الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:
قال المؤلف رحمه الله: [ وعن نبيشة الهذلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيام التشريق أيام أكل وشرب، وذكر الله عز وجل) رواه مسلم ].
وبعضهم يقول: سميت أيام التشريق؛ لأنهم كانوا ينتظرون بالذبح حتى تشرق الشمس، أي: لا يذبحون في الليل وإنما بعدما تطلع الشمس ويطلع النهار.
ولكن التسمية الأولى هي الصحيحة العملية.
كم هي أيام التشريق؟
الجواب: بعضهم يقول: هي يومان لقوله سبحانه: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:203].
والآخرون يقولون: هي ثلاثة أيام، وهذا هو المشهور، وعلى هذا فإن أيام التشريق ثلاثة.
وقد بين علة النهي فقال: (أيام التشريق -أيام منى- أيام أكل وشرب وتبعل)، لاحظوا يا إخوان هذا التنبيه! متى بدأ المحرم إحرامه؟ أقل ما يكون أنه قبل أسبوع، أو عشرة أيام؛ وقد جاء أن عمر رضي الله تعالى عنه قال لأهل مكة: (يا أهل مكة! ما لي أرى الآفاقيين يأتون شعثاً غبراً) أي: مسافرين من بعيد، جائين من الشرق والغرب، رجالاً وعلى كل ضامر، (وأنتم في بيوتكم إلى أن يأتي اليوم الثامن وتحرمون) يعني: أنكم لم تشاركوا الحجاج في وعثاء السفر، ولم تشاركوهم في تفث الإحرام، فأنت أيها المكي! تخرج من بيتك ومن حمامك إلى منى، وغيرك يأتي وله شهر أو أقل أو أكثر، وهو يحل ويرتحل في إحرامه، وقد وجد العناء ووجد وعثاء السفر والتفث، وهو تعبان في هذه المدة كلها، (أحرموا إذا هلّ هلال ذي الحجة) يعني: جعل عليهم بعض صعوبة الإحرام حتى يشاركوا الناس في بعض مشاق الحج. فإذا كان أقل مدة سيحرم فيها الحاج هي عشرة أيام، وهناك من له في الإحرام شهر كامل، فمتوسط مدة الإحرام عشرون يوماً، فإذا كان إنسان معه زوجته، في سيارة واحدة، على هودج واحد، يحل ويرتحل وهي أمامه، وهو لا يقربها، فإذا ما أدى النسك، فلا نضيق عليه أيام منى كذلك، وإنما نقول له: قد انتهى المحظور وحلت لك زوجتك.
وقوله: (أيام أكل وشرب) هل معنى هذا أن الأيام الماضية ليس فيها أكل وشرب؟ الجواب: لا، ولكن زاد المسافر ليس كزاد المقيم، فالمسافر يجتزئ بالذي يحصل، فإذا كان في منى ليس عنده شيء، وقد ذبح الهدي، وذبح الأضحية فما بقي إلا أن يأكل.
فإذا أكل وشبع وزوجته عنده وله عنها مدة عشرين يوماً في متوسط الزمان، فهو في حاجة إليها أكثر، ولهذا قال: (أيام أكل وشرب وتبعلٍ)، تبعل: من البعل، والبعل هو الزوج، ويقال: هذا البطيخ بعلي، وتسمعون من أصحاب الحبحب قولهم: هذا حبحب بعلي، يعني: أنه وضع الحب وجاء المطر مرة واحدة وشبعت الأرض بالماء فتبعلت البذرة ونبتت واجتزأت برطوبة الأرض إلى أن أثمرت، إذاً: كذلك الرجل يبعل.
ولهذا نهى صلى الله عليه وسلم عن صيام أيام التشريق، وهي من الأيام التي نهي عن الصيام فيها كل عام.
وأما يوم الشك فليس معيناً بذاته في كل سنة، فممكن أن تكون هناك شك وممكن أن لا يكون، وأما يوم عرفة فالذي هو قاعد في بيته يصوم وإنما منع صيام يوم عرفة بعرفة.
إذاً: الأيام الممنوع صومها في الحالات العادية يوما العيد ولا عذر لأحد في صومها ولا استثناء فيها مطلقاً، وأما أيام التشريق فسيأتي الاستثناء فيها، وعلى هذا تكون الأيام المنهي عن الصوم فيها طيلة العام بصفة رسمية، وبتشريع عمومي هي خمسة أيام: يوما العيدين، وأيام التشريق. والله تعالى أعلم.
لما قدم المؤلف رحمه الله أن الأصل هو المنع من الصوم في أيام التشريق، جاء بالحديث الذي فيه استثناء، والاستثناء يكون حادث بعد المستثنى منه، تقول أم المؤمنين عائشة وابن عمر رضي الله عنهم: (لم يرخص) والرخصة مأخوذة من الرخص وهو اللين كما يقولون: السعر الرخيص فالرخص هو: اللين كما قال الشاعر:
ومخضب رخص البنان كأن أطرافه علم
(ومخضب) أي: كف مخضوب بالحناء، (علم) والعلم هو: نوع من النبات لين يلف بعضه على بعض، يقول: كأن أصابعها نبات العلم لينة ليس فيها عظام، وهذا أجمل ما يكون في وصف الأطراف، فهنا الرخصة هي: اللين بعد الشدة، كما قال سبحانه وتعالى: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائةٌ يَغْلِبُوا مِائتَيْن [الأنفال:66]، كان في البدء الواحد يغالب عشرة، ولما علم الله أن فيهم ضعفاً خفف عنهم وجعل الواحد يغالب اثنين، ومغالبة الاثنين أهون من مغالبة العشرة، وقال سبحانه: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ... [المائدة:3] الآية، ثم قال: فَمَنِ اضْطُرَّ [المائدة:3]، التحريم هو بالمنع وقد يجد الإنسان الشدة ويصل إلى حد الموت، والميتة عنده، والعزيمة والشدة تمنعه من أكلها، لكن جاءت الرخصة وخففت عليه، فإذا اضطر إليها فيأخذ منها ما يسد الرمق، فجاء اللين بعد الشدة.
إذاً: الرخصة هي: الإباحة بعد المنع مع قيام دليل المنع، فلما أباح الميتة للمضطر، لم يرفع حكم التحريم عن الميتة، لكن هذا لظروفه الخاصة خفف عنه، وأبيح له المحرم مع قيام تحريمه فعلاً، فلا نقول: إنها أصبحت حلالاً له وقد انتفى عنها حكم التحريم، بل هي محرمة، ولكن لظروفه ولاضطراره رخص الله له فيها.
إذاً: فإذا رخص الله في صوم أيام التشريق فمعنى هذا أن الأصل فيها عدم الرخصة، وعدم الصيام. فلمن تكون الرخصة في صوم أيام التشريق؟ الجواب: تكون رخصة لمن لم يجد الهدي؛ لأن الله تعالى يقول: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ [البقرة:196].
هنا يقولون: (ثلاثة أيام) جاءت بقيد (في الحج)، وأشهر الحج هي شوال وذو القعدة، يقول البعض: وعشرة أيام من ذي الحجة، وبعضهم يقول: وخمسة عشر من ذي الحجة، ويقول آخرون: وذو الحجة كله، لكن هذا بحسب الأعمال التي يمكن أن تقع في ذي الحجة، فهم يتفقون على أن أعمال الحج ما عدا طواف الإفاضة، يجب أن تنتهي عند أيام التشريق، فإذا تأخر إنسان في رمي الجمار حتى خرجت أيام التشريق فلا قضاء، فلو ترك رمي الجمار الثلاث في اليوم الأول الأولى والوسطى والعقبة، وترك الجمار في يوم الحادي عشر من ذي الحجة الصغرى والوسطى والكبرى، وترك أيضاً رمي الجمار الثلاث الصغرى والوسطى والكبرى في الثاني عشر، وجاء يوم الثالث عشر وهو آخر أيام التشريق وقضى كل ما كان قد تركه من رمي الجمار، فقد أجزأه ذلك ولا شيء عليه، لكن إذا ترك الكل إلى يوم الرابع عشر فقد خرج يوم الرمي وفات عليه الوقت؛ لأن أيام الحج العملية قد انتهت، ولذا فإن أيام التشريق هي آخر فرصة للحاج أن يكمل حجه فيها، ولذا يقول الفقهاء: إن الشخص الذي يريد أن يتمتع ولا يستطيع أن يأتي بهدي التمتع فلابد عليه من إيقاع صوم الثلاثة الأيام في الحج متلبساً بالحج، وأول خطوة يتلبس فيها للحج هي إحرامه بالحج، فالذي جاء بالعمرة وليس عنده قيمة الهدي ينتظر إلى يوم ثمانية وهو يوم التروية، فيستأنف الإحرام للحج من جديد ثم يذهب إلى منى، ويبيت هناك ومن غد في يوم تسعة يذهب إلى عرفات، يقول الفقهاء: فمادام هذا الحاج يعلم من نفسه أنه لا يملك قيمة الهدي فعليه أن يحرم يوم خمسة، أو يوم ستة من ذي الحجة ويصوم ليوقع الصوم في الحج بإحرامه، فيصوم يوم ستة ويوم سبعة ويوم ثمانية، ثم يأتي إلى عرفات مفطراً، ثم يكون في منى مفطراً، فإذا فوت على نفسه تقديم الإحرام وإيقاع صوم الثلاثة الأيام في حجه لم يبق له إلا أن يتداركها في أيام التشريق؛ لأنها من أيام الحج، فهي الأيام التي تذبح فيها الضحايا، ويذبح فيها الهدي، وترمى فيها الجمار، فيصوم فيها إذا لم يستطع الهدي، وعلى هذا لم يرخص في صوم أيام التشريق إلا لمن لم يجد هدي التمتع، فيصوم الثلاثة الأيام الواجبة عليه في الحج فيها، ويصوم السبعة إذا رجع إلى بلده.
إذاً: الأصل منع الصوم في هذه الأيام ولكن رخص به تخفيفاً على الحاج، وتداركاً لأمره.
والأصل في أيام منى هو الأكل والشرب، ولم يرخص في صومها إلا لحاجة وضرورة لمن لم يجد الهدي، ونجد للعلماء رحمهم الله مباحث فقهية تفريعية في هذا الباب يقولون: الحديث جاء في هدي التمتع، فلو أن إنساناً عليه دم غير التمتع كأن يكون قارناً، وكثير من العلماء يقول: القران تمتع، أو كان عليه دم آخر كأن كان محصراً ولزمه دم، فهل يصوم هنا في أيام التشريق، بعضهم يقول: لا؛ لأن هذه الرخصة خاصة بدم التمتع، وإذا كان حلق رأسه ولزمته فدية، فهل يصوم عنها هنا؟ قالوا أيضاً: لا، وكثير من العلماء يقول: يجزئه أن يصوم في أيام التشريق للتمتع أو للقران أو للإحصار، والله سبحانه وتعالى أعلم.
هذه الأحاديث الآتية هي نهاية ما ذكره المؤلف في كتاب الصيام، في باب صوم التطوع وما نهي عن صيامه، وقد ذكر لنا ما يستحب صومه وهي ستة أيام من شوال مع رمضان، وعرفة وعاشوراء، وثلاثة أيام من كل شهر، والإثنين والخميس، وذكر لنا مما لا يصح صومه يوم العيدين، وأيام الشريق، إلا لمن لم يجد هدياً في التمتع، ثم جاء إلى يوم الجمعة، فجاء فيه بالنهي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي، ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم) أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
منطوق هذا الحديث هو النهي عن أن يخصص الإنسان ليلة الجمعة بقيام، أو بتلاوة، أي: بإحيائها بعبادة دون سائر ليالي الأسبوع، وكذلك النهي عن تخصيص صوم يوم الجمعة وحده بصيام دون بقية أيام الأسبوع، إلا إذا صادف يوم الجمعة يوم صوم أحدكم، مثلاً: إنسان متعود أن يصوم كل أول يوم في الشهر، أو كل أحد عشر في الشهر، أو كل واحد وعشرين في الشهر، كما كان يرى مالك رحمه الله: أن صوم ثلاثة أيام من كل شهر يكون على قسمين: قسم يوزع على عشرات أيام الشهر من كل عشرة أيام يصوم يوماً، والقسم الثاني: أن يصوم ثلاثة أيام في هذا الشهر من أول الأسبوع ويصوم ثلاثة أيام في الشهر الثاني من آخر الأسبوع، يعني: في الشهر الأول يصوم السبت والأحد والاثنين، وفي الشهر الذي يليه يصوم الثلاثاء والأربعاء والخميس ويقول: لا يهجر شيئاً من الأيام عن الصوم ، فإذا كان يصوم يوم واحد ويوم أحد عشر، ويوم واحد وعشرين، وهذه أيام منفردة فهو متعود أن يصوم هذه الأيام الثلاثة على انفراد، فصادف في بعض الأشهر أن يوم واحد هو يوم جمعة، أو يوم أحد عشر، أو يوم واحد وعشرين أنه يوم جمعة، فحينئذٍ لا بأس أن يصومه ولو كان منفرداً؛ لأنه ما صامه لكونه يوم الجمعة، وإنما صامه للوعد الذي قطعه على نفسه والعمل الذي داوم عليه، هذا منطوق هذا الحديث، وسبق أن أشرنا إلى أن مالكاً رحمه الله يقول: إنه لا بأس بصوم يوم الجمعة، ويقول: ولقد رأيت أهل العلم ببلدنا يتحرون صيامه، فقول مالك يدل على استحباب صوم يوم الجمعة مفرداً، وهذا الحديث يدل على النهي عن صومه مفرداً، وسيأتي هنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم (نهى عن صوم يوم الجمعة إلا أن يصوم يوماً قبله، أو يوماً بعده) يعني: حتى لا تحصل الخصوصية.
والمسألة فيها بحث كما يقولون، قال ابن عبد البر رحمه الله في الاستذكار: وقد اختلفت الآثار الواردة في إفراد صوم يوم الجمعة، وساق النصوص التي جاءت بالحث على صومه وإباحة صومه وحده، قال: وروى أبو سعيد رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، وما رأيته يوم الجمعة قط إلا صائماً)، وكذلك روى عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما رأيت رسول الله يوم الجمعة إلا صائماً)، وذكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان يديم صوم يوم الجمعة، وذكر عن ابن عمر مثل ذلك، ثم جاء بالنصوص الأخرى التي فيها أنه لا يفرد صوم يوم الجمعة، وإنما يصام معه يوم قبله أو يوم بعده، من ذلك: أن امرأة دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يفطر، وكان في يوم الجمعة فقال: (هلمي إلى الفطار فقالت: إني صائمة، قال: أصمت بالأمس؟ قالت: لا، قال: أتصومين غداً؟ قالت: لا، قال: فأفطري).
فهذا تعليم منه صلى الله عليه وسلم في قضية عينية بالذات، وجاء عن جابر رضي الله تعالى عنه أنه سئل وهو بمكة: هل سمعت رسول الله ينهى عن إفراد يوم الجمعة بصوم؟ قال: إي ورب هذه البنية! أي: الكعبة.
وكذلك جاء عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: (ما أنا نهيت عن صوم يوم الجمعة وإنما نهى عنه محمد صلى الله عليه وسلم). فهذه هي النصوص الموجودة من جانب في عدم إفراده، ومن جانب في صحة بل واستحباب إفراده، ويقول ابن عبد البر : إن بعض الآثار التي جاءت بالحث على صوم يومٍ قبله وصوم يومٍ بعده، في أسانيدها مقالات، وأما ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يصوم يوم الجمعة، فأجاب المانعون عن حديث أبي سعيد : (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة مفطراً قط)، قالوا: لعله كان يصوم يوماً قبله، أو يصوم يوماً بعده جمعاً بين النصوص، وكذلك الآثار، والذين يجيزون قالوا: هذا تأويل لم يأت في الحديث، ومظنة ليس عليها دليل.
إذاً: المسألة خلافية، والأولى في ذلك ألا يفرد وإن كان مالك رحمه الله ذكر أن أهل العلم في عصره كانوا يتحرون صومه، ويجعلون ذلك لفضيلة هذا اليوم، ولكن المانعون من صوم يوم الجمعة جاءوا بعلة وبسبب منع صوم يوم الجمعة فقالوا: لأنه يضعف الإنسان عن واجبات يوم الجمعة، فيقال لهم: فأنتم تجيزون صومه إذا صام معه غيره، وهذا يكون أشد ضعفاً؛ لأنه سيصوم يومين: يوم الخميس ويوم الجمعة، وسيصير في يوم الجمعة أشد ضعفاً مما قبله، إذاً: هذه علة غير صحيحة، والأولى والأقرب في ذلك -والله تعالى أعلم- أن إفراد يوم الجمعة، فيه -كما يقولون- غلو في اليوم، والدين الإسلامي بعيد عن الغلو في الزمان وفي المكان، إلا ما جاء النص صريحاً فيه، فقد جاء تكريم مكة، وجاء تكريم بعض الأماكن، وجاء تكريم بعض الأزمنة كبعض الساعات والأيام والشهور، كل ذلك جاء بنص من الله أو من رسوله صلى الله عليه وسلم، فالذين قالوا: لا ينبغي إفراده قالوا: حتى لا يغالي بعض الناس فيه فيصبح يوم الجمعة كيوم السبت عند اليهود، لأن اليهود حرموا على أنفسهم العمل يوم السبت، فامتحنهم الله بالحيتان كما قال تعالى: وَاسْأَلْهُمْ عَنْ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ [الأعراف:163]، فيوم السبت كانت تأتيهم الحيتان شرعاً على وجه الماء، تتلاعب معهم، وفي غير السبت تختفي لا يرونها، فلم يقدروا أن يصبروا على هذا، فاخذوا الشباك يوم الجمعة، وألقوها في الماء وتركوها، وذهبوا إلى بيوتهم يوم السبت، وقالوا: نحن لا نشتغل، فلما كان يوم الأحد ذهبوا وسحبوا الشباك بما علق بها من حيتان يوم السبت وأكلوها، ولما نهاهم الأحبار قالوا: نحن لا نعمل يوم السبت، بل نحن في البيوت، وما عملنا شيئاً، فكانت هذه فتنة عليهم، فالله سبحانه وتعالى انتقم منهم، وجعل منهم القردة والخنازير.
إذاً: الذين نهوا عن إفراد يوم الجمعة خافوا من الغلو الذي وقع فيه اليهود في يوم السبت، وهذا أقرب ما يمكن أن يعلل به، أما إذا صام يوماً قبله أو يوماً بعده فلم يكن مفرداً، إنما يكون كبقية الأيام صام في هذا اليوم كما صام في غيره، والذين ينهون عن إفراده بالصوم قالوا: لأنه يوم عيد، وقد جاءت الآثار عنه صلى الله عليه وسلم أن يوم الجمعة عيد، والذي يؤيد وجهة النظر الأولى: أن الله سبحانه وتعالى بين لنا: أن الإسلام لا رهبانية فيه، وأنه دين دنيا وآخرة، فهناك اليهود فرطوا في جانب الدين، وأفرطوا في جانب الدنيا، حتى احتالوا على ما حرم الله ليصلوا إليه كقضيتهم في يوم السبت مع الحيتان، بينما النصارى بالعكس، فرطوا في أمر الدنيا وبالغوا وغالوا في أمر الدين حتى تجاوزوا الحد، وكل منهما لم يفلح ولم يستطع أن يواصل السير بدينه إلى النهاية، وكانت من حكمة الله سبحانه أن ينقل الرسالة من أرض النبوات بالشام إلى الجزيرة العربية إلى العرب عن طريق إسماعيل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ونشأ الرسول من ذرية إسماعيل، وجاء الإسلام وتلقته الأمة وكان من أمره ما كان، فهنا جاء التشريع الإسلامي مبعداً كل ما يمكن أن يؤدي إلى الغلو في أحد الجانبين، فمنع ما كان غلواً في أمر الدنيا، وما كان غلواً في أمر الدين، وأمر بالاعتدال قال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143]، وسطاً في أعمالها، ووسطاً في أفكارها، ووسطاً في دعوتها، وقال سبحانه: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110]، فهذه الأمة الوسط المعتدلة المستقيمة هي بعيدة عن الإفراط والتفريط في الدين وفي الدنيا، وأعظم تطبيق عملي لهذه الوسطية ما جاء في سورة الجمعة، في قوله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ [الجمعة:9] ماذا يكون الحال؟ فَاسْعَوْا [الجمعة:9] وليس المراد بالسعي الجري ولكن المراد تأهبوا، وخذوا العدة، وتهيئوا فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ [الجمعة:9]، فاسعوا إلى ذكر الله وهذا دين، ذروا البيع وهذه دنيا، فلكلٍ مكانه ولكلٍ وقته، فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الجمعة:9]، فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ [الجمعة:10] فهل قال: اعتكفوا في المساجد، واجلسوا لذكر الله إلى آخر اليوم! وامتنعوا عن العمل؟ الجواب: لا، نحن قبل الصلاة كنا في الأسواق نبيع ونشتري، فلما جاء وقت الدين تركنا الدنيا وذهبنا إلى الصلاة، فإذا قضيت الصلاة وأدينا حق الله قال تعالى: فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا [الجمعة:10] ولم يقل: ارجعوا، أو عودوا إلى أسواقكم، ولكن قال: فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الجمعة:10]، فإذا انتشرتم في الأرض، لا بناءً على حول وطول وذكاء وفطنة من أحدكم، لا والله! ولكن وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ، اسعوا وانتشروا، الصانع يصنع، والزارع يزرع، والتاجر يبيع ويشتري، وكل في باب رزقه يطلب من فضل الله، ومع ذلك: وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ، ومع كونك تنتشر في الأرض تبتغي من فضل الله، فلا تغفل عن ذكر الله، وليس المراد بذكر الله ذكر الله باللسان فقط، فالجماد يذكر الله، وإنما المراد بذكر الله هنا حضور القلب، والذكر باللسان إذا أمكن ولن يعيق عملك فاذكر الله، إذا كنت تزن فأرجح، وإذا كنت تكيل فلا تطفف، وإذا كنت تبيع فلا تغش، هذا هو ذكر الله؛ لأنك إذا ذكرت الله فلن تأكل أموال الناس بالباطل، فهنا أنت مع الله في دنياك، ومع الله في دينك إذا نودي للصلاة، ومن هنا كان المسلم مع الله في كل أحواله، كما قال سبحانه: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي [الأنعام:162] أي: حياتي كلها لله، ولقد كان في المدينة النبوية، الرجل يفتح دكانه، والمصحف بيده يقرأ، والميزان أمامه، فإذا أتاه مشترٍ وضع علامة في محل القراءة وأغلق المصحف ووضعه على جانب، ثم يبيع للرجل ويزن له حتى يفرغ منه، ويمشي الرجل في حاله، ثم يعود إلى مصحفه، وقد كانت المدينة كما يذكرون في تاريخها إذا مر الإنسان بطرقاتها ليلاً في رمضان يحس كأنه في خلية نحل، إذا جاء الإنسان عند الخلية يسمع دوياً، وهكذا كانت البيوت في المدينة، سواء كانوا رجالاً أو نساءً، فهذا الذي في متجره معه مصحف، فإن جاءه صاحب دنيا باع له، وإن ذهب عنه رجع إلى كتاب الله، وهكذا، ومما وجدته واستغربت له -وإلى الآن وأنا استغرب له- أنه كان من عادة الناس هنا أنهم يتأنقون في شرب الشاهي، فكان الواحد يأخذ شاياً ناشفاً، ويأخذ سكراً، ويأتي إلى صاحب القهوة فيعطيه الشاي في قرطاس، ويجعل السكر عنده، وصاحب القهوة يذهب ويصب ماءً على هذا الشاي ويقدمه له، وهو يضع السكر الذي يريد، فجئت إلى إنسان ولا زلت أذكر وجهه إلى الآن، فأعطيته ما يعطيني به سكراً وشاياً، فإذا به يناولني الشاي ويرد عليّ فلوس السكر، فنظرت إليه وقلت له: السكر عندك! فلماذا ترد علي فلوس السكر؟ قال: اشتر من جاري لأنه إلى الآن لم يستفتح وأنا قد استفتحت، يعني: فتحت باب البيع والشراء، وجاءني الرزق من أول، ولكن جاري لم يأته بعد، اذهب واشتر منه السكر حتى يستفتح هو أيضاً، فأنا والله! ذهلت؛ لأن السكر موجود عنده وجاهز وما عليه إلا أن يناولني، ولكنه رد علي الفلوس وقال: لا، اشتر من جاري، فجئت إلى جاره واشتريت منه السكر ومضيت وأنا لا أدري ماذا أقول؟! هذه النفسية يا إخوان! وهذه الروح والعفة والقناعة لا تأتي إلا من التربية الإسلامية، فقوله تعالى: فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ [الجمعة:10].
وهذا من ذكر الله سبحانه وتعالى، أنه عطف على جاره وعلى أخيه المسلم، قال تعالى: فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الجمعة:10] ، ومن يتأمل في حديث: (سبعة يظلهم الله في ظله.. -وذكر منهم- ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عنياه) يجد أن ذكر الله يدخل في جميع أعمال المسلم، إن كان في أكله قال: باسم الله، والحمد لله. وإن كان في لباسه قال: باسم الله، والحمد لله. وإن كان في مضجعه قال: باسمك اللهم! وضعت جنبي. وإن كان في خروجه من بيته ذكر الله، وإن كان في بداية بناء بيته ذكر الله، فيذكر الله في كل أحواله حتى في العبادات، فالوضوء فيه ذكر الله، والصلاة كلها ذكر الله، والزكاة فيها ذكر الله، والصيام كله ذكر لله، ومراقبة لله، والحج كل شبر فيه ذكر لله، وحياته وانطلاقه في الأرض كلها فيها ذكر الله، وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الجمعة:10].
وإذا واجه العدو في القتال والسيوف تلمع ذكر الله. إذاً: جعل الإسلام التكاليف معتدلة، تعطي الجسم حقه، وهو شيء مادي، وتعطي الروح حقها، وهو شيء معنوي، ولهذا نقول: إن أحسن ما يعلل به النهي عن إفراد يوم الجمعة بالصيام هو إبعاد الغلو عن الناس في يوم بذاته، والله تعالى أعلم.
هذا أصح النصوص الواردة سنداً فيما يتعلق بصوم يوم الجمعة، وفيه النهي عن صوم يوم الجمعة وفيه استثناء جواز صوم يوم الجمعة إذا صام يوماً قبله، أو صام يوماً بعده، واليوم الذي قبل يوم الجمعة هو يوم الخميس، ويوم الخميس قد جاء النص في صومه بذاته، فقد سئل صلى الله عليه وسلم عن صوم يومي الاثنين والخميس؟ فقال: (أما يوم الاثنين فولدت فيه، وأنزل علي فيه) ولما سئل عن صومه يوم الخميس قال: (هذا يوم تعرض فيه الأعمال على الله، وأحب أن يعرض عملي وأنا صائم) وأما يوم السبت فقد جاءت فيه الأخبار مختلفة أيضاً، فقد جاء النهي عن صوم يوم السبت في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ولو لم يجد أحدكم إلا لحاء عنب أو عود شجرة فليمضغها) وجاء النص: (أنه صلى الله عليه وسلم كان يصوم يوم السبت والأحد)، وسيأتي إيراد ذلك وبيانه، إذاً: لما كان السبت قد جاء نهي عن صومه، فإذا ضم إليه الجمعة فقد انتهى النهي.
وجاءه في بعض الروايات: (أن السبت والأحد يوما عيد لليهود والنصارى، وأنا أحب أن أخالفهما فأصومهما)، وعلى كلٍ يهمنا أن هذا الحديث المتفق عليه فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم يوم الجمعة إلا أن يصوم يوماً قبله وهو يوم الخميس أو يوماً بعده وهو يوم السبت، وبهذا ينتهي الإشكال وهذا خير ما يقال في هذه المسألة.
عوداً على صوم شعبان، تقدم في أول كتاب الصيام، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين)، وعلمنا أن العلماء بينوا أن السبب في ذلك حتى لا يضاف إلى رمضان ما ليس منه، وأن في ذلك أيضاً تحذيراً مما وقع من الغلو من بني إسرائيل، فقد كان صوم رمضان مفروضاً عليهم، ولكنهم أخذوا بالشدة، فأضافوا لرمضان يوماً في أوله، تأكيداً واحتياطاً، وأضافوا يوماً في آخره تأكيداً واحتياطاً، فصار الصوم اثنين وثلاثين، فلما طال الزمن ظن الجيل الآخر: أن أصل الصوم اثنان وثلاثون فزادوا يوماً في أوله احتياطاً، وزادوا يوماً في آخره احتياطاً، فصار الصوم أربعة وثلاثين، ومضى زمن وجاء الجيل الذي بعدهم، فظن أن أصل الصوم أربعة وثلاثون يوماً، وهكذا خمس مرات، حتى أصبح الصوم أربعين يوماً، ورمضان شهر قمري، فجائهم في فصل الصيف، فعجزوا عن صومه، فاتفقوا على أنهم يزيدون عشرة أيام ويجعلون صومهم خمسين يوماً ويؤخرونه عن الصيف، فغيروا طبيعة الصيام وصاروا يأكلون بعض الشيء ويقولون نحن صائمون، وأخروا شهر رمضان إلى فصل الربيع، فضاعت عليهم فضيلة الشهر بعينه، والمدة المفروضة التي فرضها الله فضاع عليهم الشهر، ثم لما جاء الإسلام ولكي لا تتكرر هذه الغلطة، حفظ الله رمضان، فحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصوم قبل رمضان يوماً أو يومين حتى لا تدخل في صلب رمضان، وحرم صوم يوم الشك كما قال عمار بن ياسر : (من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصا أبا القاسم)، ومن الذي يجرؤ على عصيان أبي القاسم، فحفظ أول الشهر، ثم جاء إلى آخر رمضان، فحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم صوم يوم العيد.
إذاً: أصبح رمضان محاطاً بسياج التحريم، فلا يقبل زيادة كما لا يقبل نقصاً، وعلى هذا حفظ لنا رمضان أكثر من ألف وأربعمائة سنة بحمد الله، ما زاد ساعة ولا نقص، وهذا بسبب عدم الغلو، وهنا يأتي المؤلف رحمه الله بهذا الحديث فقال: [ وعنه أيضاً رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا انتصف شعبان فلا تصوموا)، رواه الخمسة واستنكره أحمد ].
قوله: (إذا انتصف شعبان) يعني: أن ما قبل النصف من شعبان لك أن تصومه، ولكن إذا جاء النصف من شعبان فكف عن صوم التطوع، أما صوم القضاء أو النذر، أو الكفارة، أو الصوم الذي هو مطلوب شرعاً فلا بأس؛ لأنك تصومه لطلبه، أما أن تتطوع من نفسك فلا، إذاً: نستطيع أن نقول توفيقاً بين تلك النصوص: أن أول النهي كان (إذا انتصف شعبان فلا تصوموا)، ثم جاء التضييق أشد (لا تسبقوا رمضان بصوم يوم أو يومين) ويكون في هذا التدرج فنهى عن الصوم بعد منتصف شعبان حتى يمسك الناس قليلاً ويهونوا، ثم حرَّم وأكد التحريم فنهى أن يسبق رمضان بصوم يوم أو يومين؛ لأنه أشد خطراً، وبهذا يسلم لنا رمضان، وهناك من يقول: هل علي شيء إذا كنت أصوم ولا أدخل في رمضان شيئاً من غيره؟ نقول: كل هذه الاجتهادات إذا جاء فيها النص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا قول لأحد، أما قضاء الفوائت فكما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (كنت يكون علي القضاء الأيام من رمضان فلا أستطيع صومها إلا في شعبان مراعاة لحق رسول الله مني)؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يكثر الصوم في شعبان، فتنتهز فرصة صومه؛ لأنه إذا كان صائماً وهي صائمة فليس له حاجة، بخلاف ما إذا كان مفطراً وكانت نوبتها فقد تكون له حاجة إليها، وقد تقدم لنا أن المرأة لا تصوم وزوجها حاضر إلا بإذنه، أي: صوم التطوع، إذاً: من كان عليه قضاء من رمضان أو نذر أو كفارة فله أن يصومه إذا انتصف شعبان، أما مجرد التطوع لله فلا، حفظاً لرمضان.
هذا الحديث بصرف النظر عن اضطرابه أو نسخه، النهي فيه صريح عن صوم يوم السبت منفرداً؛ لأنه قد تقدم لنا أنه يمكن أن يصومه ردفاً للجمعة، فإذاً: النهي هنا إذا كان منفرداً؛ إلا في صوم المفروض، مثل لو كان على إنسان نذر عشرة أيام، أو كان عليه قضاء، أو كان في رمضان، فإن في رمضان أربعة أسبت.
إذاً: إفراده بالصوم منهي عنه في هذا الحديث، ثم أكد صلى الله عليه وسلم على عدم الصوم، ولو لم يكن عندك شيء فاذهب إلى شجرة العنب أو إلى غيرها وخذ منها لحاءها أي: قشرتها ومصها، مع أن شجرة العنب من أيبس الأشجار لحاءً، وغيرها من الأشجار في قشرتها ماء أكثر من قشرة العنب، ولكن المعنى: أنك تنظر نباتاً فيه ماء فتمصه حتى يصل هذا الماء إلى الحلق فيبطل الصوم، وفي هذا تشديد في النكير على صوم يوم السبت وحده، ولكن هذا الحديث استنكره مالك ، واستنكره غيره، وقال غيره: إنه منسوخ بما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يصوم السبت والأحد، لماذا كان النهي قبل النسخ؟ يقولون: لأنه عيد للنصارى، وإذا صمناه عظمناه، وشاركنا النصارى في تعظيمه، وقد كان صلى الله عليه وسلم دائماً يخالف أهل الكتاب في عباداتهم.
إذاً: كان النهي عن صومه ابتعاداً عن محاكاة ومشابهة أهل الكتاب، وقد تقدم في عاشوراء أنهم كانوا يصومونه في الجاهلية، وكان الرسول يصومه في مكة، ولما هاجر إلى المدينة وجد اليهود يصومونه، فسألهم عن سبب صومهم له فقالوا: لأنه يوم نجى الله فيه موسى من فرعون، فصامه شكراً لله فصمناه، فقال: (نحن أحق بموسى منكم)، فصام يوم عاشوراء، ولما قيل له: نحن شاركنا اليهود في هذا العمل، قال: (لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع والعاشر)، أي: حتى نغاير صورة صوم اليهود في عاشوراء.
قال المؤلف رحمه الله: [وعن أم سلمة رضي الله تعالى عنها : (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أكثر ما يصوم من الأيام يوم السبت ويوم الأحد وكان يقول: إنهما يوما عيدٍ للمشركين، وأنا أريد أن أخالفهم)، أخرجه النسائي وصححه ابن خزيمة ، وهذا لفظه. ]
الذي يهمنا أن النهي عن صوم يوم السبت منفرداً قد نسخ، وأنه يجوز صوم كل من السبت والأحد وجميع أيام الأسبوع، فيجوز صومها منفردة إلا يوم الجمعة للنهي الذي تقدم في الحديث المتفق عليه: (إلا أن يصوم يوماً قبله، أو يوماً بعده).
إذاً: كان الأولى أن يكون مفطراً في يوم عرفة ليتقوى بفطره على أداء واجبات هذا اليوم الفذ النادر في حياة المسلم، ثم وجدنا أن من هديه صلى الله عليه وسلم وهو القائل (إن صومه يكفر سنتين)، أنه جاء إلى عرفات وهو مفطر، فقد جاء أنه قدم إليه قدح من اللبن بعد العصر فرفعه بيده والناس ينظرون فشرب.
إذاً: سيد الخلق وأقوى الناس في ذلك الوقت، كان مفطراً، وقد قال: (خذوا عني مناسككم)، فكان يفعل الشيء وهو يحب غيره للتشريع والتخفيف على الأمة، لكن نقول: جاء في موطن آخر وقال: (خذوا عني مناسككم)، والوقوف بعرفات أهم المناسك، كما قال صلى الله عليه وسلم (الحج عرفة).
إذاً: الأولى للإنسان إذا كان معرفاً في النسك أن يكون مفطراً، ومع هذا وجدنا أن بعض السلف كان يحب صومه، ويتأول ذلك ويقول: النهي عن صومه إنما هو لمن كان يضعف عن أداء الواجب، فإذا كان يجد في نفسه قوة ولا يضيره الصوم، فليجمع بين الحسنيين: الصوم والنسك، ولكن نقول: القوة نسبية والتشريع عام شامل لا يستثني فرداً عن فرد، وسيد الخلق قد أفطر، وهو أقواهم، وقد كانوا في القتال إذا اشتد عليهم القتال وحمي الوطيس يحتمون به صلى الله عليه وسلم، ولما فروا يوم حنين ثبت ووقف وقال:
أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب
وجميع القادة العسكريون حينما تشتد الأزمة يختفون؛ لأنه إذا ذهب القائد ذهبت المعركة، فيستتر ليديرها ويسترجع أنفاسه كما يقال، ولكن النبي صلى الله عليه يعلن عن نفسه! وعلى بغلته : أنا ، أنا ، سبحان الله! يعلن عن نفسه لمن لا يعرفه، وهذا لا يكون إلا من القوة والشجاعة والثبات وشدة اليقين بنصر الله.
إذاً: نقول: إن الأولى بدون شك لكل مسلم حضر عرفات في نسك أن يكون مفطراً كما فعل صلى الله عليه وسلم.
يختم المؤلف رحمه الله كتاب الصيام بخاتمة خير إن شاء الله، وختمه بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(لا صام من صام الأبد).
هل الكلام هنا خبر أم إنشاء؟ الإنشاء يكون دعاء، والخبر يكون إبطال للعمل، فهل هو يخبر أنه لا صام أو يدعو عليه أنه لا يصوم؟ الجواب: كلا الأمرين كما قال بعض السلف: (ويل لمن أخبر عنه صلى الله عليه وسلم أنه لا صيام له ، وويل لمن دعا عليه رسول الله ألا صيام له).
وهنا يفسرون معنى صيام الأبد أو صيام الدهر، بأن الشخص يسرد الصوم ولا يفطر.
وقوله: (إن لبدنك عليك حقاً)، هنا يقول بعض الناس أيضاً: لا بأس بصوم الدهر لمن استطاعه، وليس عليه تبعات لأحد، كإنسان معزول ومقطوع وليس عنده شيء، وحياته على نفسه، والتمسوا لذلك مفاهيم من بعض الأحاديث، فقالوا: وجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال فكأنما صام الدهر)، وعلماء البلاغة يقولون: إن الكاف في (كأنما) أداة تشبيه والمشبه والمشبه به يشتركان في وصف واحد، ولكن الوصف يكون أقوى في المشبه به مثل زيد كالأسد أي: في الشجاعة، والشجاعة في الأسد أكثر منها في زيد.
فقالوا: إذاً: ما دام صوم رمضان وستة أيام من شوال مشبه بصوم الدهر فصوم الدهر جائز، لكن هذه تلفيقه؛ لأن هذا صوم مع صوم رمضان، وقد أفطر، ولما جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد نحل من الصيام قال له: (عليك بالأشهر الحرم صم منها وأفطر، ثم قال: صم ثلاثة أيام من كل شهر، قال: أطيق أكثر، قال: صم الإثنين والخميس مع الثلاثة، قال: أطيق أكثر، قال: صم يوماً وأفطر يوماً، قال: أطيق أكثر، قال: خير الصيام صيام أخي داود، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً)، أما اليوم الذي يصوم فيه فيتذكر المساكين، وأما اليوم الذي يفطر فيه فيشكر نعمة الله عليه، فقوله صلى الله عليه وسلم: (خير) وخير من أفعل التفضيل وأصلها أخير، ولكن حذفوا الهمزة لكثرة استعمالها ، (خير الصيام صيام أخي داود)، وصيام نبي الله داود هو أنه كان يصوم يوماً ويفطر يوماً.
إذاً: صيام يوم وفطر يوم أفضل من صوم الدهر، أما تشبيه صيام رمضان وست من شوال بصيام الدهر فهذا للمبالغة ولبيان عظيم أجر هذه الصورة في الصوم، وليس معناها تقرير صوم الدهر، وإذا جاء المفهوم وجاء المنطوق يقدم المنطوق؛ لأنه نص في الموضوع، فلما نهى صلى الله عليه وسلم عن صيام الدهر كان النهي مقدماً على ما يفهم من عملية التشبيه ووجه الشبه، والله سبحانه وتعالى أعلم. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر