الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
قال المؤلف رحمه الله: [ وعن ابن الزبير رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من صلاة في مسجدي هذا بمائة صلاة) رواه أحمد وصححه ابن حبان ].
والباب هنا: باب صفة الحج ودخول مكة. هذا الحديث الذي يسوقه في نهاية هذا الباب، وقبل أن يأتي بباب أحكام الإحصار بالحج، وماذا يعمل المحصر وماذا عليه؟ والإحصار هو صورة نادرة من صور الحج والعمرة، يأتي المؤلف بهذا الحديث الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: (صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام) ونحن الآن في صفة الحج، وفي صفة دخول مكة، وهذا الحديث موضوعه المسجد النبوي، فما علاقة إيراد هذا الحديث في بيان فضل الصلاة في المسجد النبوي بأعمال الحج المتعلقة بمكة؟
قد يتساءل الكثير في هذا، ولابد للمؤلف من غرض وراء إتيانه بهذا الحديث الذي يتعلق بالمسجد النبوي في نهاية بيان صفة الحج ودخول مكة، فبعض الناس يقول: إن الإتيان بهذا الحديث هنا يتعلق بموضوع المقارنة بين مكة والمدينة -ولكن ليس في هذا إشارة إلى مكة- وأن فيه تفضيل مكة على المدينة؛ لأن صلاة في المسجد الحرام بمائة ألف، وفي المسجد النبوي بألف، وبعضهم يذكر مع هذا الحديث حديث الروضة الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة) ويستدلون بهذا على أن المدينة أفضل من مكة؛ للحديث الآخر: (موضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها) ، والشوكاني رحمه الله في (نيل الأوطار على منتقى الأخبار) أتى بأحكام الزيارة للمدينة النبوية عقب مباحث الحج، وقال: لم يذكرها المؤلف هنا، ولكن هذا محلها؛ لأنه جرت عادة الناس أنهم إذا أتوا إلى الحج فإنهم يعرجون على المدينة للزيارة. فذكر الشوكاني رحمه الله ما يتعلق بفضل الزيارة: من شد الرحل إلى المدينة وإلى المساجد الثلاثة، وفضل الصلاة في مسجد المدينة، وما يتعلق بالروضة وفضل الصلاة فيها إلى غير ذلك.
والأولى أن مظنة إيراد المؤلف هذا الحديث هنا هو كما أشار إليه الشوكاني ، وهو أن الناس في الآونة الأخيرة يجمعون بين الحج والزيارة في رحلة واحدة، وهذا هو الذي نشاهده الآن، فقل من يأتي برحلة خاصة للمدينة، ثم يأتي برحلة خاصة للحج أو للعمرة، حتى الذين يأتون برحلة خاصة للمدينة يأتون بها مع العمرة، فيأتون للعمرة في رجب أو في ربيع الأول أو في رمضان ويعتمرون ثم يذهبون إلى المدينة، إذاً: لما كثر من الناس الجمع بين زيارة المدينة وبين الحج أو العمرة ساق المؤلف هذا الحديث هنا ليرغب في الإتيان إلى المسجد النبوي الشريف؛ لما فيه من هذا الفضل في الصلاة.
هذا ما ظهر بالنسبة لإيراد المؤلف لهذا الحديث الشريف هنا والله تعالى أعلم.
ولكن نقل عن الطحاوي من الأحناف أنه قال: (صلاة) هنا في هذا الموضع تنصرف إلى النوع الأهم، وهو الفريضة، أما النافلة فهو يرى أن إيقاعها في البيت خير من إيقاعها في المسجد النبوي، ولكن لا ينفي أنه إذا أوقعها في المسجد النبوي أن تكون بألف، لكنه يقول: (صلاة) تعم فرضاً ونفلاً في المسجد النبوي بألف، ولكن تخصيص النافلة بالبيت خير منها بألف في المسجد النبوي؛ وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: (خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة) ويستدل على هذا القول بما صح عنه صلى الله عليه وسلم من استمرار صلاته النافلة في بيته، مع قرب البيت من المسجد، والمتوقع أنه لن يترك الأفضل ويأتي بالمفضول، فلو لم تكن النافلة في البيت أفضل منها في المسجد لصلاها في المسجد فليس هناك كلفة؛ لأن بيته صلى الله عليه وسلم ملاصق للمسجد، ولكن الجمهور حملوا اللفظ على عمومه فقالوا: (صلاة) أياً كان نوعها وأياً كانت صفتها: فريضة.. رباعية.. ثنائية.. ثلاثية.. نافلة.. في ليل أو في نهار، فإن صلاة في المسجد النبوي تعدل ألف صلاة أو تفضل ألف صلاة فيما سواه، أي: من عامة المساجد.
الجواب: إنما هو في الفضيلة والنوعية، وعلى هذا لو أن إنساناً عليه خمس فوائت، وصلى في المسجد النبوي صلاة من نوع تلك الفائتة فهي في ذاتها تعدل ألفاً، ولكن لا تسقط عنه شيئاً مما عليه من الفوائت، ولو صلى واحدة من الخمس الفوائت عليه في المسجد النبوي فإن صلاة تلك الفائتة تعدل ألفاً، ولكن لا تجزئ إلا عن واحدة من الخمس، وتبقى الأربع في ذمته.
البعض كما تقدم يقول: لا تشمله، قال بذلك النووي وغيره، وأخذ بذلك المالكية، وبعض من وافقهم وقالوا: إن قوله: صلاة في مسجدي هذا) يراد به المسجد الذي كان موجوداً وأشير إليه بالإشارة الحسية (هذا)، إذاً: ما طرأ من زيادات بعد كلمة (هذا) لا يدخل فيما أشير إليه من قبل؛ لأنه لم يكن موجوداً في ذلك الوقت، والجمهور على أن (مسجدي هذا) هو للتخصيص، ولا يمنع من دخول الزيادات؛ لأن الزيادات مهما طرأت لن تخرجها زيادتها عن كونها من مسجد رسول الله، ولكنه أراد بكلمة (هذا) تخصيص المسجد النبوي بالفضل دون بقية المساجد التي كانت موجودة في المدينة آنذاك، فكان هناك مسجد موضع المصلى، وإن كان لم يبن مسجداً، وكانت هناك مساجد في أطراف المدينة، فكان هناك مسجد بني سلمة الذي تحولت فيه القبلة، وكان هناك مسجد قباء، وكانت هناك مساجد يميناً ويساراً، فأراد بكلمة (هذا) يعني: دون بقية المساجد التي توجد في المدينة، وكلها مساجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: قوله (صلاة في مسجدي هذا) هذه الفضيلة الجمهور على أنها عامة تشمل ما كان موجوداً عند الإشارة إليه، وتشمل كل ما زيد فيه وضم إليه، ويستدل الجمهور على هذا التعميم والاتساع ببعض الأحاديث وإن كان في أسانيدها مقال ومنها: (إنه لمسجدي ولو امتد إلى صنعاء) وقد جاء في الأثر الصحيح الموقوف على عمر رضي الله عنه أنه بعد ما وسع المسجد النبوي من الشمال ومن الغرب، رأى أن بعض الناس ربما تساءل أو توقف أو تردد في إيقاع الصلاة في تلك الزيادة العمرية، ويحرص على أن يدخل إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان في حال حياته، فلما لاحظ هذا منهم قال: (والله! إنه لمسجد رسول الله ولو امتد إلى ذي الحليفة) يعني: كل ما تأتي من زيادة فهي من المسجد النبوي، وأكبر زيادة شهدها المسجد النبوي هي في هذه الآونة، ويمكن أنه بعد مائة أو مائتين أو ثلاثمائة سنة أو أكثر أو أقل تحصل زيادة على هذه الزيادة، ولكن مهما بلغت الزيادة فيه فهي لن تبلغ إلى ذي الحليفة، فقول عمر رضي الله عنه: (ولو امتد إلى ذي الحليفة) يعني: إبعاداً للمدى وأنه مهما قدر اتساعه نظرياً فإنه مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعلى كل فالمؤلف رحمه الله ساق هذا الحديث هنا ليبين فضيلة الصلاة في المسجد النبوي للقادمين الذين يجمعون بين الحج أو العمرة وبين الزيارة إلى المدينة، وهناك مباحث عديدة في هذا الموضوع منها:
إذاً: ينتبه بهذا من ينتبه إلى أن بيته سيصبح قبره، وأنه سيدفن في بيته ويقبر فيه، ولهذا لما التبس على الصحابة: أين يدفنون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن قائل منهم: نرده إلى مكة، ومن قائل: ندفنه في مقابر المسلمين، ومن قائل: يدفن في بيته، فدخل عليهم أبو بكر رضي الله تعالى عنه وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما نقل نبي عن المكان الذي مات فيه، وما مات نبي إلا في المكان الذي يقبر فيه)، فأزاحوا الفراش، وحفروا في المكان الذي مات فيه في حجرة عائشة رضي الله تعالى عنها.
وقد جاءت أخبار عديدة حول هذا، وفي جعله في بيت عائشة حماية له لقوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم! لا تجعل قبري وثناً يعبد) ولولا ذلك لأخرج قبره أي: خارج الحجرة، ولو أخرج لكان هناك ما أشار إليه صلى الله عليه وسلم، فاستجاب الله له، وعصم قبره من أن يكون وثناً يعبد، وأصبح في بيت بعيد عن اللمس، بعيد عن أعمال غير مشروعة، وقد جاء أن عائشة رضي الله تعالى عنها لما تمت القبور الثلاثة كان الناس يأتون إليها في بيتها زيارة، ويأتون ويسلمون على الثلاثة، ويأخذون من تربة المكان.
فبنت جداراً على القبور الثلاثة، واقتصرت على الباقي من الحجرة سكناً لها، والموضوع ذو شعب، ويبقى قول: (صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة...) على العموم، ويأتي النظر في الصلاة في الروضة على ما جاء في فضلها في الرواية المشهورة: (ما بين بيتي ومنبري ) أو: على الرواية الضعيفة: (ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة) وإذا كانت روضة من رياض الجنة فهل تتميز فيها الصلاة عن غيرها من المسجد أو لا تتميز؟
صنيع البخاري يدل على أنها تتميز؛ لأنه ذكرها في عرض سياق فضل المسجد النبوي والصلاة فيه، إذاً: الروضة يكون لها مزية على بقية أجزاء المسجد، يضاف إلى ذلك كثرة صلاة وجلوس رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، وكثرة اجتماع وجلوس أصحابه رضي الله تعالى عنهم حوله فيها، وكثرة ما يكون من الأحاديث ومن الحكمة ومن الوحي الذي كان يتنزل فيها... إلخ.
وقد كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر الصف الأول مع الروضة في ميسرة المسجد؛ لأن الروضة في الميسرة ما بين المنبر وما بين الحجرة، فكان يمكن للإنسان أن يجمع بين الصف الأول وبين الروضة، فهل يا ترى! يحرص الإنسان الآن على إيقاع الصلاة في الروضة لفضيلتها أو يحرص على الصلاة في الصف الأول لفضيلته؟
ونجد أيضاً: أن مع الأحاديث التي جاءت في فضل الصف الأول أحاديث أخرى جاءت في فضل ميمنة الصف، ومنها ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف) وقد حدث في زمن النبي صلى الله عليه وسلم امتلاء ميامن الصفوف وخلو مياسرها نظراً للحث على ميامن الصف، نقول: في العهد النبوي كان الصف الأول والروضة يجتمعان في الميسرة، والصف الثاني والثالث والرابع والخامس يجتمعان في الميسرة مع الروضة، ولكن ميامن الصفوف من الصف الأول فما وراءه ليس فيها روضة، فننظر في ذلك الوقت أي الجانبين كانوا يرجحون الروضة على الميمنة أم الميمنة على الروضة؟
قلنا: بأنه يمكن أن يجمع الإنسان بين الصف الأول والروضة، ولكن لا يمكن أن يجمع بين الميمنة والروضة، فإما أن يكون في الروضة وإما في الميمنة، فنجد عند ابن ماجة : أنهم اشتكوا وقالوا: يا رسول الله! خلت ميسرة المسجد، أي: صارت خالية؛ لأن الناس صاروا يتتبعون الميامن؛ لأن ما في الميامن من الآثار لا تعادلها آثار الروضة، فقال صلى الله عليه وسلم: (من أعمر ميسرة المسجد فله كفلان من الأجر) إذاً: الصحابة رضي الله تعالى عنهم قارنوا بين الروضة وبين الصف الأول، وبين الروضة والميمنة، فقدموا ورجحوا ميمنة الصف على ميسرته ولو في الروضة، فإذا كان الأمر كذلك وقد انتقل الصف الأول عن مستوى الروضة إلى الأمام، فهل نقدم الصف الأول أو نقدم الروضة؟
الصحابة قدموا الميمنة على الروضة، والصف الأول أفضل من الميمنة في الثاني أو الثالث، فإذا كانوا قد قدموا الميامن على الروضة، فمن باب أولى تقديم الصف الأول على الروضة، ولهذا يقول النووي وغيره: إذا كنت تصلي مأموماً تابعاً للإمام فصل حيث انتهى بك الصف، في الروضة في الميمنة أو في الميسرة، في المؤخرة أو في المقدمة، فحيث انتهى بك الصف فصل، وإن كنت تصلي منفرداً أو متنفلاً فتحر الروضة؛ لأن النافلة ليس فيها لا صف أول ولا ميمنة، ولا شك أن موضع الروضة أولى من غيره؛ لأنه قد جاءت فيه تلك الخصيصة.
ثم جاء بحث الإمام ابن تيمية رحمه الله بعد هذا كله، وبعد الزيادات المتكررة والمتعددة من الأمويين والعباسيين وغيرهم، وقال: عثمان رضي الله عنه تقدم وصلى في المحراب الذي في الزيادة الأمامية، حينما وقعت الزيادة من جهة القبلة، وترك الروضة خلفه، وعلي رضي الله تعالى عنه كذلك، وجماعة من الصحابة في عهد الخليفتين الراشدين عثمان وعلي كانوا يتبعونهما في الصفوف الأول مما يلي القبلة، ووراءهم الروضة بعدة صفوف، فيقول ابن تيمية رحمه الله: ليس من المعقول أن الخلفاء الراشدين يتركون الأفضل ويذهبون إلى المفضول، لولا أن الصلاة في الصف الأول على ما هو عليه خارج الروضة أفضل لما داوموا على الصلاة فيه، ولرجعوا إلى الروضة محل مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: على هذا نقول كما قال النووي رحمه الله: الروضة لها فضيلة ذاتية مكانية، والصف الأول وصف ذاتي للصلاة، والنووي عقد فصلاً في أيهما أفضل الفضيلة الذاتية أو الفضيلة النسبية؟
والفضيلة الذاتية هي ما يكون في عين الفاضل، والفضيلة النسبية هي بالنسبة لشيء خارج عنه، ومثل لهذا: بالصلاة في المسجد النبوي منفرداً وقال: إذا فاتتك الجماعة وصليتها منفرداً بالمسجد النبوي فهي بألف، فإذا كنت في طريقك من مسكنك إلى المسجد النبوي، ومررت بمسجد تقام فيه الجماعة لهذه الفريضة، فإن صليت معهم أدركت الجماعة، وإن تركتهم ومضيت إلى المسجد النبوي فاتتك الجماعة فيه، فأنت إن صليت مع الجماعة في مسجد الطريق صلاة عادية فهي بسبع وعشرين درجة، وإن مضيت إلى المسجد النبوي وصليت فيه فهي بألف صلاة، فأيهما أولى: فضيلة الألف من أجل المسجد، أو فضيلة السبع والعشرين درجة من أجل الصلاة؟
ثم قال: إن فضيلة الجماعة فضيلة ذاتية؛ لأنها تتعلق بهيئة الصلاة وكيفية أدائها، وأما مضاعفة الألف فهي للبقعة، إذاً: فهي فضيلة إضافية، أي: أنك اكتسبت الفضيلة في صلاتك من أجل المكان الذي صليت فيه لا من أجل الصلاة، فصلاتك في هذا المكان الفاضل ناقصة عن صلاتك في ذاك المسجد العادي؛ لأن صلاتك هناك كاملة لكونها جماعة.
وكذلك قال في فضل الطواف بالبيت: إذا طفت قرب البيت فسيكون الشوط مثلاً مائتي خطوة، وإذا ابتعدت عن المكان إلى وراء زمزم فسيكون الشوط خمسمائة خطوة، وكل خطوة بحسناتها، فإذا كان طوافك المتسع جداً فيه زيادة حسنات لكثرة الخطوات فإن طوافك بجوار البيت سيكون أقل حسنات؛ لأنه أقل خطوات، وإذا نظرنا إلى أصل الطواف سنجد أن الطواف مختص بالبيت، إذاً: هل الأولى في الطواف أن تقترب من البيت الذي تطوف حوله أو أن تبتعد ولو كثرت الخطى؟ الجواب: كلما اقتربت فهو أولى لأنك تطوف به، وما دمت تطوف به فالصق به، وأما كونك تبعد الدائرة بعيداً وتأخذ الشوط عن سبعة فصحيح أنك تعبت وأن خطواتك أكثر ولكن الذي يطوف بجوار الكعبة أفضل منك؛ لأن الطواف بجوار الكعبة ذاتي في عين الطواف، والطواف من بعيد كثرة الحسنات فيه إضافية لكثرة الخطى.
إذاً: نرجع إلى تفضيل الصلاة بين الصف الأول وبين الروضة فنقول: الصف الأول ذاتي بالنسبة للصلاة؛ لأنه جزء من الجماعة، والروضة نسبية للصلاة؛ لأنها بقعة، فيكون الوصف الذاتي وهو صلاتك في الصفوف الأول أفضل من صلاتك في الروضة؛ لأن الفضيلة في الروضة تدركها بالنسبة للمكان وليس لعين الصلاة، وعلى هذا ينبغي على الإنسان فيما يتعلق بالجماعة أن يحاول الترتيب الذي جاء عنه صلى الله عليه وسلم فيتم الصف الأول فالأول، ويتم ميامن الصفوف كما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف) فيكون التحري للصف الأول أولى من التحري للروضة.
وهناك صور نشاهدها من بعض الجماعات منها: أن منهم من يأتي متأخراً قبل أن تقام الصلاة بلحظات، فيتخطى رقاب الناس من أجل أن يدرك المسجد الأول الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمسجد الذي كان في عهد رسول الله بني على مرحلتين: المسجد الأول الذي كان من جذوع النخل والجريد، وهو الذي على السواري التي فيه خطوط بالطول، وفي وسط الخطوط مثل الوردة، فهذه الأعمدة التي فيها تلك الخطوط هي حدود المسجد النبوي الأول، يتعدى عن المنبر بعمود واحد، ويرجع إلى الشمال حوالي سبعة أعمدة.
والبناء الثاني كان بعد العودة من خيبر، فعند أن ضاق المسجد الأول على الناس وسعه صلى الله عليه وسلم وبناه بالحجر والطين، وجعل السقف من جذوع النخل، ولما بنوه البناية العثمانية الموجودة حالياً كتبوا على رءوس الأعمدة التي هي نهاية المسجد النبوي في السابق: هذا حد المسجد النبوي، وكان في البناء الأول سبعين ذراعاً في سبعين، ثم أصبح في التوسعة الثانية: مائة ذراع في مائة ذراع.
فيأتي بعض الناس من الباب إلى المسجد الأول هو حد مسجد النبي، يعني: مسافة مائتين وخمسين متراً، وكم من صف يتخطى فيه رءوس الناس؟ وهذا عمل مؤذٍ كما قال صلى الله عليه وسلم للرجل الذي جاء يوم الجمعة متأخراً، وأخذ يتخطى رقاب الناس ليدنو من المنبر، فأشار إليه صلى الله عليه وسلم وقال له: (اجلس فقد آنيت وآذيت) آنيت: من الأين وهو الوقت أي: تأخرت، وآذيت لتخطيك رقاب الناس؛ لأن هذا لا ينبغي، فلا ينبغي للإخوان الذين لا يزالون يعتقدون أن الفضيلة مختصة بالمسجد الذي أشار إليه صلى الله عليه وسلم في حياته أن يتأخروا ثم يحاولون الوصول إليه على رقاب الناس، فنقول لمن يتخطى رقاب الناس: إذا كنت تريد المسجد الأول وتريد الروضة فاحضر مبكراً، والأبواب مفتحة أمامك، لا أن تتكئ في بيتك وتشتغل بما يهمك فإذا سمعت النداء جئت مسرعاً وأتيت تتخطى الرقاب فإن هذا لا يجوز لك، وهذا من الذي ينبغي مراعاته فيما يتعلق بآدب المسجد النبوي والصلاة فيه.
وهنا مبحث يرتبط بالحديث: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) خصت المساجد الثلاثة بجواز شد الرحل إليها، وخصت المساجد الثلاثة بمضاعفة الأجر فيها، فلماذا؟
الأرض هي أرض الله، والمساجد كلها بيوت الله، كما قال تعالى: (( وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً [الجن:18] وقال سبحانه: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ [النور:36] وأي مسجد في أقصى الدنيا فهو بيت الله، ولكن كما أن الله سبحانه وتعالى اختص جزءاً من المسجد النبوي بأن كان روضةً، وهذا جزء من الأرض بصرف النظر عن المعاني التي قيلت فيه، واختص الله سبحانه وتعالى بقع المساجد الثلاثة دون غيرها، واختص الله مكة والمدينة وفضلهما على بقية البلدان، وحتى في الزمان فإن الله قد اختص شهر رمضان وجعل ليلة فيه خيراً من ألف شهر، واختص يوم الجمعة واختص فيه ساعة، واختص يوم عرفة وهو خير يوم طلعت عليه الشمس، إذاً: هناك اختيار من الله وتفضيل لبعض أجزاء الكل على بعضه، فاختار ساعةً من أربع وعشرين ساعة، وليلةً من ليالي السنة، ويوماً من أيام السنة، وشهراً من شهور السنة، وهكذا يختارها الله ويفضلها، كما اختار من بعض البشر رسلاً وفضلهم على كثير من العالمين.
فقالوا: إن سبب مضاعفة الصلاة في هذه المساجد الثلاثة وجواز شد الرحل إليها لأنها هي المساجد المقطوع بعينها، ولو جئت إلى أي مسجد في العالم؛ كمسجد موسى أو مسجد هارون أو مسجد نوح فكلها خاضعة للنظر من حيث سبب تسميتها ومن قام على بنائها، وأما الثلاثة فهي مقطوع بها؛ ولأن هذه الثلاثة اشتركت في عناصر أساسية:
اشتركت في كون اختيار مكانها من الله، قال تعالى: وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ [الحج:26] وقال صلى الله عليه وسلم: (دعوها فإنها مأمورة) وفي الأثر أن الله قال لداود عليه السلام: (ابن لي بيتاً في بيت المقدس حيث ترى الفارس المعلم شاهراً سيفه) فالله تعالى هو الذي عين أماكن المساجد الثلاثة، ثم قام على بنائها أنبياء ثلاثة: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ [البقرة:127] ومعه إسماعيل، والمسجد النبوي بناه النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أصحابه، وكانوا يقولون عند البناء:
لئن قعدنا والنبي يعمل لذاك منا العمل المضلل
فكانوا يحملون الحجارة ويحمل معهم. إذاً: النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي خطط وبنى المسجد النبوي، وكذلك مسجد بيت المقدس بناه نبي الله داود، فكون اختيار المكان، وإقامة البناء والإشراف عليه من رسل الله بتوجيه من الله جعل لهذه المساجد فضيلةً على غيرها.
والحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر