الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فيقول المصنف رحمه الله: [وعنه رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع العُربان) رواه مالك ، قال: بلغني عن عمرو بن شعيب به ].
هذا هو بيع العربون الذي كانوا يتبايعون به، يشتري السلعة، ويدفع جزءاً من الثمن، عربوناً على توثيق البيع، على شرط: إن جاء بالثمن أخذ السلعة، ومضى العقد، وإن لم يأت بالثمن فيكون العربون ملكاً لصاحب السلعة، تعويضاً له على ما فوت عليه من عقود مع أشخاص آخرين.
وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن هذا البيع؛ لأنه إذا تعاقد معه ودفع العربون توثيقاً للبيع، ولم يحصل البيع، فبماذا يستحل هذا العربون من مال أخيه والسلعة عنده؟! قد يقول: إنه فوت عليّ الزبائن، فيقال: الزبائن موجودون، والسوق مفتوح، فإن ذهب هذا يأتي ذاك، وأين الإرفاق بالناس؟ وأين الوفاء بالوعود؟! إذاً: هذا البيع حرام إن كان الشرط فيه امتلاك العربون إذا لم تتم الصفقة، أما إذا كان سيرد له العربون، فأكثر العلماء على النهي عن هذه الصورة، كما ذكرها مالك رحمه الله تعالى.
ونحن نقول -من باب الإنسانية، ومن باب الإرفاق، ومن باب التورع-: ليس هناك موجب لأخذك من مال أخيك شيئاً بدون مقابل، وكونك تزعم بأنه فوت عليك فرص البيع، وإذا ما جاءك زبون! ولا سأل عنها أحد! فالأصل أنه ما فات عليك شيء، فلماذا تأخذ العربون؟
إذاً: الغرر موجود، وأكل أموال الناس بالباطل موجود، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وبعض المتأخرين يقول: إنه جائز؛ لأنه دفعه عن رضا، خاصة إذا قال: إذا ما أحضرت لك الثمن فهو لك، فكأنه متبرع به.. سبحان الله! هل جاء وقال: السلام عليكم، أنا والله عندي عشرة زائدة خذها لك، أم أنه دفعها مضطراً حتى تبقى السلعة؟! إنما دفعها لحاجة، فكيف نقدر بأنه متبرع؟ هذا بعيد، ولماذا لم يتبرع صاحب السلعة ويرد العشرة؟! فالواقع أن هذا النوع من المعاملات فيه تعريض لأكل الأموال بالباطل.
قال: فأردت أن أعقد البيع، فإذا برجل من روائي يمسك يدي التي أردت أن أصفق بها على يده، وقال: لا تبعه حتى تنقله من محل البائع، وتحوزه إلى محلك، لماذا يا زيد ؟! قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم : (نهى أن تباع السلع حيث تبتاع) يعني: في مكانها الذي بيعت فيه: (حتى يحوزها التجار إلى رحالهم) أي: محلاتهم.
حتى ولو كان بين السوق وبين محلك شارع واحد، واشتريتها وتركتها عند تاجر الجملة، ورجعت إلى دكانك، وستنقلها غداً، فجاءك إنسان، وطلب سلعة مثل التي اشتريتها، وتركتها عند التاجر، فلا تبعه من تلك السلعة التي عند التاجر حتى تحوزها إلى محلك، ثم بعها من محلك.
يقولون: هذا في المنقول مكيلاً، أو موزوناً، أو معدوداً، أما الأمور الثابتة، كما لو اشتريت بيتاً، وتريد بيعه، فهل تحوزه وتنقله؟! البيت ليس منقولاً، فيقولون: إن المبيع المنقول لا تتم الصفقة فيه إلا بالاستلام، فحتى تستلمها وتستوفيها، وما دامت عند البائع فهي على ضمانه، فلو تلفت عنده فهو ضامن.
إذاً: لا تتم الصفقة في المنقولات حتى تستوفى، إذاً: ملكك لها غير تام، والملك غير التام لا تستطيع أن تبيعه، فالمرأة إذا كان صداقها ألفاً، فإذا طلقها قبل أن يدخل بها، فلها من الألف خمسمائة، مع أنها كانت تملك ألفاً، لكنها لم تملك الألف ملكاً كاملاً، وإنما كان الملك ناقصاً؛ لأنه متوقف على الدخول، فكذلك هنا: الملك ناقص؛ لأنه متوقف على الحيازة، وذلك في كل مكيل، أو موزون، أو معدود يمكن زحزحته، وقد كنا نشاهد هذا في سوق الحراج، فمثلاً: كوم الحبحب، فإذا اشتراه وزحزحه بيده عن مكان البيع، وبعضهم يأتي بغطاء ويضعه على الحبحب، وبعضهم يأتي بشيء من البرسيم ويضعه على العنب، إشارة إلى أنه قد حازه، ووضع يده عليه؛ لأن السوق للجميع، وقد يشتري بالجملة، فإذا اشترى عشرة صناديق، فعليه أن ينقلها من مكان صناديق التاجر ولو لمسافة متر، فتصبح في حيازته وملكه؛ لأن أرض السوق ملك للجميع.
فلا يبيع الإنسان السلعة إذا اشتراها إلا بعد أن يحوزها؛ لأنه بحيازتها تم الملك، وانقطعت علاقتها بالبائع، أما الأعيان التي لا تحاز ولا تنقل، فتكون حيازتها بالتخلية، فمثلاً: اشتريت بيتاً، وفيه أغراض للبائع، فعليه أن يأخذها، ويخلي لك البيت، فإن أخلى البيت وسلم لك المفتاح، فقد حزت البيت، وامتلكته ملكاً تاماً، وكذلك البساتين، يخليها من حاجاته، ويرفع يده عنها، فتكون في حيازتك.
فإذاً: رفع يده، ووضعت أنت يدك؛ فقد صارت حيازة، وكذلك السيارة، حتى تحوزها وتنقلها، وتأخذ مفاتيحها، وحينئذ يحق لك أن تبيعها، أما أن تشتريها من المعرض، وتبيعها في المعرض، وفي محلها، فهذا لا يجوز، ويقع في مثل هذا كثير من الناس، والله تعالى أعلم.
فنصيحتي لكل المسلمين أن يعنوا بالفقه؛ لأننا وجدنا دراسة الفقه قليلة، ونجد التركيز والاهتمام والعناية بالحديث دون الفقه، والحديث هو الأصل، ولكن كما يقولون: له نقاد وصيارفه، يحسنون تصريفه واستنتاجه، وهم الفقهاء، فنأخذ ما صنعوا، ونمشي معهم أيضاً في الحديث، ونتبع كل قاعدة بأدلتها، وبالله تعالى التوفيق.
يذكر لنا ابن عمر رضي الله تعالى عنهما صورة مبيع واستيفاء الثمن مقاصة، فيقول: إني أبيع الإبل بالدنانير، وآخذ عنها الدراهم، والدنانير عملة ذهبية، وهو في العدد يسمى ديناراً، وفي الوزن يسمى مثقالاً، والدراهم عملة فضية، وهو في العدد وفي الوزن سواء، إلا أن الفقهاء ربما فرقوا وقالوا: وعشرة دراهم وزناً، عشرة دراهم عداً، وهذا حينما يختلف الضرب، وتحصل هناك زيادة ونقص.
وأصل الدنانير: عملة رومية، أو فارسية، وقد تعامل بها العرب على ما هي عليه، ولم يتغير وزن المثقال، لا في جاهلية ولا في إسلام، أما الدارهم فقد تغيرت، فكان هناك الدرهم الكبير، والدرهم الصغير، وفي زمن بني أمية جُمع الدرهم الكبير والدرهم الصغير وسبكا معاً فصارا درهمين، واتحدت الدراهم، وهذا من واجب ولي الأمر، فعليه أن يوحد العملة التي يتعامل بها الناس، حتى لا يقع خطأ أو غرر في المسمى.
وموضوعنا الآن في كونه يبيع بالدراهم، ويأخذ الدنانير، والعكس.
ومنطوق الحديث يبين أن عبد الله بن عمر كان يتعاطى البيع والشراء، وهكذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين تاجر ومزارع، وهذه كما يقولون: وسائل الإنتاج والكسب، فالزراعة فيها كل البركة، وكان أكثر عمل الأنصار الزراعة، والتجارة كذلك، وهي تسع وتسعون بركة، والتاجر الصدوق مع الأنبياء والصديقين يوم القيامة.
ولا بأس أن الرجل الصالح، أو العالم، أو غيره يعمل في التجارة، ومعلوم أن الإمام أبا حنيفة رحمه الله كان يتاجر في البز، أي: القماش، فقد كانوا يتكسبون لأنفسهم، وهذا نبي الله داود كان يصنع بيده الدروع، ويأكل من كسب يده، فـابن عمر رضي الله تعالى عنه كان يعمل، ويكتسب، ولا مانع من أن يشتغل طالب العلم بذلك، وحبذا طالب العلم التاجر؛ لأنه يستغني بذلك عن أن يتطلع إلى الناس، أو ينظر الناس إليه بعين الرحمة لفقره، ولأن تستغني عن الناس تكن أميراً في نفسك.
فأفتاه صلى الله عليه وسلم بقوله: (لا بأس أن تأخذها بسعر يومها)، فإذا بعت البعير بألف درهم، والمشتري يريد أن يقدم لك دنانير، فكم سعر الدينار بالدرهم؟ الدينار أخذ أسعاراً متفاوته، أقل ما وصل إليه في الصرف ثمانية دراهم، وأعلى ما وصل إليه في الصرف اثنا عشر درهماً، واستقر الأمر بعد ذلك في زمن عمر رضي الله تعالى عنه على عشرة دراهم، ونحن نجد المقارنة في باب الزكاة، فنصاب الذهب عشرون مثقالاً، وقد قلنا: المثقال والدينار شيء واحد، ونصاب الفضة مائتان درهم، إذاً: الدينار عادل عشرة دراهم، إذاً: صرف الدينار يساوي عشرة دراهم.
فإذا بعت البعير بألف درهم، وجئت معه إلى البيت ليعطيك دنانير بدل الدراهم، فهل تأخذها بسعر يومها، أم بسعر أمس، أم بسعر جديد غير موجود الآن وإنما هو متوقع فيما بعد؟ خذها بسعر يومها؛ لأنك تصارف الدراهم إلى دنانير، والصرف يجب أن يكون بسعر يومه.
قال: (ما لم تفترقا وبينكما شيء)، فإذا بعته بألف، والألف الدرهم إذا قسمناها على عشرة -والعشرة الدراهم تساوي ديناراً واحداً- فإن فيها مائة دينار، فقال: أنا عندي تسعة وتسعون ديناراً، وسيبقى لك دينار واحد إلى الغد إن شاء الله، أو إلى بعد ساعة، فإن هذا لا يجوز، ولكن يجب أن تأخذها كاملة، سواء كنت ستأخذ الدنانير عن الدراهم، أو تأخذ الدراهم عن الدنانير، فمثلاً: بعته بعشرة دنانير وجئت إلى البيت، وقال: ما عندي دنانير، عندي دراهم، فليس هناك مانع، ولكن بسعر يومها، الدينار بعشرة دراهم، وهذه عشرة في عشرة يساوي مائة، فإن أعطاه إياها كاملة فبها ونعمت، أما أن يعطيه الدراهم ناقصة، ولو بدرهم واحد، فهذا ممنوع؛ لأن الصرف يجب فيه التقابض والتسليم في مجلس العقد، ولا يجوز فيه التأجيل؛ لأن أصل الصرف بيع، وإن غلب عليه اسم الصرف، فأنت تبيع الذهب بالفضة، والفضة بالذهب، ولكن غلب عليه اسم الصرف لأن تعامل الصراف إنما يكون بالعملة، ولكثرة تحريكه لها يكون لها صريف، أي: صوت -كأنه دعاية وإعلان- فلما غلبت هذه الحركة سمي صرفاً؛ لصريف الدراهم في حركة الصراف، فإذا أعطيته ديناراً ليصرفه لك دراهم، والدينار بعشرة، وقال لك: خذ هذه التسعة، وبعد ساعة ارجع وأعطيك العاشر، فلا يجوز ذلك؛ لأنه قد يتغير السعر، وهذا خاص بالذهب والفضة وجميع أنواع العملة، وأما بقية السلع فلا تدخل في هذا، فلو اشترى طعاماً أو نحوه، ودفع جزءاً من المال وبقي على جزء إلى أجل، فلا بأس في هذا.
ومعلوم موضوع البورصة، فتجد الشخص يعلم عن ارتفاع العملة وعن نزولها في الدقيقة، وبعض الأشخاص تراه جالساً على التلفون مع البنك، كم سعر الآنصة اليوم، الآن بكذا، فيقول: لي احجز بكذا، بع لي، وهو عمل فيه مقامرة، وربا، ولا يجوز؛ لأنه بيع وشراء بدون استلام وبدون قبض، فهو بيع في الهواء، وهذا هو عمل البورصات وبهذه الطريقة فهو ربا محض.
فهنا: إذا تصارفتما، أو تبادلتما، وأخذت الدراهم بدلاً عن الدنانير، والدنانير بدلاً عن الدراهم، فجائز بشرطين:
الأول: أن تكون بسعر يومها.
الثاني: أن لا يبقى لك عنده شيء.
إذاً: هذا هو شرط الصرف، وهو خاص بالربويات، والذي يمهمنا في الثمن، فلو أنه استبدل نقداً بنقد، فيشترط أن يكون بسعر يومه، وأن يكون التقابض حالاً، والله تعالى أعلم.
وبعض الناس يعمل هذا فضولاً منه، وبعض الناس يعملها قصداً؛ إما يؤجَّر على ذلك، وإما كيداً في أحد المتبايعين، وصورتها تكون دائماً في بيع المزاد، أو المزايدة، فحينما يعرض الدَّلال السلعة، أو يعرضها صاحبها، فيقول: هذه السيارة بعشرة آلاف، فيأتي واحد ويقول: بعشرة وخمسمائة، فيأتي آخر ويقول: بإحدى عشر، وهي تساوي عشرين، لكنهم فتحوا باب المزاد بعشرة، فيتزايدون فيها، فيأتي إنسان لا ناقة له فيها ولا جمل، ودخّل نفسه مع الناس، واعتبر نفسه تاجراً من التجار، وراغباً من الراغبين، فحينما قيل: هذه بعشرة، قال هو: عشرة ونصف، وآخر قال: إحدى عشر، وقال ثالث: إحدى عشر ونصف، ثم قال هو: باثني عشر، وهكذا، وضع رأسه ضمن رءوسهم، وأخذ يزايد، فهذا الشخص الذي يزيد في السلعة دون رغبة فيها يُعدَّ ناجشاً.
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عليه وسلم عن ذلك، والعلة في ذلك: أنه الراغب الحقيقي يزيد بمقدار رغبته وتقديره للسلعة، أما الناجش فإنه سيزيد من غير تقدير، ثم سيسحب نفسه ويذهب، فليس متحملاً مسئولية الزيادة، ولكن ماذا يفعل إن وقف السعر عليه؟ سيضطر إلى التراجع، فترجع السلعة للذي قبله، فإذا كان الناجش قد أوصلها إلى عشرين، والذي قبله أوقفها على تسعة عشر، فسترجع للذي قبله بالتسعة عشر، وتسقط زيادة الناجش الأخيرة، وفي هذا العمل مضرة، وإفساد للسوق، فإن كان فضولياً فهذا تعدٍ، وإذا كان غير فضولي، ولكنه بقصد، فإما أن يكون القصد هذا من قبل نفسه، وإما أن يكون بدافع من البائع، وبعض البائعين قد يتفق مع بعض الأشخاص ليزيدوا في السعر، فيفتح باب الزيادة بعشرة، فيأتي هذا العميل المساعد فيقول: بإحدى عشر، والراغب في الشراء يظن أن هذا صادق، وأنها تساوي إحدى عشر، فيزيد خمسمائة من أجل أن يأخذها، والعميل يقول: إحدى عشر وخمسمائة، وكل واحد ينجش ويزيد، والراغب في السلعة يزيد حقيقة، ويكون قد لبس عليه بسبب زيادة العميل، وتزيد السلعة عن قيمتها الحقيقة بسبب الناجش، وما مصلحة الناجش في هذا؟ خدمة صاحب السلعة والزيادة في سعرها، فلو لم يدخل العميل ليناجش، ويزيد في السعر؛ لما نفقت السلعة، ولما ارتفع سعرها أكثر مما تستحقه.
إذاً: فالناجش غاش، ومدلس، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك؛ لأن فيه تعاوناً على الإثم والعدوان، والواجب على المسلم أن يساعد على البر والتقوى، لا أن يساعد على الإثم والعدوان.
وهنا شيء آخر، وهو: إذا غرر بالمشتري، وزيد عليه في السعر بسبب المناجشة التي تواطأ عليها البائع والمناجش، فإن ثبت ذلك فالمشتري بالخيار، فإن شاء أمضى البيع برغبته، وإن شاء رد السلعة وأخذ الثمن.
إذاً: النجش عيب، ويعطي المشتري الحق في فسخ العقد؛ لأنه تدليس وغش، ولهذا نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، ولو مضت السلعة فيكون البائع قد أكل من مال أخيه المسلم بالباطل، فليتق الله أصحاب الأسواق.
وهنا صورة أخرى، وهي عكس الصورة السابقة، وكما يقول ابن تيمية في كتاب الحسبة: يجب على طالب العلم أن يعرف أوضاع الأسواق، حتى يستطيع أن يحكم على أعمال الناس.
فمثلاً: يأتي إنسان بسيارة ويريد بيعها، فيأتي شخص يريد شراءها، فيجد أشخاصاً آخرين يريدون شراءها أيضاً، فيتواطئون جميعاً على ألا يزيدوا في السعر، أو ألا يدخلوا في المزايدة حتى يقف السعر عند حد فيه بخس للسلعة، على أن يتشاركوا فيما بخسوا به صاحب السلعة، فهؤلاء تواطئوا على بخس السلعة، ثم أكلوا فارق البخس فيما بينهم، وهذا حرام، وإنما أكلوا سحتاً.
وهناك صورة أخرى: أن يأتي شخص إلى البائع، فيعطي للسلعة سعراً أكثر من قيمتها، ثم لا يشتريها، فمثلاً: قيمة السلعة الحقيقية ثلاثون، فيأتي هذا الرجل ويقول: هذه السلعة تساوي خمسين، وذلك حتى ينطبع في ذهن البائع هذا السعر، فلا يبيعها إلا به، وهذا السعر لن يجده حقيقة، ولن يدفعه له أحد، ويسمى هذا بربط الرأس، وإنما فعل ذلك الرجل هذه الحيلة ليصرف الناس عن هذه السلعة، فيتفرد بالبائع حتى يبخسه، ولا يعطيه قيمتها الحقيقية، فضلاً عن أن يعطيه ما وعده به من قبل، فإذا كان صاحب السلعة مضطراً، فسيبيعه السلعة بأقل من قيمتها الحقيقية، فتؤكل أموال الناس بالباطل عن طريق هذه الحيل.
يقول ابن تيمية : حيل الأسواق وعقود البيع كثيرة جداً، خاصة في أنواع المكاييل والموازين، وهذه العقود والبيعات تكون في المزاد، فليتق الله ربه كل إنسان، ويتحرى الصدق والحلال.
إذاً: نهى صلى الله عليه وسلم عن بيع النجْش أو النجَش، ويلحق به كل ما فيه تحايل على إسقاط شيء من سعر السلعة، أو زيادة في سعرها على من لا يعرف السعر الحقيقي.
وهل يجوز لإنسان أن يقول عندما يشتري: لا خلابة؟ إن كانت حالته كحالة ابن منقذ فيجوز ذلك، أما إذا لم يكن كذلك، كأن كان حاذقاً، وإنما زادوا عليه في ذلك، فإن هذا يرجع إلى باب آخر، وهو: هل كان الغبن فاحشاً أم لا؟
إذاً: كل ما يكون من التحايل، على زيادة أو نقص السعر في السلعة في السوق في المزاد العلني فهو باطل، والمشتري أو البائع إذا ظهر له التحايل عليه فله الحق في فسخ البيع، أما سلع المحلات والدكاكين، فإذا جاء الزبون وقال لصاحب الدكان: بكم هذه السلعة؟ فقال: بخمسة، فاشتراها، ثم جاء الثاني وقال: بكم؟ فقال: بخمسة، فقال: أريدها بأربعة ونصف، فقال: لا بأس خذها، ثم جاء الثالث وقال: بكم؟ فقال: بخمسة، فقال: أريدها بخمسة إلا ربع، فلا بأس بهذا.
وهذا التفاوت لا بد منه؛ لأن طبيعة الناس المساومة، وإن كان السعر محدداً فلا مانع، ويستريح الذكي والبليد، ولكن إذا كانت هناك مساومة، وحدث هناك شيء من الغبن اليسير، فإن عادة الناس التسامح في المماكسة، والزيادة، أو الغبن الخفيف، الذي لا يؤثر على النفس، أو على المال، أما في حالة الغبن الفاحش، كأن تكون السلعة بخمسة، فيبيعها بخمسين، فهذا غبن فاحش، ولمن وقع عليه الغبن الحق في رد السلعة؛ للغبن الفاحش الذي وقع عليه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر