الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، أما بعد:
قال المؤلف رحمه الله: [ وعن المسور بن مخرمة رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحر قبل أن يحلق، وأمر أصحابه بذلك) رواه البخاري ].
يسوق المؤلف رحمه الله حديث المسور بن مخرمة رضي الله تعالى عنه وفيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر قبل أن يحلق وأمر أصحابه بذلك) وكون النبي صلى الله عليه وسلم نحر ثم حلق هل هذا الفعل المخبر عنه والذي أمر به الصحابة كان في صلح الحديبية أو كان في حجة الوداع؟
فيه خلاف، وأكثر العلماء على أن ذلك كان في صلح الحديبية. وقد تقدم التنبيه على أن ترتيب أعمال يوم العيد تكون كالآتي: الرمي فالنحر فالحلق فالإفاضة، وما سئل صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم عن شيء قدم أو أخر إلا وقال: (افعل ولا حرج) فإذا كان الأمر كذلك وأنه ما سئل عن شيء قدم أو أخر إلا قال: (افعل ولا حرج) ، فلماذا يأتي المؤلف بعد ذلك بهذا الحديث الذي فيه : (أن الرسول صلى الله عليه وسلم نحر قبل أن يحلق، وأمر أصحابه بذلك)؟
فإن كونه فعل هذا الفعل المرتب وأمر أصحابه به يغاير قوله: (افعل ولا حرج)؛ لأنه هناك قدم هذا وأخر ذاك، وأخر هذا وقدم ذاك فقال لكل من سأله: (افعل ولا حرج)، وظاهر هذا وجوب الترتيب، وهنا: فعل وأمر فكيف يكون الجمع بين الحديثين؟ الجواب: يقول العلماء: إن هذا الترتيب وهو تقديم النحر على الحلق كان في صلح الحديبية، وهذا شأن المحصر عن الحج، وسيأتي للمؤلف: (باب الإحصار)، والإحصار هو : المنع، وسواء كان الإحصار بعدو أو كان بمرض، على ما سيأتي تفصيله إن شاء الله، فيقول العلماء: إن قوله: (افعل ولا حرج) هذا في الحج، حينما يقع النسيان أو السهو أو الجهالة، أما في الإحصار فيتعين أن ينحر أولاً ثم يحلق ثانياً، وليس فيه: (افعل ولا حرج).
إذاً: سوق المؤلف لهذا الحديث الذي فيه الترتيب في تقديم النحر وتأخير الحلق مغاير لما تقدم من قوله: (افعل ولا حرج) فقال العلماء: الجمع بين هذا وذاك: أن (افعل ولا حرج) مع العذر بالنسيان أو الجهالة هذا في الحج، وأما الترتيب فيكون في حالة الإحصار، والله تعالى أعلم.
وقد قدمنا قضية الدعاء للمحلقين عند قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم! ارحم المحلقين -ثلاثاً-) وبينا أن ذلك اختلف فيه أيضاً: هل كان ذلك الدعاء في صلح الحديبية أو كان في حجة الوداع؟ وبينا أنه في صلح الحديبية، وأن السبب في ذلك والمرجح لكونه في صلح الحديبية أنه أمرهم فتوانوا في العمل، فدخل خيمته وهو مغضب، فقالت له أم المؤمنين أم سلمة رضي الله تعالى عنها: (لا عليك، خذ المدية واخرج ولا تكلمن أحداً، واعمد إلى هديك فانحره، ثم ادع الحلاق فاحلق) يعني: أنه نحر أولاً، ثم حلق ثانياً، ثم أمر أصحابه بذلك.
إذاً: هذا الحديث إنما يتعلق بحالة الإحصار، والإحصار سيأتي له باب مستقل.
إذاً: التحلل الأكبر من كل شيء يكون بفعل ثلاثة أشياء، والتحلل الأصغر بفعل اثنين من هذه الثلاثة.
وهنا ذكر الرمي والحلق، فلو أنه رمى ولم يحلق ونزل إلى مكة وطاف طواف الإفاضة فكذلك حلّ له ما جاء في هذا الحديث: (كل شيء إلا النساء) وهنا في هذا الحديث ذكر الطيب، وهذا يؤيد حديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه حين يحرم، ولإحلاله حينما يحل) ، قالوا: كيف تطيبه وهو لم يكتمل له التحلل الأكبر؟! لأن كثيراً من الفقهاء يلحق الطيب بالنساء؛ لأن الطيب من شأنه أن يثير الغريزة إلى النساء؟ فقالوا: منع المحرم من الطيب حتى لا تكون هناك عوامل إثارة، وإلا فإن الطيب شيء طيب، ومقبول للنفس، لكن لما كان له هذا الأثر، والمحرم محرم عليه النساء فكان تحريمه سداً للذريعة ومنعاً للإثارة، ولكن هنا يقول صلى الله عليه وسلم: (فقد حلّ له الطيب وكل شيء إلا النساء).
إذاً: لا يحق للمحرم أن يمس النساء إلا إذا تحلل التحلل الأكبر وفعل الأمور الثلاثة، وعلى هذا إن فعل اثنين من ثلاثة فقد تحلل التحلل الأصغر، وإن فعل الثلاثة كاملة فهو التحلل الأكبر، وأما الحديث الذي عند أبي داود وفيه: (من لم يطف ذلك اليوم رجع كما كان) فهذا الحديث يرد عليه؛ لأنه إذا رمى وحلق فقد حل له كل شيء إلا النساء، ولم يحدد هذا التحلل بزمن من الأزمنة سواءً طاف في ذلك اليوم أو لم يطف، فإذا رمى وحلق وأخر الطواف إلى أن ينتهي من أيام منى فلا مانع في ذلك، فإن له أن يرمي ويحلق ويجلس أيام التشريق كلها في منى ولا ينزل إلى مكة، إذا كان يريد أن ينزل ويطوف طواف الإفاضة ويسافر، فهذا يجزئه حتى عن طواف الوداع، وعلى هذا فتأخير طواف الإفاضة لا يمنعه من أن يتحلل التحلل الأصغر، والتحلل الأصغر هنا سيتحقق في لبس الثياب، ومس الطيب، وتقليم الأظافر، وأما ما عدا ذلك كأمر النساء فهو ممنوع منه، وكذلك الصيد ممنوع منه في مكة. والله تعالى أعلم.
تقدمت مباحث الحلق والتقصير، والمفاضلة بينهما، والقدر المجزئ في الحلق أو في التقصير، وهذا بصفة عامة، والمرأة هي شريكة الرجل في الحج، من أول كل شيء فيه إلى آخره، ما عدا ما استثنيت منه كنوعية اللباس والرمل والسعي -أي: الإسراع- فهي لا ترمل ولا تسرع بين الصفا والمروة؛ لأن هذا يخرجها عن وقارها وما يجب الحفاظ عليه من عفتها وسترها، وما عدا ذلك فهي مثل الرجل، إن تمتعت وإن أفردت وإن قرنت بين الحج والعمرة، فعدد طوافها، وعدد سعيها، وعدد حصيات رميها ومقدار الفدية، كل ذلك تستوي فيه مع الرجل، وكذلك في التحلل فإن رمت وقصرت من شعرها فقد تحللت التحلل الأصغر، وإن طافت فقد تحللت التحلل الأكبر، وإذا كان زوجها معها فقد أصبحا معاً حلالاً.
وهنا جاء بهذا الحديث وفيه: أنه ليس على النساء حلق؛ لأن الحلق في حق النساء مثلة، عياذاً بالله! وإنما عليهن التقصير.
إذاً قوله تعالى: مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ [الفتح:27] تنطبق على الرجال (محلقين) وعلى الرجال والنساء (مقصرين) لأن الرجال كذلك يحلقون ويقصرون.
وقد أشرنا إلى أن بعض العلماء يورد نقاشاً في هذا ويقول: لو حلقت المرأة مثل الرجل فهل هذا يجزئها؟ الجواب: لا يجوز لها الحلق، فإذا تجاوزت وفعلت فأنا أقول: إنها تكون آثمة؛ لأن هذا بالنسبة للمرأة مثلة ولا يجوز ذلك.
السقاية كانت من خصائص العباس ، والرفادة كانت خصائص تختص بها بعض قبائل قريش، فكان العباس رضي الله تعالى عنه من أصحاب السقاية، والسقاية هي: أنهم كانوا يجمعون الماء -ماء زمزم- في أحواض كبيرة من الحجر المنحوت، وكانوا يجمعون طوال السنة من الزبيب ومن التمر ما يضعونه في هذا الماء الذي يجعلونه في تلك الأحواض قبل الشرب بزمن -بست ساعات أو بعشر ساعات، أو باثنتي عشرة ساعة، أو بأربع وعشرين ساعة، ما لم يتغير ويصير نبيذاً- وكان هذا يعطي ماء زمزم نوعاً من الحلاوة؛ لأن بعض الناس ربما كان ماء زمزم فيه ملوحة عنده أو فيه ثقل عليه، أو أن هذا نوع من إكرام الحجيج عندهم، فكانوا يتكلفون ذلك، واستمرت سقاية العباس على الماء والتمر والزبيب، وكان بعض المتبرعين الآخرين لهم سقايات تبرعوا بها، وربما وضعوا العسل في الماء، وربما جاءوا باللبن، فسأل رجل الفضل بن العباس وقال: ما بال الناس يضعون في الماء العسل واللبن، وأنتم تضعون التمر والزبيب أمن قلة عندكم أم من بخل؟ فقال: والله! يا ابن أخي! ليس هذا من قلة عندنا ولا من بخل، ولكن أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم مردفاً أسامة بن زيد وقال: (اسقوني، فقال
فسحبوا له بالدلو وأعطوه الدلو فشرب منه، وهناك جاء أن العباس سقاه مما يشرب الناس من تلك الأحواض. إذاً: السقاية كانت من زمزم، وكان الأصل فيها للعباس ، وكان يحلي ماء زمزم بالزبيب وبالتمر الذي كان يجمعه طوال العام، وكان آخرون ربما وضعوا مع زمزم العسل أو اللبن، أو يسقون اللبن خالصاً في ذلك اليوم، وكل ذلك كانوا يفعلونه إكراماً وتوسعة على الحجيج.
وحينما ينزل الناس لطواف الإفاضة كان بعضهم ربما ينزل في الليل، فكانت السقاية تحتاج إلى عمل مستمر، فإذا بات العباس في منى ربما تعطل عمل السقاية، فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل عمل السقاية، فأذن له صلى الله عليه وسلم.
وهنا بحث للعلماء: هل من عمل سقايةً في مكة، مثل أن يأتي بالشراب، كشراب التوت أو شراب المانجو، أو جعل سقايةً كبيرةً ليسقي الناس منها، فهل له ذلك؟ الجواب: قالوا: إنه لا مانع من ذلك، فإذا وسع الله على إنسان وأخذ برميلاً كبيراً ووضعه في مكة حول زمزم، وكلما ينتهي برميل يأتي ببرميل آخر فيجوز له ذلك. ونحن نرى الآن أنهم يوزعون الخبز ويوزعون الماء ويوزعون أشياء كثيرة، فلو أن إنساناً فعل ذلك خدمة للحجاج، أيحق له أن يستأذن في المبيت بمكة ليالي منى؟ وهل يؤذن له؟ وإذا بات بمكة تلك الليالي فهل يسقط عنه وجوب المبيت؟
الجواب: هناك من يقول: لا مانع قياساً على العباس ، وهناك من يقول: لا يجوز؛ لأن هذه كانت وراثةً اختص بها العباس ، وليس لأحد أن يستأذن بعد ذلك، ولكن أعتقد أن في هذا تحجيراً، وقد أشرنا إلى أنه يجوز لكل من كان له عمل في خدمة الحجاج بصفة عامة، كالطبيب الذي يعمل في المستشفى في مكة، أو الفران الذي يخبز الخبز في مكة ويهيئه ويرسله إلى أهل منى، أو من نزل بمكة كأصحاب الكهرباء، وأصحاب المياه، والطوارئ، والأعمال العامة التي يحتاجها الحجاج في مكة، فلو أن صاحب هذا العمل ترخص وبات بمكة من أجل العمل الذي يخص الحجاج فنقول له: لا بأس؛ لأنها خدمة عامة، ولم ينزل لخدمته الخاصة.
ويقولون: إن ابن عمر استأذنه رجل من أجل مال له بمكة؛ لأنهم كانوا يأتون للحج وللتجارة أيضاً، وكانت المزدلفة سوقاً، وكان هناك سوق عكاظ ومجنة، وكانوا يأتون من الشحر وعمان ومن غيرهما ليتاجروا، وكل هذه كانت أسواقاً للعرب، وإلى عهد قريب كان في منى شارع اسمه (سوق العرب) وهذه الأسواق كانت في الجاهلية، وكانوا يأتون بتجارات إلى الحج، فرجل قال لـابن عمر : أنا عندي مال بمكة، قال له: السنة المبيت بمنى، ولم يأذن له، فهنا نقول: لم يأذن له لإنها مصلحة خاصة به في تجارته، وأما إذا كانت في خدمة الحجاج فلا بأس في ذلك، والله تعالى أعلم.
نحن نعلم جميعاً أن الوسيلة الخاصة التي كانت للنقل هي الإبل، حتى الخيل لم تكن تصلح للأسفار؛ لأن الخيل نفسها ومداها قريب، وأما الإبل فمعها سقاؤها وخزانها في جوفها، ويمكن أن تصبر عن الماء أربعة أيام؛ لأنها تحمل ماءها في جوفها، وخالد بن الوليد لما قطع المفازة من العراق إلى الشام، أخذ بعض الإبل العجاف وعطشها ثلاثة أيام، ورواها بالماء، ثم ربط على أفواهها حتى لا تجتر، وكانوا في المفازة إذا احتاجوا الماء نحروا تلك الإبل العجاف، وأخذوا الماء الذي في جوفها وسقوا به الإبل والخيل الأخرى، يفعلون هذا لعدم وجود ماء في المفازة، ثم يأكلون لحمها، فالإبل كما يقولون: (سفينة الصحراء) فهؤلاء الحجاج كم من الإبل التي يأتون بها إلى الحج؟ كل واحد على بعير، أو كل اثنين على بعير، فضلاً عن أن تحمل بعضها الضعائن في هوادجها، فإذا حصل هذا العدد الكثير من الإبل، وكل إبل عليه هودج، فأين المساحة التي تأخذ هذا العدد كله؟
فهي تحتاج إلى حيز، ولذا فإن الرسول صلى الله عليه وسلم من أجل أن لا تزدحم منى بالإبل وهوادجها، قال للرعاة: خذوها واذهبوا بها بعيداً عن منازل الناس؛ وهذا لمصلحتين:
الأولى: أن الإبل تجد في الخلاء مرعىً ترعاه، الثانية: أن منى يخف الزحام فيها من الإبل ومن حمولاتها، كما يعملون الآن من حجز السيارات الصغيرة لئلا تزحم الناس في منى، وحتى يخففوا كثيراً من الأزمة، إذاً: هذا تنظيم من النبي صلى الله عليه وسلم -كما يقال- لحركة المرور، من أجل كثافة السكان، ولكن الذي يهمنا: أن هؤلاء الرعاة كانوا رعاة وكانوا محرمين، لأنهم يرمون، والذي يرمي معنى ذلك أنه حاج، إذاً: لا مانع من كون الحاج يزاول عملاً، سواءً كان رعاية الإبل، وسواءً كانت قيادة السيارة، وسواءً كانت قيادة الطائرة، أو أي عمل يزاوله فلا مانع من ذلك، وكذلك له أن يبيع ويشتري ويصنع، وإذا كان الحجاج يأتون بهذه الأعداد الهائلة من الإبل فهم أصناف شتى، فمنهم من يصنع طعامه، ومنهم من هو كسلان أو تعبان لا يقدر أن يعمل طعاماً فإذا وجد من يبيع الطعام في القافلة فسيشتري؛ لأنه لا مانع من أن يحرم للحج وأن يعمل في سفره وفي طريقه إلى الحج، قال تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:198].
وإنما الخلاف فيما إذا كان إنما حج ليتجر، أو اتجر ليحج، فإذا كان اتجر ليحج أي: ليربح ويستعين بربح تجارته على مصاريف الحج فلا مانع في ذلك، وأما إذا حج من أجل أن يحصل على الربح فقط فهذه ناحية ثانية، إذاً: الرعاة هم عمال يرعون الإبل، ويقودونها وقت السفر، فأذن لهم صلى الله عليه وسلم أن يرحلوا بإبلهم إلى خارج منى؛ لترعى من عشب الأرض ونباتها، ولتتسع أرض منى للحجاج.
وهكذا كل من ترخص وكان في الخدمة العامة فإنه يأتي للرمي ويسمح له في عدم المبيت بمنى، وليس عليه فداء؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمر العباس ولم يأمر الرعاة بأن يكفِّروا أو أن يفدوا أو أن يجبروا عدم مبيتهم بمنى حينما أذن لهم، والله تعالى أعلم.
أبو بَكْرَة أو أبو بَكَرَةَ ، هذا الصحابي من أهل الطائف، ولما حاصر النبي صلى الله عليه وسلم أهل الطائف تدلى إليه هذا الصحابي رضي الله عنه، فقيل: جاء بحبل وبَكَرَة ونصبهما على السور ونزل بالحبل مع البَكَرَة، ولهذا يقال له: أبو بَكَرَة ، وقيل: كانت بَكْرَة -وهي: أنثى الإبل- واقفةً بجوار السور، فتدلى من على السور على ظهر البكرة ثم نزل إلى الأرض، ومن هنا قيل له: أبو بَكْرَة ، وأصبحت هذه كنيته.
قال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبنا يوم النحر)، يريد المؤلف أن يبين بإيراده هذا الحديث أن الرسول خطب في يوم النحر؛ لأن هناك من الأئمة من يختلفون في عدد خطب الحج التي خطبها صلى الله عليه وسلم، فالمتفق عليها خطبتان: الأولى: أنه خطب في يوم سابع ذي الحجة وبين للحجاج ما يلزمهم عمله في غدهم أي: في يوم التروية، فبين لهم أنهم سيخرجون من الغد (يوم التروية) قبل الزوال إلى منى، وكان يسمى يوم التروية؛ لأنهم كانوا يأتون بالقرب فيملئونها، وقد كانوا قبل هذا اليوم يشربون من الماء الحاضر والقرب فارغة، فإذا جاء هذا اليوم فإنهم من الصباح يضعون القرب في الماء، حتى تلين ثم يملئونها بالماء ويصحبونها معهم في صعودهم إلى منى، فسمي لذلك هذا اليوم يوم التروية، فبين لهم أنهم سيذهبون إلى منى قبل الزوال، ويصلون الفروض الخمسة بمنى، ثم يخرجون من منى صبيحة يوم عرفة بعد طلوع الشمس.... إلى آخره، هذه أول خطبة.
الخطبة الثانية: خطبة يوم عرفة، وهاتان الخطبتان وقع عليهما الإجماع.
وبعد هذا يأتي الخلاف في خطبتين: خطبة يوم النحر، وخطبة ثاني أيام العيد الذي هو أول أيام التشريق، فهاتان حصل فيهما الخلاف، والجمهور على أن الخطبة التي ذكرها أبو بكرة هنا كانت في يوم العيد، وإلى هذا أشار المؤلف، ومنهم من يقول: إنها كانت في ثاني أيام العيد، وهناك من يقول: إنه خطب في اليومين، وهو مذهب الشافعي ، وعلى هذا تكون الخطب أربع، أي: أنه خطب في يوم السابع، وفي يوم عرفة، وفي يوم العيد، وفي أول أيام التشريق، وهناك من يقول: الخطب ثلاث، ثم يختلفون في الثالثة هل كانت في يوم العيد، أو في أول أيام التشريق؟
إذاً: الخطب المتفق عليها في الحج هي: خطبة يوم سابع ذي الحجة، وخطبة يوم عرفة، وخطبة أحد اليومين: يوم العيد أو ثاني أيام العيد، فهذه ثلاث متفق على أنه خطبها، وإنما اختلف في موقع الثالثة، ولذا يقول الشافعي: خطب في اليومين يوم العيد وأول أيام التشريق، وعلى هذا فالخطب عند الشافعي أربع، وعند الجمهور ثلاث. والله تعالى أعلم.
تقدم حديث أبي بكرة : (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر) ويوم النحر هو يوم العيد، وهنا تقول سراء : (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الرءوس) ومعنى الرءوس: أنهم كانوا في يوم النحر ينحرون الهدي والأضحية، فيأكلون منها لحماً طرياً، وفي الغد يرجعون على الرءوس، فالرءوس كانوا يتركونها في يوم العيد؛ لأنهم ليس لهم بها حاجة، ولما ينتهي لحم الضحايا والهدي يرجعون إلى رءوس ذبائحهم فيأكلونها، فسمي اليوم الثاني من أيام العيد وهو اليوم الأول من أيام التشريق يوم الرءوس.
إذاً: أبو بكرة أثبت خطبة في يوم النحر، وهذه الصحابية أثبتت خطبة في ثاني أيام النحر وهو أول أيام التشريق، إذاً: ثبت عندنا الآن خطبتان: خطبة في يوم النحر، وخطبة في يوم الرءوس، وأما خطبة سابع ذي الحجة، وخطبة يوم عرفة فهما مجمع عليهما عند الجميع، وإنما الخلاف في الخطبة الثالثة هل كانت في يوم العيد أو في أول أيام التشريق؟ وهنا ساق الأمرين، وعلى هذا تكون الخطب أربع.
قوله: (أليس هذا أوسط أيام التشريق؟!) يقولون: الأوسط بمعنى الأفضل؛ لأن هذا هو أول أيام التشريق، أو أن هذا على اعتبار أن يوم العيد من أيام التشريق وأنهم كانوا يشرقون اللحم وينشرونه على الحبال أو على الصخور حتى يجف ثم يأخذونه وهو المسمى بالقديد، إذاً: عينت لنا خطبة في يوم الرءوس، وهو أوسط أيام التشريق، وعلى هذا فهما خطبتان: خطبة في يوم النحر، وخطبة في يوم الرءوس الذي هو أوسط أيام التشريق.
هذه المسألة تتعلق بأعمال القارن، ففي أول مجيئه صلى الله عليه وسلم إلى الحج بعد أن سعى بين الصفا والمروة أمر من لم يسق الهدي بالتحلل، فسئل عن ذلك فقال: (دخلت العمرة في الحج هكذا وشبك بين أصابعه) فقالوا: دخول العمرة في الحج أي: أعمالها؛ كإحرامها وطوافها وسعيها وتحللها، فتدخل ضمن أعمال الحج، وقيل: دخلت العمرة في الحج أي: في أشهر الحج التي كانوا يمتنعون أن يعتمروا فيها. وهنا يتفق العلماء على أن المفرد بالحج والمتمتع بالعمرة إلى الحج أن لعمرتهما أعمالاً مستقلةً لا تشترك مع الحج في شيء، وأن للحج أعمالاً مستقلةً لا تشترك مع العمرة في شيء، فالمتمتع يبدأ بالطواف بالبيت طواف العمرة؛ لأنه ركن فيها، ثم يسعى بين الصفا والمروة وهذا السعي ركن في العمرة، ثم يحلق أو يقصر وبهذا تنتهي عمرته، ويصير حلالاً، فإذا جاء يوم الثامن (يوم التروية) أحرم للحج، وصعد إلى منى، فعرفات فمزدلفة فمنى فالعقبة، ثم نزل وطاف بالبيت، وهو قد طاف بالبيت قبل ولكن للعمرة، وسعى بين الصفا والمروة ولكن للعمرة، وأما هنا فهو يطوف طواف الإفاضة للحج، ويسعى بين الصفا والمروة للحج، ثم يحلق أو يقصر للحج.
إذاً: المتمتع والمفرد كل منهما له عمل مستقل لا يشترك مع الثاني في شيء، وأما القارن فقالوا: إن عمل القارن هو بعينه عمل المفرد، والعمرة تدخل ضمن أعمال الحج، فيأتي المفرد أول ما يأتي بالطواف بالبيت طواف القدوم، وكذلك القارن إن شاء سعى بعد طواف القدوم سعي الحج والعمرة مقدماً، ثم يبقى على إحرامه إلى أن يذهب إلى منى ثم عرفات ثم مزدلفة ثم منى ثم يرمي الجمرة، ثم ينزل إلى البيت ليطوف طواف الإفاضة للحج وللعمرة؛ لأنه ركن، ولا يعيد السعي؛ لأنه قد سعى أولاً بعد طواف القدوم، وسعي العمرة قد دخل مع سعي الحج، ثم يحلق عنهما معاً.
وهنا الأئمة الثلاثة: مالك وأحمد والشافعي وأهل الحديث يقولون: عمل العمرة في القران يدخل في أعمال الحج، فيطوف لهما طوافاً واحداً، ويسعى لهما سعياً واحداً سواءً بعد طواف القدوم أو بعد طواف الإفاضة، يعني: الطواف الذي هو الركن والسعي الذي هو الركن للقارن واحد لا يتكرر.
وأما الإمام أبو حنيفة رحمه الله وبعض الطوائف الأخرى فيقولون: للحج طواف وسعي، وللعمرة طواف وسعي، فإذا كان المحرم قارناً ونزل ليطوف طواف الإفاضة قالوا: يطوف طوافين: واحداً للحج وواحداً للعمرة، ويسعى سعيين: سعياً للحج وسعياً للعمرة، هذا عند الإمام أبي حنيفة رحمه الله، ويستدل على ذلك بقوله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196] وإتمام كل منهما يكون بالإتيان بأركانه مكتملة، فإذا اكتفيت بطواف واحد، وبسعي واحد فهذا الواحد لأيهما يكون؟ إن كان للحج فستكون العمرة ناقصة، وإن كان للعمرة فسيكون الحج ناقصاً؟ نقول في الجواب على هذا: إذا كان هذا هو ظاهر نص القرآن الكريم فقد جاء بيانه من رسول الله صلى الله عليه وسلم صريحاً صحيحاً، والسنة تفسر القرآن، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (خذوا عني مناسككم) وهو صلى الله عليه وسلم كان قارناً في حجه، فلم يكرر الطواف، ولا السعي، وإنما اقتصر على طواف واحد، وعلى سعي واحد، وأجزأه ذلك عن حجه وعمرته معاً.
وعائشة لما طلبت منه أن تعتمر عمرة مستقلة، قال لها: تكفيك عمرتك في حجك، ويكفيك طوافك وسعيك عن الحج والعمرة، يعني: أن العمرة قد انتهت بانتهاء الحج، وقد دخلت معه، وقد انتهيت من الاثنين، فقالت: لا، أريد عمرة... الحديث، والذي يهمنا أنه قال لها: (طوافك بالبيت، وسعيك بين الصفا والمروة يكفيك لحجك وعمرتك) وهل نقول بعد هذا: لابد من طواف خاص وسعي خاص للعمرة؟! أعتقد أن هذا نص صريح في محل النزاع رافع للإشكال.
يذكر لنا المؤلف في هذا الحديث حكم طواف الإفاضة، وقد ذكر لنا أنه رمل في طواف القدوم، وهنا في طواف الإفاضة الذي هو ركن هل يرمل أو لا يرمل؟ ذكر لنا حديث ابن عباس وفيه : (أنه لم يرمل صلى الله عليه وسلم في طواف الإفاضة)، ولماذا لم يرمل؟ لأن الرمل كما يقول الفقهاء: إنما يكون في طوافٍ يعقبه سعي، وهذه قاعدة عامة، والرسول قد سعى قبل عرفات، إذاً: من طاف طواف القدوم وسعى سعي الحج بعد القدوم، وبقي عليه طواف الإفاضة فقط فليس عليه أن يرمل في طواف الإفاضة، وهذه هي السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك طوف الوداع لا رمل فيه، حتى قال بعض الناس: طواف الوداع ليس من الحج، وإنما هو من حق البيت؛ لأن الحج قد انتهى عند رمي الجمار، وعند النزول من منى بدليل أن من حج وجلس في مكة ولم يغادرها، وسكن فيها، فإنه لا وداع عليه؛ لأنه جالس عند البيت.
إذاً: طواف الإفاضة لا رمل فيه لمن سعى قبله، وطواف الوداع لا رمل فيه؛ لأنه خارج عن أعمال الحج، وإنما هو من تتمة تكريم البيت أن يوادعه الإنسان قبل أن يخرج منه.
لما انتهى صلى الله عليه وسلم من طواف الإفاضة، ورجع إلى منى أين صلى الظهر؟ اختلف في ذلك، فمن قائل: صلى الظهر بمكة؛ لأنه دخل وقتها وهو فيها، ومن قائل: رجع إلى منى وصلى الظهر فيها، ومن قائل: صلى بمكة حينما دخل الوقت، ثم لما رجع إلى منى وجدهم ينتظرونه فصلى بهم، وعلى كل فقد بقي أيام التشريق كلها في منى ولم يتعجل، وانتهى من منى برمي الجمار، ولما نزل من منى لينصرف إلى المدينة نزل بالأبطح، يقولون: فصلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالأبطح، وكيف صلى الظهر مع أن وقت الرمي بعد الزوال؟ قالوا: أخر الظهر حتى أتى الأبطح فصلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء ونام، والأبطح كما نعلم هو: في جهة المعلاة، وكان يقال له: خيف بني كنانة.
وهنا سؤال عند العلماء في نزوله بهذا المكان (المحصب) أو (خيف بني كنانة): هل هذا النزول من مناسك الحج ومن أعماله، أو أن هذا كان أسهل وأيسر للسفر؟ سيأتي عن عائشة أنها لم تكن تنزل فيه، وكانت تقول: إنما نزل بالمحصب ليكون أيسر لدفعه، أي: للسفر؛ لأنه يقع خارج مكة والنزول فيه أيسر من أن ينزل في الزحام داخل مكة، وهناك من يقول: إنما قصد النزول في هذا المكان ليشهد هذا المكان ذكر الله والعبادة والنسك، كما شهد كتابة الصحيفة الظالمة، تلك الصحيفة التي كتبت في مقاطعة بني هاشم، وعلقت بالكعبة؛ فهي إنما كتبت في هذا المكان، فكما شهد هذا الموضع في أوائل البعثة مشهد ظلم وجور بكتابة صحيفة المقاطعة فيه، فليشهد عوضاً عنه مشهد ذكر لله وعبادة.. إلخ.
إذاً: بات صلى الله عليه وسلم عند خروجه بالأبطح كما بات عند الدخول بذي طوى، فهو عند دخوله مكة بات في أولها، ولما أصبح دخل مكة في النهار، وعند الخروج بات في أول مكة في الأبطح، وذو طوى في أولها من جهة المدينة، والأبطح في أولها من جهة منى، وكان هذا المبيت من باب التيسير، وعائشة رضي الله تعالى عنها لم تكن تفعله بعد ذلك، وعلى ما قدمنا فهل هو جبلي ومصلحة للنفر، أو هو تتمة للنسك؟ القول الأولى أنه كان لمصلحة خاصة بعيدة عن النسك، ولا حرج على الإنسان إذا لم يبت فيه، فإن شاء استراح فيه وبيت، وإن شاء مضى إلى سبيله.
قال المؤلف رحمه الله: [عن عائشة رضي الله عنها أنها لم تكن تفعل ذلك -أي: النزول بالأبطح- وتقول: إنما نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان منزلاً أسمح لخروجه. رواه مسلم ].
أي: كان مكاناً أسمح وأريح لخروجه من مكة، بدل أن يدخل ويخرج من وسط البيوت. والله تعالى أعلم.
قول ابن عباس : (أمر) الآمر هنا والذي يملك الأمر في هذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذاً: فالأمر للوجوب، (ولكنه خفف) والتخفيف لا يكون إلا من تكليف.. (عن الحائض والنفساء) لأن الحائض لا تطوف بالبيت، والنفساء لا تطوف بالبيت، فلا نحبسهما على شيء ليس بأيديهما.
إذاً: طواف الوداع واجب إلا من عذر الحيض أو النفاس، ومن ترك طواف الوداع فماذا عليه؟
جاء عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه كان يرد من لم يوادع إذا كان قريباً من مكة، ويأمره أن يرجع فيوادع ثم يواصل سفره، وإذا كان قد ابتعد عن مكة تركه، وقد اختلف الأئمة في هذه المسألة، فـمالك يقول: ليس عليه شيء، والأئمة الثلاثة يقولون: إن تركه قاصداً فعليه دم؛ لقول ابن عباس : (من ترك نسكاً فليرق دماً).
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر