الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فيقول المصنف رحمه الله: [ وعن جابر رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة، والمزابنة، والمخابرة، وعن الثُّنْيَا إلا أن تُعلم) رواه الخمسة إلا ابن ماجة وصححه الترمذي ].
انتقلنا من ذكر أحكام البيوع التي تعقد في الأسواق، إلى البيوع التي تعقد في المزارع، فإنها محل بيع وشراء أيضاً.
فإذا كانت لديك مزرعة قمح، فبعت القمح في سنبله بقمح مكيل من نوعه، فمثلاً: بعت المزرعة بثلاثة أرادب، أو بعشرة أرادب من القمح، فإن ذلك لا يجوز؛ لأنك قدرت ما هو موجود في الحقل -وهو مجهول الكمية- وبعته بما هو معلوم، وكان الثمن من جنسه، وهما صنفان ربويان، ووجد التفاوت بينهما، فأنت أخذت القمح الآن أرادب، وهو أخذه سنابل في عيدانها، وهذا لا يجوز.
ومن المحاقلة أيضاً: الإجارة، وصورتها: أن يأتي صاحب الحقل الكبير ويعطيه لمزارع، ويقول له: هذه الأرض تزرعها قمحاً، على أن لي ما ينبت على القناطر، وفي رءوس الجداول، ولك ما كان في وسط الأحياض، أو أجرتك هذا الحقل، أو الأجرة من هذا الجانب الغربي الشمالي... إلخ، فيعين له محلاً من المزرعة، ويجعله أجرة له مقابل عمله، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وجاء عن جابر : (يا أهل قباء! لقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لكم فيه خير، ولكن طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم أولى، نهى أن تؤاجر الأرض أو يباع الزرع على ما ينبت على الماذيانات، ورءوس الجداول)، والماذيانات: القناطر، والقنطرة هي التي يجري فيها الماء ويوزع على الأحواض، فالماء فيها مستمر، وربما يستمر فيها الماء في السقية الواحدة حوالي ثلاث إلى أربع ساعات، فالنبات النابت في القنطرة يشرب ست ساعات، بينما النبات الذي داخل الحوض لا يشرب إلا خمس دقائق أو عشر دقائق، فلا يستوفي من الماء كالذي يستوفيه زرع القناطر، وكذلك ما كان في رءوس الجداول -أي: الأحواض- وهي الفتحة التي عند القنطرة، ويدخل منها الماء إلى الحوض، فإذا كانت مساحة الحوض أربعة في أربعة أمتار، ومدخل الماء إلى الحوض من القنطرة، فالماء يمر على رأس الجدول إلى أن يستوفي الحوض الماء، وآخر الحوض يأتيه الماء متأخراً، ثم ينقطع عنه، فتكون رءوس الجداول التي عند القنطرة قد استوفت ماءً أكثر، بينما آخر الجداول استوفت ماءً أقل، وكلما استوفى الزرع ماءً أكثر كان أكثر إنتاجاً، فجاء جابر وذكر النهي، ثم قال: ( فلربما صح هذا وفسد ذاك)، فلو اتفقت مع الأجير، وحددت له مكاناً معيناً من المزرعة، على أنه أجرة له مقابل عمله، فقد يصاب ذلك الجزء بآفة وتلف.
إذاً: الأجرة مجهولة، ولابد أن تكون الأجرة بشيء معلوم، كالدراهم، كأن يقول: أستأجرك لتزرع هذا الحقل براً أو شعيراً -على ما تريد- بمائة درهم، أو بعشرة دنانير، أو بأي شيء معلوم، أو بعشر ما يخرج منها، فهنا صار القدر معلوماً، وكم سيخرج منها؟ لا ندري، فإن كان المحصول كثيراً فسيستفيد منه الطرفان، وإن كان قليلاً فالنقص داخل على الجميع، وكان بعض السلف يكره أن تؤجر الأرض بجزء مما يخرج منها، ولكن قل: أجرتك إياها بإردبين، ولا تشترط أن يكون من منتوج الأرض التي أجرتها؛ لأن الإردبين تحل محل الدنانير والدراهم، أما بجزء مما يخرج منها فلا.
والآخرون يقولون: إن هذا مثل الشراكة، فلو تشارك اثنان على جزء من الربح، وهما لا يعلمان كم الربح، لكن هذا التعامل أقره الإسلام، وهو ما يسمى بالمضاربة، فتدفع المال لشخص يعمل، وله نصف الربح -مثلاً- وهو لا يعلم كم سيربح، ولا يعلم كم سيكون نصفه، وأنت لا تعلم كم ستربح، وكم سيكون نصفك، ولكنها مخاطرة، إلا أنها معاملة جائزة، والعمل جارٍ عليها.
فكذلك المحاقلة على جزء مشاع، بنسبة مئوية فيما يخرج من هذه الأرض.
المخابرة: مأخوذة من خيبر، وبعض الناس يقول: هذا كان خاصاً برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الصحيح أن المخابرة على ما كان عليه أهل خيبر، والرسول صلى الله عليه وسلم لما فتح الله عليه خيبر، أتاه اليهود وقالوا: يا محمد! نحن أعلم بالزراعة، ومتفرغون لها، دعنا نخدمك فيها، فقال صلى الله عليه وسلم: نقركم ما أقركم الله، وأعطاهم إياها على النصف مما تُخرج، وكان هذا العقد على كل أرض خيبر: نخيلها، وما يأتي به من التمر والرطب، وكرومها، وما يأتي به من العنب، وأرضها البيضاء، وما تأتي به من الحب، فيجمع الجميع ويعطى نصفه لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وبعضهم يقول: كانت المخابرة على النخل فقط.
وقد جاء أن عبد الله بن رواحة أرسله النبي صلى الله عليه وسلم ليخرص عليهم، والخرص: التقدير، وهذه طريقة تقريبية، وتكون في الزكاة، فيأتي العامل، ويقف عند نخلة، وينظر كم فيها من عرجون، وما فيه من الرطب والبسر والزهو لو أثمر وصار تمراً كم يأتي؟! ويقدر كل نخلة بما يترجح عنده، فإن كان للزكاة قدر على صاحب البستان وقيل له: زكاتك كذا؛ لأننا قدرنا أن هذا النخيل سيأتي بكذا وسق، وعليك كذا، وهو نصف العشر، أو العشر.
فلما جاء ابن رواحة ولقيه اليهود -عملوا على طريقتهم- جمعوا له من حلي نسائهم، وقالوا: خذ هذا لك، وخفف عنا. أي: أنه إذا كان فيها ألف وسق، سنكون ملزمين بخمسمائة، فأنت قدر الألف بستمائة، فيكون علينا ثلاثمائة بدلاً من خمسمائة، وعوض ذلك أن تأخذ هذا لك. فقال لهم: يا إخوة الخنازير! والله لقد جئت من أحب الناس إلي، ولأنتم أبغض الناس عندي، ووالله ما حبي لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبغضي إياكم حاملي على أن أحيف بكم، إني مقدر، فإن شئتم فخذوا والتزموا، وأعطونا نصف ما قدرت، وإن شئتم فارفعوا أيديكم، وألتزم لكم بنصف ما قدرت. فقالوا: بهذا قامت السماوات. أي: بعدم قبول الرشوة، وبالعدالة، فحينما يقدر فيها ألف وسق، فإما أن تلتزموا بخمسمائة، أو أنا ألتزم لكم بخمسمائة، وليس في هذا إجحاف! يلتزم لهم بنصف ما قدر، أو يرضى منهم بنصف ما قدر.
فبعضهم يقول: المخابرة كانت خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الآخرين يقولون: بل هذا تشريع عام، وقد بقيت إلى زمن عمر ، وبقيت معاملتهم بذلك حتى أجلاهم عمر رضي الله تعالى عنه لما بلغه حديث: (لا يجتمع دينان في جزيرة العرب) .
إذاً: المخابرة نوع من المعاملة في الزراعة بجزء مما يخرج من الأرض، فإن كان هذا الجزء معيناً: النصف، أو الربع، أو الثلث؛ فلا بأس بذلك.
الثنيا: من الاستثناء، والاستثناء مأخوذ من الخيط الممتد إذا أثنيته، أي: تعيد آخره على أوله، وهنا البستان فيه مائة نخلة، فقلتُ: بعتك المائة نخلة، وأستثني لنفسي خمساً، فالاستثناء عاد على المبيع، فأخرج بعضاً منه، فهذه هي الثنيا.
والخمس هذا إن كان معلوماً، كأن يكون النخيل مرقماً، ثم عين الخمس من الواحد إلى الخمسة، أو عين رقم عشرين أو واحد وعشرين... إلخ، أي: أنه عينها، أو عين الخمس الموجود حول البركة، أو الخمس الموجود في الطرف الفلاني، وتكون معلومة للطرفين، فحينئذٍ يصح البيع، لكن إذا لم تكن معلومة، كأن يقول: بعتك المائة، واستثنيت لنفسي عشراً، فأين هذه العشر؟ فحينما يبدأ الرطب فتذهب وتتخير العشر، وهذا فيه إجحاف على المشتري، أو هو يفرض عليك عشراً، فهذا فيه ضرر وغبن، ولكن إذا علمت الثنيا عند العقد، فسواء كانت أجود الموجود، أو كانت أقل الموجود جودة، فإنها معينة، وكذلك قطيع الغنم، كأن يقول: بعتك ألف شاة إلا مائة، فيجب أن تعلِمْها، ويجب أن تعزلها، وهكذا مائة ثوب إلا خمسة.. فإذا كانت الأجناس متساوية، وفيها بعض التفاوت، أي: من جنس واحد، ولكن فيه بعض التفاوت، فلابد من تحديده، ولابد من تعيينه بعينه؛ لئلا يقع النزاع عند الاستلام. والله تعالى أعلم.
هذه المسميات -المحاقلة والمزابنة والمخابرة- صور من صور البيع التي كانوا يتعاطونها، وفيها ضرر على البائع، وعلى المشتري.
المخاضرة: هي بيع الزرع أخضر ولم ينعقد الحب فيه بعد، فيقدر كم سيكون إذا طلع السنبل، وإذا طلع الحب، وانعقد في سنبله، وصُفي، كم سيكون؟ وكذلك أنواع الخضروات بجنسها موزوناً أو مكيلاً، فكل ذلك يلحقه الغرر، فنهي عن بيعه.
الملامسة تقدم الكلام عنها، وهي: أن يقول البائع: أيَّ ثوب لمسته من مجموع هذه الثياب فهو لك. أو تكون مبادلة ثوب بثوب، وكل منهما قد لف ثوبه ولم ينشره، فلا يراه الآخر، فيقول له: هذا الثوب بيدي، أبيعه عليك بالثوب الذي في يدك، وبمجرد ما ألمس ثوبك وتلمس ثوبي ينعقد البيع، وهما لا يعلمان ما بداخل الثوبين، فقد يناسبه في تفصيله، وفي حجمه، وقد لا يناسبه، وقد يكون فيه عيب مستتر لا يراه، وكل ذلك منهي عنه، وقد تقدم التنبيه على ما كان من اللعب المشابه لهذا، وصورته أن يجعل سهماً كعقرب الساعة، ويدار على سلع موزعة، فما وقف السهم عليه فهو له، فهذا أيضاً من الملامسة المنهي عنها؛ لأنه لا يعلم على أي سلعة سيقف السهم، والسلع عادة تكون متفاوتة، فمنها ما يساوي درهماً، ومنها ما يساوي عشرة، وفي هذا إغراء للمتلاعبين، أو المتعاقدين على أن يظفر بشيء قيمته كبيرة بثمن قليل.
المنابذة: قريبة من الملامسة، ولكن المنابذة من النبذ، -والنبذ: الطرح، والرمي، فمثلاً: يقول: أيَّ ثوب نبذته إلي فأنا آخذه بكذا، سواء كانت السلع متساوية، أو كانت السلع غير متساوية، فمثلاً: نجد الآن في الوقت الحاضر لوحات على بعض الدكاكين: كل شيء بخمسة ريال، كل شيء بعشرة ريال، أي أن الثمن متعادل، فيأتي صاحب الدكان ويقول: أي شيء بخمسة ريال، والأثمان متعادلة، وأيَّ شيء نبذته إليك فهو بخمسة، لكن المشتري لا يعلم ماذا سينبذ إليه، فربما نبذ إليه شرّاباً وهو يريد غترة، وربما نبذ إليه ثوباً وهو يريد قميصاً، إذاً هذا معلق على اختيار أحد الطرفين، فلا يجوز ذلك.
وكذلك إذا كان العكس، كأن يقول: ما دامت كل السلع عندك بخمسة ريال، فأي سلعة سقطت عليها الخمسة الريال فهي لي، وإن كان الغبن هنا مرتفعاً، إلا أن المانع هو عدم تعيين المبيع عند العقد، وكل هذا منهي عنه؛ سداً للباب فيما لو كانت السلع متفاوتة الأثمان.
المزابنة: من الزبن، وهو الدفع، قالوا: المزابنة، والمحاقلة، والمخاضرة، كلها تدخل في المزابنة؛ لأن كلا المتعاقدين يدفع عن نفسه الغبن، ويكون ذلك بالمخاطرة، فهي أيضاً ممنوعة لهذا السبب.
والركبان إما أن يكونوا قادمين من البادية، أو قادمين من بلد أخرى حاضرة للبيع في هذه البلدة؛ لاختلاف الأسعار، ولكثرة الحاجة، ولقلة السلعة، وهذه أمور تحكمها حالة الأسواق.
ولنفترض المسألة في البادية: فإذا جاء الجالب من البادية، فإنه سيأتي بإنتاج البادية، وإنتاج البادية إما أن يكون بهيمة الأنعام، وإما أن يكون نتاجها من ألبان، أو أصواف، أو جلود، ونحو ذلك، وإما حطباً يحتطب من الجبال، ونتاج بهيمة الأنعام يكون سمناً، ويكون أقطاً، كل هذا من إنتاج البادية، فإذا جاء البدوي بسلعة، ويريد أن يبيعها في المدينة، ويشتري بثمنها سلعاً أخرى من السوق، فهو أتى بسمن أو حطب أو جبن، فباع واشترى سكراً، أو قماشاً، أو قهوة، أو هيلاً... إلخ، وهذه هي العادة، فإذا قدم ركبٌ بسلع بدوية، فلا ينبغي لأحد من أهل السوق أن يخرج من السوق، أو يخرج من البلدة ويتلقاهم قبل أن يصلوا إلى السوق، وقبل أن يعرفوا الأسعار، فيساومهم على ما معهم؛ لأنه بتلقيه للركبان يقطع السلع عن أهل السوق.
ومن أين يكون التلقي؟ بعض العلماء يقول: يكون التلقي بمجرد خروجه من السوق، وبعضهم يقول: ميلاً، وبعضهم يقول: ميلين، وبعضهم يقول: أكثر، أو أقل، ولكن الأصل العام في ذلك: أن يتلقاه قبل أن يأتي ويلتقي بالناس، ويعرف الأسعار، وبعضهم يقول: التلقي من السوق إلى الطريق ليس فيه شيء؛ لأنه موجود، ولكن التلقي المنهى عنه فيما إذا كان خارج المدينة، فإذا خرج من المدينة، ولقي الركبان خارج المدينة، وساوم واشترى، فهذا هو المنهي عنه، ولكن إذا نظرنا إلى العلة، وهي قطع الاستفادة من السلعة عن أهل السوق، فيتفرد بالبادي، ويشتري منه وهو يجهل السعر، إذاً: سواء تلقاه خارج السوق، أو تلقاه خارج المدينة، فالعلة موجودة.
وهنا تتشعب المباحث: فلو أنه خرج وتلقى الراكب، واشترى منه، ثم جاء صاحب السلعة إلى السوق، ووجد أن الذي تلقاه قد غبنه، وأخفى عليه سعر السوق، فله الفسخ، وهو بالخيار، وإذا كان له الخيار فهنا مبحث للفقهاء، وهو: هل العقد الذي انعقد هناك أثناء التلقي سارٍ أو غير سارٍ؟ الجمهور يقولون: هو عقد سارٍ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أعطاه -أي: صاحب السلعة- الخيار، والخيار لا يكون إلا عن عقد ثابت، ولو لم يكن ثابتاً لقال: العقد فاسد.
وهل النهي عن تلقي الركبان شامل لكل صغير وكبير، ولكل زمان؟
بعض العلماء -وخاصة علماء الحديث- قالوا: في كل صغيرة وكبيرة، وفي كل زمن: خصب، أو جدب، وسواء كان الجالب عالماً بأحوال السوق، أو ليس بعالم، وأخذوا الحديث على عمومه، والآخرون نظروا إلى العلة في النهي، والعلة في النهي هي: غبن البدوي فيما جلب من سلعة، فقالوا: إن كان قد جاء بسلعته، يريد أن بيعها في يومه، وهو لا يعلم الأسعار، ففي مثل هذا يكون النهي، وهذا بخلاف المتردد على السوق الذي يعرف الأسعار، والأسعار من يوم إلى يوم لا تختلف كثيراً، فإذا كان خبيراً بأمر السوق، فلا محظور في ذلك، إن كان قد نوى بيعها في يومه.
إذاً: الشرط الأول في تحقق النهي: أن يكون الجالب لا يعرف أسعار السوق، الثاني: أن يكون الجالب جلبها ليبيعها في يومها.
ويقول بعض العلماء أيضاً: أن تكون بالناس حاجة إلى تلك السلعة.
والبعض الآخر يقول: سواء كانت هناك حاجة للسلعة، أو لم تكن، والذي يهمنا هو الجالب، فإذا كان الجالب جلبها ليبيعها في يومه، وكان لا يعلم الأسعار، فتلقاه إنسان واشتراها منه، ثم جاء إلى السوق فوجد أنه قد غبن، فله الحق في فسخ البيع؛ لأن المشتري قد غبنه وخدعه.
وكون الناس في حاجة إليها، أو ليسوا في حاجة إليها، هذا يشترطه البعض، وينفيه البعض الآخر، ويقول الإمام أبو حنيفة رحمه الله: أو إذا تلقاه وباع له وهو لا يعلم فلا مانع؛ لأنه نصح، لكن إذا كان سيشتري منه فأين النصح؟ النصح يأتي عند (لا يبع حاضر لباد)، وسيأتي تفصيله إن شاء الله.
وهناك من يقول: يجب أن نراعي أصحاب السوق؛ لأنه إذا تلقى الركبان، وأخذ السلعة من هناك، والناس في السوق ينتظرون مجيء الجلب، وهذا قد سبقهم إلى الجلب وحاز السلعة، ففيه مضرة على المستهلك، وعلى أهل السوق، وقد جاء في الحديث: (أحب لأخيك ما تحب لنفسك).
إذاً: مبدئياً نهى صلى الله عليه وسلم عن تلقي الركبان.
ونظير هذا أيضاً: لو أن شخصاً ذهب وحمل سيارة كبيرة -كهذه التي يسمونها (سكس)- بالأسمنت والشعير، وبالسلع التي يحتاجها أهل البلد، وهو لا يعلم أسعار المدينة، فذهب إنسان إلى (الفريش) وتلقاه، وتبايع معه على حمولة السيارة وغبنه، فباعه، ثم جاء إلى السوق فوجد نفسه قد غبن، لا سيما -كما يذكر الفقهاء- إذا قام المتلقي بالخداع، كأن يقول له: المدينة مليئة بهذه السلع، والناس غير محتاجين إلى هذا، لكن سآخذ منك هذه السلع وأجعلها عندي، ومن ثم أصرفها على مهل، أما أنت فإن جئت إلى السوق فستجد عشرات السيارات كسيارتك، وستجد المستودعات مليئة، ولكن أنا أستطيع تدبيرها، مع أن المدينة ليس فيها ولا سيارة واحدة، ولا شيء من هذه السلع، فيكون قد غره وغشه، وحمسه إلى البيع مخافة ألا يجد من يشتري؛ لأن السوق يقوم على العرض والطلب، فإذا كان العرض كثيراً والطلب قليلاً نزلت السلعة، وإذا كان العكس ارتفعت السلعة.
فقالوا: إذا كان قد خدع المتلقي الجالب، وهوّن عليه أمر سلعته، وهوّن عليه أسعار السوق، سواء كان بادياً أو حاضراً، فكل ذلك داخل في هذا النهي؛ لأن الغرض وراء ذلك كله هو أكل أموال الناس بالباطل.
ومن النهي هنا أيضاً نهيه صلى الله عليه وسلم ألا يبيع حاضر لباد، وانظر إلى هذا التناسق بين هذه النواهي! ولنفرض أن الركبان لم يتلقها أحد، ووصلت إلى السوق، فإذا وصلت إلى السوق دون أن تصطدم بمتلق يخدعها، وبدأ البيع، فلا يجوز أن يأتي حاضر ويتولى عملية البيع للبادي.
وقد سأل السائل ابن عباس : ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (ولا يبع حاضر لباد)؟
فقال: لا يكون له سمساراً.
والسمسرة: معروفة من قديم، فهنا الجالب إذا وصل السوق فليترك بسلعته مع الناس، فإن الجالب سيبيع بما يراه يحفظ حقه، والغالب أن البدوي يجلب سلعاً لم يدفع فيها مالاً، وإنما بذل فيها جهداً، فرأس مالها عليه جهده في الحلب، والتصنيع وما إلى ذلك،
أما الذي يشتريها ويأتي بها إلى السوق، أو يشتريها بالجملة ويبيعها بالتجزئة، فإنه يعمل حساب رأس المال الذي دفعه، والغالب أن الجالب من البادية يتساهل في سلعته، فإنه لم يخسر فيها مالاً، وإنما بذل فيها جهداً، فيكون في هذا رخاء وتوسيع على الناس.
أما إذا جاء أحد أهل السوق ليبيع السلعة لهذا البدوي، فإنه سيستخدم خبرته ومعرفته بالسوق ليخدم بها الجالب، فهو يعلم أسعار السوق، ويعلم هل السلعة متوفرة أم غير متوفرة، فيغالي في الثمن ويزيد في السعر، فيتضرر أهل البلد، لا سيما المساكين والأرامل والأيتام والفقراء والضعفاء، فتقطع عليهم الطريق، ولا ينتفعون من جلب البادية، ولذا جاء في بعض الروايات: (دع الناس يرزق الله بعضهم من بعض)، فهذا اشترى قربة سمن، فإن كان لبيته -وجاءت رخيصة- فهو رزق من الله، وإن كان سيبيعها ويكسب فهذا رزق من الله.
فقوله: (لا يبع حاضر لباد) قالوا: هي على المبدأ الأول في تلقي الركبان، بشرط أن يكون البادي لا يعرف أسعار السوق.
وهل النهي عام، أم أنه خاص فيما إذا كان الناس بحاجة إليها؟ الظاهر أن النهي على العموم.
وعلى هذا: نجد في الصورتين الإضرار بالمستهلك، فتلقي الركبان يكون فيه قطع الطريق على المستهلك، وبيع الحاضر للباد فيه رفع السلعة على المستهلك، وهذا فيه مضرة.
يقول الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى: إذا باع الحاضر للبادي من باب النصح فلا مانع، فلو أن الحاضر رأى حاضراً آخر يشتري من بدوي لا يعرف شيئاً عن قيمة سلعته، كأن يكون لديه قربة سمن تساوي ألف ريال، فقال له الحضري: أشتريها بمائتي، وكاد أن يبيع، فتدخل حضري آخر فقال للبدوي: اصبر، لا يخدعك، واذهب وانظر السوق، فالإمام أبو حنيفة رحمه الله يقول: للحاضر أن ينصح إذا رأى غبناً فاحشاً. لكن إذا كانت السلعة بألف، وجاء حاضر وساوم البادي إلى ثمانمائة، أو ثمانمائة وخمسين، والثمانمائة والخمسون ليست غبناً فاحشاً، فإنه يتركه لعموم النهي (ولا يبع حاضر لباد).
ولكن إذا كان البادي يعرف السوق ويتردد عليه، وجاء بسلعته إلى المدينة، ولا يريد أن يبيعها؛ لأنه وجد السلع كثيرة، وقد أتى بالسمن وكان يظن أنه لم يجلب إلا هو، فأتى إلى السوق وإذا به مليء بالسمن، فجاء إلى أحد أهل الحاضرة، وقال: يا فلان! اترك هذه السلعة عندك، وأنت وكيل عني، فبعها إذا تحسن السوق. ماذا يكون في هذا؟
هو عرف السعر، ثم إنه أودعها عند حضري، ثم وكل الحضري ليبيعها عند تحسن السوق، إذاً: الجالب لن يبيع اليوم؛ لأنه رأى السعر منخفضاً، والسلع كثيرة، فوكل الحضري، وعلى هذا فلا شيء في ذلك.
وقوله: قلت لـابن عباس : ما قوله: (ولا يبع حاضر لباد)؟ قال: لا يكون له سمساراً. متفق عليه.
السمسار: هو الذي يسعى كالدلال، ولكن السمسار يسعى بين البائع والمشتري في شيء موجود حاضر، ويحاول أن يوفق بين الطرفين إلى أن يصلا إلى عقد البيع، والدلال إنما يدل على السلعة لمن لا يعرفها.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر