الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
قال المصنف رحمه الله: [وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: (أن رجالاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر)، متفق عليه.
وعن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في ليلة القدر: (ليلة سبع وعشرين)، رواه أبو داود والراجح وقفه، وقد اختلف في تعيينها على أربعين قولاً أوردتها في فتح الباري.
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (قلت يا رسول الله: أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر ما أقول فيها؟ قال: قولي: اللهم! إنك عفو تحب العفو فاعف عني)، رواه الخمسة غير أبي داود وصححه الترمذي والحاكم ].
إن هذا المبحث وهو مبحث ليلة القدر متعدد الجوانب، من ذلك تعريفها، ولماذا سميت ليلة القدر؟ ومن ذلك أيضاً تعيين وقتها ومتى تكون، هل هي في عموم السنة أو في خصوص رمضان أو في العشر الأواخر أو في الوتر منها؟ وهل هي ثابتة أو متنقلة؟ وهل هي باقية أو رفعت وماذا يقول من صادفها؟ وهل لها علامات؟ وما هو فضلها؟ كل ذلك يتناوله العلماء بتوسع.
ومما توسعوا فيه موضوع تعيينها، وهذا الموضوع يهم الجميع، وقد ذكر لنا المؤلف أنه أورد أربعين قولاً في تعيينها في فتح الباري، ونقلها عنه الشوكاني وزاد عليها أربعة أقوال، فتحصل بذلك أربعة وأربعون قولاً في تعيينها.
وفي الحديث الذي ذكره المصنف رحمه الله: (بأن رجالاً أروا في منامهم أن ليلة القدر في السبع الأواخر من رمضان -أي: السبع الأخيرة من العشر الأواخر من رمضان- وأخبروا النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: أرى -أي: أظن- أن رؤياكم قد تواطأت)، التواطؤ هو كما يقول العلماء: التطابق، كالوطي على الوطي تواطأت، تضع القدم على القدم تتابعه، فتواطأت رؤياكم أي: اتفقت رؤياكم، على أنها في السبع الأواخر من رمضان، فقال صلى الله عليه وسلم: (فالتمسوها في السبع الأواخر من رمضان).
ففي رؤياهم إياها تقرير من النبي صلى الله عليه وسلم لهم عليها، ثم أصدر التشريع من قوله لا من رؤياهم فقال: (التمسوها) ورؤيا المؤمن قد جاء في الحديث عنها: (الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة، يراها الرجل الصالح أو ترى له) وقال العلماء: هذا العدد الذي هو جزء من ستة وأربعين، ليس من خمسة وليس من أربعة ولا من سبعة قالوا: لأن رسالة محمد صلوات الله وسلامه عليه كانت مدتها ثلاثاً وعشرين سنة: منها ثلاث عشرة سنة بمكة، وعشر سنوات بالمدينة، وكانت مدة تحنثه في الغار قبل أن يأتيه الوحي بالرسالة ستة أشهر، فقالوا: إذا قسمنا الثلاث والعشرين سنة على نصف فسيكون فيها ستة وأربعون نصفاً؛ لأن الستة الأشهر نصف السنة، إذاً: نسبة مدة تحنثه صلوات الله وسلامه عليه من مدة الرسالة كاملة نسبة واحد من ستة وأربعين، وكان صلوات الله وسلامه عليه في مدة تحنثه -أي: تعبده وانقطاعه- في غار حراء يرى الرؤيا، فإذا رأى الرؤيا جاءت من الغد كفلق الصبح واقعية، فكانت الرؤيا تصدق في تلك المدة، فقال صلى الله عليه وسلم مبيناً: (إن الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة).
وكان صلوات الله وسلامه عليه إذا صلى الصبح سأل أصحابه: (أيكم رأى رؤيا البارحة؟) فيقصون عليه ما رأوا ويعبرها لهم.
وهنا الصحابة رضي الله تعالى عنهم أُروا في المنام ليلة القدر؛ وكلنا يعلم مدى صحة الرؤيا في قضية مشروعية الأذان، لما تشاور النبي صلى الله عليه وسلم مع الصحابة في أمر إعلامهم بالوقت من أجل أن يجتمعوا للصلاة، فقد كان الواحد منهم يخرج من بيته ويمر على أخيه في بيته فينبهه: الصلاة يا فلان! الصلاة يا فلان! وكل يُعْلِم الآخر حتى يجتمعوا لصلاة الفريضة جماعةً، فتشاور صلى الله عليه وسلم معهم ليتخذوا وسيلة للإعلام، فمنهم من اقترح الناقوس -وهو الجرس- فقال: لا، هذا للنصارى، ومنهم من اقترح الطبل، فقال: لا، هذا لكذا، ومنهم من اقترح البوق، فقال: هذا لليهود، ومنهم من اقترح إشعال النار، فقال: لا، هذا للمجوس.. وهكذا، وانصرفوا دون أن يتفقوا على شيء، فلما كان الغد جاء عبد الله بن زيد وقال: (يا رسول الله! رأيت فيما يرى النائم أنه طاف بي رجل، عليه حلة خضراء، يحمل ناقوساً على كتفه -وفي رواية: خشبة على كتفه- فقلت: أتبيع الناقوس؟ فقال: وماذا تفعلون به؟ قلت: ننقس به للصلاة، قال: ألا أدلك على ما هو خير من ذلك؟ قلت: بلى. فوقف وأذن، وذكر ألفاظ الأذان الخمسة عشر، ثم تنحى قليلاً وذكر الإقامة، وقال: هكذا تفعلون. فلما سمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنها لرؤيا حق، قم فألقه على
والذي يهمنا: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سمع رؤيا الصحابة، ووجدها واضحة، أقرهم عليها. وأذكر هنا بالمناسبة أن علماء التعبير يقولون: كل من حسن طعامه ولطف، وحسن لباسه ونظف، وتعود النظافة في جسمه دائماً وغالباً تكون رؤياه صالحة صادقة، وهذا في الأول والآخر يرجع إلى صلاح العمل، وإلى شفافية الروح وطهارة القلب؛ لأن الرؤيا رؤية البصيرة وليست رؤية البصر، والذي يهمنا في هذا الحديث أنهم ذكروا ليلة القدر في السبع الأواخر.
والذي أورد على خاطرهم ترائي ليلة القدر هو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد أراد أن يخبرهم بليلة القدر.
إذاً: في هذا الحديث النص على أن ليلة القدر في السبع الأواخر، والسبع الأواخر هي العشر الأواخر ما عدا الأولى، والثانية والثالثة من العشر، وبقي الرابعة والخامسة والسادسة والسابعة والثامنة والتاسعة والعاشرة، إذاً: الثالثة من أول العشر هي أول السبع، فيقولون: إن النصوص وردت في العشر الأواخر آكد منها في غيرها، وكما قال المؤلف في آخر الحديث الثاني: لقد أوردت أربعين قولاً في تعيينها، منها ما جاء عن ابن مسعود أنه قال: من قام العام كله صادف ليلة القدر. ولما ذكر ذلك لـأبي بن كعب قال: يرحم الله أبا عبد الرحمن ، والله! لقد علم أنها في العشر الأواخر -أو في الوتر من العشر الأواخر-.
وهنا: من الليالي التي هي أرجى ليالي القدر ليلة واحد وعشرين، وذلك لما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه لما كان معتكفاً في العشر الوسطى، ثم خرج على الناس برأسه من خبائه وقال: (من كان معتكفاً معي فليعتكف) لأن راوي الحديث يقول: فخرجنا في صبيحة عشرين بأمتعتنا، أي: انتهينا، فخرج عليهم فقال: (من كان قد اعتكف معي فليعتكف، فقد أُتيت وأخبرت أن الذي أطلبه أمامي -يعني في العشر الأواخر- وقد رأيتني -أي: فيما يرى النائم، أو رأيتني فيما يوحى إليَّ إلهاماً، أو نفث في روعي... كل ذلك يصدق عليه- أني في صبيحتها أسجد في ماء وطين) يقول راوي الحديث: وما كان في السماء من سحاب ولا قزعة، فأمطرت السماء ليلاً، وكان المسجد من العريش -أي: من الجريد والجذوع- وأرضه من التراب، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم قد صلى الصبح في أثر الماء والطين، أي: فوكف السقف ونزل الماء من المطر، وتبللت أرض المسجد، يقول: ولقد رأيت الطين والماء على أرنبة أنف رسول الله وعلى جبهته، وكان ذلك صبيحة يوم واحد وعشرين، فهذه رواية صحيحة أنه قال: (أريت أني أسجد في صبيحتها في ماء وطين) وجاء الماء والطين صبيحة يوم واحد وعشرين، فهذا دليل على أنها في ليلة واحد وعشرين.
وفي عموم (التمسوها في الوتر من العشر الأواخر) روى مالك رحمه الله في الموطأ، وهو في صحيح البخاري وفي السنن: أن رجلاً من جهينة كبيراً في السن كان يسكن أطراف المدينة، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! إني رجل كبير السن، أسكن في البادية، وإني -بحمد الله- أصلي بقومي، ولا أستطيع أن أنزل كل ليلة إلى هذا المسجد، فمرني بليلة أنزل فيها إلى هذا المسجد رجاء ليلة القدر) فهذا رجل كبير السن، ساكن في ضاحية المدينة، يصلي بقومه، سأل رسول الله أن يعين له ليلة ينزل فيها إلى هذا المسجد بغية ورجاء ليلة القدر، فماذا قال له؟ قال: (انزل ليلة ثلاث وعشرين) .
ونحن نقف عند هذا الأثر، الرجل يقول: أنا رجل كبير، وأصلي -بحمد الله- بقومي، ولا أستطيع النزول كل ليلة إلى هذا المسجد، يعني أنه يرغب أن ينزل ولكن يشق عليه، ثم يقول: أريد أن أنزل ليلة، فمرني بليلة وعين لي ليلة أنزل فيها تحرياً لليلة القدر، فلم يقل له صلى الله عليه وسلم: أنت رجل كبير، وأنت تصلي بقومك، صل هناك وتحر ليلة ثلاث وعشرين، ولكن أقره على الرغبة في النزول إلى هذا المسجد النبوي الشريف، وعين له الليلة التي ينزل فيها.
إذاً: لا نعيب على الناس حينما يأتون من حيث شاءوا إلى المسجد النبوي الشريف يتحرون ليلة القدر فيه، وهم يتحرونها فيه؛ لأننا نعلم جميعاً أن الصلاة فيه بألف صلاة، فإذا صادفت ليلة القدر، وهي خير من ألف شهر، إذاً: فستكون ألف في ألف فهذا فضل عظيم! إذاً: هذا الحديث يبين لنا مدى فضل الصلاة في المسجد النبوي في رمضان وفي العشر الأواخر تحرياً لليلة القدر ولو كانت نافلة، ولا نقول: كلٌ يصلي في مكانه، فهذا صحيح ولا مانع أن يصلي الرجل في بيته، أو يصلي في باديته، أو يصلي في حاضرته حيثما كان؛ لأن هذا الرجل سأل، والرسول قرره على رغبته، وعين له الليلة التي يتحرى أو هي أحرى أن يصادف فيها ليلة القدر.
تأتي أحاديث عموم الوتر فيدخل فيها ليلة خمس وعشرين، لكن ليس فيها نصوص بذاتها كالحادية والعشرين، والثالثة والسابعة والتاسعة والعشرين، ثم نأتي إلى ليلة سبع وعشرين وهي من الوتر، فنجد فيها هذا الحديث الذي اختاره المؤلف وساقه هنا وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (أرى رؤياكم قد تواطأت على ليلة سبع وعشرين، فمن كان متحرياً فليتحرها أو تحروها ليلة سبع وعشرين) وهنا نجد أن الجمهور يرجحون أنها في ليلة سبع وعشرين؛ لأن عدداً من الصحابة رأوها في منامهم، وتواطأت رؤياهم عليها، والرسول صلى الله عليه وسلم أقرهم على ذلك، ثم نجد بعض الاجتهادات في تأييد أنها في ليلة سبع وعشرين.
فمن تلك الاجتهادات قول بعض العلماء: إنها معينة في سورة القدر في قوله تعالى: سَلامٌ هِيَ [القدر:5] يقولون: إذا عددت من أول قوله تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر:1] إلى كلمة (هي) فستجد كلمة (هي) هي الكلمة السابعة والعشرون من كلمات السورة، و(هي) ضمير مفرد مؤنث، فقالوا: إذاً: هي في ليلة سبع وعشرين.
وهذا -كما يقولون- ربما يكون من باب المصادفات، وقد ساق ابن كثير والقرطبي وكثير من المفسرين أن عمر رضي الله تعالى عنه كان كثيراً ما يدخل ابن عباس في مجلسه وهو غلام، ويرى من شيوخ الصحابة نوع استغراب أن يجالس غلام كبار الصحابة، فأراد عمر أن يبين لهم أنه ما أجلسه معهم إلا لفضله وعلمه وإن كان غلاماً، وفي بعض المجالس سأل عن سورة النصر: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر:1] فتكلموا فيها وقالوا: هي بشرى بالفتح، وبشرى بالنصر، وبشرى بانتصار الإسلام، وابن عباس ساكت، فسأله عمر : ماذا تقول يا ابن عباس ؟! قال: والله! لقد نعت إلينا رسول الله وهو حي بين أظهرنا؛ لأنه إذا جاء نصر الله، وإذا دخل الناس في دين الله أفواجاً، فمهمة الرسالة قد تمت، ولم يبق هناك حاجة للبقاء، فليتأهب، ويسبح بحمد ربه ويتزود ليلقى ربه. فقال عمر : وأنا أقول ذلك.
ومرة أخرى سألهم عن ليلة القدر، فخاضوا في بعض الأحاديث وفي رؤى بعض الصحابة، فقال: ما تقول أنت يا ابن عباس ؟! قال: إني لأعلم أي ليلة هي. قال: وما هي؟ قال: هي لسبع بقين أو لسبع خلون، (لسبع بقين) يعني: ليلة ثلاث وعشرين؛ لأن الباقي بعدها سبع ليال، أو (لسبع خلون) يعني: ليلة سبع وعشرين؛ لأنه قد خلت ومضت قبلها سبع ليال، قال: وكيف عرفت ذلك؟ قال: لأن الله خلق السماوات سبعاً، والأراضين سبعاً، وجعل الجمرات سبعاً، والطواف سبعاً، والسعي سبعاً، والأسبوع سبعاً، والشهر يقوم على سبع، والإنسان خلق من سبع، وغذي بسبع... وذكر أشياء من هذا كثيرة. قال: فهذا الطواف والسعي والسماوات عرفناها، ولكن الإنسان كيف خلق وكيف غذي؟ قال: يقول تعالى: فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا [عبس:24-31] والأبٌّ للدواب، وهذا رزق الإنسان مبني على هذا، وأطواره سبعة: نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظام، ثم كسي العظام لحماً ثم أنشى خلقاً آخر، قال: والله لقد غصت على ما لم نغص عليه، فاعترف له عمر رضي الله تعالى عنه بالفضل وبدقة الاستنتاج.
يهمنا هنا قول ابن عباس : لسبع بقين، أو لسبع مضين. وهذا يتعين إما ليلة ثلاثٍ وعشرين وإما ليلة سبع وعشرين، هذا ما يتعلق بالتعيين.
وهذا أحسن ما يجمع به بين النصوص، وهو يساعد على المعنى الذي قالوه في الحكمة من إخفائها: ليجتهد الناس في كل العشر الأواخر.
ومن هنا قالوا: إنها خاصة بهذه الأمة، والآخرون يقولون: بل هي موجودة في الأمم قبلنا؛ لما جاء في حديث أبي هريرة : (أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم: هل ليلة القدر كانت تكون في الأمم مع الأنبياء، فإذا مات النبي رفعت، أو هي باقية وخاصة بهذه الأمة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: بل كانت مع الأنبياء في الأمم الماضية) وسواء كانت في الأمم الأوائل، أم كانت جديدة في هذه الأمة فنحن يهمنا الاجتهاد فيها.
العلامات التي وردت إنما تظهر في صبيحتها، وبعضهم يقول: من أكرمه الله فقد يرى بعض العلامات، وليست علاماتها عامة كالشمس والقمر، ولكن ربما يجد إنسانٌ شيئاً ما دون أن يراه الآخرون، ولكن العلامة العامة هي معنوية روحانية، يذكرونها عند قوله سبحانه: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِيَ [القدر:4-5] فقالوا: (سَلامٌ هِيَ) أي أن الملائكة تسلم على كل من في الأرض، فيقولون: من صافحته الملائكة -وقد تصافح البعض- يشعر أن في قلبه رقة، وكأنه يميل إلى البكاء فرحاً أو خوفاً من الله، وهذه الحالة المعنوية قد تعتري بعض الناس إذا قرأ شيئاً من القرآن، فإن المولى يتجلى عليه بروحانية كتابه، فيحس طمأنينة وارتياحاً نفسياً لم يكن يحس به من قبل، وهي السكينة التي تنزل عند قراءة القرآن كما ذكر ذاك الصحابي لرسول الله أنه كان يقرأ القرآن بالليل والفرس في مربطها فإذا بها تجول، وعندها طفل فخاف عليه، وترك القراءة وذهب ليرى الطفل فوجد الفرس قد سكنت وهدأت فإذا عاد إلى صلاته وقرأ تحركت الفرس، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: (تلك السكينة التي تنزل عند قراءة القرآن، فتراها الفرس فتتحرك) .
وهكذا قد يرى أنواع وأشخاص وأفراد من الناس في تلك الليلة بعض تلك العلامات التي من يحسها يحس بانشراح صدره، وبخفة روحه، وبرفعة معنوياته، وبمحبته لذكر الله وما والاه.
أما العلامات التي يشهدها الجميع ففي صبيحتها تشرق الشمس وليس لها شعاع كشعاع الأمس، بل تكون الشمس هادئة رائقة فيها شبه من ضوء القمر، يقولون في سبب ذلك: إن الملائكة حينما تنزلوا ليلة القدر لم يبق شبر في الأرض إلا وفيه ملك، فإذا صلى الناس الفجر بدأ الملائكة يصعدون إلى السماوات السبع، وإلى سدرة المنتهى، فيصعدون من بعد الفجر إلى طلوع الشمس وإلى الضحى فكثرة عددهم مع نورانيتهم -لأن الملائكة من نور- يختلط نور الملائكة مع شعاع الشمس، فيختلط النور والشعاع، فيتغير لون أشعة الشمس بسبب ذلك.
ويقولون في علاماتها: إن ليلتها سلام، فلا يقع فيها من الأحداث العظام التي تفزع الأمم، لا يقع فيها خسف، ولا يقع فيها غرق، ولا يقع فيها إحراق، وكذلك نهارها يكون تابعاً لليلتها بسلام: سَلامٌ هِيَ [القدر:5] والواجب على العالم في هذا الوقت الحاضر -لو كانوا عقلاء- أن يجعلوا لهم فترة سلام يستريحون فيها ولو كانوا في حالة قتال وشحناء، ويعطون أنفسهم فرصة للمفاهمة، وللتوصل إلى السلام الحقيقي، وسابقاً جعلوا سويسرا بلداً بعيداً عن الحروب، يلتقي فيها المتحاربان، يتقاتلان في الميدان، ويجلسان على طاولة واحدة وعلى مائدة واحدة في سويسرا، وإذا خرجوا منها شهر كل منهما السلاح على الآخر، فجعلوها بلداً بعيداً عن الحروب، حتى إنه كان في الأول ليس لها جيش؛ لأنها لا تحارِب ولا تحارَب؛ لتكون موطناً لالتقاء الأعداء وفرصة للتفاهم، وقد سبق الإسلام ذلك قال تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ [التوبة:36] يحرم على الإنسان أن يعتدي على الآخر ولو كان له دم عنده، فيتواصل الناس، وتسافر القبائل وتنتقل في مأمن أثناء هذه الأشهر الحرم.
وكذلك قال تعالى: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا [البقرة:125] فالمتقاتلان في غير مكة إذا التقيا في حرم مكة فهما أخوان، لا يهيج أحدهما الآخر، ولا يعتدي أحدهما على الآخر؛ لأنهما في مظلة أمن البيت الحرام كما قال تعالى: وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [آل عمران:97] حتى الطير يأمن فيه، والوحش يأمن فيه فضلاً عن الإنسان، فالإسلام جعل مكاناً وزماناً للسلم والأمن وجعل فرصة للمتخاصمين أن يتصالحوا، وفرصة للمتخالفين أن يتفاهموا في ظل حرمة من حرمات الله قال تعالى: وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32].
إذاً: نحن مقصرون في حق الإسلام، وكان علينا لزاماً أن نعلِّم العالم بأن السلام عندنا، ومن عندنا انطلق، سواء كان في المكان بمكة، أو في الزمان في الأشهر الحرم، والتشريع العام: لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ [المائدة:2] يا سبحان الله! يقول: لا تحلوهم، ولا تستحلوهم، وابقوا لهم الحرمة، من أمَّ البيت الحرام فهو آمن، وقد كانوا في الجاهلية من خرج من أمن الحرم وخاف على نفسه في غير الأشهر الحرم يأخذ لحاء شجرة ويجعله كالقلادة في عنقه، فإذا مر بأي قبيلة قالوا: تحرم بالحرم، فهذه القلادة، والقشرة من لحا الشجرة تحميه من أعدائه؛ لأنها من جوار البيت.
والآن صار المسلمون لا يرقبون في بعضهم إلاً ولا ذمة، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فالقوة للقاهر، والسلطة للقادر، ورجعت جاهلية من عز بز ومن غلب استلب، فلنرجع إلى الإسلام، إن لم نصدره للآخرين فليكن لنا فيما بيننا، لا أن نأتي في رمضان ونحشد الجيوش للقتال، الواجب على الجميع أن يكون رمضان أقل ما فيه هو السلم والسلام، نعم لأخذ الاحتياط! ونعم لأخذ الأهبة! ونعم لإعداد القوة! ولكن أن نقاتل! وأن يقاتل المسلمون بعضهم بعضاً في رمضان، وفيه ليلة السلم والسلام التي قال الله فيها: سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ [القدر:5]! فنسأل الله السلامة والعافية!
أين المسلمون من هذا؟! أين أجهزة الإعلام من هذا التشريع الإلهي؟! إن الكلام على ليلة القدر لا يمكن أن يستوفيه إنسان في جلسة.
إذاً: الليلة التي تقدر فيها الأمور، وتقدر فيها شئون الحياة إنما هي ليلة القدر، يقدر الله أو ينسخ من اللوح المحفوظ ما قدره طيلة العام، وينزّله إلى الملائكة الكرام، ثم بعد ذلك ينزل ويطبق وينفذ في العام كله.
فقد جاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: (يا رسول الله! ماذا أقول إن أنا صادفت ليلة القدر؟ قال: قولي: اللهم! إنك عفو تحب العفو فاعف عني) وإذا تأملنا في هذه الألفاظ وجوها: السائل عائشة ، وسألت رسول الله، ومن تكون عائشة من رسول الله؟ هي أحب الناس إليه بعد أبي بكر ، فأتاها بأحب النصح، يعني: أن جوابه لها هو نهاية النصح والمحبة، ولو أن هناك خيراً من ذلك لقاله لها.
ويقول علماء اللغة: الميم في (اللهم) بدل (يا) النداء في (يا ألله) فتحذف ياء النداء في الأول، ويعوض عنها بميم في الأخير.
قوله: (اللهم! إنك عفو) هذا وصف للمولى سبحانه أنه عفو، وكم من عفو لله على الخلق! وكم من ذنب يرتكبه الإنسان في خفاء أو علن والله يعفو عنه!
إذاً: يمتدح الله بصفته أولاً؛ لقوله تعالى: وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ [المائدة:35] أي: عند الدعاء قدم وسيلة لاستجابة دعائك، وهذا مبدئياً، فإذا قلت: (اللهم! إنك عفو) فقد أثنيت على الله، ومدحت الله بالصفة التي تتناسب مع حاجتك وسؤالك، ولو كنت تريد الرزق: فقل: اللهم! يا رزاق! يا رازق الطير! يا رازق النمل! يا رازق كذا في جحره ارزقني؛ لأنك تطلب رزقاً فتسأله بصفة الرزاق، وهنا تريد أن تسأله العفو، فتمتدحه سبحانه بصفة العفو.
وقوله: (إنك عفو تحب العفو) قال تعالى: أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ [النور:22] في قضية مسطح وغيره، وقوله: (إنك عفو تحب) أي: وأنا أسألك لأن من صفتك العفو وأنت تحبه أن تعفو عني.
وإذا تأمل الإنسان في قوله: (فاعف عني) العفو -كما يقولون-: هو الإزالة، نحو: عفت الريح الأثر، إذا مرت قافلة في الصحراء ورسمت أخفافها وأقدامها في الطريق، فإذا جاءت ريح شديدة وحركت الرمل عفت أثر المسير في الصحراء ولم يبق للمسير أثر، فكذلك العفو عن الزلة يمحو أثرها من الصحيفة، فلا يبقى لها أثر مكتوب على الإنسان.
قوله: (إنك عفو تحب العفو فاعف عني) وإذا نظرنا إلى قوله صلى الله عليه وسلم: (من عوفي في بدنه، وعنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها)، وقوله: (من عافاه الله في بدنه فهو سعيد)، وقوله: (من عافاه الله في دينه وسلم من الشرك، وسلم من الرياء، وسلم من كبائر الذنوب فهو سعيد)، وقوله: (من عافاه الله يوم القيامة من تلك المضايق فهو السعيد الناجي)، وقوله تعالى: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185] علمنا أن أجمع دعاء يكون هو هذا الدعاء الموجز (فاعف عني) مع المقدمة التي يقدمها الإنسان إليه.
ونحن نتوجه إلى الله العلي القدير بأنه عفو يحب العفو أن يعفو عنا، اللهم! إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة، اللهم! إنا نسألك أن تعافينا في أبداننا، وفي ديننا، وفي جميع أعمالنا، اللهم! إنا نسألك يا سلام! يا منزل السلام! أن تنزل السلام على الأمة الإسلامية، اللهم! خذ بنواصي ولاة أمور المسلمين إلى الحق وإلى العدل، اللهم! أنزل رحمتك علينا واجعلنا من عتقائك من النار، ومن المقبولين، اللهم! أوردنا حوض نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم! وأسقنا منه وبيده الشريفة شربة هنيئة لا نظمأ بعدها أبداً، اللهم! أكرمنا بفضلك شفاعة نبيك صلى الله عليه وسلم.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر