بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين وعلى آله وصحبه، أما بعد:
قال المصنف رحمه الله: [ وعن رفاعة بن رافع رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أيُّ الكسب أطيب؟ قال: عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور) رواه البزار وصححه الحاكم ].
بدأ المؤلف رحمه الله كتاب البيوع بهذا الحديث وفيه: أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن أطيب الكسب، ما هو؟ وبعض العلماء يقول: إن جميع المكاسب راجعة إلى الزراعة والتجارة والصناعة، يعني: هذه الثلاثة، التي فيها التنمية، وفيها نمو المال، أو نمو المادة الخام وتطورها، فالزارع: حبة بذر يجعلها المزارع في الأرض، فتنمو إلى سبع سنابل فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ [البقرة:261]، الحبة نمت إلى سبعمائة، فهذا نمو، كذلك التجارة: يأخذ السلعة بعشرة ويبيعها باثني عشرة، هذا أيضاً نمو، ويجتمع له هذا النماء، كذلك الصنعة يأخذ القطن فيغزله، ويأخذ الغزل فينسجه، ويأخذ النسيج فيفصله.. وهكذا تتطور المادة الخام على أيدي الصناع كل بحسبه، وفي كل مرحلة من هذا التصنيع تنتفع الأمة.
إذاً: أصول المكاسب هذه الثلاثة، ثم يختلفون أيها أفضل، أهي الزراعة، أم التجارة؟ فبعضهم يقول: الله سبحانه وتعالى جعل البركة مائة جزء، أنزل منها جزءاً إلى الأرض، وادخر تسعة وتسعين إلى يوم القيامة، والجزء الذي نزل إلى الأرض منه تسعة وتسعون في التجارة، والباقي في الصناعة، وفي الزراعة، وفي الأمور الأخرى.
والذي يرجحه العلماء: أن أفضل الكسب الزراعة؛ لأن الزراعة يستفيد منها الإنسان، والحيوان، والطير، فكل هؤلاء يستفيدون من عمل الفلاح.
وبعضهم يقول: هناك كسب آخر، لكنه راجع إلى عمل اليد، وهو الكسب من الغنائم في الجهاد في سبيل الله، ويقول آخرون: الجهاد من عمل اليد، فلم يخرج عن هذه الثلاث.
قوله: (أطيب الكسب) ولماذا كانوا يسألون عن أطيبه؟ لأنهم يعلمون بأن طيب الكسب صحة في البدن، وعون على الطاعة، لما سأل سعد رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ادعُ الله أن يجعلني مستجاب الدعوة -ماذا قال له؟ هل قال له: أكثر من الصلاة في الليل، أكثر الصيام، أكثر الصدقة؟ لا- ولكن قال: أطب مطعمك)، وفي الحديث الآخر: (الرجل أشعث أغبر يطيل السفر، يمد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب! أنّى يستجاب له؟! ومطعمه حرام، وملبسه حرام..) إذاً: حرمة المطعم ومحرميته حالت دون استجابة دعائه، إذاً: من حقهم رضوان الله تعالى عليهم أن يسألوا عن أطيب الكسب، ولم يسألوا عن أطيب الكسب إلا ليتحروه ويعملوا به.. فماذا كان الجواب؟
قال: (عمل الرجل بيده) .
يقولون: لفظة (الرجل) وصف طردي لا مفهوم له؛ فالمرأة في بيتها قد تغزل وتبيع الغزل، وتنسج، وتخيط الثياب، فإذا كان للمرأة عمل فكذلك: أطيب كسبها عملها بيدها.
وهنا إذا نظرنا إلى بعض الأشخاص نجده لا عمل له، يقول عمر رضي الله تعالى عنه: كنت أرى الشاب فيعجبني، فأسأل عن عمله؟ فيقال: لا عمل له، فيسقط من عيني.
من هنا فالمرابي لا يعمل بيده شيئاً، وإنما يرسل دراهمه تعمل على حساب الناس وهو لا يعمل، فلا يتاجر، ولا يزرع.. وإنما يتابع الدراهم أين ذهبت؟ ومن أين جاءت؟ ونبي الله داود -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- ماذا كان يفعل؟ كان يأكل من كسب يده وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ [الأنبياء:80] ، وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ [سبأ:10] نبي ملك، ولكن ما كان يعوِّل على ما في ملكه وما في خزائنه، وإنما كان يعمل بيده ويأكل من كسب يده.
فالموظف في آخر الشهر، يذهب ويستلم الراتب، فيحس بلذة ذلك، وهذا مجرب؛ لأنه من عرق جبينه، ومن عمل يده، ولو أن إنساناً جاء وأعطاك عشرة ريالات وقال: هذه هدية، هل تحس لهذا لذة كلذة عمل يدك؟ لا؛ لأنك لم تبذل جهداً مقابل الهدية، وإن كانت حلالاً، فالشخص الذي لا يكسب من عمل يده، وإنما ورث مالاً كثيراً، تجده يأكل ولا يشعر بما يأكل، ولا يستطعم نوع طعامه، بخلاف الشخص الذي يكد ويعمل، مهما كان نوع العمل، كما قيل: لا عيب في الكسب، العيب في مد اليد، وذكرنا لكم مراراً: كان في هذا المسجد النبوي الشريف نجوم، فإذا كانوا في الصباح ذهبوا في سوق الخضرة، وإذا كان بين المغرب والعشاء تراهم مثل الشموع المضيئة: نظافة، أناقة، عزة نفس، حاضرين في الدرس... لا أستطيع أن أقول لك أكثر من هذا، يعمل ويكسب بيده، ولا ينتظر حسنات الناس!
إذاً: أطيب الكسب عمل الرجل بيده، ولا يضير إنسان أنه يعمل بيده، وكان العرب ينظرون إلى بعض الأعمال الدنيئة بازدراء، كالحجامة والحلاقة.. وكذا وكذا، وهذه عادات، وربما ما كان قبيحاً في مجتمع يكون عادياً في مجتمع آخر، فهذه بحسب العادة، وحسب العرف عند الناس، ولكن إذا كان هذا العمل يعفه عن مد اليد فهو شريف، وإن كان وضيعاً عند الناس.
وهذا الحديث يرشد أن أطيب الكسب: عمل اليد، فهو يقضي على الفراغ؛ لأن كل إنسان يريد أطيب الكسب، فيذهب ويفتش ويعمل بقدر ما يستطيع فتقل نسبة البطالة التي يشتكي منها العالم المتمدن والمتحضر الآن، وكسب الرجل بيده يكون بأي صفة من صفات العمل، ولو بالكلام، فهو كسب، ولو بالتوجيه فهو كسب بيده، ولو بالحركة: يفلح الأرض، أو يصنع الصناعة أو... إلخ فهو كسب باليد. إذاً: (سئل صلى الله عليه وسلم عن أطيب كسب الرجل، فقال: عمل الرجل بيده).
قوله: (وكل عمل مبرور).
وهذا ما أشرنا إليه: أي نوع من أنواع الكسب، البيع هل هو في عمل الرجل بيده أم لا؟ فالبائع يأتي بالسلعة ويذهب إلى الدكان ويوزن ويعطي هذا وهذا... إلخ، إذا انتهت البضاعة ذهب إلى تاجر الجملة وأتى بها، فهو يعمل بيده ورجله، ولكن لكون البيع المبرور من أميزها، والمبرور هنا: المفعول بالبر فهو: سالم من الغش، سالم من التدليس، سالم من غبن الجهال، سالم من انتهاز الفرص مع الحمقى، ومع الذين لا يعرفون الأسواق، فبعضهم إذا رأى إنساناً جاهلاً لا يدري عن شيء انتهز الفرصة ورفع الأسعار، وإذا رأى إنساناً حاذقاً ويعرف كل شيء تأدب معه.. فهذا ليس بيعاً مبروراً، بل يجب عليه أن يبر بيعه، وينصح إذا سئل عن سلعة معينة.. والآن في الوقت الحاضر مثلاً: هناك ماركة معينة راجت عند الناس، فيطلبها إنسان بالسماع، وهو لا يدري عنها، فجاء هذا البائع مستغلاً الفرصة وقال: هذا جاهل لا يدري كوعه من بوعه، فأعطاه سلعة غير الماركة المطلوبة، وقال له: هذه هي. وذاك لا يدري، فهذا البيع ليس مبروراً، بل هو غش.
فالبيع المبرور: أولاً يتحرى فيه نوع السلعة وأنها حلال، ونوع السعر، فلا يستغل الضعاف في الزيادة والنقص، وإنما يعامل الناس معاملة واحدة، وقد يتفاوت البيع بعض الشيء فيتساهل مع هذا بواحد في المائة، ويزيد على هذا واحداً في المائة، فهذا يعوض هذا، المهم إلاّ يكون الغبن فاحشاً.
وأحياناً تكون السلعة موجودة عند البائع، ولكنه يقول: ما عندي، ولكن أنا أقدر أن آتي لك بها ولكن بزيادة قليلة!، وجد المشتري في حاجة إلى السلعة، ومضطراً إليها، فلو قال له: هي عندي، خذ، فإن المشتري سيساومه على الثمن، ولكنه يقول له: هذه السلعة معدومة، ولكن يمكن أن أوفرها لك من عند بعض التجار، ولكن بسعر فيه زيادة قليلة، ولماذا هذه اللفة الطويلة؟! من أجل الاحتيال على المشتري والزيادة في السعر!
وكذلك من عدم البر في البيع: ترويج السلع بالأيمان فيحلف أيماناً بأنها الممتازة، والجيدة، والجديدة... إلخ، وأن سعرها كذا وأنا تساهلت معك.. لماذا هذا كله؟! وأنت ترى إذا عرف تاجر في بلد بصدق الكلمة، وتوحيد السعر، كان موضع ثقة عند الجميع، وإذا عرف إنسان بعكس ذلك تجد الناس يتواصون بالحذر منه: فلان احذر منه! إذا جئته فانتبه منه! لماذا هذا؟! والتاجر الأمين مع النبيين والصديقين.
الأجير في عمله إذا عمل بيده فعليه أن يعمل عملاً مبروراً، فإن كان أجيراً باليوم فلا يضيع اليوم والزمن في الذهاب والإياب والمراوغة، فإذا أراد أن يصلي العصر تراه يذهب يتمشى، وبدلاً من أن يتوضأ يذهب يستحم، لماذا هذا كله؟
والبر في البيع بجميع أنواعه: هو الإخلاص، وعدم الغش، والنصح لله، ولعامة المسلمين، في تلك السلعة وفي غيرها، كذلك المشتري يجب عليه أن ينصح في الثمن، فلا يأتي بنقد مغشوش، ويقول: هذا البائع بدوي لا يدري المغشوش من الصحيح، ويقدمه له على أنه نقد صحيح فلو كانت معه ورقة خمسمائة ريال مزورة، وأعطاها لواحد بدوي لا يعرف الورق، ولا يعرف النقد، فهذا سينظر إلى الأصفار وسيرى الخمسة فيأخذها، ولكنه لا يعرف المزيف من غير المزيف.
إذاً: البر مطلوب من الجانبين: جانب البائع، وجانب المشتري.
لاحظوا هذا الترتيب! بدأ المؤلف بالترغيب في أطيب الكسب: عمل اليد، البيع المبرور، عمل اليد دخلت فيه الزراعة، ودخلت فيه الصناعة، ودخلت فيه التجارة، لكن لاختصاصها جاء بهذا الوصف: البيع المبرور، ورغب الناس في الكسب الحلال، ثم بدأ بما يتمشى مع العنوان: قال: كتاب البيوع، ثم قال: شروطه -أي: شروط البيع- وما نهي عنه، وأين: ما أمر به؟ لا يوجد.. لماذا؟ لأن القاعدة عند الفقهاء أن الأصل في الأشياء الإباحة، فكل ما أنبتت الأرض، وأخرجت البحار، وأمطرت السماء، وجاءت به الأشجار... كل ذلك الأصل فيه الإباحة ما لم يرد الحظر، كما أن الأصل في العبادة الحظر ما لم يأت إذن، فهل تصلي العشاء الآن؟ ممنوع، متى نصلي؟ حينما يأتي الإذن، العشاء نصليها خمس ركعات؟ لا، ممنوع. كم نصليها؟ على ما جاء به الإذن: أربع، جاء الإذن في الصبح باثنتين، وفي المغرب بثلاث، إذاً: الزيادة محظورة.. وهكذا فالأصل في الأعيان الإباحة، والأصل في العبادات الحظر.
فلما كان الأصل في الأعيان الإباحة؛ فكل شيء يجوز بيعه، إلا ما جاء النص في تحريمه، إذاً: نحن الآن نحتاج إلى بيان ما يباح بيعه، أو نحتاج إلى بيان ما لا يجوز بيعه؟ نحتاج إلى بيان ما لا يجوز بيعه، ولهذا قال المؤلف: شروطه، وما نهي عنه.
فبدأ بأشد الممنوعات، وذكر لنا جابر رضي الله تعالى عنه تاريخ الرواية: في فتح مكة: حرّم الله بيع الخمر.
كان أحد الناس يأتي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بنبيذ وبخمر، قبل أن تحرم الخمر، وكان صلى الله عليه وسلم من عادته أن يشرب النبيذ: نبيذ الزبيب، نبيذ التمر، نبيذ كذا وكذا، من الأشياء التي تنبذ في الماء فتعطيه الحلاوة والطعم، ما لم يتخمر أو تمضي عليه أربع وعشرون ساعة، فإذا تخمر قبل أربع وعشرين ساعة لم يشربه، وإذا مضت عليه أربع وعشرون ساعة -ولو لم يختمر- تركه لغيره ولم يشربه.
فجاء ذلك الرجل بزق من الخمر، والنبي صلى الله عليه وسلم في مكان يسمونه: مسجد الفضيخ، قال: يا رسول الله! أهديت إليك هذا، قال: أما علمت أن الله قد حرمها؟ فجاء رجل وهمس في أذن صاحب الخمر، فانتبه النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: ماذا قال لك؟ قال: يقول: اذهب فبعها، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله إذا حرم شيئاً حرم بيعه) .
وتحريم البيع يدل على المنع، وسيأتي النقاش في منع البيع، أو منع الاستعمال.
يخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (إن الله حرّم..) لو قال: إن الله حرم، فيكون على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم، فيكون بوحي من الله، فالتحريم من الله ومن الرسول صلى الله عليه وسلم متلازمان، فإذا ذكر التحريم من الله فقط لزم التحريم من رسوله صلى الله عليه وسلم، وإذا ذكر التحريم من رسوله صلى الله عليه وسلم فقط، لزم التحريم من الله أيضاً. (إن الله حرّم بيع الخمر)، يعني: إن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم حرما بيع الخمر.
وعلى هذا تكون الخمر محرمة مطلقاً، شرباً وبيعاً واستعمالاً، وقد ذكرت لكم مرة ما وقع من خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه، أنه حينما انتهى من فتح الشام دخل الحمام، وبعد أن دخل الحمام ادهن أو اطلى بالنورة في مواطن الشعر، يعني استعمل النورة مزيلاً للشعر، وهذا معروف عندهم، لكن النورة حارة تلهب الجلد، فأخذ العصفر، وعجنه بالخمر؛ لأن الخمر بارد، وطلى به مواضع النورة، فبلغ ذلك أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه، فكتب إليه: يا خالد ! بلغني أنك استعملت الخمر في كذا وكذا، وقد علمت أن الله حرمها. فكتب إليه: يا أمير المؤمنين! إني لم أشربها، ولكنني استعملتها غسولاً -أغسل بها محل النورة-. فكتب إليه مرة أخرى: لقد علمت أن الله حرم الخمر، وإذا حرم الله شيئاً حرمه ظاهراً وباطناً، ولكنكم آل المغيرة فيكم جفوة، أرجو ألا تموتوا على ذلك. فكتب إليه: قد انتهيت يا أمير المؤمنين! هذا في البداية والنهاية لـابن كثير ، لمن أراد أن يرجع إليه.
فهنا قول عمر : قد علمت أن الله حرمها، وإذا حرم شيئاً حرمه ظاهراً وباطناً، يستعمل في الظاهر مثل الميكروكرم أو صيغة يود أو أي شيء مطهر. (إن الله حرم بيع الخمر) إذاً: نأخذ من لازم تحريم بيعها تحريم الانتفاع منها؛ لأن الذي يريد أن يأخذها ماذا يصنع بها؟ لابد أن ينتفع بها، ينتفع بماذا؟ لا يوجد إلا الشرب.
حرم بيع الميتة، الميتة جاء النص في تحريمها، ويرى بعض العلماء أن النص مجمل: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ [المائدة:3]، فقال: حرمت في ماذا؟ هل أكلها، بيعها، شراؤها؟ قالوا: هذا مجمل. والآخرون قالوا: لا، ليس مجملاً؛ لأن الفائدة من الميتة كانت قبل الموت إذا ذكيت بالأكل، وليس هناك أي جانب انتفاع إلا الأكل، فلما حرم بيع الميتة حرم أكلها، كما حرمت الخمر وحرم شربها.
والنقاش في نجاسة الميتة، ونجاسة الخمر، وبالتالي نجاسة الدم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الدم، فالصحابة رضي الله تعالى عنهم أخذوا حكم النجاسة في الميتة من حكم تحريمها، وذلك حينما مر صلى الله عليه وسلم بشاة -لـميمونة - ميتة يجرونها، فقال: (هلا انتفعتم بإهابها) -الإهاب لغة: الجلد قبل الدبغ- (فقالوا: إنها ميتة يا رسول الله!) والرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أنها ميتة، فهو يراهم يجرونها، وهل خفي عليه أنها ميتة، أم أنه يراها؟! هو يراهم يسحبونها، ويرى أنها ميتة، لكن قولهم: إنها ميتة، لا لإخباره بموتها؛ لأنه مشاهد، ولكن للازم موتها وهو النجاسة، (إنها ميتة)، بمعنى: إنها نجسة بالموت، وكان جوابه إياهم بمقتضى هذا، فقال: (يطهره -أي: الإهاب- الماء والقرظ) إذاً (إنها ميتة) لا يعنون بذلك الإخبار، وإنما يعنون النجاسة، وهو يكلمهم عن الإهاب، وخاطبهم في الطهارة والنجاسة، لا في الأكل والشرب، قال: يطهره. إذاً: يطهره، رداً على استشكالهم النجاسة اللازمة للميتة، فقوله: (يطهره) أي: نعم هي ميتة، ونعم هي نجسة كما قلتم وفهمتم، ولكن ليست النجاسة لازمة لها، فإن جلدها يمكن تطهيره بالماء والقرظ.
إذاً: نهى عن بيع الخمر، ونهى عن بيع الميتة، والنهي يقتضي التحريم، وهناك قاعدة: كل محرم لذاته فهو نجس العين.
وكذلك نهى عن بيع الخنزير ولو كان حياً، ولماذا لا يباع ولحمه يؤكل، وشهي عند أصحابه وأربابه؟ فلماذا نهى عنه؟ لابد من علة، ما هي هذه العلة؟ هل لأنه ميتة؟ لا، لأنه نهى عن بيع الخنزير وهو حي يمشي على أربع، والعلة في النهي عن بيع الخمر هي النجاسة، والعلة في النهي عن بيع الميتة النجاسة، إذاً: الخنزير يشترك مع الخمر والميتة في النجاسة، ولذا ورد في النص الكريم: فَإِنَّهُ رِجْسٌ [الأنعام:145] والرجس: النجس.
إذاً: هذه الثلاثة نهى صلى الله عليه وسلم عن بيعها لنجاستها.
الشيء الثاني: هناك جوانب تدل على حكمة التشريع، فالخمر ولو لم تكن نجسة فهي ضارة، والمضر لا يجوز استعماله؛ لأنه يضر بالجسم، ويكفي في ضررها أنها تزيل العقل، وتسلب الإنسان أعز ما به كان إنساناً، والميتة ضارة بعينها على جسم الإنسان، والإنسان ممنوع من تعاطي ما فيه ضرر عليه، والخنزير كذلك، ويذكر أبو حيان رحمه الله في تفسيره عند الكلام على لحم الخنزير، قال: إن الخنزير مفقود الغيرة، لا يغار الذكر على أنثاه -يقول-: وقد شاهدنا من أكثر من أكل لحم الخنزير أنه سلب الغيرة، فيرى زوجه تلاعب غيره على مرأى منه ولا يتأثر، وأي مضرة ومصيبة في افتقاد الرجل الغيرة؟!
وسبق أن قلت: الغيرة تنقسم إلى ثلاثة أقسام: غيرة جنونية، ويسميها علماء الاجتماع: الغيرة السوداء وهي: التي تحجب عن صاحبها الرؤية؛ فيبطش، ويفعل كل ما بدا له غيرة، والأمر لا يحتاج إلى هذا كله، وغيرة حمراء، وهي: الغيرة التي تدفع صاحبها للذب عن محارمه، ويغار على محارم الله، وهذه هي الغيرة المشكورة فإن زادت أفسدت، وإن ضعفت أفسدت؛ لأنه لا يغار على محارمه، ولا يغار على محارم الله، وأصبح لا غيرة له كما قال أبو حيان رحمه الله.
ومن المضار الصحية في لحم الخنزير: ما قرره الأطباء من أنه ينتج عنه دود العضل، والدود معروف وغالباً يكون في المعدة، ويُعالج بالدواء وينتهى، حتى الدودة الشريطية التي طولها اثنا عشر متراً، وتعيش في المعدة، ولكنها تُعالج وتخرج بدواء خاص، أما الدود الذي في العضل، في الفخذ أو في اليد أو في الزند فلابد من شق العضلة، ولقطه بالملقاط: واحدة واحدة، وهذه أكبر مصيبة.
إذاً: نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الخنزير؛ للعلة التي اشترك فيها مع الميتة والخمر، والمنصوص عليها في كتاب الله بأنه رجس.
الأصنام: كل ما كان مجسماً على صورة معبود -أياً كان- نجم، قمر، حيوان، شجرة، فكل ما يعبد، وله جسم مجسم، له ظل، فهو صنم، وهنا يقولون: هل تحريم بيع الأصنام لذاتها -لنجاستها- أو للازمها؟ فاتفقوا على أن النهي عن بيع الأصنام إنما هو للازمها، وهو: كونها تعبد من دون الله، أما إذا كسرتها وجعلتها وقوداً فلا شيء في ذلك؛ لأنها ليست نجسة، أو كسرتها وصنعت منها كرسياً فلا شيء في ذلك؛ لأنها ليست نجسة، وعلي رضي الله تعالى عنه لما وصل مهاجراً ونزل في قباء، كان يرى رجلاً يطرق الباب ليلاً على امرأة مغيبة، ويعطيها شيئاً، فجاءها علي في النهار وقال: يا أمة الله! من هذا الرجل الذي أرى منه كذا وكذا! لقد رابني أمرك! قالت: إنه سهل بن حنيف ، علم أني امرأة، وليس عندي أحد، فيغدو على أصنام القوم فيأتيني بها ويقول: احتطبي بهذا.
إذاً: الأصنام تسمى بهذا الاسم إذا كانت على هيئتها الصنمية، فإذا ما كسرت لم تعد أصناماً، وأصبحت خشباً مكسراً، أو حديداً أو نحاساً، أو أي مادة صنعت منها.
إذاً النهي عن بيع الأصنام لا لعينها ولكن للازمها.
والأصنام: كل ما عبد من دون الله وكان ذا جسم -أي: شاخص- له ظل، مصنوع من خشب، أو حجر، أو معدن، ذهب أو فضة، أو نحاس، أو من الأحجار الكريمة، ويوجد في بعض البلاد -في معابد غير اليهود والنصارى والمسلمين- صور لأصنام من أحجار كريمة، ربما تعادل الملايين من الدولارات، وبيع الأصنام محرم، لا لنجاستها كما هو الحال في الخمر والميتة والخنزير، ولكن لعدم منفعتها، ولما يترتب عليها من الضلال فإنها تعبد من دون الله.
ويتفق العلماء على أن الصنم إذا كسر وتغيرت حالته عن كونه صنماً مجسماً ذا صورة وهيئة، وأصبح فُتاتاً وكسراً، ويمكن الانتفاع بتلك الأجزاء؛ فلا مانع من بيعها، فإذا كان الصنم من أحجار كريمة: كالفيروز، والياقوت، والعقيق، أو نحو ذلك، وفتت وأخذ فتاته، وانتفع به حلية: كفصوص للخواتم، وزينة لبعض المقتنيات فلا مانع، أو كان حجراً يمكن الاستفادة منه في بناء شيء أو ارتكاز شيء، أو كان خشباً يمكن الاستفادة منه باتخاذه حطباً، أو اتخاذه إناء، أو شيئاً مما ينتفع به في غير العبادات أو الضلال، فلا مانع.
وأشرنا إلى ما كان من علي رضي الله تعالى عنه حينما قدم مهاجراً، ونزل بقباء، وكانت هناك امرأة مغيبة -أي: ليس لها زوج حاضر- فكان يأتي شخص بالليل ويطرق عليها الباب، فتخرج فيناولها شيئاً ويذهب، فارتاب علي رضي الله تعالى عنه في ذلك فسألها: من هذا الذي يطرق عليكِ الباب ليلاً ويناولك شيئاً؟! وأنت امرأة وحيدة مغيبة! قالت: هذا فلان -وسمته: سهل بن حنيف - علم أني وحيدة، فيعدو على أصنام القوم، فيأتيني بها ويقول: احتطبي بهذه. أي: تتخذها حطباً توقدها وتستفيد من وقودها، سواء كان في خبز عجينها، أو في طهي طعامها، أو تسخين مائها، أو تدفئتها، أو أي منفعة من المنافع التي يحتاجها الناس في البيوت.
وأجمع العلماء على أن من شروط صحة المبيع أن يكون مما ينتفع به، أما ما لا ينتفع به فلا يجوز بيعه، فلو أن إنساناً يتاجر بالحيات والثعابين! فهذه لا ينتفع بها، اللهم إلا في المزارع الخاصة بها، فينتفع منها باستخراج سمها؛ لإدخاله في بعض الأدوية، وبعض المصالح، لأن سم الثعبان قد يعالج به، كما قال القائل: وداوني بالتي كانت هي الداء، فإذا اقتني لاستخلاص السم منه وتصنيعه، فلا بأس في ذلك، أما إذا كان للإيذاء، إذا كان للعب، أو كان لترويع الناس، فهذا حرام ولا يجوز بيعه.
وهكذا الحشرات التي لا تنفع، فكل ما لا نفع فيه شرعاً، ولا نفع فيه عرفاً، لا يجوز بيعه، وهو داخل تحت عنوان: النهي عن بيع الأصنام.
قوله: (يستصبح بها) كان في السابق: يستصبح بمادة الدهن، قال الله تعالى: مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ [النور:35]، كان زيت الزيتون أرقى أنواع الاستصباح؛ لأن ضوءه يأتي صافياً، وليس فيه دخان، فكان يؤتى بالمصباح، وهو: عبارة عن وعاء مثل الكأس، يملأ بالزيت، ويوضع في داخله فتيلاً غير مشدود البرم، خفيف البرم -سحيل، كما يقال- ويجعل أحد طرفيه على حافة الكأس من الخارج، ويجعل الطرف الآخر داخل الكأس، وعملية الجذب وكثافة النار تسحب الزيت، والزيت يخرج من داخل الكأس بواسطة هذا الشريط -الخيط- فيصل إلى النار فيضيء، وكان إلى عهد قريب في المسجد النبوي القناديل معلقة، وكان يؤتى بالزيت بالبراميل، وهناك أحجار الزيت موجودة في التاريخ، ومستودعات الزيت كانت قبل العمارة السعودية الموجودة، فيستصبح بها، سواء كان في البيوت، أو كان في الطرقات، أو كان في المساجد.
فهذه مصلحة ومنفعة، فطلبوا استثناء شحوم الميتة، وقالوا: نستثني من ذلك يا رسول الله! الشحوم يا رسول الله! فإنه وإن كانت الميتة محرمة، ولا يجوز أكلها، ولا الانتفاع بها، ولكن في شحومها منفعة، فقال: (لا، هو حرام) .
كلمة (هو) هذا الضمير المنفصل يعود على أي شيء؟ هل هو عائد إلى النهى عن البيع، وبيع: لفظ مذكر، مصدر، يصدق عليه (هو) يعني: بيعها حرام، ويصدق عود الضمير على الشحم (هو) يعني: شحمها حرام، فكلمة (هو حرام) يتردد الضمير المنفصل في العود: إلى البيع المعنون له في الأول مع الأصناف الأربعة، وإلى الشحم المستجد الذكر، فقوله: (لا؛ هو حرام) يعني: بيعها، أم أن قوله: (لا؛ هو حرام) يعني: الشحم حرام، فمن هنا وقع الخلاف بين العلماء في الانتفاع بشحوم الميتة.
فقيل: الضمير راجع إلى البيع فقوله: (هو حرام) يعني: البيع حرام، فلا يجوز بيعه، ولا أخذ ثمنه، أما الانتفاع به لصاحبه في غير البيع فجائز؛ لأن التحريم عائد على البيع، وليس هناك نهي عن الانتفاع.
وإن كان الضمير راجعاً إلى الشحم، فيكون النهي عن الانتفاع عموماً، ومنه البيع؛ لأن البيع انتفاع، ولذلك نجد بعض العلماء يقول: لا ينتفع من الميتة بشيء، واستثنى منها: الشعر، والصوف، والوبر، فإنه يؤخذ من الميتة وينتفع به، وهذا جائز باتفاق، والخلاف في العظم: كسن العاج، وسن الفيل، وقد جاء: (ما أبين من حي فهو كميتته)، وسن الفيل عاج يؤخذ منه وهو حي، فهل يكون كميتته حرام الانتفاع أو ليس كميتته، ولكنه كالشعر، والوبر، والصوف، في الحيوانات ذات الشعور والأوبار والأصواف؟
يقول ابن تيمية رحمه الله في هذا: سن الفيل خارج مثل الظفر، لأنه حينما يقص ليست فيه حياة، فهو كالجماد، إذاً: يجوز بيعه، ويجوز استعماله، وإن كان قد أبين من حي.
وقد جاء تحريم الميتة عاماً، قال تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [المائدة:3] (ال) شملت جسمها من شعرها إلى ظلفها، وجاءت السنة واستثنت من ذلك الشعر، وفي الآية الأخرى: وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ [النحل:80]، فقد أباح القرآن: جز الصوف، والوبر، والشعر، من البهيمة وهي حية، والانتفاع منه، إذاً: هذا تخصيص السنة للقرآن.
وجاء أبعد من هذا: (هلا أخذتم إهابها فانتفعتم به) ، وفي الحديث الآخر: (إذا ماتت الميتة فلا تنتفعوا منها بشيء) وهو عام في كل شيء، لكن جاء الاستثناء في قوله: (هلا أخذتم إهابها فانتفعتم به) ولو كان إهاب ميتة، ولو تنجس فإنه يطهره الماء: (أيما إهاب دبغ فقد طهر)، حتى إن الإمام أبا حنيفة رحمه الله عمم الإهاب وقال: ولو إهاب خنزير، وقيل: إن الخنزير ليس لديه جلد. -أنا لا أدري حقيقة الأمر، ولكن لا يوجد حيوان بدون جلد- وقيل: إن جلده يؤكل مع لحمه؛ ولهذا لم يخصص الجلد عن بقية اللحم في قوله: فَإِنَّهُ رِجْسٌ [الأنعام:145]، فالضمير راجع إلى عموم الدائرة التي تحتوي الخنزير: شعره، جلده، لحمه، شحمه، فكل ما فيه: رجس، ولهذا لا يطهر.
فهنا استثني من الميتة الانتفاع بالجلد، ويطهر بالدباغة، سواء كانت بالتراب، بالقرظ، بالخشب، بأي شيء، ما دام قد دبغ، وأخرجت الرطوبة التي كانت فيه، وأصبح جرماً بلا رطوبة، فيجوز الانتفاع به، مع اختلاف الناس في الانتفاع بالمائعات، أو في اليابسات... إلخ.
فهنا لما طلبوا استثناء شحوم الميتة من عموم النهي في البيع قال: (لا، هو...) هو: هل الضمير عائد على البيع أو على الشحم؟ فمن قال: عائد على البيع، قال: إن الشحم تابع للميتة، فإذا لم يجز بيعها؛ لم يجز الانتفاع به بأي حالة من الحالات، بدليل ما ذكر صلى الله عليه وسلم في حق اليهود: (لما حرم الله عليهم الشحوم جملوها فأذابوها فباعوها فأكلوا ثمنها)، إذاً: انتفعوا بما حرم الله عليهم من الشحوم، وليس بلازم أن يكون الانتفاع بالأكل مباشرة، ولكن باعوها وأكلوا ثمنها، والثمن مادة سيالة تذهب في المطعوم وغير المطعوم، وحصل لهم انتفاع بالمحرم بواسطة، وهذا تحيل على ما نهى الله عنه.
فقوله: (هو حرام) أي: الشحم، فلا يجوز بيعه بأي حالة من الحالات، ولا يجوز استخدامه في أي شيء؛ لأنه حرام.
ومفهوم المخالفة: لو أن حشرة فيها دم يجري وماتت في السائل فإنها تنجسه، فعندنا حديث الذباب: لم ينجس الماء الذي غمس فيه، والفأرة نجست السمن الذي ماتت فيه؛ لأن الفأر فيه دورة دموية كبقية الحيوانات الأخرى، فلما سئل صلى الله عليه وسلم عن السمن تقع فيه الفأرة، قال: (إن كان جامداً فألقوها وما حولها) ألقوا الفأرة وما حولها من السمن الجامد، أما ما كان بعيداً عن مكان وقوعها فلم يصله أثر موتها، ولم تصل النجاسة إلى ما كان بعيداً عن موضع وقوعها وموتها، إذاً: الذي كان في موضع وقوعها وموتها تنجس فنلقيه، وما كان بعيداً لم يتنجس، بدليل الأمر بإلقاء ما كان حولها فقط، ومفهوم المخالفة: أن البعيد عنها لا نلقيه، وإذا كان مائعاً فجاء في الحديث: (فاتركوه)، وجاء: (فانتفعوا به) بم ننتفع؟ بهذا السمن الذي ماتت فيه الفأرة! وإذا كان مائعاً فالنجاسة تسري إلى آخر الماعون الذي هو فيه، بخلاف الجامد فلا مجال لأن تسري فيه، ولكن فيما حولها فقط، فقالوا: هذا سمن تنجس بموت الفأرة فيه وهو مائع، والنجاسة قد سرت في كامل السمن الموجود في هذا الإناء، وأباح لهم الانتفاع به، وفي بعض الروايات: (فاستصبحوا به) إذاً: أباح لهم الانتفاع بسمن متنجس، إذاً: هذا متنجس بموت الفأرة، وذاك الشحم متنجس، أو نجس بموت الشاة؛ إذاً: يجوز أن نستفيد منه، ولا يجوز أن نبيعه؛ لأننا إن استفدنا منه كان بعينه فيما فيه المصلحة، فندهن به السفن، ونستصبح به في السرج، إلا المساجد كما هو منصوص عليه عند الحنابلة، فلا نستصبح بزيت متنجس في المسجد.. لماذا؟ وما الفرق بين المساجد والبيوت؟ قالوا: حفاظاً على المسجد من أن يسقط فيه من هذا الزيت؛ لأنه مخالط له، فلا نضمن مائة بالمائة أننا نضع الزيت في المصباح ولا يسقط منه شيء في أرض المسجد، إذاً: احتياطاً للمسجد، أما في الطرقات وفي البيوت فكيفما شئت.
فمن هنا قال بعض العلماء: يجوز الاستفادة من شحوم الميتة وما في حكمها بذاته، ولا يجوز بيعه، وهذا الجمع بين النهي عن بيع الميتة، ولما سئل عن الشحم قال: (هو حرام). يعني: بيعه، وهنا في السمن المتنجس قال: (انتفعوا به) إذاً هناك النهي عن البيع، وهنا الإذن في الاستفادة، وهذا هو الجمع بين الأمرين، وهكذا كل المتنجسات إذا أمكن الانتفاع بها في ذاتها فلا مانع.
وقاسوا على هذا سماد الحيوانات غير مأكولة اللحم -وهي نجسة- أما سماد مأكولة اللحم فروثها وبولها طاهر على المشهور، فإذا كان هناك -كما يسمونه- سرجين نجس هل يجوز بيعه؟ قالوا: لا. فهل يجوز أن نسمد به النبات؟ قالوا: نعم؛ لأنه انتفاع بعينه بدون بيع.
وبعضهم قال: يجوز للمشتري أن يدفع الثمن، ولا يجوز للبائع أن يأخذ الثمن! فأين يذهب بالثمن إذا كان هذا سيدفع وهذا لا يأخذ؟! سيدفع لمن؟! قالوا: هذا من باب التورع، كما قيل في بيوت مكة: يجوز للمحتاج أن يستأجر، ولا يجوز للمالك أن يؤجر. إذاً: فماذا يصنع؟ قالوا: إذا طلبت منه أجرة دفعها، وإذا لم تطلب منه أجرة فليس عليه شيء.
إذاً: طلبهم استثناء شحوم الميتة كان للحاجة إليها، ويجوز الانتفاع بها دون البيع، لحديث: (الفأرة تقع في السمن المائع فينتفع به) .
والله تعالى أعلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر