءت بها على الساحل أمامه، فقال: بدلاً من أن أرجع بلا شيء آخذ هذه الخشبة لعلنا نتدفأ بها، فحملها إلى البيت، ومع ثقل الماء حينما وصل البيت ألقى بها قالت له زوجه: ألقيت صاحبك؟ قال: لم أجده، وجئت بهذه الخشبة، فلما ألقاها في الأرض مع ثقلها بالماء فإذا بها تنكسر وتخرج الدنانير، ومعها الكتاب: اللهم! إن هذه أمانتي وأنت وكيلي فأوصلها إلى من قبل كفالتك. وبعد سنة جاء الرجل بألف أخرى، وأتى إلى التاجر، فحينما لقيه قال: قد وفىّ الله عنك دينك، قال: أوصلتك الرسالة؟ قال: بلى، وصلتني في الخشبة ومعها الخطاب.
إذاً كان هذا النوع في السابق: إذا استدان كان وفياً، وإذا عاهد كان أوفى، وإذا اقترض على نية السداد سدد، وكما تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها في الحديث: (ما اقترض إنسان على نية الوفاء إلا كان الله في عونه) وكانت دائماً تقترض، لغير حاجة وتقول: بركة لهذا الحديث، وأنا أريد أن يكون الله في عوني ما دمت مقترضة.
نقول: لعل هناك عوامل تمنع من القرض إلى أجل منها: تغير معاملات الناس، وصاحب الدين لا يصل إلى حقه، بل حتى إذا وصل إلى المحكمة تناكرا، ونفى حتى السند الذي وقعه بيده، ويقول: ليس بتوقيعي ولا أعرفه ولا ولا ... إلخ.
أما إنساناً وثقت فيه وبعته وزدت في الثمن من أجل الأجل وأتاك بالكفيل.
إذاً: حقك مضمون، فلماذا تزيد في الثمن من أجل الأجل؟! وهنا النزاع الطويل المتقدم في البيع والربا والصرف، ومنهم من حملها على. حالاً بكذا ومؤجلاً بكذا.. إلى غير ذلك.
إذاً: البيع الأجل الذي أنيطت به البركة هو البيع إلى أجل بدون زيادة في السعر مقابل الأجل.
ساق المؤلف رحمه الله هذا الحديث ليستدل به على جواز المقارضة، وأنها مشروعة وفيها البركة، وكونها فيها البركة تستلزم أنها حلال ومشروعة، ولا يوجد نص صحيح مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صحة شركة المضاربة، كما قال ابن حزم رحمه الله ونقل ذلك عنه.
وإذا فتشنا في كتب الحديث لا نجد نصاً على عين شركة المضاربة، ولكن هناك ما يعتبر أصلاً، لا حاجة إلى النص وهو: أن الإسلام جاء إلى الأمة وهناك عقود متعددة .. إجارة .. بيع .. أنكحة .. موالاة .. رق؛ فنظر الإسلام في تلك العقود فأقر صحيحها وألغى فاسدها، وأصلح ما كان فيها من فاسد، فنهى عن الجمع بين الأختين لأنه فاسد، ونهى عن نكاح زوجة الأب، وقال الله: إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا [النساء:22]، يعني: زيادة عن الزنا، بينما قال في الزنا: إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا [الإسراء:32]، ولكن هذا فيه: (ومقتاً)؛ لأن فيه اعتداء على حق الوالد، فألغه.
جاء الإسلام أيضاً فوجد من هو متزوج بعشر نسوة فصحح الزواج في الجملة وألغى الزائد عن الأربعة، كما في الحديث: (اختر منهن أربعاً وطلق سائرهن)، وهذا كان في قضية غيلان حين أسلم وتحته عشر نسوة، وأما بقية عقود الأنكحة التي جاء الإسلام وهي موجودة فلم يبحث فيها، من الذي عقد لك.. كيف تزوجت.. ما نوع الصداق ...إلخ.
وهكذا كانت الشركة موجودة، وكانت أكثر أنواع المشاركة عند العرب هي المضاربة، ونعلم أن تجارة أبي سفيان كانت مضاربة، كما جاء في الأخبار: (ما من بيت في مكة إلا وله فيها سهم)، فكانوا يجمعون المال ويعطونه لـأبي سفيان ليتجر به بين الشام واليمن.
إذاً: هذه شركة مضاربة، فلما جاء الإسلام ووجد شركة المضاربة قائمة والناس يتعاملون بها لم ينههم عنها وأقرهم عليها، وهذا توثيق وتشريع بالتقرير على وجودها واستمراريتها، ومع هذا الحال لا نحتاج إلى نصوص؛ لأنها مستمرة في طريقها، وقد أقرها الإسلام على ما هي عليه.
هذا قيد لابد منه: للبيت لا للبيع.
يقول بعض المشايخ: كان إنسان يأتيه كل يوم برطل حليب وهو يقول له: لا تغش الحليب بالماء، قال: والله يا شيخ! أنت كثرت وأنا كنت أخلط لكن الآن تبت، وفي يوم من الأيام كان خادم هذا الشيخ غير موجود، ومن عادته أنه يخفف الحليب بالماء لأجل الدسم الذي فيه، فلما أخذ الحليب قال له: ناولني الماء أضعه على الحليب، قال: يا شيخ! كل يوم تقول لي: لا تخلط الحليب بالماء وأنت الآن تخلطه بنفسك!! قال: أنا أخلطه لأشرب، قال: هذا حقك وأنا هذا حقي، فمثلما تخلط أنت حليبك بالماء أنا أخلط حليبي أيضاً، قال: أنت عندما تبيعه هكذا فهذا غش، قال: لا. أبداً كله سوى.
فالقيد هنا للبيت خلط البر بالشعير لا للبيع، ولو كان هنا دكتور من علم الغذاء لشرح لنا غاية الحكمة من البر من حيث هو أصناف قد يصل إلى عشرين صنف، وهو يتفاوت قوة وضعفاً ويسميه العوام عرق، فإن عجينة القمح لو عجنت إلى أقصى وتشبعت بالماء تستطيع أن تصنع منها خيوطاً، هذا الذي يعمل (الكنافة) قال: سبحان الله! (يخلق من العجينة دبارة)، فهذه لا تصلح تلك الخيوط لا من دقيق الشعير ولا الذرة، لكن تصلح من البر، وطبيعة دقيق البر اليبوسة والقوة.
اترك قطعة من عجين البر على شكل عمود فإذا يبست كل اليبوسة تعجز أن تكسرها، وبعضهم كان يصنع كراسي وسرائر للنوم بعجين البر، يشبعه بالماء ثم يلفه حتى التجبيس حتى يصير قوياً. إذاً إذا أكل الإنسان من عجين البر وحده كان فيه قوة وحرارة على المعدة، ولا يصلح لكبار السن، ولا لضعيف المعدة، ولابد لهذه القوة في دقيق البر من تخفيفها، والعوام في بعض البلاد يخففونها بالذرة الشامي؛ لأن الذرة الشامي ليس لها عرق يتفتت مثل الرمل، ولو جعلت منه فطيراً لا يمكن أن تجعله مثل الرقاق، ولا يصلح منه الرقاق أبداً؛ لأنه ليس له عرق قوي، فيدخلون الذرة الشامية مع البر الجيد مناصفة، ورب الأسرة لما يخلطها يجعلها أثلاثاً، الثلثين ذرة والثلث براً، البر ليمسك الذرة، ويكون هناك عرق حتى يخبز ويحتفظ به إلى مدة ما.
أولاً: تيسيراً على صاحب العيال؛ لأن قيمة الشعير أرخص من قيمة البر.
ثانياً: تسهيلاً على أصحاب المعدة الضعيفة.
ثالثاً: مساعدة للشيَّاب والعجائز؛ فإن لهم قدرة على خبز الشعير وليس لهم قدرة على خبز البر.
فهنا يبين النبي صلى الله عليه وسلم أن خلط البر بالشعير فيه بركة.
أولاً: زيادة في المئونة، ثانياً: قلة في الثمن والسعر في الشعير، ثالثاً: معالجة للذين من طبيعتهم الإمساك؛ فمن أكل خبز الشعير لا يحصل عنده إمساك قط، ومن داوم على خبز البر يحصل عنده الإمساك اليومين والثلاثة.
إذاً: من لطف الله ومن الحكمة النبوية والإعجاز أن يجعل البركة في خلط الشعير مع البر للبيت للأكل لا للبيع؛ لأن في خلطه للبيع تدليس، فصاع البر بعشرة، فإذا كان فيه عشرة في المائة من الشعير فقد زاد تسعة، وصار بإحدى عشر.
وعلى هذا يسوق المؤلف رحمه الله هذا الحديث في خصوص القراض؛ لأنه في باب القراض قال النبي صلى الله عليه وسلم كما يروي عن ربه: (أنا ثالث الشركاء؛ فإن صدقا وبينا كنت بينهما، وإن خان أحدهما الآخر خرجت من بينهما)؛ وهذا عام في الشراكة، أبدان.. أعيان.. وجوه، لكن المؤلف لدقته ساق هذا الحديث وإن كان إسناده ضعيفاً، لكنه مناسب لهذا الباب، وهو من باب الحث على الإرفاق بالناس في البيع إلى أجل، وفي تيسير المعيشة في خلط البر بالشعير. والله تعالى أعلم.
إذاً: يجوز له أن يشترط عليه أن لا يجعل رأس ماله في ذي كبد رطب مخافةً على رأس المال.
وهنا مسألة: لو أن العامل لم يبالِ بهذا الشرط، وقال: إن ذوات الكبد الرطب تربح خمسة أضعاف قيمتها، وأنا لا أريد أن أفوت علي هذه الفرصة، وأتى بها؛ فإن سلمت فلا كلام لأحد عليه، وفي المثل: ما كل مرة تسلم الجرة، لكن إن حصل فيها عطب ومات منها ما يلحق الخسارة، من الذي يتحمل الخسارة؟
الأصل في المضاربة أن الوضيعة من رأس المال، والعامل لا يتحمل أي شيء إلا إذا تعدى أو فرط، وهو هنا ما التزم بشرط صاحب المال وتعدى وفرط، فيكون الضمان على حسابه هو.
هذا الشرط لصاحب رأس المال مصلحةً فيه، وكذا إن اشترط شرطاً آخر، وقال: هذا مالي تعمل فيه بشرط أن لا تتعامل مع التاجر الفلاني، أو المؤسسة الفلانية، أو الشركة الفلانية، فتجاوز وتعامل، فهو ضامن، ولماذا يمنعه من شخص بعينه أو مؤسسة بعينها، بعضهم يقول: ليس له حق في ذلك؛ لأن فيه حجر له في التحرك في البيع والشراء، فعندما يحظر عليه أشخاصاً، إذاً الباقي قليل، والباقي قد لا يكون فيهم من الربح مثل هذه النواحي التي منعه منها، وإن كان هو ملتزماً بشرط صاحب رأس المال لماذا؟ لأن صاحب رأس المال يعلم من هذا الشخص الذي منعه التعامل معه أنه رجل لا يتحرى الحلال، ويتعامل بالربا أو بالمحرمات، أو يتعاطى الممنوعات، أو يعمل في الظاهر في مباحات.. سكر وشاهي وحليب وقشطة ولكن في الخفاء يعمل في الممنوعات، والكل يصب في صندوق واحد، فإذا كان صاحب رأس المال يعلم عن إنسان هذه الحالة فمن حقه أن يمنع شريكه من التعامل معه؛ لأن في هذا إعانة له على الباطل، وكذلك المؤسسات.
فإذا اشترط صاحب رأس المال على العامل شروطاً لا تضر بالتجارة فلا بأس؛ بخلاف ما إذا قال له: الصنف الفلاني لا تعمل فيه، وليس فيه مضرة، كأن يعمل في القماش وقال له: صنف الحرير لا تعمل فيه، فيقول: أنا آخذ الحرير وأبيعه على الحريم، وعلى الرجل ليلبسه أهله، وليس حراماً على الرجل أن يقتني الحرير ما لم يستعمله، يقتنيه ليهديه أو ليقدمه إلى زوجه إلى بناته إلى ذوي رحمه لا مانع في ذلك، كما جاء عن عمر رضي الله عنه: أنه رأى حلة تباع، فأتى بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! ابتع هذه الجبة لتلبسها وتستقبل بها الوفود. أي: زي رسمي كما يقولون. وهذا أمر مشروع.
(ماذا على أحدكم لو اتخذ لجمعته سوى ثوبي مهنته)، لا مانع أن يكون للإنسان لباس للمجتمعات وللهيئات ويكون ذا هيئة، كما قال البخاري في الأدب المفرد: (حسن السمت من الإيمان)، فيتحلى بحلة جميلة عند الأجانب، وهذا فيه إظهار عظمة الإسلام، ولهذا أبيح بعض المحرم في أرض المعركة.
واتفق العلماء على جواز لبس الحرير بمقدار أربعة أصابع على حافة الجبة، وتحلية السيف بالذهب، مع أن الذهب محرم على الرجال؛ لأن في رؤية العدو لهذه الحلية إشعار بأن خصمه غني، متوافرة عنده الإمكانيات؛ فيعظم في عين الخصم.
وسمعت من والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه: أن جماعة من قبيلته كان فيهم تجار وفيهم أهل مدافع وقتال، وكانوا يسيرون بقافلة للتجارة، فرأوا من بعيد قطاع طريق قد يعترضونهم، فأوقفوا الإبل، وكانوا على حالة أهل السفر، والشخص في السفر يلبس ما يلاقي به وعثاء السفر وتراب الصحراء، فأناخوا إبلهم وأخرجوا حللاً للقاء الوجهاء حينما يأتون المدن وينزلون الأسواق، فخلعوا ملابس السفر ولبسوا أفخر لباسهم، وحملوا سلاحهم ونظموا أنفسهم ومشوا، فلما دنوا منهم ورأوا عليهم الأبهة والطمأنينة وعدم المبالاة ابتعدوا عن طريقهم، فلما اجتازوهم أناخوا الإبل وأخرجوا من تجاراتهم أشياء ووضعوها على الطريق كأنها هدية لهم.
يهمنا في هذا: أن العدو حينما رأى المظهر والهيئة عظم في عينه مكان خصمه.
وفي غزوة تبوك جاء أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكيس فيه قثاء، فقال: من أين هذا؟ قال: جئت به معي من المدينة، والقثاء دون بقية الفواكه تتحمل مدة طويلة بعد قطفها، فأكل منها صلى الله عليه وسلم؛ فإذا بغلام لـأبي طلحة يمشي وعليه ثياب مهلهلة، وهم سيلقون العدو غداً، فقال: أليس لهذا الغلام ثوباً سوى ذلك؟ قال: بلى يا رسول الله! ثوب اشتريته له عند السفر وهو في العيبة، قال: ألبسه إياه، فدعاه وألبسه الثوب فإذا به إنسان آخر، ثم قال له: أليس هذا خير من ذاك، فسمعها الغلام، فقال: هو في سبيل الله يا رسول الله! قال: هو في سبيل الله، فاستشهد في تبوك.
نقف هنا ونقول: هذا غلام، سواء لبس اللبس الحسن أو القبيح فمعروف أنه غلام، ومن عادة بعض الغلمان أنه ربما اكتفى بالإزار فقط دون الرداء، أو كما يقولون الآن: باللباس دون فنيلة، وحال السفر هذا حق، لكن ما دمنا سنقبل على العدو غداً فإذا رأى العدو حالنا نمشي مطأطئي الرءوس منحني الظهور، والغلمان كأنهم لا شيء، أو مساكين ليس لديهم ما يلبسو.
إذاً: هؤلاء القوم هم هزلاء هلكى فيظهر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين وحتى غلمانهم في الهيئة الحسنة التي تعظم في عين الخصم والعدو.
جاء عمر رضي الله تعالى عنه بحلة وجدها تباع عند المسجد، فقال: يا رسول الله! اشتر هذه والبسها لتستقبل فيها الوفود، فنظر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (إنما يلبس هذا من لا خلاق له يا
هنا عمر اقترح أن يلبس رسول الله حلةً جميلة، ولكن التطبيق العملي وتحقيق المناط لا يصلح في هذه الحالة التي جاء بها عمر ، فلو أن عمر جاء بجبة أخرى ذات قماش يلبسه ذو خلاق لكان قبلها رسول الله، وبعد فترة جاء قماش للنبي صلى الله عليه وسلم من ذلك الذي يلبسه من لا خلاق له، فأهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم منها إلى عمر ، فجاء عمر إلى الرسول -وهذه قضية منطقية- كيف يلبسها من لا خلاق له والرسول يرسل مثلها إلى عمر ؟ نتيجة المقدمة المنطقية اجعلها معلقة، لكن عمر فهم هذا؛ فجاء: يا رسول الله! فقال: بالأمس تقول لي: إن هذا يلبسه من لا خلاق له، واليوم تهدي إلي منها، فقال: (يا
وهكذا العامل في مال الغير لو أنه عمل في الحرير بناءً على جوازه، وأن الرجل لن يستعمله لنفسه فلا مانع في ذلك، فإذا شرط عليه رب المال أن لا يعمل في هذا النوع فقد يكون قد حجر عليه في تعاطي الربح في أنواع البيع والشراء.
إذاً: اشتراط رب المال على العامل بعض الشروط إن كانت لحفظ المال فهي جائزة كما هو الحال هنا.
نهى الرسول صلى الله عليه وسلم المسافر بالليل أن ينزل في بطن الوادي؛ لأن هذا فيه خطر عليه؛ لأن السيول من طبيعتها أن تأتي من محلات بعيدة وتمشي في بطن الوادي إلى أن تصل إلى محلات ما جاءها قطرة مطر واحدة، ولا غابت عنها الشمس، ولا سمعوا فيها رعداً، ولا رأوا فيها سحاباً، ويكون آتٍ عن بعد ربما مائة كيلو، ويكون هؤلاء نيام فيجرفهم، ولهذا نهى صلى الله عليه وسلم أن يعرس المسافر في بطن الوادي أو على قارعة الطريق المطروقة نهاراً؛ لأن الهوام في الليل تخرج وتتتبع الطريق المطروقة نهاراً، لعل إنساناً سقط منه شيء، أو ألقى بشيء وهو يمشي من فضلات الطعام، أو أي شيء يصلح لتلك الهوام تأكلها، فهي تطلب هذا في الطريق الذي يسلكه الناس نهاراً؛ لأنه مظنة أن يسقطوا أو يلقوا شيئاً ربما أكلته هوام الأرض، فينهى إذا لم يكن ذي كبد رطب وكان يابساً، جئت من ينبع مثلاً أو رابغ بفحم أو بأقط أو بشيء من اليابسات، فهذه لا تعرس بها على قارعة الطريق مخافة عليك أنت، وعلى من معك من الغلمان، بل ابتعد عن الطريق الذي يسلكه الناس نهاراً، وإن فعلت فأنت ضامن.
يتفقون على أن نفقته من رأس مال الشركة، ولكن بأي ميزان؟ هل بميزان الترف والسعة، ويضيع رأس المال في مصاريفه .. ينزل في أفخر (الفنادق)، ويأكل أفضل الأطعمة، ويتوسع على حساب غيره؟ لا. وكذا هل يجتزئ بالتمر والماء؟ لا. إنما يأخذ النفقة بالمعروف، كما لو كان في سفره هذا لحسابه هو كيف سيعمل؛ سيجتزئ في الصباح بالعيش والفول، وفي الظهر بإدام وكذا ويكون مقتصداً في نفقته، وهكذا إما أن يقدر له رب المال مقداراً معيناً يومياً لنفقته، وإما أن يتركه لأمانته، فلا يسرف ويجحف برأس المال، ولا يبخل فيؤثر على نفسه؛ لأنه يجب أن يكون نشيطاً ويأخذ حقه.
وهل يتبع نفقته الكسوة؟ فيكتسي من رأس المال ما دام في سفره؟
البعض يقول: الكسوة خارجة من النفقة، والبعض يقول: الكسوة جزء من النفقة، والبعض يفصل ويقول: إذا كانت سفرته هذه من الطول والزمن بحيث تبلى ثيابه قبل الشركة، فيستعيض عنها بجديد مثلها على حساب الشركة، أما إن كانت السفرة قصيرة ومثلها لا يكون لها أن تبلي الثياب التي يلبسها؛ فليس له كسوة.
إذاً: النظر بالمعروف.
وحينما تكون البضاعة التي يعمل فيها العامل تحتاج إلى عمال؛ لأنها بالات وأكياس كبيرة والعامل لا يقوى على حملها، أو تحتاج إلى التحميل في السيارة من مكان مشتراها وتنزيل من السيارة في مستودعاتها فأجرة الحمال من عمل العامل أو من رأس المال؟ قالوا: من رأس المال، وكذا إن كانت تحتاج التجارة إلى مستودع تحفظ فيه إلى أن يصرفها؛ فأجرة المستودع هذا من المال وإن كان لرأس المال مستودعاً فيستعمله، وإن لم يكن له استأجر بالمعروف من رأس المال. وإذا كان عند التصريف والبيع السلعة نافقة والزبائن كثر واحتاج إلى من يعمل معه لسرعة إنجاز تصريفها، فيستأجر عمالاً معه، وأجرة العامل عليه هو من حصته أو على مصلحة التجارة، ويكون من رأس المال؟
وإذا جاء العامل ورأى الربح والعمل وقال: أنت جعلت لي الربح مناصفة، ونحن الحمد لله وجدنا خيراً كثيراً، أريد أن تجعل لي شيئاً مقطوعاً خارجاً عن النصف، يعني: يومياً خمسة أو عشرة ريال أو شهرياً ألف ريال مثلاً، قال: وحصتك من الربح النصف، قال: معها. أيجوز له ذلك أو لا يجوز؟
أجمعوا على أنه لا يجوز للعمال أن يشترطوا نقداً معيناً، فإذا اشترط العامل لنفسه نقداً معيناً دون حصته من الربح، قال: أنا ما أدري الربح كم يكون: كثير قليل. ولكن أريد منك مبلغاً يومياً أو شهرياً كذا، فحينئذٍ لا يكون عقد شراكة بل يكون عقد إجارة، ويكون الربح كله لصاحب المال، وللعامل ما اشترطه من المبلغ المقطوع، ولا عليه ربحت أو خسرت.
هذه أهم أطراف نواحي شركة المضاربة، وما يجوز فيها من الشروط وما لا يجوز، وهنا حكيم بين لنا العلة في ذلك، وله الحق في ذلك.
هنا نظر للمجتهد، ويجب على العلماء اتخاذ الاجتهاد والاستنباط والنظر، هل هذا الشرط يمكن أن يعمل به في الوقت الحاضر أم لا؟
لا تتسرع وتقول: نعم أو لا، يجب على طالب العلم الآن وعلى العلماء والهيئات العلمية التي تعقد الندوات أو المؤتمرات إذا نظرت في مثل هذا أن تكون ذا بصيرة.. هل استخدام البحر في ذاك الوقت هو عين استخدام البحر في هذا الوقت؟
هناك نصوص سابقة لمن كان ينهى عن ركوب البحر للحج لأنه مجازفة وخطورة، ونحن نقول: إن ركوب البحر ترجع طبيعته إلى الآلة التي تركب، فإنسان يأتي من السودان إلى جدة يعبر البحر عرضاً، بواسطة لنش، أو لنش شراعي، هل هو كمثل من يأتي في باخرة تمخر العباب؟ لا، يمكن هذا اللنش الصغير يأتيه سمك القرش ويأخذه من النصف، لكن من في باخرة كبيرة ينام ويلعب، وحتى لو أراد السباحة فهناك حوض سباحة في الباخرة... مدينة تتحرك، فهل خطورة البحر في ذاك التاريخ مع السفن الشراعية موجودة الآن مع البواخر الآلية التي تمشي بطاقة البخار أو الاحتراق الداخلي بالديزل أو غيرها، وهذا الجرم الكبير كالأعلام، أعتقد أن الخطورة ليست واحدة، والوضع يختلف، فإذا قال: لا تضع مالي في بحر، نقول: إن كنت تخاف عليه من السفينة الشراعية التي يقف عنها الهواء وتغرق، أم من القرصنة في البحار فهذا أمر انتهى. وهذه كانت مهمة البريطانيين، بريطانيا قبل أن تصبح دولة متحضرة كانوا قراصنة في البحار يقطعون الطريق على السفن، فإذا كان الطريق فيه القراصنة يأخذون البواخر قهراً ويسلبون ما فيها. فله حق، وإذا كانت هناك تأمينات بحرية؛ لأن الحاصل الآن: أنه لا تبحر سفينة من ميناء ببضاعة إلا وهي مؤمن عليها، وكيف يؤمن عليها؟
يقولون: أول عقود التأمين في العالم التأمين البحري، يأتي التاجر ويشتري السلعة من لندن، وتريد الجهة المصدرة تصدير البضاعة إلى جدة؛ لأن الشرط في عقد البيع: إما تسليم محلي أو تسليم إلى ميناء المشتري، فتتعهد الجهة البائعة بإيصال السلعة إلى ميناء المشتري، فإذا كان التوصيل على حساب المشتري فشركة التأمين البحري مهمتها أن تأخذ عقد الشراء وتذهب إلى المصنع الذي باع وتتابع تعبئة السلع في الصناديق، وهل هذه التعبئة سليمة أو ليست سليمة، فإن كانت البضاعة من زجاج لابد لها من تغليف ومحافظة... فتقف وتشرف على تعبئتها تعبئةً سليمة، فإذا انتهت من التعبئة وتريد أن تشحنها في الباخرة المبحرة إلى جدة، تنظر أي البواخر التي اختارها المصنع، وهل هي جديدة قوية تعبر المحيطات أم هي مخلخلة ليست قوية معرضة للانفصال أو الانكسار أو الانشطار، فإن كانت صالحة سمحت شركة التأمين بتعبئة البضاعة المعبأة من المصنع فيها، ثم تنظر متى ستبحر؟ وتذهب شركة التأمين إلى مصلحة الأرصاد وتسأل عن هذا اليوم؛ فإن قالوا: والله عندنا أخبار عن عاصفة قادمة من الجهة الفلانية وسرعتها كذا كما هو في النشرة الإخبارية، وليس كما يظن بعض الناس أن النشرة الجوية تكهنات، لا، بل هي مبنية حقائق ونظريات علمية واقعية.
فمثلاً: المرصد الذي في جدة والذي في الهند ودونهما مراصد ما بين دلهي إلى جدة، فالمرصد الذي يلي الهند مباشرة يتلقى من المرصد الهندي أنه مرت بي عاصفة ورياح هوجاء سرعتها في الدقيقة كذا، وإذا استمرت في اتجاهها سوف تصلكم بعد كذا، فتصلهم على حسب التقدير، فيتصل هذا المركز بالذي بعده وهكذا إلى جدة مرت بنا عاصفة كذا سرعتها كذا، وإذا استمرت على هذا النحو سوف تصلكم وقت كذا، وهكذا يتناقلون الأخبار لا سلكياً، وعندما تنتهي إلى ما قبل جدة مركز جدة يعلن عنها.
إذاً: النشرة الجوية ليست تكهناً، وإنما هي عبارة تناقل للمعلومات من المراكز بعضها إلى بعض، فيكون ذلك تحذير للذين يعملون في البحر .. حركة البحر هائج .. حالة البحر هادئ والموج فيه كذا، على أي أساس هو في مكتبه من أجل الإخباريات من المراكز التي مرت بها العاصفة وهي في طريقها إليه.
فتأتي شركات التأمين إلى مصلحة الأرصاد وتسأل ماذا عندكم في طريق الإبحار من هنا إلى السعودية، فيعطونهم الأخبار، فإن وجدوا عواصف في هذا اليوم أو في ما بعده لمدة وصولها إلى جدة أوقفوا الرحلة، وإن وجدوا هدوءاً وأماناً أجازوا الرحلة، فتأتي الرحلة بسلامة الله وتأخذ شركة التأمين أجرتها، وكما يقول من كتب في عقود التأمين: أسلم وأول عقود التأمين هو التأمين البحري، كذلك تأمينها من القراصنة؟ هل هي سفينة محصنة قوية أو ضعيفة يمكن للقراصنة أن يأخذوها.
إذاً: كل هذا فيما يتعلق بركوب البحر.
فإذا قال رجل الآن لا تضع مالي في البحر، قال: البحر اليوم ليس مثل أمس مهلكة، البحر الآن أصبح مأموناً أكثر من البر؛ لأن قراصنة البحر تعجز عن السفينة الكبيرة، وقطاع الطريق في البر لا يعجزون عن القافلة بالإبل.
إذاً: لو قال: لا تضع مالي في البحر، وقالها بناءً على ما سبق نقول: النظر يختلف، ونقول: واجب العلماء أن ينظروا في الواقع الماضي والواقع الحاضر.
[(أن لا تجعل مالي في كبد رطبة، ولا تحمله في بحر، ولا تنزل به في بطن مسيل، فإن فعلت شيئاً من ذلك فقد ضمنت مالي) رواه الدارقطني ورجاله ثقات].
إن فعلت شيئاً من ذلك فقد أصبحت ضامناً بفعلك هذا، فإن وقعت هناك خسارة دفعتها، وإن لم تقع خسارة فأنت برضاك ضامن.
هذا الأثر موقوف صحيح على عثمان ، وهو خبر واضح، وأوضح من هذا ما يذكره العلماء عن عبد الله وعبيد الله ابني عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهم. أنهما كانا في الشام وكان أبو موسى الأشعري عامل هناك، وكانا في الثغر، فرغبا العودة إلى المدينة، فمرا بـأبي موسى ؛ ففي رواية أنه قال لهما: عندي مال أريد أن أبعثه إلى أمير المؤمنين عمر -أي: لبيت المال- أعطيكم إياه تشترون به تجارة وتبيعونها بالمدينة فتربحون وتسلموا رأس المال لـعمر : ففعلا، فربحا وجاءا إلى عمر ودفعا إليه المال بالقدر الذي أخذوه من أبي موسى ، فقال لهما: ما خبر هذا المال؟ فأخبراه بالخبر، فقال: ما الذي حمل أبو موسى على ذلك، وهل كل الجند أعطاهم مثل ما أعطاكما؟ قالا: لا. قال: إذاً: قال في نفسه أنكما ابنا أمير المؤمنين وصانعكما، ردا المال بربحه، فسكت عبد الله وكان حيياً، وقال عبيد الله : ليس لك ذلك يا أمير المؤمنين، قال: ولم؟ قال: أرأيت لو هلك المال كنت ضمنتنا إياه أم لا؟ قال: بلى، قال: ما دمت كنت تضمننا إياه فالغرم بالغنم. أي: ما دمنا سوف نضمنه لك عند التلف فلنا حق الربح كاملاً.
فقال أحد جلساء عمر رضي الله تعالى عنه: يا أمير المؤمنين! اجعله بينك وبينهما قراضاً، يعني: مضاربة، ففعل وأخذ نصف الربح ورد عليهم نصف الربح. فهذا إقرار من أمير المؤمنين عمر على المضاربة في المال، والمال مع من؟ مع أفراد لبيت مال المسلمين -يعني: مع الدولة- فلو أن بيت مال المسلمين أو جانب وزارة المالية أقرضت مؤسسة أو جماعة مبلغاً من المال يعملون فيه ولهم جزء من الربح فلا مانع في ذلك.
وكما أشرنا: إن مباحث شركة المضاربة فيها نواحٍ وجزئيات عديدة، ولعل هذا القدر يكفينا فيما أوردناه وبالله تعالى التوفيق، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
وأقول: إن فقه المعاملات يحتاج -في نظري- كل عشر سنوات إلى ندوة علمية، لينظر في تطوراته وحاجة الناس إلى ما استجد من أنواع التعامل، فمعاملات كثيرة عديدة موجودة في الأسواق لا تأخذ طريقها السليم ولا ينبه عليها أحد، وبالله التوفيق.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر