الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
هناك مباحث تتعلق بالصوم والفطر في السفر، وهي من متطلبات الوقت الحاضر، وفيها تتمة بيان أحكام الصيام، تلك المباحث هي: ما المسافة التي يفطر فيها الصائم؟ ومن أين يفطر الصائم؟ وإذا نزل منزلاً مؤقتاً فهل يصوم أو يفطر؟ وإذا عاد من سفره وعلم أنه سيدخل نهاراً، أيدخل مفطراً أم صائماً؟ وإذا دخل مفطراً فهل يمسك أو له أن يأكل بقية يومه؟ وإذا وجد زوجته مفطرة فهل له أن يأتي أهله؟
كل هذه النقاط من متطلبات بحث الفطر في السفر.
فعلى هذا، فإن هذه المسافة إذا وجدت فللمسافر الحق في أن يفطر.
نجد -يا إخوان- أن الأقوال متعددة، فهناك من يقول: من دخل عليه رمضان في بلده فلا يحق له أن يفطر إذا سافر؛ أخذاً بعموم قوله سبحانه: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185]، وهذا -كما يقول ابن عبد البر وغيره- قول لم يلتفت إليه أحد؛ لأن السنة جاءت بغير ذلك.
وإذا حضر الشهر، وأراد أن يسافر أثناء الشهر، يوم ثلاثة أو يوم خمسة أو يوم عشرة، فمن حيث اليوم قالوا: إن كان قد طلع عليه الفجر وهو في بلده، فكما قدمنا في باب تبييت النية أن المسافر المتحقق السفر، والحائض المتحققة مجيء حيضتها غداً على كل منهما تبييت النية، فهذا المسافر سيسافر غداً، وهو حاجز، والتذكرة في جيبه، لكن عليه أن يبيت نية الصوم، فهو أصبح مبيتاً لنية الصوم، فإذا أراد ضحى النهار أن يسافر، فالجمهور -ومنهم المالكية والشافعية والأحناف- يقولون: هذا الشخص الذي أدرك جزءاً من هذا النهار مقيماً لا يحق له أن يفطر في هذا اليوم؛ لأنه بيّت النية، وصام جزءاً من النهار، فلا يبطل هذا الجزء، ويسافر ثم إذا أراد الفطر فيكون من الأيام التالية المقبلة.
وإذا لم يطلع عليه الفجر في بلده، أراد أن يسافر، فتهيأ وجمع عدة السفر، وركب، وهو في طريقه في سفره طلع الفجر وهو في أطراف البلد، فهل يفطر؟ قالوا: لا، لا يفطر حتى يغادر أطراف القرية ويخرج من حدودها، فحينئذ له أن يفطر، كما قالوا في بداية قصر الصلاة: لا يجوز لإنسان أن يبدأ قصر الصلاة من بيته، بل إنما يبدأ القصر بعد أن يغادر حدود البلد، كما جاء عن علي رضي الله تعالى عنه أنه خرج من الكوفة، وواجهتهم صلاة العصر، فنزلوا في طرف البلد فصلوا أربع ركعات، فقيل لـعلي : ألسنا مسافرين؟! قال: بلى. قالوا: لماذا تتم ونحن قد خرجنا؟! قال: لولا هذا الخصيِّص -والخصّ: مثل الحجرة من أغصان الشجر وأعواده- لقصرت الصلاة. يعني: أن علياً رضي الله تعالى عنه اعتبر الخصيِّص هذا من توابع القرية، وأنه لم يخرج عنها كلية.
إذاً: متى يبدأ المسافر فطره في سفره؟ القول الأول لم يلتفت إليه أحد من العلماء، والراجح أنه إذا سافر في أثناء النهار، وأدرك جزءاً من النهار في بلده، فهذا اليوم الأول لا يفطره، بل يمسك ويتم صومه، وينشئ الفطر بعد ذلك اليوم من أيام سفره، وإذا كان في البلد وأراد أن يفطر في صومه، فلا يفطر حتى يغادر أطراف القرية ويخرج من حدودها.
الجمهور قاطبة يقولون كما قالوا في قصر الصلاة: إن كانت إقامته في تلك البلدة المؤقتة أربعة أيام فأقل فله الفطر، ولكن يكون سراً، ولا يظهر فطره للناس، وإن كان أكثر من ذلك فليصم من أول يوم وصلها، وقالوا: إن دليل ذلك من الحالة والعرف، واقتباساً من النص أو الفعل الذي جاء عنه صلى الله عليه وسلم.
وإن كانت إقامته في تلك البلدة مجهولة النهاية عنده، فيختلف الحكم عن الحالة الأولى التي عرف أنها أربعة أيام فأقل، وينقطع عنه حكم السفر، فإذا عرف أنها أربعة أيام فأكثر محددة، عشرين، شهر، أو أكثر أو أقل؛ فإنه يرتفع عنه حكم السفر ويصبح صائماً.
وإذا لم تكن المدة معلومة، هل هي يوم أو أربعة أو عشرة أو عشرين؟ ويشبهون ذلك بمن يسافر برفقة غيره، كأتباع التجار وأتباع الأمراء وأتباع القادة، لا يعلمون متى تنتهي المهمة، وعندما يرجع المسئول عنهم يرجعون معه، ولم يخبروهم متى سنرجع أو متى سنرحل، فالمدة مجهولة عندهم، فإذا كان شخص كذلك ذهب إلى الشام للتجارة، أو ذهب إلى مكة عمرة، وجاءت شواغل وهو لا يدري متى تنتهي، العمرة معروف أمدها، لكن إذا كان في سفر آخر يريد أن يلقى فلاناً، يريد أن يصنع كذا، ولا يدري متى ينتهي التصنيع؛ فحينئذ له أن يفطر ويقصر إلى عشرين يوماً، وما زاد عن ذلك وجب عليه الصوم، هكذا يقولون فيمن أقام مدة لا يعلم مداها.
والآخرون يقولون: ما دام قد وصل فعليه الصوم؛ لأن مشقة السفر قد انتهت عنه، ولكن يقولون: الثلاثة الأيام وما شابهها تتبع ما قبلها؛ لأنه لا يزال في عناء السفر، وسيواصل السفر بعدها.
الجمهور على أن الأولى له أن يمسك لحرمة الشهر.
ونجد الخلاف في قضية قد تكون نادرة، ولكن الفقهاء رحمهم الله يذكرونها للتنبيه عليها: إذا قدم من سفره مفطراً، ودخل البلد مفطراً، فوجد زوجه كانت مريضة مفطرة وتعافت في نصف النهار، أو كانت فيها الدورة وارتفعت عنها ضحىً، فهي تمسك من أجل حرمة الشهر وستقضي هذا اليوم، فلو وجدها مفطرة بعد ارتفاع حيضتها وقبل مجيء الليل، فإذا واقع زوجه وهي على هذه الحالة، فهو مفطر للسفر، وهي مفطرة للدورة، فهل يكون عليه كفارة في ذلك أو ليس عليه شيء؟
المالكية والشافعية ينصون أنه لا شيء عليه، ونجد الخلاف عند غيرهم.
إذاً: هذه مسائل من أراد الفطر في سفره في بداية أمره، وفي أثناء طريقة، وفي حالة عودته.
هذا حديث من أفسد صومه في رمضان بالجماع، والصوم يكون بالإمساك عن شهوتي البطن والفرج، فإذا لم يمسك إحدى الشهوتين -شهوة البطن بأكل أو شرب، أو شهوة الفرج بوطء- فماذا يكون حكمه؟
المالكية والأحناف يقولون: من أفسد صومه بأكل أو شرب عامداً فإن عليه القضاء والكفارة، وعندهم مبحث في نوعية الأكل -أي: للتغذي- وهذا لا حاجة للخوض فيه؛ لأنهم انفردوا بذلك، كما لو ابتلع حصاة فإنها غير طعام، فعندهم خلاف في المذهب، والمقدم عندهم أنه لا كفارة عليه، ويروى عن زفر ومحمد أنه إن فعل ذلك عامداً فإن عليه القضاء والكفارة، ونحن نبحث في مسألة من أبطل صومه بأكل أو شرب عامداً، أما النسيان فقد تقدم الأمر فيه: (فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه) .
وأما الحنابلة والشافعية فعندهم أن من أبطل صومه بتعاطي الأكل أو الشرب أو ما يلحق به عامداً فإن عليه القضاء فقط، ولا كفارة عليه؛ لأنهم لا يجعلون الكفارة إلا في شهوة الفرج، وأن يكون بوطء حقيقي، وعلى هذا فمن أفسد صومه بوطء فهو الذي عليه الكفارة، وسيأتي التعليق أيضاً على ملحقات الأكل وملحقات الوطء.
إلى هنا انتهى عرض هذه القضية، فالشافعية والأحناف أخذوا بهذا النص، وقالوا: الرسول صلى الله عليه وسلم أمر الأعرابي أن يكفر للوقاع، ولم يأمر أحداً أن يكفر للأكل والشرب، ولكن مالك رحمه الله يروي في الموطأ عن عبد الله بن عمر عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: (أن رجلاً أفطر في رمضان فأمره صلى الله عليه وسلم أن يُكَفِّر) فهذا النص: (أفطر)، ولكن من صنيع مالك أنه ذكر حديث أبي هريرة في أول الباب: (رجل أفطر فأمره صلى الله عليه وسلم أن يكفر)، وجاء بعده بهذا الحديث: (أعرابي جاء وقال....)، فبعض الناس يقول: حقيقة مذهب مالك أنه حمل عموم الفطر على خصوص الوقاع؛ لأنه جاء بحديث الأعرابي ليبين نوعية الفطر الذي أمر رسول الله بالكفارة فيه.
والبعض الآخر يقول: لا، إنما ساق الحديثين ليبين أن الكفارة لمن أفطر مطلقاً، سواء أفطر بأكل أو وطء فعليه كفارة، ومن أفطر بوطء -كما هو المنصوص عليه- فعليه الكفارة، والمالكية يروون عن مالك أنه يوجب الكفارة على من أكل أو شرب متعمداً في نهار رمضان ولو لم يجامع.
يختلفون إن أمنى بالمباشرة دون الفرج، فـمالك يقول: فيه كفارة، وغيره كالحنابلة والشافعية يقولون: لا، بل عليه القضاء، ويستغفر الله، ولا كفارة إلا بالإيلاج.
وإذا باشر أهله ولم يمنِ، ولكنه أمذى، فما حكمه؟
مالك يقول: عليه قضاء يومه، وغيره يقول: المذي لا شيء فيه؛ لأن حكم المذي حكم البول.
وإذا لم تكن مباشرة، ولكن كان هناك مقدمات المباشرة كالقبلة، اللمس، دوام النظر، دوام التفكير، هل هذا يتعارض مع صومه؟
قالوا: هذه الأشياء القبلة.. اللمس.. المداعبة.. دوام النظر.. تكرار الفكر، إن أحدثت منياً فـمالك يقول: عليه القضاء والكفارة، والآخرون يقولون: إن أمنى بسببٍ كقبلة فعليه القضاء.
فقال: مالك عنده دقة في الأصول؛ لأن حديث الأعرابي تناوله العلماء بتنقيح المناط، وتنقيح المناط وتحقيق المناط مبحثان أصوليان، فمثال تحقيق المناط: أن الله أوجب الكفارة على المحرم إن قتل صيداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ [المائدة:95]، فهذا حكم موجود، ولكن بقي التطبيق العملي في حق كل صيد؛ لأن الحكم عام، ففي كل الصيد جزاء مثل ما قتل، فلو قتل إنسان غزالاً، أو أرنباً، أو بقراً وحشياً، فالحكم موجود فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ [المائدة:95]، لكن تحقيق المناط في هذه القضية بغزال، أو في هذه القضية بأرنب ما هو؟ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ [المائدة:95] فيحكم اثنان من ذوي المعرفة: ماذا تقولان في قتل الأرنب؟ ما هو جزاؤه؟ ماذا تقولان في قتل الغزال؟ ما الذي يماثله؟ فتحقيق المماثلة في كل صيد على حدة هو تحقيق المناط.
لكن التنقيح: هو كالرجل بعد حصد الغلة، أثناء دوسها يريد أن يصفي الحب من التبن، فيعزل الحب عن التبن، فيأخذ الحب وفيه التبن، فيأخذه في غربال وينقح، بحيث أنه يلقي الشوائب عن الحب حتى يبقى الحب صافياً، هذا هو التنقيح -يعني: التصفية-، فيقول والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه: الجمهور نقحوا قضية الأعرابي عدة مرات، ومالك زاد تنقيحه عليهم، والتنقيح هو إسقاط الوصف الذي لا يصلح لتعلق الحكم به، وتعليق الحكم بالوصف المناسب له، فقوله: (جاء رجل -هذا محل الحكم؛ لأنه مكلف، بخلاف الصبي- يضرب صدره، ينتف شعره -هل هذه الصفات قيد وشرط فيمن جامع حتى تكون عليه الكفارة أو كونه يضرب الصدر وينتف الشعر لا علاقة له بالحكم؟ لا علاقة له، فهذه تنقيحة تسقط هذه الصفات: ضرب الصدر، ونتف الشعر، يصيح ويقول: هلك وأهلكت)، فهل من شرط وجوب الكفارة على من جامع أن يأتي يصيح يقول: هلكت وأهلكت؟ لا، إذاً: نسقط هذه أيضاً، فلو جاء في غاية الهدوء، وفي غاية البساطة، وأسر إلى رسول الله في أذنه، هل يتعلق به الحكم أو لا؟ يتعلق به الحكم، إذاً: تلك الصفات قد نُقحت، نقحها الجمهور وقالوا: يتعلق الحكم بالكفارة على الوصف المعتبر، وهو (واقعت)، ومالك قال: صحيح، وأنا معكم إلى هنا، ولكن عندي زيادة، ما هي الزيادة -يا مالك - على هذا؟
قال: انتهاك حرمة رمضان، وهذه تستوي فيها (واقعت) و(أكلت).
ومن هنا، بزيادة هذه التنقيحة الأخيرة أخذ مالك من نفس هذا الحديث وهذه القضية: أن من انتهك حرمة رمضان فعليه القضاء والكفارة.
نرجع إلى تحقيق المناط: هل يمكن أن ينسى مثل هذا؟ يعني: هل يتصور أن إنساناً في رمضان ينسى بأنه صائم ويواقع أهله؟
فمن قال: يمكن ذلك، فلا شيء عليه بسبب النسيان. ومن نفى ذلك وقال: هذا مستحيل فوقائع الحال تشهد أنه مستحيل على إنسان يكون في رمضان صائماً، ثم في ضحى النهار ينسى أنه صائم ويواقع أهله!
فإذا نسي هو وزوجته أو توطآ على النسيان؟
قالوا: إن أمكن أن يقع بالنسيان فلا مانع، كما قالوا في المكره: لو أكره على وقاع أهله، هل عليه كفارة؟ أو أكره الزوج زوجته فهل عليها كفارة؟
فمن تصور إمكان وقوع ذلك بالإكراه قال: لا شيء عليه؛ لأنه مكره (وما استكرهوا عليه) ، ومن استبعد أن يكون الإكراه في هذا الفعل قال: عليه كفارة، كما قال ابن تيمية رحمه الله وغيره: هذا الفعل لا يتأتى إلا بالاختيار، فإذا كان مكرهاً فليست عنده الصلاحية لأن يباشر هذا العمل. وقالوا: من قال: يمكن أن ينتصب ذكره ويباشر بإكراه السوط، أو إكراه القتل، أو إكراه كذا وكذا؛ فلا شيء عليه، ومن قال: لا يتأتى الإكراه، وإنما أكره في الأول ثم رغب في الحال، وباشر وهو راض راغب، فكان الإكراه في البداية، وكان الرضا في أثناء العمل، فعليه الكفارة.
إذاً: تحقيق المناط في الإكراه والنسيان يتعلق به الكفارة وعدم الكفارة، وهذه مسائل نادرة، ولكن الفقهاء -رحمهم الله وجزاهم الله عنا أحسن الجزاء- بينوا هذه الوقائع، ولو كان وقوعها نادراً.
الأقوال كثيرة: عشرون صاعاً، خمسة وعشرون صاعاً، أكثر أو أقل، وإذا قلنا: إن عليه أن يطعم ستين مسكيناً، فهل الكفارة في هذا العمل على الترتيب المذكور أو هو بالخيار؟
الرسول صلى الله عليه وسلم سأل أولاً عن إعتاق الرقبة، إذاً: أولاً: العتق، فإن لم يجد فصيام -كما يقول الفقهاء ككفارة الظهار- إذاً: يبدأ الذي عليه الكفارة بعتق الرقبة، فإن لم يجدها أو لم يجد قيمتها فالصيام، بعض الناس الآن يقولون: لا يوجد رقاب، والمال موجود ولكن لا يوجد رقاب، وهل يوجد في بعض البلدان الإسلامية أو لا يوجد؟ هذا شيء آخر.
إذاً: بحسب الترتيب يبدأ بالعتق، فإن لم يجدها أو وجدت ولم يجد قيمتها انتقل إلى صيام شهرين متتابعين، والتتابع في الشهرين شرط، فلو قطع التتابع بغير عذر استأنف من جديد، أما إذا قطع التتابع بعذر من مرض، أو امرأة كانت تكفر وجاءتها الدورة، وقطعت من أجل الدورة فتستأنف عند رفع المانع حالاً، فإنسان كان يصوم شهرين متتابعين وفاجأه المرض، وأعجزه عن الصوم، فأول ما يتعافى من مرضه ويستطيع الصوم يستأنف حالاً.. وهكذا.
ثم إن لم يستطع الصوم انتقل إلى الإطعام، والستون مسكيناً كم إطعامهم؟ قدروا للمسكين نصف الصاع، يعني الصاع الذي يخرج به زكاة الفطر يكفي عن نفرين، فيكون خمسة عشر صاعاً من الطعام، سواء هيأ الطعام في بيته ودعاهم وأكلوا، أو أعطاهم إياه ليهيئوه عندهم، فإن أخرج تمراً فالتمر طعام جاهز، وإن أخرج الأرز -مثلاً- فهو طعام يصنع، وإن أخرج البر فيحتاج إلى طحن وغير ذلك، فبعض العلماء يقول: يجعل مع البر أو مع الأرز ما يصلحه، والبعض يقول: هو مقدار كافٍ.
وعدد الستين هنا هل هو مقصود لذاته، فيطعم ستين شخصاً أو هو مقدار ما يطعم الستين حتى ولو أعطاه لستة أشخاص؟
فهناك من يقول: المراد مقدار ما يطعم الستين؛ لأن الغرض المقدار، ومالك يؤكد على أنه يجب أن يكون العدد ستين مسكيناً، ويقول: حينما يأكل طعامك ستة أشخاص فأنت تستفيد من استغفار ودعاء ستة نفر فقط، أما إذا جمعت العدد في الإطعام، ووزعت الكفارة على ستين شخصاً؛ فكل واحد سيستغفر لك، وكل واحد سيدعو لك، وكل واحد سيصوم بطعامك الذي قدمت له، ويكون لك زيادة وانفساح في الأجر.
هناك من يقول: لا كفارة عليها، والكفارة من الرجل تجزئ عن الوقاع، والمرأة لم تواقع، إنما هي محل العمل، والعمل للرجل.
وهناك من يقول: لا، إن كانت مكرهة فلا شيء عليها، وكفارتها عليه، وإن كانت مطاوعة فعليها كما هو عليه أيضاً، ثم إن قلنا بأنها مكرهة، وألزمنا الزوج بالكفارة، فقالوا: الرسول لم يسأل الرجل: هل المرأة مطاوعة أو غير مطاوعة؟ والرسول لم يقل: اعتق رقبتين عنك وعن زوجك، إنما أفتاه فيما يتعلق بنفسه فقط، وهو صلى الله عليه وسلم يعلم بأن الوقاع لا يكون إلا من طرفين، فلما سكت عن المرأة سكتنا.
والآخرون يقولون: على حسب قواعد الأصول أو قواعد الفقه أو القياس أنه يلزمها الكفارة، فإذا قيل: إنها مكرهة، وقلنا: كفارتها على من أكرهها وهو زوجها، ونلزمه الكفارة من أجلها، فهل كفارتها مثل كفارته أم تختلف؟ إن كانت من ذوي الأموال فإن كفارتها العتق، فعليه أن يعتق عنها، ولو عجز عن العتق لنفسه، لكن هو لم يعتق عن نفسه فكيف يعتق عن غيره؟ وإن كانت كفارتها بالصوم فالصوم لا يصوم أحد عن أحد، بل تصوم هي، وإن كانت كفارتها بالإطعام أطعم عنها كما يطعم عن نفسه.
بعضهم يقول: الباقي دين في عنقه، فهل الرسول قال له: كمل الباقي؟! الرسول ما قال له: أطعم هذا، وكمل ما بقي عليك من إطعام ستين مسكيناً، بل أعطاه الطعام وقال له: اذهب؛ ولذا هناك من يقول: المعدم يطعم قدر ما يستطيع، ويسقط عنه الباقي.
ولا نستطيع أن نستوعب كل جزئيات هذه المسألة، ولعل في القدر الذي أوردناه الكفاية أو التنويه عن مسائل ومباحث هذه المسألة، والله أسأل أن يوفقنا جميعاً وإياكم لما يحبه ويرضاه!
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر