الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد:
فيقول المصنف رحمه الله: [عن ابن عباس رضي عنهما قال: (قد أحصر رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلق رأسه، وجامع نساءه، ونحر هديه حتى اعتمر عاماً قابلاً) رواه البخاري ].
حلق الشعر يدل على التحلل الأصغر،ولكن بقي التحلل الأكبر ولم يحصل طواف، فـابن عباس يؤكد أن تحلل النبي صلى الله عليه وسلم في إحصاره يعتبر التحلل كله: الأصغر والأكبر؛ لأنه لو لم يكن التحلل كله ما أتى نساءه، لأننا في الحج والعمرة وجدنا أنه لا يحل للإنسان الجماع إلا بعد أن يكمل النسك، وفي الحج بعد أن يطوف طواف الزيارة -الذي هو الركن الأخير في الحج- فـابن عباس رضي الله تعالى عنهما يبين لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أحصر بالعدو، وكان عنده موعد العام القادم، لم يمكث على إحرامه إلى العام القادم، وإنما تحلل.
وأي أنواع التحلل تحلله صلى الله عليه وسلم في هذا الصلح؟
التحلل كله، ونحر هديه، في الحل حيث نزلوا، أو قدموه إلى الحرم، والصحيح أنه في مكانه في الحل كما جاء عن أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها حينما دخل عليها صلى الله عليه وسلم مغضباً، فقالت: من أغضبك، أغضبه الله؟ قال: وما لي... إلخ. قالت: أتحب أن يفعلوا ذلك؟! قال: بلى. قالت: لا عليك، خذ المدية، واخرج ولا تكلمن أحداً، واعمد إلى هديك فانحره، فخرج ونحر هديه.
إذاً: فهي رضي الله عنها ما قالت: اذهب به إلى الحرم، ولا ذهب به هو إلى الحرم، فذهب ونحر هديه حيث كان الهدي، وتسابق الناس بالنحر.
إذاً: المحصر ينحر هديه حيثما أحصر.
وسيأتي في النصوص: أنه نحر، ثم حلق، وأمر أصحابه بذلك، وهذا الترتيب -كما يقول بعض العلماء- واجب في حالة الإحصار، بخلاف الحج، فقد جاء: أنهم كانوا يخلون في الترتيب فكان الواحد منهم يذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: ما شعرت نحرت قبل أن أرمي. قال: ارم ولا حرج. ما شعرت حلقت قبل أن أنحر؟ قال: انحر ولا حرج. وما سئل عن شيء قدم أو أخر في ذلك اليوم إلا قال: (افعل ولا حرج) لكن هنا لابد من ترتيب.
إذاً: المحصر بالعدو أياً كان نوعه -كما يقول العلماء- سواء كان مشركاً أو معتدياً أو باغياً ظالماً، فإن المحرم يتحلل. وهل عليه هدي أو ليس عليه هدي؟
هناك من يقول: عليه هدي لتحلله، وهناك من يقول: ليس عليه هدي، وفي كلا الأمرين جاءت النصوص، ويجمع بعض العلماء قائلاً: إن كان قد اشترط عند إهلاله وقال: محلي حيث حبستني، تحلل ولا هدي عليه، وإن لم يكن قد اشترط تحلل وعليه الهدي.
ما يمكن أن يقال: الحجة مضت في سبيلها؛ لأن الحج فيه وقوف وسعي، وفيه أشياء كثيرة، فالذي عليه الجمهور: لا قضاء على من أحصر في نسك. وعمرة القضية -عمرة القضاء- وقد وقعت في السنة التي تليها بعدما أحصر، على حسب الشرط: يأتون بعدها في السنة القادمة، وفي نفس الشهر، ويؤدون عمرتهم؟
قالوا: هذه العمرة ليست قضاءً عن الماضية، وإنما سميت: عمرت القضية، وعمرة القضاء؛ للمقاضاة -بين الفريقين- المكتوبة في الصحيفة، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء في السنة القادمة لم يؤكد على جميع من حضر في السنة الماضية أن يذهب ويقضي عمرته، ولم يطلب منهم ذلك وكما يذكرون عن الشافعي أنه يجزم بأن أشخاصاً حضروا العمرة الأولى في الحديبية ولم يحضروا في العمرة الثانية عمرة القضية.
أما إذا كان أحصر في الحج فقالوا: الحج فرض في العمر مرة، وهذا الذي أحصر لم يؤد الغرض، إذاً: عزم على الحج وحيل دونه، فلا يسقط الفرض عن نفسه بل بقي عليه ويحج من قابل كما قال عمر لـأبي الدرداء وغيره.
يعني: الحج مطلوب منك أولاً؛ لأنك لم تسقطه عنك بما أحصرت فيه، وهذا غاية ما يبحث في موضوع الفوات والإحصار.
قوله صلى الله عليه وسلم: (واشترطي).
وهنا يقول بعض العلماء هذا الاشتراط كان خاصاً بهذه المرأة، والاشتراط لا يسقط شيئاً، وإذا ما أحصر هذا المشترط وتحلل فعليه هدي كغيره، وإذا لم يجد هدياً فصيام ثلاثة أيام في مكانه، وسبعة إذا رجع إلى أهله.
قال الجمهور: إذن: ما فائدة الاشتراط إذا كان لا يعفيه من الهدي؟ وما فائدة الاشتراط إذا كان لا يستفيد منه في أن يتحلل مكانه؟ وهنا جاء التعميم سواء كان الإحصار بمرض أو بعدو: (محلي حيث حبستني).
وفي عموم الحبس والإحصار رد على من يقول: لا إحصار إلا في العدو، ومن الإحصار -كما ينص مالك-: من كُسِر أو عُرج... إلخ.
إذاً: الاشتراط في النسك عمرة كان أو حجاً يساعد المحرم أو الناسك في إعفائه من الهدي إن تحلل، وفي جواز وإمكان تحلله في مكانه، وليس بلازم أن يبقى محرماً حتى يتعافى ويأتي إلى مكة ويتحلل بطواف وسعي بعمرة.
وهنا أعتقد أنه يلزم كل إنسان أراد الحج أو العمرة -وخاصة مع حوادث السيارات عافانا الله وإياكم جميعاً أو الإخوان الذين يحاولون التحايل على المرور في التصاريح وعدم التصاريح- أن يشترط بقوله: (محلي حيث حبستني)، إن فسح له الطريق ومضى فالحمد لله، إن سلم بسيارته ونفسه ومضى فالحمد لله كثيراً، وإن قدر عليه شيء، وردته السلطة من الطريق (فمحلي حيث حبستني) وإن حصل هناك -لا قدر الله- من حوادث السيارات، أو تعطلت السيارة حتى فاته الحج: فمحلي حيث حبستني.
فيستفيد الإنسان من هذا الاشتراط -على قول الجمهور- أنه يسقط عنه الهدي، ويبيح له التحلل في مكانه، ولا ينتظر حتى يذهب السبب ويمضي إلى مكة فيتحلل من إحرامه بالحج بعمل العمرة، وينتقل من نسك إلى نسك، ويبقى الحج إن كان فرضاً فيكون باقٍ عليه، وإن كان نافلة فعلى الخلاف المتقدم: هل يلزمه القضاء أو لا يلزمه?!
هذا ما يتعلق بموضوع الشرط.
هذا الحديث يأتي به المؤلف رحمه الله ليبين أن الإحصار عام: (كسر أو عرج) العرج: يكون في الرجل، والكسر: يكون في محلات عديدة، وبعضهم يقول: إن الإحصار عام في أي مانع يمنع عن إكمال النسك، فلو أن رجلاً لدغته عقرب فهو محصر، وسواء لدغ بعقرب أو بعقربين فليس بمحصر ما دام حياً ولا يمنعه هذا من المضي في طريقه، فيرقي برقية العقرب ويمضي في طريقه، لكن يهمنا التنبيه على التوسع، وكما كان يفعل بعض السلف، وربما أفرط فيستدل بقوله: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184] على الإفطار في نهار رمضان، فإذا قال: أصابعي تؤلمني! تقول: إن كانت أصابعك تؤلمك هل يبيح لك الفطر؟! لا، الفطر في البطن وليس في الأصابع.
إذاً: التطرف في مثل هذه المسائل، والتوسع فيها على غير أساس ليس له موجب مذموم.
فالمؤلف رحمه الله يرد بهذا الحديث على من يقول: لا إحصار إلا بعدو، والذي أحصر بالعدو يتحلل، والذي أحصر بغير العدو لا يتحلل حتى يذهب المانع، ويمضي إلى مكة، إن كان أحصر في عمرة أتم عمرته، إن كان أحصر في حج: ذهب وتحلل من حجه بعمرة، وعليه حج من عام قابل، وقوله: (عليه حج) هذه مطلقة سواء كان الحج الذي أحصر فيه نافلة أو فريضة، فالجمهور تمسكوا بظاهر هذا الحديث، وقالوا: عليه حج من عام قابل، وجاء عن ابن عباس ما فيه رد على هذا، قال: من تحلل للذة فعليه الحج من قابل، وعليه الهدي، ويقصد بهذا إذا كان حاجاً، لقوله تعالى: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197] إذا وقع بينه وبين زوجه في الحج قبل الوقوف بعرفات فسد حجه لتلذذه، وعليه المضي في حجه هذا الفاسد، وعليه حج من عام قابل، سواء كان الذي أفسده فرضاً أو نفلاً؛ لأنه باختياره.
وهنا ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يقول: إذا ما أحصر بغير لذة، وفاته الحج بغير قصد منه، فحينئذ لا يجب عليه إعادة الفريضة، إلا إذا كان الذي أحصر فيه هو حج الفرض؛ لأن بإحصاره لم يوقع الفرض المطلوب منه، فتكون الذمة لا زالت مشغولة بفريضة حجة الإسلام، فليأت بها.
والله تعالى أعلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر