الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد بن عبد الله وعلى آله والتابعين.
أما بعد:
قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى) متفق عليه].
يسوق المصنف رحمه الله تعالى هذا الحديث الخاص بشد الرحال إلى المساجد الثلاثة في باب الاعتكاف بمناسبة تحديد المكان الذي يصح الاعتكاف فيه.
وهناك من يقول: لا يصح الاعتكاف إلا في المسجد النبوي، عملاً بفعل النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يعتكف قط إلا في المسجد النبوي.
وهناك من يقول: الاعتكاف جائز في تلك المساجد الثلاثة، وألحقوا المسجد الأقصى بالمسجدين السابقين لاشتراطه معهما في خصوصية شد الرحال، ويستدل بهذا الحديث بأنه لا يجوز لأحد أن يشد الرحل إلى أي مسجد في الأرض ليعتكف فيه إلا إلى أحد هذه الثلاثة؛ لأن جميع المساجد على وجه الأرض ما عدا تلك المساجد الثلاثة فيما يتعلق بالعبادات سواء، فمثلاً: لا يجوز لإنسان في مصر يشد الرحل إلى الجامع الأموي في دمشق ليعتكف فيه؛ لأن المساجد في مصر تعادل المساجد في دمشق، ولا يحق لأحد في دمشق أن يشد الرحل إلى مصر ليعتكف مثلاً في الجامع الأزهر؛ لأن مساجد دمشق بالنسبة للعبادات سواء مع مصر وغيرها، وهكذا الجوامع القديمة كجامع قرطبة أو الزيتونة أو غير ذلك من المساجد؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) ومعلوم أن شد الرحال لهذه المساجد الثلاثة إنما هو لموضوعية المساجد، وهي: الصلاة والاعتكاف.
إذاً: بهذا الحديث ينبه المؤلف رحمه الله على أن أي إنسان في أي بقعة من العالم إذا أراد أن يعتكف فيعتكف في مسجد من مساجد بلده أياً كان موقعه وأياً كان نوعية مسجده، مادام يجمع فيه، إلا إذا أراد الفضيلة فله أن يشد الرحال إلى واحد من هذه المساجد الثلاثة، فإذا جاء أي إنسان من شرق أو غرب أو شمال أو جنوب في محيط الأرض إلى أحد هذه المساجد الثلاثة ليعتكف فيه فلا مانع.
قد سبق أن نبهنا أن طالب العلم إذا وجد متعددات في حديث واحد فعليه أن يطلب الرابط والجامع والمناسبة بين جمع هذه المتعددات في سياق واحد، ومثلنا بحديث المنبر والتأمين عليه ثلاث مرات، حينما صعد صلى الله عليه وسلم المنبر فقال: (آمين، ثم صعد الدرجة الثانية فقال: آمين، ثم صعد الدرجة الثالثة فقال: آمين)، وكان منبره صلى الله عليه وسلم في زمنه من ثلاث درجات، قيل: كان يصعد على الأولى وتستقر قدماه الشريفتان على الوسطى، ويجلس على الثالثة، وربما وقف على الثالثة وأدى بعض الأعمال ليري الناس كيف يفعلون، كما جاء أنه صعد عليه وصلى ركعتين فاستقبل القبلة وكبر وقرأ وركع ثم رفع، ثم نزل القهقرى وسجد في أصل المنبر، ثم عاد إلى الركعة الثانية ثم قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) .
وموضوع التأمين ثلاث مرات: (قالوا: يا رسول الله! سمعناك تؤمن ولا نعلم على ما أمنت، قال: نعم، أتاني جبريل آنفاً وقال: يا محمد! من أدرك أبويه أو أحدهما ولم يدخلاه الجنة باعده الله في النار، فقل: آمين. فقلت: آمين. ولما صعدت الثانية قال: يا محمد! من ذكرت عنده ولم يصل عليك باعده الله في النار، فقل: آمين. فقلت: آمين. ثم قال: من أدرك رمضان وخرج عنه ولم يغفر له باعده الله في النار، فقل: آمين. فقلت: آمين) فلما تأملنا وتساءلنا عن علاقة ذكر هذه الثلاثة في سلك واحد في حديث واحد في وقت واحد؛ وجدنا أن عظيم الأجر في هذه الثلاث: ففي بر الوالدين عظيم الأجر، فالإنسان إذا أتاح الله له وجود والديه أو أحدهما ولم يعمل على برهما وحسن عشرتهما حتى يدخلاه الجنة فهذا ليس فيه خير؛ ولذا فضل النبي صلى الله عليه وسلم بر الوالدين على الجهاد في سبيل الله كما في الحديث: (لما أتاه شاب من اليمن وقال: جئت أبايعك على الهجرة وتركت أبوي يبكيان على خروجي. قال: ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما) فالجهاد في سبيل الله لا شيء أعلى منه، ومع هذا الرسول صلى الله عليه وسلم قدم بر الوالدين عليه.
وكذلك إذا كان الأبوان إنما عظم حقهما لأنهما السبب في وجود الإنسان من العدم إلى هذا العالم، وهو وجود مادي كما توجد أفراد الحيوانات، فالحيوانات تلقح وتنتج، وابن آدم أيضاً يلقح وينتج، فالطريقة واحدة، فكان لهما بهذا التسبب في إيجاده هذا الحق؛ لأن الموجد الحقيقي هو الله، وهما متسببان في إيجاده من الله، فكانا في الدرجة الثانية كما في قوله سبحانه: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:23] فحق الله أولاً ثم حق الوالدين.
والنبي صلى الله عليه وسلم هو سبب إيجادك المعنوي الروحاني، وهو الإيجاد الأفضل والأبقى؛ لأن إيجاد الدين وإيجاد الإسلام والإيجاد مع الله هو الذي يستمر إلى الحياة الآخرة، أما الإيجاد الأول فينقطع، بل يتمنى صاحبه لو لم يكن، ويأتي يوم القيامة كما قال الله تعالى: وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا [النبأ:40] أي: ولم أوجد؛ لأنه لم يصحبه الإيجاد المعنوي الروحي وهو الإيمان بالله.
إذاً: إذا كان للأبوين فضل على الإنسان في وجوده من العدم فللرسول على المسلم فضل إيجاده الإيجاد الأكمل، وهو الإيجاد المعنوي الروحي الذي يربطه بالله ويسعده في الآخرة.
ثم نأتي إلى رمضان، ورمضان هو شهر الخير وشهر المغفرة وشهر الرحمة، فإذا كان لله في كل ليلة من رمضان عتقاء من النار، وفي رمضان تتنزل الرحمات من الله تعالى، وفيه ليلة هي خير من ألف شهر، وفيها تغمر الملائكة الأرض، وتسلم على أهلها، من قامها غفر له ما تقدم من ذنبه، فإذا كان هذا الفضل كله في رمضان ولم يغفر له فيه ولم ينل حظاً منه فمتى ينال حظاً؟! إذاً: هذه الثلاث لها مناسبة ولها ارتباط بعضها ببعض ولهذا ذكرت في حديث واحد.
ونأتي إلى ذكر هذه المساجد الثلاثة: فواحد في مكة، وواحد في المدينة، وواحد في بيت المقدس، والذي في مكة هو أول بيت وضع للناس، والذي في بيت المقدس وضع بعده بأربعين سنة، والذي بالمدينة وضع بعدهما بآلاف السنين، فما الذي ربط بينها رغم التباعد فيما بينها؟! وإذا تأملنا أيضاً نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد ربط بينها في جانب آخر، فقال صلى الله عليه وسلم: (صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام) فصارت صلاة في المسجد الحرام بمائة ألف، وصلاة في مسجد المدينة بألف، وصلاة في المسجد الأقصى بخمسمائة، ووجدنا أن المسجد الأقصى قد ارتبط بالمسجد الحرام قبل المسجد النبوي في مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ [الإسراء:1] إذاً: هذه المساجد الثلاثة اجتمعت لها تلك الفضيلة، وهي مضاعفة الصلاة فيها، فتكون أيضاً مشتركة في مضاعفة الاعتكاف فيها؛ لأن الاعتكاف عبادة، فما دامت تتفاضل الصلوات فيها على سائر مساجد الدنيا فكذلك الاعتكاف.
نجد أيضاً أن في تاريخ كل منها ارتباطاً وثيقاً وصفات معينة لم يشاركها -أي: الثلاثة- غيرها من مساجد العالم كله، أولاً: إن اختيار المكان لها ما جاء عفواً، بل كان اختيارها في هذه الأماكن من الله، ثانياً: إن إقامتها وبناءها جاء عن طريق رسل الله وليس عامة الناس.
إذاً: ما دامت قد اشتركت في كيانها ووجودها في تلك المبادئ فبينها اشتراك أساسي، أما تعيين المكان فقد جاء في حق المسجد الحرام قوله سبحانه: وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ [الحج:26] والبيت كان قد انطمس، وزمزم كانت قد ردمت، ولم يبق في مكة أثر للبيت، فأوحى الله سبحانه وتعالى إلى خليله إبراهيم أن ينقل ولده إسماعيل إلى مكة، فجاء امتثالاً لأمر الله كما قال الله عنه أنه قال: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ [إبراهيم:37] وهذا باعتبار ما كان؛ لأنه لا يوجد بيت في وقت مناداة إبراهيم؛ لأن إبراهيم عليه السلام بناه بعد أن كبر إسماعيل وبوأ الله لإبراهيم مكان البيت -(بوأ) بمعنى: أطلعه على المباءة، والمباءة: المكان الذي يبوء إليه الإنسان ويئول- تقول كتب تاريخ المسجد الحرام: إن الله أرسل إليه سحابة في وقت الظهيرة -وقت الزوال- فسارت ثم وقفت وثبتت، وقال له المولى: خط على حدود ظلها. فخط على حدود ظل تلك السحابة، ثم بدأ بالحفر فنزل حتى وصل إلى القواعد الأساسية كما جاء في قوله تعالى: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ [البقرة:127] فلم يضعها ابتداءً ولم يحط حجر الأساس، بل كانت القواعد موجودة من قبله، ومن الذي كان قد وضعها؟ نجد في ذلك آثاراً كثيرة، منها أن الملائكة بنته لآدم، ومنها أن آدم هو الذي وضعها بعد أن جاء شيث، وغيرها من الآثار، وكلها آثار لا ترتفع إلى درجة الصحة التي يقطع بها.
والذي عندنا من علم اليقين ما جاء في كتاب الله من العمارة الثانية وهي عمارة الخليل عليه السلام، فلما وصل إلى القواعد بنى عليها ورفعها، وكان إسماعيل عليه السلام يساعد أباه، وكما يقولون في تاريخه: كان يأتيه بالحجر ويرفعه إليه، إلى أن استوى البناء إلى قامة الإنسان، وبعد أن وصل إلى قامة الإنسان لم يكن لديهم (سقالة)، وليس لديهم (مصعد)، فجاء مقام إبراهيم، وهو: حجر كان يقف عليه إبراهيم، فإذا بالحجر يصعد بإبراهيم وهو حامل الحجر للبناء حتى يضعه في الجدار في مستوى ارتفاعه، وينزل الحجر بإبراهيم حتى يأخذ الحجر من إسماعيل ويصعد به، وهكذا.
ولذا فإن مقام إبراهيم فيه آيات بينات، يقول الفخر الرازي : الآيات جمع آية وهي موجودة في الحجر في مقام إبراهيم، وكيف هي؟ قال: وجود حجر أصم، ثم يلين هذا الحجر تحت قدميه كأنه من الطين، وتبقى صلابة الحجر في حوافها لم تلن، فحجر واحد البعض منه يلين والبعض منه يظل قاسياً هذا فيه آية، فالجزء الذي لان فيه آية، والجزء الباقي على قساوته فيه آية، وإلى الآن يوجد مقام إبراهيم في الفانوس الموجود في صحن المطاف، وفيه أثر قدمي إبراهيم في الحجر.
إذاً: المسجد الحرام اختص أولاً بقوله سبحانه: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ [آل عمران:96] وهل هذه أولية مطلقة، بأن كان هو أول حركة عمران على وجه الأرض، أم هي أولية بالنسبة للمساجد؟ هناك من يرجح الأول، ويقول: إن أول عمران على وجه الأرض عند أن نزل آدم إلى الأرض هو البيت -الكعبة- ثم جاء إبراهيم عليه السلام وبوأ الله له المكان، وهذه خصيصة ثانية، فقام ببنائه إبراهيم يساعده إسماعيل والحجر معهم مساعد، وهذه خصيصة ثالثة، فاختص المسجد الحرام بهذه الأمور.
ثم هو في حرم آمن، ويتفق الجميع بأن الصلاة تتضاعف في جميع حرم مكة وليس في المسجد فقط، فبيوت مكة كلها داخلة في الحرم، فحدود الحرم إلى مسجد التنعيم، وجميع المساحة التي حول الحرم والتي لا يصح الإحرام منها للعمرة داخلة في الحرم وتتضاعف فيها الصلاة.
نأتي إلى مسجد المدينة: لما تمت بيعة العقبة الثانية، وجاءت الهجرة، وهاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة -كما نعلم- نزل أول ما وصل بقباء، فبنى مسجدها، وكيف بناه وأين؟ تذكر كتب تاريخ المدينة حديثاً ضعيفاً وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـعلي : (اركب الناقة، فركب، قال: ارخ زمامها، فأرخاه، فقامت واستدارت في مربع، فقال: خطوا على أثرها، فخطوا على أثرها، وبدأ ببناء مسجد قباء على ما خطته الناقة)، فقالوا: أيضاً كان اختيار المكان لمسجد قباء من الله، وقد شارك في بعض الاختصاصات، فالذي بناه هو رسول الله، وجعل من تطهر في بيته وأتى إليه وصلى فيه صلاة كان له كأجر عمرة، وقال سعد بن أبي وقاص : (لأن أصلي ركعتين في مسجد قباء أحب إلي من أن أذهب إلى بيت المقدس، ولو تعلمون ما لهذا المسجد لضربتم إليه أكباد الإبل ولو شهراً) يعني: لو لم يكن عندنا لكان لفضله يستحق أن تضرب إليه أكباد الإبل شهراً، يعني: تشد الرحال إليه. والكلام على مسجد قباء كثير، ويكفي فيه من الفضل أن من قصده للصلاة فيه كان له كأجر عمرة، وقول هذا الصحابي الجليل: (لأن أصلي ركعتين فيه أحب إلي من أن أذهب إلى المسجد الأقصى).
وبعد أن بنى صلى الله عليه وسلم مسجد قباء نزل دافعاً إلى المدينة، وكانت -كما نعلم- قبائل الأوس والخزرج الذين بايعوه عند العقبة في استقباله بالعَدد والعُدد، وكل قبيلة تقول: هلم إلينا يا رسول الله! هلم إلى العَدد والعُدد. أي: لنوفي لك بالعهد، فكان جوابه: (خلوا سبيلها فإنها مأمورة) يا سبحان الله! هذا نبي يوحى إليه بوحي السماء وفي أخطر رحلة يترك أمره إلى المأمورة وهي عجماء؟ ولماذا لا؟! ألم يوحِ ربك إلى النحل، والحيوانات لا تتحمل الوحي، لكنها تعقل، كما ذكر مالك في الموطأ: (أن يوم القيامة يكون يوم الجمعة، وأنه ما من دابة إلا وتصيخ بسمعها فجر يوم الجمعة شفقاً من الساعة)، فإذاً: جميع الحيوانات تعلم يوم الجمعة من الخميس من السبت، وتدرك أن يوم الجمعة تقوم فيه الساعة، وتتسمع هل جاءت النفخة أو لا، فهي تعقل وتدرك، والناقة هنا مأمورة، فمضت إلى أن وصلت إلى هذا المكان المبارك فبركت، ولم ينزل عنها صلى الله عليه وسلم لأول وهلة، ثم نهضت وهو عليها وراحت ودارت واستدارت ورجعت إلى المكان الأول وبركت ومدت عنقها وتحركت، يا سبحان الله! هل عندها خارطة تطبقها لتتثبت مما أمرت به؟! ليس عندها شيء من ذلك وإنما هذا لكي يكون عندهم علم بأنها ما جاءت عفواً وإنما بركت مأمورة بركت على العلم الأول، ثم قامت تتثبت وتتأكد بأنها مأمورة، فقال صلى الله عليه وسلم: (إنه المنزل إن شاء الله) فرجع الأمر إليه صلى الله عليه وسلم بقوله: إنه المنزل، وبتقريره المأمورة على ما أمرت به.
ويأتي السؤال هنا: لماذا ترك أمره للمأمورة؟
يجيب العلماء على ذلك: بأنه صلى الله عليه وسلم يعلم ما كان عليه المجتمع في المدينة قبل مجيئه، فقد كانت الحرب سجالاً بين الأوس والخزرج مائة سنة، ولم تقف إلا قبل مجيئه صلى الله عليه وسلم بخمس سنوات كما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، إذاً: هم بالأمس كانوا في سباق في القتال، وكانوا طائفتين متقاتلتين متنافستين، ولا يوجد واحدة تسلِّم للثانية، فلما وضعت الحرب أوزارها وهدأت، جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أشرف من جاءهم، فلو قال: سأنزل عند الأوس، فستقول الخزرج: الجرح لم يبرأ بعد، ولو قال: سأنزل عند الخزرج فستقول الأوس: ولماذا لسنا نحن؟ ولماذا تركتنا؟ فتثار بينهم الحزازات مرة أخرى.
لكن لما قال لهم: (إنها مأمورة) أي: عندكم الناقة وهي مأمورة فتفاهموا معها، واتركوني من تحمل مسئولية تفضيل قبيلة على قبيلة، فجاءت إلى حيث أمرها الله وبركت، فلم يتكلم أحد بشيء؛ لأنهم يعلمون أن المأمورة إنما يأمرها الله، فإذا اعترضوا كان اعتراضهم على الله، وهم جاءوا ليستقبلوا رسول الله لا ليعترضوا على الله! إذاً: انتهت مشكلة تنافس الأوس والخزرج.
بقي لنا المحل الذي نزل فيه وقال عنه: (إنه المنزل) والمنزل هذا ليس بخال وليس بقفر، بل هناك بيوت وفيها أناس، فلو قال: أنا سأنزل عند فلان لقال الأخرون: لماذا فلان؟ وستأتي المسألة ثانية، فوقف الجميع وكل واحدٍ يقول: عندي.. عندي، بيتي قريب، بيتي هنا، وهو ساكت، وأبو أيوب الأنصاري رضي الله تعالى عنه كتب الله له الخير فما زاحم ولا شارك ولا دافع وإنما قام ساكتاً وأخذ الرحل من على الناقة وجعله في بيته، فالتفت صلى الله عليه وسلم إلى الناقة فوجدها خالية، فسأل أين الرحل؟ قالوا: احتمله أبو أيوب إلى بيته، فقال: (المرء مع رحله) فلم يتخير أحداً ولم يبق على أحد غضاضة في ذلك. إذاً: سلمت الرحلة من كل شوائب قد تثير في النفس شيئاً، فلما استقر في بيت أبي أيوب نظر فإذا أمام البيت -كما يقال- بستان صغير أو مربد، والمربد عند أهل النخيل: هو المتسع بين البساتين الذي يجمعون فيه الرطب حتى يتمر، وينشرونه فيه للشمس حتى تذهب الرطوبة عنه ويشتد، فسأل لمن هو؟ فقالوا: لأيتام - سهل وسهيل - عند أسعد بن زرارة ، قال: عليَّ به. فجاء، فقال له: ثامني على هذا المربد -ثامني يعني: اذكر لي ثمنه وبعه علي بالثمن-. قال: لا يا رسول الله! هو لك بدون ثمن، هو لأيتام عندي سأرضيهم عنه بأرض بدله أو بتعويض عنه، قال: لا، ثامنّي. فثامنه وانتهى الثمن على عشرين ديناراً ذهباً، فدفعها أبو بكر رضي الله تعالى عنه، فكل ركعة يركعها الإنسان في المسجد النبوي يكون لـأبي بكر فيها أجر.
فقطع الجريد، وسوى الأرض، وبدأ ببناء المسجد من جذوع النخل ومن جريده، فقالوا: نبنيه من لبن. فقال: (عريش كعريش أخي موسى والأمر أعجل) الله أكبر! والله! ثم والله! لو وقف أكبر طالب علم عند قوله صلى الله عليه وسلم: (والأمر أعجل) وتتبع حياته صلى الله عليه وسلم من أول يوم وصل فيه إلى المدينة إلى آخر يوم فارق فيه الدنيا لوجد الأمر أعجل، كم غزوة غزاها في العشر سنوات التي قضاها في المدينة؟ قيل: غزا سبع عشرة غزوة، وقيل خمساً وعشرين غزوة، وكم من خطبة خطبها على المنبر؟ وكم حج وكم اعتمر وكم وكم؟ فلا يوجد ساعة ذهبت عليه سدى، والأمر أعجل.
وتأملوا يا إخوان! في صلح الحديبية، كان في العهد بين النبي صلى الله عليه وسلم وقريش أن تضع الحرب أوزارها عشر سنوات، ولكن الأمر أعجل، فنقضت قريش العهد بعد سنتين، ولو وفت بعهدها ما تم فتح مكة، ولا انتشر الإسلام إذا كانوا واقفين عند ذلك العهد، لكن العهد عشر سنوات والأمر أعجل، فكان نقضها للعهد سبباً لغزوها وفتح مكة، ولما فتحت مكة إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا [النصر:1-2] فقد انتهت المهمة، قال تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة:3].
يهمنا أن تعيين المكان لهذا المسجد كان اختياره من المأمورة، والذي أمرها هو الله سبحانه وتعالى، إذاً: اشترك المكان مع المكان في مكة والمدينة، هناك بوأنا وهنا أمرنا، والذي بناه في مكة إبراهيم، والذي بناه في المدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم بعد خيبر في السنة السابعة كثر المسلمون وضاق عليهم، وكان ستين ذراعاً في سبعين ذراعاً، فبناه صلى الله عليه وسلم ثانيةً، وجعل الأساس لجدرانه من الحجارة والباقي من اللبن، ووسعه، وجعله مائة ذراع في مائة ذراع، وفي العمود الذي فيه تاج أخضر مكتوب عليه من أعلى: هذا حد مسجد النبي. ولكن كما قال بعض العلماء: هذا التعبير خطأ؛ لأن مسجد النبي هو المسجد النبوي مهما اتسع ولو إلى صنعاء، والأولى أن يقال: هذا حد توسعة النبي.
يهمنا: أن النبي صلى الله عليه وسلم بنى المسجد بعد أن عين له المكان، ثم زاد فيه، ثم جاء بعده الخليفة أبو بكر ولم يزد شيئاً؛ لأنه كان مشغولاً بمهام الأمور، وقتال أهل الردة، وتدعيم الإسلام، وتدعيم الزكاة، و... وثم جاء عمر رضي الله تعالى عنه، واستقرت له الدنيا، وسير الجيوش، وكثر الناس، فخاطب الناس وقال: إني أريد أن أوسع في المسجد، ثم قال: والله! لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أود -أو أريد- أن أوسع في المسجد وأشار بيده إلى جهة القبلة) لولا أني سمعت ذلك ما وسعت المسجد.
وفي توسعة عمر قضايا منها: أنه لما أراد أن يوسع من جهة القبلة ومن جهة الغرب والشرق كان للعباس رضي الله تعالى عنه -وهو عم رسول الله- بيت غربي المسجد، فجاءه عمر وقال: يا عباس ! قد ضاق المسجد على الناس وأريد أن أوسع المسجد، وليس أمامي للتوسعة إلا بيتك من الغرب، وإلا حجرات أمهات المؤمنين من الشرق، ومعلوم أن حجرات أمهات المؤمنين لا يمكن لأحد أن يمسها ولا أن يخرجهن من بيوتهن، بقي بيتك، وأريد أن أدخله في المسجد. قال: لا أعطيك أبداً. قال: أنا لا أريده لنفسي، أريده للمسلمين. قال: لا أعطيك. فقال له: اختر حكماً بيني وبينك. قال: أختار أبي بن كعب . فذهبا إليه فجلسا عنده، وأخبره عمر بالواقع، فقال: أغصباً أم رضاً؟ قال: رضاً. قال أبي : سأخبرك: إن الله كان قد أوحى إلى نبيه داود أن ابنِ لي بيتاً كما لك بيت، فقال: يا رب! وأين أبنيه لك؟ فقال: حيث ترى الفارس المعلم شاهراً سيفه. فرأى داود الفارس المعلم شاهراً سيفه في حوش كبير لرجل من بني إسرائيل، فاستدعاه وقال له: ثامني على الحوش. قال: بكم تشتريه؟ قال: بمائة ألف. قال: بعتك. ثم قال: أمهلني يا نبي الله! أستنصحك، هل الحوش أحسن أو المائة ألف؟ قال: الحوش أحسن. قال: أقلني. قال: أقلتك. قال: اشتر من جديد قال: بمائتي ألف. قال: بعت. قال: أمهلني أستنصحك، هل الحوش أحسن أو المائتان؟ قال: الحوش أحسن. فباع واستقال خمس مرات، حتى وصل إلى خمسمائة ألف، فليتعلم التجار والدلالون وأصحاب العقارات والمشورة والنصيحة هذا الدرس، فهاهو نبي الله داود يعلمنا الأمانة فيما استنصحه الرجل على نفسه فينصحه ويقول له: الحوش أحسن. ولم يقل: الثمن طيب وفيه خير وكذا.. لا إنما قال له: الحوش أحسن، فلما تعب معه خمس مرات قال له: اذكر الثمن الذي تريده ويرضيك وأرحني من هذه المماكسة. قال: أوتفعل؟! قال: نعم. قال: تملؤه علي نعماً إبلاً وبقراً وغنماً. قال: لك ذلك. ونادى نبي الله داود في بني إسرائيل: أن احشدوا له من الإبل والبقر والغنم حتى يمتلئ الحوش.
ويقولون في هذا الخبر: إن بني إسرائيل أتوه في الليل وقالوا له: شدّدت على نبي الله، وأرادوا أن يقتلوه ويأخذوا الحوش مجاناً، ففلت منهم ولما أصبح جاء إلى داود وقال: أغصباً أم رضاً يا نبي الله؟! قال: رضاً. قال: إن قومك كانوا يريدون أن يقتلوني ويأخذوه غصباً.
ونحن نقول: إن هذا الداء موجود فيهم إلى الآن.
يهمنا أنه اشتراه وبنى بيت المقدس، إذاً: تعيين المكان في بيت المقدس كان من الله عز وجل كما في هذا الخبر، وبناؤه من نبي الله داود.
فـأبي بن كعب ذكر ذلك لـعمر ، وقال: يا عمر ! أتريده رضاً أم غصباً ؟ قال: لا والله! بل رضاً، قال: هذه قصة بيت المقدس مع نبي الله داود أرضى الرجل على حوشه. قال: أنا مستعد، إن أردت ثمناً يا عباس ! أضعفت لك القيمة من بيت مال المسلمين، وإن أردت أرضاً أقطعتك أرضاً من أرض المسلمين، وإن أردت داراً غيره بنيت لك بيتاً خيراً منه من بيت مال المسلمين. وهل هناك أكثر من هذا؟! فقال العباس : ألكونك أمير المؤمنين! لا أريد أن أعطيك. قال: كما تشاء، أنا أردت توسعة المسجد من أجل المسلمين لما ضاق عليهم، وليس أمامي إلا بيتك، فإن رفضت فهذا شأنك. ولم يقل: خذوه غصباً عنه، انتزعوا الملكية بالقوة، ولا تبالوا أرضي أم لم يرضَ لم يقل ذلك؛ لأن هذا سيكون مصلى للمسلمين، وهل يصلون في مكان مغصوب؟ الجواب: لا، فتركه عمر ؛ لأنه أبدى من جهته ما يمكن أن يبديه أي مسئول، عرض له ثمناً مضاعفاً، وأرضاً مضاعفة، وبيتاً أحسن منه.
فلما سكت عمر . قال: انتهيت يا عمر ؟! قال: انتهيت. قال: ألك عندي شيء؟ قال: ليس لي عندك شيء. قال: هو هدية مني للمسلمين.
ولماذا لم يقل هذا من قبل، ولماذا هذا العناد؟ الجواب: ليعلم الناس أن الأملاك محترمة، وأن الحقوق مؤداة، وأن هذا عمر وهو الخليفة، وقد أضعف لصاحب الملك حقه ومع ذلك لم يأخذه منه غصباً، حينئذ قال: جزاك الله خيراً. ووسع عمر المسجد مكان البيت.
فاشترك المسجد النبوي مع المسجد الحرام في تعيين المكان وفي كون الذي بناه نبي، وكذلك المسجد الأقصى كما جاء الخبر السالف الذكر.
ونجمل هذا في الآتي:
أولاً: المسجد النبوي طرأت عليه توسعات بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويأتي السؤال عن تلك التوسعات مع الحديث: (صلاة في مسجدي هذا بألف صلاة) فهل يا ترى! قوله: (مسجدي هذا) ينسحب إلى التوسعات التي جاءت بعده أو لا ينسحب؟ ثم (ألف صلاة) هل هي في عهده أو من بعدِه؟ وهل هي للفريضة والنافلة أو للفريضة فقط؟
فنأخذ أولاً: التوسعة، لما وسع عمر رضي الله تعالى عنه المسجد رأى بعض الصحابة يتحرج من الصلاة في توسعة عمر ، فلاحظ ذلك، فقال: والله! إنه لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو امتد إلى ذي الحليفة -أبيار علي-. إذاً: عمر يقسم بأن الزيادة التي زادها إنها من مسجد رسول الله، ولو جاءت الزيادة بعده، وقد جاءت من عثمان ، ومن الوليد، ومن الخلفاء بعدهم، ومن العثمانيين، ومن الدولة السعودية. فهي من مسجد رسول الله.
والواقع يصدق ذلك. فلو امتد إلى ذي الحليفة، وجلس إنسان على الحائط الغربي من ذي الحليفة، وقيل له: أين أنت جالس؟ لقال: في مسجد رسول الله، إذاً: التوسعة مهما كانت فإنه ينسحب إليها فضل المسجد النبوي.
وسبب هذا الخلاف هو مدلول اللغة في كون اسم الإشارة اسم يعين مسماه كما يقول ابن مالك في الألفية: اسم الإشارة وضع بالوضع العام لموضوع له خاص. فكلمة (هذا) تصدق على كل مفرد مذكر، فيقال: هذا إنسان، هذا جهاز، هذا عمود، هذا مصباح، هذا قلم، فكلمة (هذا) كلمة عامة تطلق على كل مفرد مذكر، ولكن مع كونها عامة هل تطلق على العموم في وقت واحد أو على فرد من أفراد العموم؟ الجواب: على فرد من أفراده، ولهذا قال بعض العلماء: اسم الإشارة هو: اسم يعين مسماه كالعلم، فقالوا في قوله: (مسجدي هذا) يكون خاصاً بما أشارت إليه الإشارة الحسية فيما يصلح لها؟ وقد ذكرنا في تتمة أضواء البيان عند قوله سبحانه: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن:18] وذكرنا قوله صلى الله عليه وسلم: (صلاة في مسجدي) و(مسجدي) في اللغة: مضاف ومضاف إليه، مسجد: مضاف، وياء المتكلم مضاف إليه، إذاً: مهما اتسع المسجد فهو مضاف إليه صلى الله عليه وسلم، والإضافة تكون للتخصيص كما تقول: باب الدار، وتكون للتمليك، كما تقول: كتاب زيد، إذاً: (مسجدي) مدلول الإضافة فيه يعادل مدلول اسم الإشارة.
ونأتي إلى قضية أخرى جاء فيها الحديث الصحيح: لما نزل قوله سبحانه: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ [التوبة:108] تلاحى بعض الناس: هل هو مسجد قباء أو مسجد رسول الله؟ فأتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد، فأخذ كفاً من حصباء وضرب به الأرض وقال: (هو مسجدكم هذا) وأما مسجد قباء فما مصيره؟ مسجد قباء فيه النص: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا [التوبة:108] ولما نزلت ذهب رسول الله إلى بني عمرو بن عوف وهم أهل قباء فقال: (إن الله قد أثنى عليكم في الطهور، فماذا تفعلون؟ قالوا: إنا نتبع الحجارة الماء) أي: نستنتجي بالحجارة، ثم نغسل بالماء.
إذاً: الآية قطعاً نزلت في مسجد قباء، وعلى هذا فقوله تعالى: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ [التوبة:108] هل الأولية هذه أولية زمانية أو أولية تفضيل؟ إن جئنا إلى الأولية الزمنية فمسجد قباء هو أول، وإن جئنا إلى أولية الأولولية فلا شك أن المسجد النبوي أولى، ثم جمع العلماء وقالوا: كلاهما أسس على التقوى من أول يوم، ولذا فإن الآية الكريمة تشمل كل مسجد في كل زمان وفي كل مكان إذا بني من أول يوم على التقوى، لا على الرياء ولا على السمعة ولا على مزاحمة لمسجد آخر، إنما بني لوجه الله سبحانه.
إذاً: الصلاة في الزيادة تتعادل مع الصلاة في البناء الأول، ولكن لا شك ولا ريب أن المكان الذي كان صلى الله عليه وسلم يصلي فيه هو أولى من المكان الذي جاء من بعده، وأفضلية الألف موجودة فيهما، ولكن الأولوية لا شك أنها في البناء الذي كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا جاءت الخصيصة الخاصة بهذا وأنه روضة من رياض الجنة قال صلى الله عليه وسلم: (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على ترعة من ترع الجنة)، وقد أشرنا إلى اختصاصه بالعبادة في الصلاة والاعتكاف، وذكرنا قصة الرجل الجهني الذي أتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (إني رجل كبير، ولا أستطيع أن أنزل كل ليلة إلى هذا المسجد، وإني -بحمد الله- أصلي بقومي، فمرني بليلة أنزل فيها إلى هذا المسجد ابتغاء ليلة القدر) فلم يقل له: صل حيثما كنت، ولم يقل له: ابق وصل مع قومك، ولكنه قال له: (انزل ليلة ثلاث وعشرين) ففي هذا إجازة بأن يأتي الإنسان إلى هذا المسجد من أي مكان كان للاعتكاف كما يأتي للصلاة.
وقد جاء اختصاصه أيضاً بالمجيء إليه لطلب العلم في حديث: (من راح إلى مسجدي لعلم يعلمه، أو يتعلمه، كان كمن غزا في سبيل الله) ولا توجد هذه الخصوصية في أي مكان في العالم، ولذا سمعنا من كثير من مشايخنا ومن زملائنا، وجربناه في أنفسنا: أن الله سبحانه يفتح على طالب العلم في هذا المسجد بما لا يفتح عليه في غيره، وهذا من خصائص المسجد النبوي الشريف.
وبقي في قوله: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) قضية كبرى، ونزاع طويل كما يقول ابن كثير ، لا ينبغي الدخول فيها إلا إذا كان هناك وقت يتسع لبيانها، ثم التعليق عليها وإيضاح الراجح فيها، ومن أراد أن يقف عليها فعليه أن يرجع إلى الجزء الثامن من تتمة أضواء البيان، فهناك بحث مطول قريباً من خمسين صفحة في حكم شد الرحال إلى المدينة أو إلى المسجد النبوي للصلاة وللسلام على سيد الخلق صلى الله عليه وسلم.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر