إذاً: المراد هو النهي عما يحيط بالجسم على هيئته بأي نوع من الإحاطة، سواء كانت بخياطة، أو بدبابيس، أو بمسامير، أو بتلصيق ونحو ذلك، حتى هذا الذي يسمونه: التريكو، فما دام محيطاً بالجسم فهو ممنوع.
ويدخل في مسمى القميص كل ما يحيط بالبدن: كالفنيلة، والجاكيت، والبالطو، والجبة، ونحوها.
وهنا يقول العلماء: قوله: (لا تلبسوا القمص) أي: المحيط وليس المخيط، أو المخيط على هيئة الجسم، وفي الرأس لا يغطى الرأس بالعمامة، وكل ما يغطي الرأس فهو مندرج تحتها، ولو أن إنساناً معه متاع فحزمه ووضعه على رأسه وكان رخواً، فدخل الرأس في ضمن المحمول، ونزل على جانبي الرأس وغطاه إلى أذنيه، فإنه يكون قد غطى رأسه، بحمل، فهل يكون داخلاً في معنى العمامة؟ يقول بعض العلماء: إذا قصد بهذا الوضع تغطية رأسه من شمس ونحوها فهو لابس، وإن كان فيه متاعه وحمله ونزل إلى هذا الحد فلا يقال له: لابس له، إنما يقال له: حامل متاعه.
ولو أنه أخذ شريطاً على منتصف الرأس إلى أسفل الحلق لجرح أو لصداع أو لأي حاجة من الحاجات، فهذا الذي أخذ شريطاً عرضه (5سم) ونزل به إلى أسفل حلقه يقال له: رابط رأسه، فلا يكون لابساً ولا يكون مغطياً.
وإذا نام على فراش وثير ولين وغطس فيه رأسه، فلا يقال: لبس المخدة، ولا يكون مغطياً رأسه.. وهكذا.
إذاً: المنع من تغطية الرأس بعموم مسمى العمامة وما يلحق بها، كالغترة ونحوها، وإذا كان في الحر أو في المطر وظلل رأسه بالمظلة، فهذا يقال عنه: استظل بالمظلة.
وأبعد من هذا يقول النووي : لو وقف الحاج في الخيمة، والخيمة واطية، فدخل رأسه في الخيمة ورفعها، فهل يكون غطى رأسه أو حمل الخيمة على رأسه؟
يقال: رفع الخيمة على رأسه.
أريد أن أبين بهذا أن الفقهاء عند هذه النقاط الأساسية يفرعون عليها بتوسع، ولهذا يؤكد العلماء ضرورة أو حتمية دراسة الفقه قبل دراسة الحديث لطالب العلم إذا أراد أن يتوسع في معرفة الفقه، ويكون الحديث تثبيتاً وأدلة لما قرأ من الفقه، وإذا درس طالب العلم الحديث فلا يقتصر على كتب الحديث مهما كان الشرح فيها متوفراً واسعاً، وللأسف لم أجد كتاباً شارحاً لبلوغ المرام شرحاً وافياً يكتفى به أو يستغنى به عن غيره.
ولا يمكن أن تقف على حقيقة شرح بلوغ المرام إلا في الأحاديث التي رواها البخاري أو هي من المتفق عليه، فترجع إلى شرح المؤلف وهو فتح الباري على صحيح البخاري، فتجد الكلام وافياً على ذلك الحديث في ذاك المكان، أو ترجع إلى شروح السنة، فحينما يقول: رواه النسائي أو أبو داود أو الترمذي ، فترجع إلى مراجع الحديث وتقرأ الشرح هناك موسعاً، فتستطيع أن تلم بحقيقة الأحاديث أو النصوص الواردة في بلوغ المرام.
ومن وراء ذلك المجاميع والموسوعات الفقيه، مثل المجموع للنووي ، وهو خاص بمذهب الشافعية، ولكنه يفرع ويذكر مذاهب الأئمة الآخرين، وكذلك المغني لـابن قدامة ، فإنه وإن كان خاصاً بالحنابلة إلا أنه أيضاً يفرع ويأتي بأقوال بقية المذاهب.
إذاً: العمامة هنا رمز لكل ما يغطي الرأس، ثم نأتي إلى تحقيق المناط فيما هو غطاء للرأس.
وهذا يشمل ما استجد عند الناس من السراويل القصيرة وهي ما يسمى: (كلسيون) أو ما إلى ذلك، فكل هذا داخل تحت مسمى السراويلات، وقد كان السروال القصير موجوداً عند السلف وهو ما يسمى: التبان، وقد جاء في خبر عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أنها كانت تسمح لمن يرحلها أن يلبس التبان تحت الإزار؛ وذلك تحفظاً من أن تنكشف عوراتهم.
إذاً: يندرج تحت السراويل: البنطلون، والكلسيون، والتبان، وكل ما يلبس تحت الإزار بساق طويل أو بدون ساق، فهذا ممنوع لبسه للمحرم.
والفرق بين القمص والبرانس: أن القمص محدودة، فالقميص يصدق على الفنيلة، ويصدق على القميص القصير، لكن البرانس واسعة، يدخل فيها الدراعة، ويدخل فيها المشالح، ويدخل فيها اللباس الفضفاض كما يوجد في لباس البادية، وهو الثوب ذو الأكمام الواسعة الطويلة.
إذاً هذه البرانس رمز لكل لباس فضفاض على الجسم.
فالخفاف التي يصح المسح عليها في الوضوء ممنوعة في الإحرام، وسواء كان الخف من الجلد كما هو الأصل، أو كان من القماش خفيفاً أو متيناً في هذا الباب، بخلاف المسح في الوضوء فإنه يجب أن يكون قوياً ثخيناً، سواء كان من صوف، أو من قطن، أو من كتان، أو من نايلون، أو من بلاستك، حتى قال النووي في الممسوح عليه: ولو من زجاج يكشف البدن.
فإذا كان محرماً فلا يلبس الخف، ولكن سيأتي الاستثناء في صورة ما.
إذاً: يمنع المحرم من لبس الخفين في القدمين، ويلبس النعلين، ولو مشى حافياً فهو وما أراد، لكن تكريماً له ولأجل الحر والبرد والأمن من الحجارة ومن الشوك ونحوها يلبس نعلين، وأصل النعل ما كان على قدر أسفل القدم، ويكون ظاهر القدم مكشوفاً، وذلك مثلما يسمونه: (زنوبة)، وهي المصنوعة من البلاستك، ونحوها، فإذا كان ظهر القدم مكشوفاً بطبيعة التركيب والتفصيل فهو النعل، أما إذا كان مغطى وساقه مرتفعة مع ساق الرجل إلى ما فوق الكعبين. فهذا هو الخف.
أظنه ما يسمى الآن (بالكندرة النصف) وهناك (الكندرة) العسكرية التي يلبسها الجندي إلى نصف الساق، وهناك المدنية التي تكون تجدها صغيرة قصيرة من تحت الكعبين وتسمى: نصف رباط.
فهنا الخف لباس على قدر الرجل مثل الجورب، وساقه يمتد إلى أعلى فوق الكعبين، فإذا لم يجد النعلين لبس الخفين وقطعهما أسفل من الكعبين، وكيف يتحقق عدم وجود النعلين؟
قالوا: بأن تكون غير موجودة في السوق بالكلية، أو كانت موجودة ولكن البائع عرف أن هذا محرم فرفع عليه في قيمتها، كأن تكون بخمسة ريالات مثلاً، فرفع قيمتها إلى عشرة أو إلى عشرين ريالاً، فليس بلازم أن يشتريها وفيها هذا الفحش، أو كانت رخيصة كأن تكون بريالين لكن لا توجد عنده قيمتها، فتكون غير موجودة في حقه.
وهنا يقول العلماء: لو جاء شخص وقال له: يا أخي! أنا أعطيك نعلين تحرم فيهما هبة مني لك، فهل يجب عليه أن يأخذها أم لا؟
قالوا: لا يلزمه قبولها، مخافة المنة عليه، ولو جاء وقال: أعيرك إياها، فلا يوجد مانع من أن يأخذها؛ لأن العارية مردودة، يعير بعضهم بعضاً، ولو قال: أؤجرها لك، وكان عنده الأجرة، فعليه أن يستأجر.
إذاً: من لم يجد بمعنى تعذر وجوده، أو وجد مع مشقة عليه في زيادة السعر، أو وجد ولكن بمنة من الغير؛ لأنهم قالوا في الحج: إذا كان هناك إنسان غير مستطيع، وجاء آخر وقال: أنا أعطيك مالاً لتحج هبة مني لك، فليس بلازم أن يقبل؛ لأنه فيما بعد قد يمن عليه، ويقول: أنا حججت لك.. أنا أعطيتك.. لكن رب العزة سبحانه لا يمتن علينا، والله عز وجل إذا لم يعطه ولم يجعله مستطيعاً فقد أسقط عنه الواجب.
فمخافة المنة على الإنسان، ومحافظة على كرامة الإنسان عند الله، يسقط الفرض عنه، وكأنه يقول: يا عبدي! لا تتمنن على عبدي فلان، أنا أولى به منك، أنا أعطيه بغير منة، وأعطيه ما يستحق وأتفضل عليه بدون شيء.
وفي الصدقة قال الله تعالى: لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى [البقرة:264]، فلا فائدة من صدقة هذا الذي سوف يؤذي المسكين ويكسر خاطره.
إذاً: من لم يجد بالكلية، أو وجد ولكن بما يشق عليه فيه فكأنه معدوم، فإذا كان عنده خفان فليس هناك مانع من أن يلبسهما ولكن بشرط أن يقطعهما، ولماذا يقطعهما؟
حتى يصبحا في صورة النعلين، أي: كاشفين ظهر القدم ونازلين عن الكعبين.
ومسألة قطع الخفين وقع فيها نزاع بين العلماء رحمهم الله، فإن حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنه: (وليقطعهما)، قيل: في المدينة قبل أن يلبس المحرم، حين بين لهم ما يلبسون، وفي عرفات خطب صلى الله عليه وسلم وبين ما يجتنبه المحرم فقال: (من لم يجد النعلين فليلبس الخفين، ومن لم يجد الإزار فليلبس السراويل)، ولم يذكر قطعاً للخفين، بل قال: (فليلبس الخفين)، ولم يقل: وليقطعهما أسفل من الكعبين.
فأصبح عندنا حديثان في خصوص لبس الخفين: حديث في المدينة يأمر بالقطع، وحديث في عرفات يرخص في لبس الخفين من دون قطع.
فقالوا: إن حديث عرفات عام مطلق عن قيد القطع، وحديث المدينة خاص أو مقيد بشرط القطع، فيحمل العام في عرفات على الخاص في المدينة، فقوم قالوا: حديث المدينة يقضي على حديث عرفات، ويحمل المطلق في عرفات على المقيد في المدينة، فيكون حديث ابن عباس في عرفات: (فليلبس الخفين)، بشرط القطع المذكور في حديث المدينة، ومن هنا وقع النزاع: هل حديث ابن عباس في عرفات مقيد بقيد القطع في المدينة فيجب القطع، أم أنه متأخر عنه وقد عرفنا التاريخ فيكون ناسخاً لحكم القطع؟
الناس في هذا على مذهبين:
مذهب حمل العام على الخاص وأمر بالقطع مطلقاً.
ومذهب يقول بأن القطع قد نسخ بحديث ابن عباس المتأخر الذي سكت فيه عن القطع.
ويقال لأصحاب المذهب الأول: تقولون: إنه ترك ذكر القطع في عرفات؛ لأنه ذكره في المدينة، وهل كل من كان في عرفات وسمع حديث ابن عباس : (فليلبس الخفين)، قد سمع حديث ابن عمر في المدينة؟
إذ أن حديث ابن عمر فيه القطع، فمن قال لكم: إن الذين في عرفات قد علموا وسمعوا بحديث ابن عمر في المدينة؟
إذاً هناك مجتمع يحتاج إلى بيان، وهنا مجتمع يحتاج إلى بيان، ولو كان بيان حديث ابن عمر كافياً لما كانت هناك حاجة إلى حديث ابن عباس في عرفات.
إذاً: الحاجة باقية لبيان ما لا يلبسه المحرم، أو حكم لبس الخف للمحرم، ولهذا أعاد النبي صلى الله عليه وسلم الحديث مع ترك القطع.
ومن ناحية أخرى، فإن الخف مال محترم، والمال يجب أن يحترم وأن يصان، وما دام أنه لم يأتِ في حديث ابن عباس الأمر بالقطع، فإذا لبسناه ولم نقطع بناءً على حديث ابن عباس وحافظنا على المال من أن نتلفه، فلا يوجد هناك مانع من هذا.
وعلى كل حال: ما دامت المسألة عند العلماء دائرة بين الأمرين: وهو حمل المطلق على المقيد، أو القول بالنسخ، وقد عرفنا التاريخ، فأعتقد أن من أخذ بأحد الطريقين فحمل المطلق على المقيد أو أخذ بطريق النسخ، فكل منهما له وجه.
الزعفران: نبات مخصوص قيل: هو زهر أشبه ما يكون بزهر الرمان، وله لون أحمر ورائحة زكية، وله خصائص كثيرة.
قالوا: إذا كان هناك ثوب أبيض وصبغ بالزعفران، والزعفران يستعمل لصبغ الثياب والتجميل ونحو ذلك، قالوا: فلا يجوز لبسه، إذا كان قد صبغ الثوب بهذا النوع على أساس أن الصبغ ثبت وأصبح بحيث لو غسل فلن يخرج من الصبغ الموجود شيء.
والثوب الذي مسه الزعفران أو الورس ينقسم إلى قسمين: ثوب صبغ ولبس بعد الصبغ مباشرة، بحيث أنه لو عرق فيه لانطبع في جسمه، ولو وقع عليه ماء لخرج اللون مع الماء، فهذا ممنوع، أما إذا ثبت الصبغ ولم يبق إلا اللون فقط بحيث لو عرق لما انطبع فيه شي، ولو غسل لما وقع في ماء الغسيل منه شيء، فقالوا: لا بأس به، ولكن في العموم في غير الإحرام لا يجوز للرجل أن يلبس الثوب المصبوغ بورس أو زعفران، فإنه للنساء وليس للرجال.
فعلى كلتا الحالتين منع من لبس الملون، ولكن في الوقت الحاضر لو وجدنا هذه البشاتير التي تكون محمرة أو مخضرة أو مصفرة، والصبغ ثابت لا ينطبع على الجسم، فلا بأس بها؛ لأن الأصل في ذلك المنع هو الرائحة وليس اللون، فإذا كان لوناً ثابتاً لا رائحة فيه، بأن غسل قبل ذلك وبقي اللون كالخضاب وأثر الحناء، فلا مانع من ذلك.
وبعضهم يقول: منع الرجال من الثياب المعصفرة أو المصبوغة بالزعفران عام في الإحرام وغيره، فيكون المنع لأجل اللون أعم من كونه فيه رائحة أو ليست فيه رائحة. هذا ما يتعلق بلباس الرجل في الإحرام في الجملة.
وكونها لا تلبس النقاب ولا البرقع معناه أنها تكشف وجهها، قالوا: لأن وجه المرأة في الإحرام كرأس الرجل، فهو يكشف رأسه وهي تكشف وجهها، ولكن عند عدم وجود الأجانب، أما في حضرة الأجانب فتغطي بخمارها لا ببرقع ولا نقاب، بل تسدل خمار أو غطاء رأسها على وجهها فتغطيه، كما جاء في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (كنا نكشف وجوهنا، فإذا مر بنا الركبان سدلت إحدانا خمارها على وجهها).
وبهذا ينتهي بحث: ما يجتنبه المحرم من اللباس ومحظوراته. وبالله تعالى التوفيق.
موضوع هذا الحديث هو تطيب المحرم، وألفاظه: (كنت) يقول بعض العلماء: (كنت) تدل على التكرار، ويقول البعض في هذا الحديث: ليس فيه دلالة على التكرار؛ لأنه أحرم للحج مرة واحدة.
ولكن إن كان أحرم للحج مرة واحدة فقد أحرم للعمرة ثلاث مرات، أي: منفردات، وهي: عمرة الحديبية، وعمرة القضاء، وعمرة الجعرانة، والرابعة من عمراته كانت قراناً مع الحج، فلا مانع أن يكون هذا الفعل قد تكرر من عائشة رضي الله تعالى عنها.
أما أحكام الحديث فقولها: (أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه)، أي: إذا أراد أن يحرم طيبته، أي: أنها توقع الطيب قبل أن يحرم، وهنا يبحث العلماء: هل للمحرم أن يتطيب؟
أجمع العلماء على أنه لا يتطيب ابتداءً، أي: إذا أحرم وقال: لبيك اللهم حجاً أو عمرة، حرم عليه أن يمس الطيب.
ولكن إذا تطيب قبل أن يحرم، أي: تطيب لإحرامه، فقال بعضهم: إن كان هذا الطيب ستبقى له رائحة فيمنع منه، كما هو مروي عن عمر وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، والجمهور على أنه إذا تطيب قبل الإحرام وبقي أثر الطيب بعد الإحرام فلا مانع من ذلك، ولهذا يقولون: الإحرام مانع ابتداء لا مانع دوام، كما سيأتي في النكاح، فإن المحرم لا يتزوج ولا يزوج، فهو مانع ابتداء للتزويج ولكن ليس مانع دوام؛ لأن المتزوج يحرم وتبقى الزوجية على ما هي عليه، فهو مانع ابتداء يمنع ابتداء المحرم من أن يتزوج من جديد، ويمنع المحرم أن يتطيب من جديد، ولكن لا يمنع دوام الطيب الذي وقع قبله، ولا دوام النكاح الذي وقع قبله.
ومن هنا استدلوا أيضاً بحدث عائشة رضي الله تعالى عنها في بعض رواياتها: (وإني كنت أرى وبيص -والوبيص: البريق واللمعان- المسك في مفرقه صلى الله عليه وسلم)، والمفرق هو موضع فرق شعر الرأس، وكان صلى الله عليه وسلم له شعر يصل إلى منكبيه، وكان يفرقه قسمين: قسم إلى اليمين، وقسم إلى اليسار، حتى تظهر فروة الرأس، فتقول أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها: (كنت أطيب)، ثم بعد الإحرام: (كنت أرى وبيص المسك في مفرق رسول الله).
إذاً: هنا دوام الطيب، والذين قالوا: إن المحرم لا يتطيب بطيب يدوم، قالوا: صحيح أنها طيبته لإحرامه، ولكن جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (أنه خرج من المدينة وقد لبس ثياب الإحرام، وتطيب ولبد رأسه- فأتى إلى ذي الحليفة وبات هناك، وفي تلك الليلة التي بات فيها طاف على نسائه اللاتي معه، واغتسل عند كل واحدة، فإذا كان الأمر كذلك فيكون هذا الاغتسال المتكرر قد أزال وأذهب الطيب الذي طيبته إياه بالمدينة، ثم أصبح فاغتسل وأحرم)، فقالوا: إن هذا الطيب الذي طيبته عائشة أذهبه الاغتسال في الليل.
وأجاب الآخرون عن ذلك بقولها: (وكنت أرى وبيص المسك في مفرقه)، وقد رأت هذا الوبيص حينما كان في الطريق وبعد أن غادر ذا الحليفة ومضى بإحرامه.
وعلى هذا يأتي نوع من التفريع: هل يصح الطيب للمحرم في ثوبه إزاراً ورداءً، وفي بدنه، وفي شعره، وفي رأسه، وتحت إبطه، وفي يديه؟
قالت المالكية: يكون الطيب في البدن وليس في الثوب، وجاءوا بالتعليلات الفقهية التي تذهب إلى الدقة، وقالوا: إن الطيب في البدن ثابت مكانه، وأما إذا كان الطيب في الرداء، فقد يطرح الرداء عنه، ثم يرجع فيلبس الرداء والطيب في الرداء فيكون لبسه الرداء وفيه الطيب بمثابة ابتداء الطيب من جديد؛ لأنه أخذ الطيب الموجود في الرداء حينما أخذه للمرة الثانية، وهذه المسألة من الدقائق التي علم حقيقتها عند الله.
وقد صح عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه شم ريح طيب من رجل -سواء كان معاوية أو غيره- فقال: من طيبتك هذا؟ قال: أم حبيبة يا أمير المؤمنين! فقال: عزمت عليك لتذهبن فلتغسلن عنك هذا الطيب. وجاء عن ابن عمر أنه قال: لأن أتلطخ بالقار وأنا محرم أهون عليَّ من أن أتلطخ بالطيب.
فإذا كان الأمر كذلك فإننا نجد هذا الحديث الصحيح من أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته، فقد تجرد في بيته وتطيب في بيته، فأهل بيته أعلم الناس بطبيعة إحرامه وما أخذ من طيب وغيره، ولقد جاء عنها في بعض الروايات أنها قالت: (طيبت رسول الله لا كطيبكم هذا) قال بعضهم: (لا كطيبكم هذا) أي: يزول بسرعة، وقال بعضهم: لا إنما قالت ذلك لتبين أن طيبكم لا يصل إلى هذا الطيب، وقد صرحت في بعض الروايات: (بأحسن طيب المسك).
وعلى هذا فالجمهور على أن المحرم قبل أن يهل له أن يتطيب ويكون الطيب في بدنه.
وإذا جئنا إلى ما ذكره صلى الله عليه وسلم: (إني أحرمت، وقلدت هديي ولبدت شعري)، وتلبيد الشعر هو إمساكه بما يكون من أنواع الدهون أو الطيب لئلا يتشعث؛ لأن المدة من المدينة إلى عرفات إلى أن ينزلوا إلى منى طويلة، كما جاء عن ابن عباس : أنهم حينما قدموا للحج استغرقوا تسعة أيام في الطريق، وأربعة أيام في مكة قبل عرفات، ويومين بعد عرفات، فهذه خمسة عشر يوماً، فهذه المدة إذا ترك الشعر كما هو فإنه يتخلله الهواء ويسري إليه التراب ويعلق به ما كان في الجو، فإذا كان ملبداً سلم من هذا كله.
وبماذا يلبد؟ قالوا: يلبد بالطيب: كالمسك ونحوه، أو كما قالت رضي الله تعالى عنها: (بطيب ليس كطيبكم هذا)، وعلى هذا فالجمهور على أن المحرم يحق له أن يتطيب قبل أن يحرم.
بقي النصف الثاني من الحديث وهو قولها: (ولحله قبل أن يطوف بالبيت)، الجمهور على أن الإحلال من الإحرام قسمان:
الأول: التحلل الأصغر.
الثاني: التحلل الأكبر.
فالتحلل الأصغر: يحل فيه للمحرم كل شيء إلا النساء، وبعضهم يلحق بها الطيب، وهو أن يفعل اثنتين من ثلاث: رمي الجمرة، وحلق الرأس، والطواف بالبيت، فإن فعل اثنتين من هذه الثلاث أياً كانت حل له كل شيء، فيلبس الثياب، ويقلم الأظفار، ويحلق الشعر، فكل الذي كان ممنوعاً منه فإنه يحل له إلا النساء، فإذا فعل الثالثة حل له كل شيء.
فبعضهم يقول: إذا فعل اثنتين من ثلاث حل له كل شيء إلا النساء، وبعضهم يقول: إلا النساء والطيب.
وبعضهم يقول: العلة أن الطيب يثير عند الإنسان الغريزة.
وبعضهم يقول: إنه يوجد داخل الأنف عروق لها صلة بالإثارة، فمنع من الطيب لئلا يكون ذلك مدعاة لإثارته وهو محرم، فإذا كان الطيب ممنوعاً لا لذاته وإنما لأمر آخر سداً للذريعة، فبعضهم قال: هذا من خصوصية النبي صلى الله عليه وسلم أن يتطيب قبل أن يطوف بالبيت ويبقى الوطء محرماً عليه، وقد جاء عن عائشة رضي الله عنها قالت: (وكان أملككم لإربه)، أي: أن الطيب لا يثير رسول الله، ولا يتسلط عليه، ولا يتأثر به من تلك الناحية بخلاف غيره.
وقال بعضهم: ليست هناك خصوصية إلا بالنص، وهنا لم يأت نص في ذلك عن عائشة ، ولم يقله النبي صلى الله عليه وسلم.
إذاً: من عمل بهذا الحديث في هذين الموضعين: عند إرادة الإحرام قبل أن يحرم، ويبقى أثر الطيب ويدوم معه حال إحرامه، وعندما يريد أن يتحلل قبل أن يطوف بالبيت، فمن عمل بالحديث في طرفيه فلا مانع؛ لما جاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، والمحظور أن يستأنف طيباً بعد أن يحرم.
قال العلماء: له أن يشم الرياحين لكن لا يعمد إليها، وإذا جاء الإنسان إلى الكعبة وإلى الحجر والناس يتقربون وينثرون الطيب -العود والمسك والورد- على الحجر الأسود وعلى كسوة الكعبة، فجاء إنسان ليستلم الحجر فمسح بيديه على الحجر فتلطخت بالعود ونحوه من الطيب الذي عليها، فهل هذا محظور عليه؟ ليس عليه شيء إنما يمسحه عنه في كسوة الكعبة أو في الحجر أو في غير ذلك، ولا مانع أن يشمه من نفس الحجر، فإنه لم يتطيب، ولكن الطيب موجود أمامه، ولابد أن يمسح الحجر، فليس عليه شيء إذا كان الحجر مطيباً وقبل الحجر وفيه الطيب.
والله تعالى أعلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر