أما بعد:
فقال المصنف رحمه الله تعالى: [ وعن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءتني بريرة ، فقالت: (إني كاتبت أهلي على تسع أواق، في كل عام أوقية، فأعينيني، فقلت: إن أحب أهلك أن أعدها لهم ويكون ولاؤك لي فعلت، فذهبت
هذا الحديث يعتبر من أمهات الأحاديث: صيغة، وأحكاماً، وتشريعاً، وكما جاء عن عائشة رضي الله تعالى عنها: كان في بريرة ثلاث سنن، وبريرة كانت مزوجة برجل اسمه مغيث وكان يحبها، وكان مملوكاً، وهي مملوكة فعتقت بعد أن اشترتها عائشة ، فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كانت مملوكة تحت مملوك: متعادلان، والآن أصبحت حرة، وهو مملوك، فهنا اختل التوازن واختل التعادل، والكفء يجب أن يكون مكافئاً لزميله، والعبد لا يكافئ الحرة، لكن نظراً للعقد المتقدم، قال لها: (أنت لك خيار، إن شئت بقيت على عقدك مع المملوك، وإن شئت فسخت نكاحك بالحرية) فاختارت نفسها، فكان مغيث يتبعها في الطرقات ويبكي، يدريها أن ترد نفسها إليه، فبلغ ذلك الخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها: (يا
والواقع أنه جدير بذلك، ونمضي مع هذا السياق كلمة كلمة، فهنا يقول المؤلف رحمه الله: عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (جاءتني
وأصل المكاتبة: أن يريد السيد مالاً، ويريد أن يبيع العبد، أو المملوك، والمملوك لا يريد أن يخرج من رق إلى رق، ويريد أن يشتري نفسه، أي: يعوض سيده عما يقبضه من ثمن من سيد آخر، وينتقل من سيد إلى سيد، فيكاتبه ويتفق معه على مقدار معين، ويشترط في الكتابة أن يكون الثمن منجماً، وأصل النجم لغة: الكوكب في السماء، وهي
النجوم المنتشرة في السماء، والعرب تسمي الأجل نجماً، حتى حمل بعض العلماء قوله تعالى: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى [النجم:1] قالوا: نزول القرآن منجماً، يعني: على فترات، وكانت العرب إذا استدانت كتبت الوفاء عند ظهور النجم الفلاني، وهم يعرفون مسيرة النجوم ومواقعها، وهذا من بعض علومهم العامة.
ويستحب أن يسامح سيد العبد المكاتب في القسط الأخير أو بعضه، فـبريرة كاتبت أهلها على ما ذكرت لنا تسع أواق، كل سنة أوقية، يعني منجمة على تسعة أنجم، والمكاتب من حقه أن يسعى ويطلب، ويحق له الطلب والسؤال، وله من الزكاة حصة قال تعالى: وَفِي الرِّقَابِ [التوبة:60]، فيأخذ من الزكاة جزءاً ليكمل به ما نقص عليه من الدين في مكاتبته.
وهنا جاءت بريرة إلى عائشة فقالت: أعينيني في النجم الذي سيأتي ، وليس في التسعة الأنجم، وبعضهم يقول: إن بريرة جاءت عند العقد، ولم تكن قد دفعت لا قسطاً ولا نجماً، وبعضهم يقول: لقد دفعت أربعة أنجم، وبقي عليها خمسة أنجم، فجاءت تستعين عائشة رضي الله تعالى عنها، وكل ذلك يؤخذ من حديث بريرة في شأن المكاتبة.
وقد جاء النهي عن كسب الأمة وهو عام، حتى في الخدمة مخافة إذا فرض عليها شيء يومي: من غزل من غسل من.. من..، ولم تجد المقرر عليها يومياً، فربما لجأت إلى طريق غير سليم، وبعضهم يقول: إذا كان عندها صنعة، أو استطاعت أن تعمل، وقد فرض عليها السيد مقداراً معيناً في كل يوم، واستطاعت أن تأتي به يومياً أو أكثر فالأكثر لها، والذي شارطها عليه له، فهذه كاتبت ولم يؤخذ رأي الزوج في ذلك، وعقد المكاتبة لم يخرجها من عصمة الزوج، فجاءت في طريقها لتكمل عملية المكاتبة.
وهنا أيضاً: وقفة رب البيت، يرى امرأة تدخل بيته وتُسار زوجه! فمن حقه أن يسأل: ما شأنها؟ ولاسيما في هذه الآونة، فحينما تدخل امرأة أجنبية أو غريبة وتُسار الزوجة أمام زوجها أو علم بعد ذلك، فله أن يسأل: ماذا تكون هذه المرأة؟ هل هي صالحة أم طالحة؟ فمن حق رب البيت أن يسأل عن مجيء تلك المرأة، وعن غرضها، حفاظاً على بيته، فقال: (ما بال هذه المرأة؟) فأجابته عائشة : جاءتني وطلبت مني كذا، وأرسلتها ورجعت.
إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف الخبر، ثم أخبرت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهنا يتصرف الرسول صلى الله عليه وسلم: لا عليك: (اشتريها) لم يقل: أعينيها في المكاتبة، ولكن قال: (اشتريها) وفي بعض الروايات: (خذيها)، تأخذها بماذا؟ تأخذها بالشراء: (اشتريها وأعتقيها).
إذاً: بما أنهم اشترطوا شرطاً باطلاً، ويعلمون بطلانه، فهو تجاوز منهم للحد، والشرط الباطل لا اعتبار له، ولو كان مشروطاً في مجلس العقد، فاشترتها وأعتقتها، وهنا يجري التشريع العام، ولا تأثير لما أحدثوه من شرط باطل.
إذاً: القضية بين أربعة أشخاص: سيد بريرة وبريرة وعائشة ورسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: طرفا البيع والشراء، والسلعة، والرسول صلى الله عليه وسلم الذي سمع الخبر، وهذا لا يكفي لإعلان الموضوع، وتأكيده؛ ولذا لما تم شراؤها وعتقها، وثبت الولاء لـعائشة -بمقتضى هذا الشراء- العتق صعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر.
وهنا تأتي رسالة منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنت حاولت أن أجمع رسالة في القضايا الخطيرة التي عولجت على أعواد منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهي عظيمة وعديدة وكثيرة، هذا المنبر الذي أدى رسالة أعظم من أي منصة في أكبر جامعة، صعد النبي المنبر، وكان صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يُبلغ أمراً، أو يشرح أمراً، أو يعلم الناس شيئاً، قال: احضروا المنبر؛ فيعلم الناس بعضهم بعضاً، فيحضرون حول المنبر، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، وهذا من شروط الخطبة وآدابها، ثم هل قال: -لماذا يا أهل بريرة! فعلتم؟! لا، - ولكن قال: (ما بال أقوام)، هم قوم فقط، وهم أهل بريرة ، ولكن عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا ينبغي التشهير؛ لأن تسمية أشخاص بأعيانهم في صلب التشريع ليس مهماً، فأصحاب الكهف: ثلاثة ورابعهم، خمسة وسادسهم، سبعة وثامنهم، من هم؟ وما أسماؤهم؟! وما الذي يفيدنا من معرفة أسمائهم؟! بل الذي يفيدنا صلب القضية، وماذا كان منهم وعليهم، وهذا موسى يخاطب فتاه كما قال الله تعالى حاكياً عن موسى: قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا [الكهف:62]، وهو الذي سافر معه، وحمل الغداء؛ ولذا يقول ابن تيمية رحمه الله: الشخصيات، والعينيات التي لا تعلق لها بالتشريع، لم تسم؛ لأن أسماءها لا تزيد في التشريع شيئاً وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ [طه:17-18] من أي شجرة؟ لا نتدخل، وما طولها وما عرضها؟ لا نتدخل، عصا يتوكأ عليها.
وهكذا (ما بال أقوام) الغرض بيان الحكم، وشرح القضية للناس، أما ما يتعلق بنوعية الأقوام والأشخاص والأفراد فهذا لا يغير في الموضوع شيئاً (ما بال أقوام)، وأقوام جمع قوم، والقوم في اللغة يطلق على الرجال، ولا يدخل فيه النساء، كما قال الشاعر:
أقوم آل حصن أم نساء
وكما في قوله تعالى: لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ [الحجرات:11] .. وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ [الحجرات:11]، فلفظ قوم يختص بالرجال، (ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله) يعني: ليست في كتاب الله بنصها وفرعها وكل موضوعها! يعني: ما بال أقوام يشترطون ولاءهم في عتق بريرة، وليس هذا النص في كتاب الله؟! كتاب الله لم يأت من أجل بريرة، ولا من أجل سعدة! إنما هو تشريع عام، ولكن كما يقول ابن حجر : يشترطون شروطاً ليست على نهج كتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل ويزيد البعض: وإجماع المسلمين، أبيعك هذا العبد بشرط ألا تعتقه أبداً، دعه عندك حتى يموت! لماذا؟ هذا يتنافى مع مقتضى العقد؛ لأنني بشرائي العبد امتلكته كامل الملك، وكمال الملك يعطيني الحق بأن أتصرف فيه تصرفاً كاملاً، ومن التصرف الكامل: أن أبيع، أن أهب، أن أعتق.. إلخ، لكن أبيعك عبداً بشرط أن تعتقه، هل عتق العبد في كتاب الله أم لا؟ في كتاب الله؛ لأن الشرع حث على تحرير العبيد.
إذاً: القرآن جاء بعتق العبيد، لا بمنع العتق، فإذا اشترط عليك: أن تعتقه، كان شرطاً في كتاب الله،و إن اشترط ألا تعتقه كان شرطاً ليس في كتاب الله، وهكذا، يعني: ما بال أقوام يخترعون من عند أنفسهم شروطاً لم يأت بها دين الإسلام، كل شرط ليس في دين الله -ضعها محل كتاب الله، يتبين لك المعنى- كما جاء في الحديث الآخر: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) أي: مردود، كل شرط ليس في كتاب الله، أي: على مقتضى تشريع الله في كتابه، ولا على تشريع الله في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ولا على تشريع الله في إجماع علماء الأمة؛ فهو باطل، وإن كان مائة شرط.
ويقولون: ذكر المائة هنا للمبالغة، فإذا كانت مائة شرط وهي مغايرة لكتاب الله فهي باطلة، أما لو كان شرطاً وشرطين فهل يقبل؟ لا، لا يقبل الباطل، كثيراً كان أو قليلاً، وقال: (قضاء الله أحق) أي: حكمه، وقضى ربك كذا، (قضاء الله أحق) أحق أفعل تفضيل من الحق ضد الباطل.
وقوله: (وشرط الله أوثق)، شرط الله: ما أباحه الله وأجازه، فهو أوثق من الشروط الأخرى؛ لأن الشرط الصحيح ملزم وموثق وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا [الأنعام:152]، فالمؤمنون على شروطهم.
وقوله: وعند مسلم قال: (اشتريها وأعتقيها واشترطي لهم الولاء).
(اشتريها) مثل كلمة: خذيها، ويبين أن هذا عقد جديد، وأن عقد المكاتبة قد أُلغي، وأن بريرة جاءت تطلب المساعدة، لكن تغير الموقف وانقلب إلى بيع وشراء: (اشتريها وأعتقيها)، فبناءً على شرائك إياها، ماذا كانت النتيجة؟ ماذا كانت نهاية بريرة ؟ عُتقت، وألغي شرط البائعين، وأصبحت معتوقة لـعائشة رضي الله تعالى عنها.
تتمة لقضيتها، ألم نقل: إن ابن خزيمة ذكر عن فلان أنه أخذ أربعمائة مسألة فقهية من قصتها، فقصتها مهمة وليست عادية، فبعدما أُعتقت، وملكت نفسها، تتمة للحكم أخبرها صلى الله عليه وسلم أنها ملكت نفسها، وهي بالخيار بين بقائها زوجة بالعقد الأول، وبين اختيارها لنفسها، وينفسخ عقد الزواج بينهما برغبتهما.
إذاً: قبل أن يبين لها، قال لها: (لا تعجلي) حفاظاً على العقد السابق، وعلى عقد الزوجية والحياة الزوجية، فاختارت نفسها.
وهذا التخيير -في باب الطلاق، وكتب الفقه- موجود بين الزوجين الأحرار، ويسمى التخيير والتمليك، فإذا جاء الزوج وبينه وبين الزوجة وئام وعشرة طيبة، وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ [البقرة:237]، ثم بدأ من الزوجة بعض النفرة، وهو لا يحب أن يطلقها ابتداءً من عنده، فيقول: نحن كالأخوين، وحياتنا مبنية على الكرامة، وحفظ المعروف، وأنا لا أتحكم لكوني أملك الطلاق -لأن الطلاق لمن أخذ بالساق- ولكن أُخيرك على ما أردتي، خيرتُك بيني وبينك، هذا التخيير يعطيها الحق بأن تقول: اخترتك، أو أن تقول: اخترت نفسي، فإن قالت: اخترتك، فيتفق العلماء على أن هذا التخيير الذي صدر منه لا يحتسب من الطلقات الثلاث؛ لأنه عرض عرضاً ولم يتم، وإن قالت: اخترت نفسي، فسخ النكاح، وهذا الفرق بين التخيير والتمليك، أقل ما ينفسخ به النكاح واحدة، أما التمليك، فيقول: ملكتك نفسك بطلقة بطلقتين بثلاث وبقدر ما ملكها تتصرف، فإن قال: ملكتك طلقة، فقالت: طلقت نفسي ثلاثاً، فبعض العلماء يقول: لم يحصل شيء؛ لأنه أعطاها واحدة وطلقت الثلاث، هو أعطاك واحدة، فلم تمتلكي الثلاث، ولم تستخدمي الواحدة التي أعطاك إياها، وبعضهم يقول: هو أعطاها واحدة، وهي طلقت ثلاثاً، والثلاث مشتملة على الواحدة ضمناً، فتكون الواحدة قد وقعت.
وهكذا التخيير والتمليك حكم موجود بين الزوجين الأحرار حينما يكون هناك حسن العشرة، ويقولون: إن الزبير بن العوام كان مع زوجته في عشرة وفي مؤانسة طيبة، فاستحت أن تطلب منه الطلاق، وهو لم تطب نفسه أن يطلقها، وسكتت إلى قبل الوضع، وفي يوم جمعة، قالت: يا فلان! لم أطلب منك شيئاً إلا وأعطيتني، أريد أن تقر عيني بطلب واحد، قال: ما هو؟ قالت: تملكني نفسي إلى أن ترجع من الصلاة، فأحس أني طليقة، وأني حرة، وأني أملك أمر نفسي، قال: مرحباً، ملكتك أمرك إلى بعد الصلاة، فذهب وجاء فوجدها متغطية، فقال: ما بك؟! قالت: ملكتني نفسي، واخترت نفسي، وقد وضعت وخرجت من عدتك -امتلكت نفسها فاختارت نفسها فعليها العدة، ووضعت حملها، فخرجت من العدة- قال: خدعتيني.
إذاً: التخيير والتمليك حكم موجود في باب الطلاق، فهنا أخبرها بأن أمرها في يدها، ماذا كان الأمر؟ اخترت نفسي، فعلم زوجها بهذا التخيير، وامتنعت عليه، قالوا: وكان يحبها أشد ما يُحب الرجل زوجه، فكان إذا رآها في الشارع، تبعها ويبكي ويستعطفها؛ لترجع إليه، وهي لا تلتفت إليه، ولا ترد عليه جواباً؛ وعلم بذلك الناس، وعلم الرسول صلى الله عليه وسلم -وهو بالمؤمنين رءوف رحيم- فأشفق على زوجها، واسمه: مغيث ، وفي يوم أصبحت عند عائشة ؛ لأن عائشة مولاتها، وأصبحت واحدة في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا
لأنه أولى بها من أبيها وأخيها، وكل عصبتها، فبولائه عليها امتلك حق التزويج، وهنا لم يفرض هذا الحق على هذه الجارية، وإنما قال: (أنا شافع)، ما أعظمها من كلمات! وما أشرفه من موقف! فإذا بالجارية التي عُتقت بالأمس تجابه رسول الله صلى الله عليه وسلم بصراحة الحق الناصع: (لا حاجة لي فيه).
فكأنها تقول: نعم، شفاعة طيبة وحسنة، ولكن أنا لا أستطيع أن أنفذ هذه الشفاعة، أي إنسان مهما عظمت منزلته، في أي دولة هل يمكن أن يرفض شفاعة رئيس الدولة في أمر أكبر من هذا، والله لا يقدر، لو قال: يا فلان أطلب منك كذا، فسيقول: سمعاً وطاعة على الرأس والعين، ولو رغماً عنه؛ لأنه لا يستطيع أن يجابه رئيسه الأعلى، رئيس الدولة بطلب يطلبه، ويرفض ذلك! وهذه جارية تجابه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولها: (لا حاجة لي فيه).
علموا الناس الحرية الحقيقة في الإسلام، احترام الكلمة، واحترام الشخصية، وإعطاء الحقوق لأهلها، فهذه جارية وأعطاها حقها إلى هذا الحد، ولم يعنفها، فإذا لم يكن لك فيه حاجة فأنت وشأنك، وأنا أديت الذي عليّ، وشفعت فيه، وبعد هذا فالأمر إليك. من يستطيع أن يصور المعنى، ويبين هذا للعالم؟! وأصبحت بريرة حرة، ومغيث ذهب في سبيله.
هنا قضية صغيرة كنت قد سمعتها من الشيخ الأمين ، والشيء بالشيء يذكر، كان هو وبعض القضاة في سفر، ونزلوا على قوم، وقام الناس وذبحوا لهم، والوقت وقت الظهر، وكانوا جائعين، فالشيخ الأمين انتظر الطعام والشراب وما حضر، وكانت هناك جارية ومعها عصيدة، وضعت عليها السمن، وبجوارها اللبن، وتأكل، فقال لها: يا جارية! أليس عيب عليك أن تأكلي والضيوف ينظرون جائعين؟! قالت: ما بك يا شيخ؟! أما علمت أن الناس قد ذبحوا لك ذبيحة؟! فتركت الذبيحة، وتتطلع إلى ما في يد الجارية! قال: نعم، هذا حاضر ناجز، وذاك غائب، قالت: أتحب أن تأكل منه؟ قال: نعم، قال: فقامت -فرحانة تجري- وحمّت العصيدة، وزادت السمن، وأتت باللبن من أجل أني قلت لها: أريد أن آكل من طعامك، وفرحت جداً وأتت به، يقول: فأكلت حتى شبعت، فقالت: تريد شاي (أتاي)، قلت لها: نعم، فذهبت وفعلت الأتاي، وشربت ونمت مبسوطاً، صاحبه يقول له: يا شيخ! أنت لم تسمع ما قالت لك الجارية؟! الناس ذبحوا لنا الذبيحة، وتركت الذبيحة! قال: انتظر إلى أن تأتي الذبيحة! وبعد العصر جاءت الذبيحة، فالشيخ أخذ يأكل من الذبيحة بهدوء.
يهمنا بأنه صلى الله عليه وسلم قال: (وهو لنا هدية من
أقول: الواجب على طالب العلم المتفرغ -ولا يوجد شبه المتفرغ- أن يأخذ مثل هذا الحديث الذي يعتبر كنزاً وموسوعة ومجالاً فسيحاً جداً لإعمال الملكة الفقهية، وإعمال الذهن، في استخراج الأحكام، كما سمعنا عن ابن خزيمة أن هناك من استنبط منه أربعمائة مسألة، وكما سمعنا عن الشافعي في قوله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا عمير! ما فعل النغير؟ )، جملتان صغيرتان يستخرج منهما أربعين مسألة فقهية.
إذاً: طالب العلم لا يمر على الحديث مرور الكرام، فيقرأه كقراءة الصحف أو المجلات أو المواضيع العادية، ولكن يقف عند كل لفظة، وعند كل كلمة، وعند كل جملة، وعند كل تركيب؛ ليرى فيها أصول التشريع، وبالله تعالى التوفيق.
وصلى الله وسلم على سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر