هذا الحديث وهو حديث حرمة مكة يتناول عدة مسائل، ولنأخذ الحديث جملة جملة، ثم سنأخذ بعض الجوانب التي تحتاج إلى تنبيه وييسر الله تعالى أمرها.
لقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة بعشرة آلاف، ودخل من أعلاها، فحينما أراد الدخول قالوا: من أين تدخل يا رسول الله؟ لأن مكة لها مدخلان كَداء وكُداء، فقال: (انظروا ماذا قال
عدمنا خيلنا إن لم تروها تثير النقع موعدها كَداء
فدخلوا من حيث قال حسان، والفقهاء يرمزون لهذا بقولهم: افتح وادخل، واخرج وضم، أي: افتح الباب، كناية عن فتح الكاف في كَداء، واخرج وضم، أي: اخرج وأغلق الباب، كناية عن ضم الكاف في كُداء.
فدخل صلى الله عليه وسلم من كَداء، وأرسل خالد بن الوليد رضي الله عنه وجماعة آخرين من الجهة الأخرى، فوجد خالد بعض الأشخاص المتحمسين من مكة، فتناوشوا، فيقول والدنا الشيخ الأمين رحمة الله علينا وعليه: من قال: إنها فتحت عنوة، نظر إلى قتال خالد مع من اعترضه، ومن قال: إنها فتحت صلحاً، نظر إلى دخول النبي صلى الله عليه وسلم بدون قتال، وقال: (من دخل البيت فهو آمن، ومن دخل دار
إذاً: فتح الله على رسوله مكة، والناظر في تاريخ العالم لا يجد فيما يسمى بحركات الإصلاح أسرع من حركة الإصلاح في الإسلام، فإن الفتح كان في السنة الثامنة من الهجرة، وقبل ثمان سنوات خرج النبي صلى الله عليه وسلم ثاني اثنين إذ هما في الغار، وخرج متخفياً عن قومه ولجأ إلى الغار ثلاثة أيام، ثم خرج إلى الصحراء وكان يسير ليلاً ويقف نهاراً خشية الطلب، ثم بعد ثمان سنوات يرجع إلى مكة فاتحاً ويدخلها بعشرة آلاف مقاتل، هذا لم يحدث له في التاريخ نظائر أبداً.
فقد كانوا في يده، وكان بإمكانه أن يحكم بأخذهم أسارى، ولكن أطلقهم لله وصلة للرحم، ووفاء للموطن، ولأشياء عديدة لا يمكن حصرها في هذا المقام.
فجمع الجيش وأخذ الفيل وتوجه إلى الحجاز، وعندما وصل الطائف كان هناك الصنم الذي يعبدونه، فقالوا له: ليس هذا الذي تريد، مطلبك أمامك، وأخذ دليلاً من الطائف يدله على البيت الحرام، فلما وصلوا إلى وادي محسر ونزلوا، جاء الدليل الذي يدلهم على مكان البيت وهمس في أذن الفيل وقال: يا محمود! أتدري إلى أين أنت ذاهب؟ إنهم يريدونك لهدم بيت الله - يقولون: أذكى الحيوانات الفرس والفيل- فلما أرادوا الذهاب أتوا إلى الفيل ليمشي فإذا به يرفض، فضربوه ولكن دون فائدة، حتى جاءوا بمحاجم من نار وكووه في مناعمه فلم ينهض، وتحمل كي النار، وكانوا إذا حولوه عن جهة الكعبة قام يهرول، فإذا قام ومشى وحولوه إلى الكعبة برك؛ فسمي: وادي محسر؛ لأن الفيل انحسر فيه.
وأعتقد أن أبرهة كان غبياً مثل فرعون، أو أن الطغيان يعمي، فإن فرعون لما رأى موسى وقومه عندما فتح الله لهم في البحر طريقاً يبساً ومشوا فيه، فلم يفكر من الذي شق لهم البحر وجعل لهم طريقاً يبساً، وجعل الماء كل فرق كالطود العظيم، فلم يعلم أنه لا يقوى على ذلك إلا الله، وأن الذي فعل له ذلك لا يفعله لكل إنسان، إذاً: فهو ليس كالناس العاديين، فاقبل رسالته، وسالمه، وابتعد عنه، واتركه يمشي في سبيله وارجع، لكنه لج في طغيانه ودخل البحر.
وكذلك أبرهة ، فقد رأى أن الفيل رفض المشي، وعظم الجهة التي هو ذاهب إليها، ولم تخضعه حرارة النار، ومع ذلك لم يفكر في هذا الأمر؛ بل أصر على الذهاب، فعومل بنقيض قصده.
والفيل هو أضخم حيوان ثم يأتي بعده وحيد القرن، ثم الجمل، فهو عندما جاء بالفيل الكبير أهلكه الله بطير أبابيل تحمل الحجارة، كل طائر يحمل ثلاثة أحجار، إذا أسقط الطائر هذا الحجر على رأس أحدهم وهو راكب على دابته اخترقت رأسه واخترقت الدابة التي هو عليها حتى تصل إلى الأرض، فيا ترى ما هي المادة التي كانت منها هذه الحجارة حتى تخترق الفرس والفارس؟! إنها قوة عجيبة! والشيء بالشيء يذكر، يقولون: إن معدن اليود يابس مثل الكحل لكن لونه بني، إذا وضع على الحديد أحرقه، وإذا وضع على الخشب أشعل فيه النار، وإذا وضع على رصاص أذابه، وإذا وضع على الزجاج فإن الزجاج لا يحتر ولا يتأثر، فهذا معدن مستخلص من ماء البحر، ويكون له هذا الأثر مع تلك المواد ومع ذلك لا يتأثر به الزجاج، ولذا يحفظ في أواني زجاجية، والغطاء يكون زجاجاً أيضاً، وقدرة الله فوق كل شيء.
فهنا قال صلى الله عليه وسلم (إن الله حبس عن مكة الفيل)، وكذلك في صلح الحديبية لما قال: (هل لنا من رجل يدلنا على الحرم ونتجنب طلائع قريش) وقال القائل: أنا، ومشوا إلى أن وصلوا إلى حدود الحل والحرم، فبركت الناقة، فقال قائل: خلأت القصواء، أي: تعبت من السفر وبركت إعياء وتعباً، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا والله، ما خلأت وما هو لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل، والله لا يعرضون عليّ خطة يعظمون فيها محارم الله إلا أجبتهم إليها)، ولهذا تنازل معهم في مواد الصلح، حتى إن عمر غلبه الغضب وما استطاع أن يتحمل؛ لأنه كان من بنود الصلح: من جاءنا منكم نرده، ومن جاءكم منا لا تردونه علينا.
إذاً: الحيوان الأعجم يلهمه الله عظمة حرمة البيت، وبعض الناس -نسأل الله السلامة والعافية -تحجب بصائرهم وتتحجر قلوبهم ولا يرون لمكة حرمة، الفيل يعظم حرمة مكة ويبرك مكانه ولا يتحرك من كي النار، والإنسان الطاغية الجبار يخترق حرمة مكة وينتهكها ويقاتل أهلها، أرأيت مقارنة مثل هذه؟!
إذاً: الحيوانات لها إدراك، وقد جاء في موطأ مالك في فضل يوم الجمعة: (وفيه تقوم الساعة، وما من دابة إلا وتصيخ بسمعها يوم الجمعة بعد صلاة الفجر إلى طلوع الشمس شفقاً من الساعة) فما أدرى الحيوانات بالجمعة أو السبت؟ وما أدراها بقيام الساعة؟ وما أدراها حتى تصيخ بسمعها لتسمع النفخة؟
إذاً: تلك الحيوانات لها إدراك: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ [الأنعام:38]، بل قد يكونون أحسن منكم، ولذلك لما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم قول الله تعالى من سورة الرحمن على وفد الجن: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:13] ردوا وقالوا: ولا بشيء من آلاء ربنا نكذب، وقرأها على الإنس فلم يتكلم أحد، فقال: (والله للجن أحسن سماعاً منكم).
ولما ورد كتاب من عبد الملك بن مروان إلى الحجاج ، فقرأه على أهل العراق وفيه: من أمير المؤمنين إلى أهل العراق، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فما رد عليه السلام أحد، فقال لقارئه: أمسك، واستل سيفه وقال:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا متى أضع العمامة تعرفوني
ويحكم! الخليفة يسلم عليكم ولا تردون عليه السلام، إني لأرى رءوساً قد أينعت وقد حان قطافها، ثم بعد ذلك قرأ الكتاب من أوله، فقالوا كلهم: وعلى أمير المؤمنين السلام ورحمة الله وبركاته.
وقوله: (لم تحل لأحد قبلي) أي: في الجاهلية وما قبلها، وتاريخ مكة طويل، لا يعلم مداه إلا الله، وقد أشار المولى سبحانه بأولية الكعبة فقال: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ [آل عمران:96]، والكعبة موجودة قيل: من زمن آدم عليه السلام بنته الملائكة، وقيل: من زمن شيث عليه السلام، وقيل: بناه العمالقة، وقيل غير ذلك، إلى أن جاء القرآن بتاريخ إسلامي قريب، قال تعالى: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ [البقرة:127] فقد كانت القواعد موجودة موضوعة، لكنها انطمست قيل: لما جاء الطوفان وغمر الكعبة، وأخذ الحجر الأسود وأخفي في أبي قبيس، حتى جاء الإسلام وجاء الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان عليه الصلاة والسلام يقول: (إني لأعلم حجراً بمكة كان يسلم عليّ) قيل: هو الحجر الأسود، وقيل: هو غيره، ثم جاء إبراهيم عليه السلام والبيت مندثر، قال تعالى: وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ [الحج:26]، فاندثر البيت ولم يبق له أثر، وجاء جبريل عليه السلام وبين مكانه لإبراهيم، كما جاء لـعبد المطلب وبيّن له مكان زمزم، وقيل: إن الله أرسل سحابة في وسط النهار وقال لإبراهيم: خط عليها ثم احفر، فحفر حتى وصل إلى القواعد. وقد جاء في الحديث الآخر: (إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض)، وسيأتي الحديث الآخر: (اللهم إن إبراهيم حرم مكة، وأنا أحرم المدينة)، وجمعوا بين الحديثين: بأن تحريم الله مكة حينما أمر القلم أن يكتب فكتب: إن مكة حرام؛ فهو تحريم من الله، ثم إن إبراهيم حرم مكة التحريم للناس وأعلنه وبين حدود حرمها.
إذاً: لم تحل مكة لقتال قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا من خصائصه صلوات الله وسلامه عليه، ولن تحل لأحد بعده، أي: لا يحلها الله لأحد بعده، فإذا استحلها إنسان فهو معتد؛ لأنها غير حلال له.
قال: (وإن الله أحلها لي ساعة من نهار) المقصود بالساعة هنا الساعة اللغوية، وليست الساعة الزمنية التي هي ستون دقيقة، والمعنى وقتاً من نهار، سواء كان النهار كله أو أكثره أو أقله، فقد أحلها الله له أن يدخلها بسلاحه عنوة مستعداً متهيئاً للقتال، وقد وقع فعلاً بعض القتال في بعض جوانبها حينما دخل خالد بن الوليد ومن معه من الجهة التي تقابل جهة دخول النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (ولن تحل لأحد بعدي) يقول ابن دقيق العيد رحمه الله: هذا يدل على أن مكة ستظل إسلامية إلى يوم القيامة؛ لأنها ستظل حراماً، والحرمة إنما هي أمر شرعي، فلا يجوز لأحد أن يستحلها أبداً.
وهنا يبحث الفقهاء فيما إذا طرأ طارئ، يقول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث وفي غيره: (فإن ترخص أحد بقتالي فقولوا له: إن الله قد أحلها لرسوله ولم تحل لأحد بعده)، وفي بعض الروايات: (وقد عادت إليها حرمتها إلى يوم القيامة).
إذاً: حرمة مكة قديمة، سواء كانت بتحريم الله، أو كانت بتحريم إبراهيم، وتحريم إبراهيم إنما هو تحريم عن الله، أي: بلاغ عن الله سبحانه وتعالى بحرمتها.
وهنا يذكر الفقهاء ويفرعون على هذا من الأحكام: لو أن أحداً قاتل في مكة فماذا يكون موقف المسلمين منه؟ هل يحرم عليهم استحلالها لأنها محرمة إلى يوم القيامة، وهذا آثم عاصٍ بقتاله فيها، أم يقاتلون من قاتل فيها؟ قالوا: إذا انتهك أحد حرمة الحرم فقد أسقط عن نفسه حرمة الأمن فيُقاتل فيها.
وقوله تعالى: وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً [آل عمران:97] أي: بدون اعتداء، وإذا قتل إنسان إنساناً بمكة فهل يقتل أو يترك؟ الجمهور على أنه يقتص منه في مكة، ويقول الإمام أبو حنيفة : لا يقتل حتى القاتل قصاصاً بمكة، ولكن يضيق عليه حتى يُخرج أو يخرج إلى الحل فيقتص منه هناك.
وحينما أسر الصحابي الجليل خبيب بن عدي وبيع في مكة واشتراه بعض من له ثأر ودم في بدر، فلما أرادوا قتله خرجوا به من مكة إلى التنعيم وهي من الحل، وهناك صلب وقتل، فلم يستبيحوا قتله في مكة لحرمتها، مع أنهم قد اشتروه أسيراً من أجل أن يقتصوا منه لبعض قتلاهم في بدر، فتركوا قتله في مكة لحرمتها.
فهناك من يقول: إن حرمة مكة تحمي كل ذي دم وكل ذي نفس؛ لأن قوله تعالى: وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً [آل عمران:97] عام في الإنسان والطير والحيوان حتى الشجر.
وبعض العلماء يقول: الذي ينتهك حرمة مكة؛ تزول عنه الحرمة والإيواء والأمن فيقتل، وأيضاً من جاء معتدياً وقاتل أهل مكة من البغاة والخوارج فإنهم يُقاتلون في مكة؛ لأن في ذلك دفاعاً عن النفس، ورفعاً للطغيان والبغي، ولا يؤوى إلى الحرم من كان بهذه الصفة.
وكذلك قالوا في بقية الحدود سواء كان الحد رجماً أو قطعاً أو جلداً: هل تقام في مكة أم يخرج إلى الحل وهناك يقام عليه الحد؟
قال بعضهم: يقام عليه الحد ولو كان قتلاً، واستدلوا بقتل النبي صلى الله عليه وسلم لـابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة؛ وذلك لأنه غدر بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقد جاء فأسلم ثم ارتد وهجا النبي صلى الله عليه وسلم، فأهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه، فعندما أتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا له ({إن
وأجاب الآخرون بقولهم: إنه قتل في الساعة التي أحلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقتل بعد أن عادت إليها حرمتها، والنقاش في ذلك نقاش فقهي.
والذي يهمنا في هذا الباب أن المحرم يحترم حرمة البيت ولا يعتدي -كما تقدم- لا على صيد، ولا على شجر، ولا على إنسان، ولا على غير ذلك.
من حرمتها أن لا ينفر صيدها، والتنفير: هو التخويف والإهاجة، وهنا كما يقولون: من مفهوم المخالفة وفحوى الخطاب: إذا كان الصيد فيها آمناً فلا تزعجه ولا تنفره من مكانه، فهل يجوز صيده وقتله؟ من باب قوله تعالى: فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا [الإسراء:23]، فهل يجوز له أن يفعل أكثر من ذلك؟ لا يجوز له ذلك.
والصيد: هو كل حيوان بري يحل أكله، أما إذا كان وحشياً كالسباع فقد تقدم: (يقتلن في الحل والحرم).
ويضيف العلماء أيضاً: لو أن حلالاً اصطاد خارج الحرم ودخل به إلى الحرم فإنه يطلق من يده؛ لأنه منهي عن إمساك الصيد أو قتله أو تنفيره في الحرم.
الاختلاء: هو أخذ الحشيش من الخلاء كالصحراء والوادي، ويذكر عن الشافعي رحمه الله: أنه أباح قطع الشوك الذي في الأغصان، كما يقول الصنعاني شارح البلوغ، وقد استدل بأن الشوك مؤذٍ، وإنما أبيح قتل الفواسق الخمس لأجل الأذى، فلما كانت الفواسق تقتل في الحل والحرم لوجود الأذية، والشوك مؤذٍ، فيقاس عليها ويجوز قطعه، لكن يقول الصنعاني أو غيره: إنما أباح قطع الشوك من الأغصان. وأعتقد أن هذا مغاير لطبيعة الحرم؛ لأنه يوجد في الحرم نبات قصير جداً ينبت على وجه الأرض وفيه الشوك، فهذا هو الذي يؤذي؛ لأنه إذا أراد الإنسان أن يجلس أو أن ينصب خيمة أو أن يفرش فراشه، فإن هذا الشوك سوف يؤذيه، فقد يضطر لقلعه من أجل أن يمهد له مكاناً يجلس فيه، فإذا نقل عن الشافعي أنه أباح قلع الشوك للإيذاء فيكون هذا النبت من باب أولى؛ لأن الشوك في الأغصان فوق الدوحة ونحوها لا يؤذي أحداً بشيء، فيكون هذا أولى بحمله عليه.
وإذا كان الشوك المؤذي لا يختلى، فإن النباتات الأخرى من باب أولى.
قال صلى الله عليه وسلم (ولا يعضد شجره) أي: لا يقطع شجره، قيل: في الشوك النبات وفي الشجر ما لم ينبته الآدمي، فما كان من نبات الآدمي فهو يزرع ويحصد، أما ما كان نبتاً طبيعياً من خلق الله سبحانه دون أن يكون للإنسان فيه عمل كالنباتات الصحراوية، فهذه هي التي لها حرمة ولا يعتدى عليها.
الساقطة: هي اللقطة التي سقطت من صاحبها، وقوله: (إلا لمنشد) أي: لا يأخذها شخص من مكانها إلا على نية الإنشاد، أي: الإعلام بها، فهي لا تملك بالالتقاط، بخلاف اللقطة في غير الحرم؛ فإن حكمها أن ينشدها لمدة سنة، فإن ظفر بصاحبها سلمها إليه، والإنشاد لمدة سنة إنما هو إن كانت صالحة للبقاء سنة، وإلا باعها أو تصرف فيها بعد أن يعرف قيمتها، وتكون ديناً عنده وأمانة، فإذا ظهر صاحبها أعطاه إياها، فكل ضالة أو ساقطة للإنسان أن يأخذها بنية التعريف والإنشاد، وينشدها على أبواب المساجد، أو مظنة وجود صاحبها، ولا ينشدها في المسجد؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك وقال: (إذا سمعتم من ينشد ضالته في المسجد فقولوا: لا ردها الله عليك)؛ لأنه سوف يستغل المسجد في غير ما وجد له، كما جاء النهي عن البيع والشراء في المسجد، قال صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع، فقولوا: لا أربح الله تجارتك)، وكما قال عمر رضي الله عنه: (من أراد الثواب والأجر وسوق الآخرة فليأت إلى المسجد، ومن أراد البيع أو الشراء أو الحديث فليخرج إلى أسواق الدنيا)، وقد بنى رحبة في غربي المسجد، وقال: (فمن أراد حديث الدنيا فليخرج إلى هذه الرحبة، ومن أراد حديث الآخرة فليبق في المسجد) فالذي يجد ساقطة في الحرم في مكة فلا يحل له أن يأخذها إلا إذا كان على استعداد أن ينشدها، ومهما أنشدها سنة أو سنوات فلا يتملكها، بخلاف الساقطة في غير الحرم المكي، فإنه يتملكها بعد سنة، فإن جاء صاحبها بعد ذلك فإن كان قد استفادها لنفسه واقتناها سلمه قيمتها، وإن كان قد تصدق بقيمتها على نية صاحبها فيخبره ويقول له: لقد انتظرت وعرفت فلم يأت أحد، فتصدقت بها على نية صاحبها، فإن قبلت الصدقة فأجرها لك، وإن لم تقبل فأكون قد تصدقت بغير ما أملك، فهذه قيمتها والصدقة لي.
وهنا يأتي السؤال: لماذا تملك ساقطة غير الحرم بعد سنة وساقطة الحرم لا تملك أبداً؟
قالوا: لأن حرم مكة يأتيه الحجاج في كل سنة من كل مكان، ولا ندري ممن سقطت تلك اللقطة، ولا يلزم أن من سقطت له ساقطة يعود في العام القادم من أجل أن ينشد ساقطته أو ضالته، ويمكن أن لا يتأتى له المجيء إلا بعد خمس سنوات على أقل تقدير، أي: في التطوع؛ كما في الحديث القدسي: (من عافيته في بدنه وأغنيته في ماله، فلا يحق له أن يهجر البيت فوق خمس) أي: خمس سنوات، فيمكن أن لا يأتي إلا بعد خمس سنوات، فنقول: هذا خاص بالحرم، فإذا سقطت لقطة من حاج آفاقي، وأنشدها الملتقط سنة أو سنتين، ولم يأت صاحبها، ولا يدري عنها أحد شيئاً، فتبقى أمانة في يد ملتقطها وينشدها إلى أن يأتي صاحبها.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر