الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد:
قال رحمه الله: [ وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال. فقال رجل من المسلمين: فإنك تواصل يا رسول الله! فقال: وأيكم مثلي؟! إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني، فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال، واصل بهم يوماً ثم يوماً ثم رءوا الهلال، فقال: لو تأخر الهلال لزدتكم. كالمنكل لهم حين أبوا أن ينتهوا) متفق عليه ].
بعد أن ذكر المؤلف رحمه الله تعالى آداب الفطر والحث على السحور، جاء بهذه المسألة المشهورة في الصيام، وهي: الوصال، والوصال: مأخوذ من الوصل، وأصله: وصل الشيء بغيره كما تصل طرفي الحبل، وهو في العرف الشرعي: أن يصل صوم النهار بالليل، ويصير صائماً نهاراً وليلاً، وهذا يسمى وصلاً، ولأنه يتكرر مرة ومرتين سمي وصالاً.
ساق المؤلف رحمه الله حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الوصال) أي: نهى الصائم أن يصل النهار بالليل سواء مرة واحدة أو كرر ذلك، ولما نهى والحال أنه صلى الله عليه وسلم يواصل، وجد المسلمون نهياً يغاير فعلاً! فقال رجل من المسلمين: نهيتنا عن الوصال وأنت -يا رسول الله- تواصل! ونحن إنما نستن بسنتك ونقتدي بهديك. وهذا فعلاً سؤال في محله، ولكن بين النبي صلى الله عليه وسلم أنهم ليسوا مثله، فقال: (لست كهيئتكم أو لستم مثلي) .
ومن هنا يقول الأصوليون: يشترط لصحة القياس أن يستوي الطرفان، فكأنه قال: تقيسون أنفسكم بي، والحال أن هناك فرقاً بيني وبينكم، وما هو الفرق في هذا الباب؟ قال: (إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني) ، وفي بعض الروايات: (لستم مثلي؛ فإن لي طاعماً يطعمني، وساقياً يسقيني) .
الوصال هو زيادة عبادة، فبدلاً من أن يصوم النهار اثنتا عشرة ساعة، فسيصوم الليل معه أيضاً اثنتا عشرة ساعة، ويكون قد صام أربعاً وعشرين ساعة مرة واحدة، وهذه عبادة فيها زيادة حمل النفس على الصبر وتهذيبها و.. إلخ، ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يرد هذا، والغاية البعيدة من تحريم ذلك لها جهتان، وينضمان أو يصبان في غاية واحدة:
الجهة الأولى: لئلا يحمل المكلفون أنفسهم فوق طاقتهم تحت عاطفة حب العبادة، فيأتي الإنسان يعمل عملاً بعاطفة وانفعال، وهو مندفع، وبعد أن يمشي قليلاً يحس بالكلفة، فيريد أن يتراجع لكن بعد أن فات الأوان، ولكن من هنا من البداية لا تواصل.
الجهة الأخرى: لحفظ الدين؛ لأن الذي يحمّل نفسه الوصال، تتكرر عليه السنوات والأيام، ويتقدم في السن، ثم يحصل هناك عنده كراهية للعمل الذي شق عليه، وبعد أن كان يعمله بسهوله صار يعمله بتكلف، وهذا من التشدد المنهي عنه، كما في حديث النفر الثلاثة الذين ذهبوا إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها ليسألوها عن أعمال رسول الله في البيت، قالوا: أعماله في البيت لا نراها، نراه في الصلوات الخمس، وتعليم الناس، وذكر الله، لكن ما العمل الخفي الذي يعمله في البيت حتى يتأسى به؟ فعندهم زيادة رغبة في الخير. فلما سألوها قالت: في الليل أحياناً يقوم وينام، وفي النهار أحياناً يصوم ويفطر، وأحياناً يكون في شغل أهله في البيت -يساعدهم: يحلب الشاة، يخصف نعله صلوات الله وسلامه عليه-، فهؤلاء سمعوا هذا الشيء، ولما لم يكن هناك جديد قالوا: إنه عبد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، لكن نحن في حاجة إلى الإكثار من العبادة، فلنبحث، دعنا نبحث عن عمل نلتزم به ونجتهد فيه، فقال أحدهم: أما أنا فأقوم الليل ولا أنام. والثاني قال: وأما أنا فأصوم النهار ولا أفطر. والثالث قال: وأما أنا فلا آتي النساء، أي: أتبتل إلى الله بأنواع العبادات.
وكانت أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها حكيمة، لما سمعت هذا لم تناقشهم من وراء الحجاب، فذهبوا، وجاء الرسول صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما سألوا، وبما أجابتهم، وبما قالوا فيما بينهم.
ونستطيع أن نقول: نموذج جديد في الاجتهاد في العبادة حصل في ذلك اليوم، وعلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل فرح الرسول بوجود مثل هذه النوعية في الأمة، يحبون الاجتهاد في العبادات، والرغبة في الخير، و.. إلخ؟ لا والله! بل غضب، هل يغضب لزيادة الخير؟ نعم؛ لأن الزيادة إذا كانت ستأتي بنقص فهي ناقصة، فيأتي المسجد ويصعد المنبر، وكان صلى الله عليه وسلم إذا كان هناك أمر أمر بالمنبر، فينبه بعضهم بعضاً ويجتمعون، فحمد الله وأثنى عليه وقال: (ما بال رجال -وهذه كانت عادته صلى الله عليه وسلم يكني عن الرجال ولا يعرفهم بالذات، ولا يحب أن يسميهم ويحرجهم، والغرض الفائدة- يقولون: كذا وكذا وكذا -وذكر للناس ما ذكر هؤلاء الثلاثة- أما إني والله! لأعلمكم بالله، وأتقاكم لله -ولن تكونوا أحسن مني- وإني والله! -مع أفعل التفضيل هذه- أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وآتي النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) صلوات الله وسلامه عليه.
وهكذا يقولون في الشجاعة، الجبن والخور طرف مذموم، والتهور وعدم النظر في العواقب طرف مذموم -أيضاً- كما قال الشاعر:
قدر لرجلك قبل الخطو موضعها فمن علا زلقاً عن غرة زلج
انظر في العواقب، فوسطية هذه الأمة بين الأمم الماضية هي: أن الإنسان -كما يقول العلماء- مركب من جسم وروح، يعني مادة ومعنى، فالجسم له متطلبات الحياة من أكل وشرب ونساء وتوالد وتكاثر... إلخ، والروح لها الغذاء الروحي من الذكر والتلاوة والتأمل والخوف من الله والرغبة في الله... إلخ.
والإفراط: هو أن يفرِط في إشباع أحد الجانبين الجسم أو الروح، ويفرِّط في الجانب الآخر، وهذا الذي وقع من اليهود والنصارى، فاليهود أفرطوا جداً في جانب المادة، واحتالوا للوصول إلى المادة المحرمة بالحيل، لما حرم الله عليهم الصيد يوم السبت احتالوا في حصولهم على الحوت يوم الجمعة ويوم الأحد، ولما حرم عليهم الشحوم إلا ما استثني احتالوا فجملوا الشحوم وباعوها وأكلوا الثمن، وقالوا: ما صدنا يوم السبت، ولا أكلنا شحماً، وفرطوا كل التفريط في جانب الروح، فجنحوا ومالت بهم السفينة.
والنصارى بالعكس: فرطوا في أمر الدنيا، وأفرطوا في جانب الروح، واتخذوا رهبانية، وابتدعوا عبادات مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا [الحديد:27]، فجنحوا إلى الجانب الآخر.
ومن هنا وقفت مسيرة الدعوة الإسلامية، ما استطاع اليهود أن يواصلوا بها السير، ولا استطاع النصارى أن يواصلوا بها السير، فجاء الإسلام ووضع الموازنة المعتدلة بين الجانبين، ونقرأ قوله سبحانه: إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ [الجمعة:9] هذا النداء روحي أم مادي؟ روحي فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ [الجمعة:9] البيع هذا روحي أم مادي؟ مادي ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ [الجمعة:9-10] هل قال بعدها: امكثوا في المصلى، امكثوا في الأديرة، اعتكفوا في المساجد، اتركوا الدنيا؟ لا، فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الجمعة:10] ، انتشروا وابتغوا من الدنيا مع ذكركم لله سبحانه وتعالى، يعني: فاجمعوا بين الدين والدنيا.
وقد شاهدنا هنا في المدينة في الستينات صاحب الدكان والبقالة أو القماش في رمضان يفتح المصحف ويقرأ، وعنده ريشة، وإذا جاء زبون يطلب شيئاً من البقالة أو القماش وضع الريشة حيث انتهى من القراءة وأغلق المصحف وباع واشترى، فإذا ذهب الزبون رجع إلى المصحف، دين ودنيا.
جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وتعرف إليه، وسلم عليه، وأسلم ورجع، وبعد سنة جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فرد عليه رداً عادياً، فقال: ألم تعرفني يا رسول الله؟! قال: (لا، ما عرفتك. قال: أنا الذي جئتك العام الماضي بكذا وكذا وكذا. قال: ما الذي غيرك بعدي؟ كنت نضر الوجه، غض الجسم، ما الذي غيرك؟ قال: منذ فارقتك -يا رسول الله- ما أفطرت يوماً -أسرد الصوم- قال: لا، أتعبت نفسك، أين أنت من الأشهر الحرم؟ صم من الأشهر الحرم وأفطر) ، ما رضي له أن يظل صائماً، فإن ضعفت من الذي سيحرث الأرض؟ من سيصنع في المصنع؟ من الذي سيقاتل العدو؟ من الذي سيرعى الأولاد والزوجات والأبوين؟ لا، ولهذا نهى صلى الله عليه وسلم عن الوصال.
وكذلك عبد الله بن عمرو بن العاص كان يقوم الليل كله، وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء وقال: (بلغني عنك كذ وكذا، قال: نعم يا رسول الله! قال: إن لعينك عليك حقاً، ولجسمك عليك حقاً، ولزورك عليك حقاً - وفي بعض الروايات: ولزوجك-) .
وسلمان الفارسي لما جاء إلى أبي الدرداء وجد أم الدرداء مبتذلة، كأن ما عندها رجل، فقال: ما هذا يا أم الدرداء؟! ما عندك رجل ينظر إليك؟! ما عندك واجب تؤديه لزوجك؟! قالت: لا، أخوك أبو الدرداء لم يعد له حاجة في النساء، ولما رأى هذه الحال لم يكن أبو الدرداء موجوداً، فانتظر حتى جاء وبات عنده، فلما صلوا العشاء وتعشيا وأخذا في النوم قام أبو الدرداء يصلي في البيت، فأمسكه وقال: نم. فلم يقدر على مخالفته فنام قليلاً وقام، لا يستطيع أن يصبر، فأمسكه وقال: نم. حتى ما بقي إلا ثلث الليل الأخير، فقام يصلي فقال له: قم فصل إذا أردت. وقام هو أيضاً فتوضأ وصلى ما تيسر.
وفي الغد أم الدرداء أتت بالفطور، فـأبو الدرداء قال: كل أنت، أنا صائم. فأخذ سلمان يده في الإدام وقال: كل، فأكل. وقال له سلمان : إن لنفسك عليك حقاً، ولعينك عليك حقاً، ولزوجك عليك حقاً... إلخ، فأعط كل ذي حق حقه.
فذهب أبو الدرداء في الظهر إلى رسول الله واشتكى وقال: يا رسول الله! سلمان صنع معي كذا وكذا، وعطل علي كذا وكذا وكذا. فقال: (صدق
لكن أنا أسأل: هل عمر ما فهم دعواها؟! عمر بصفته كخليفة وكحاكم وكأمير لا يقف ضد إنسان في غيبته، بل يأخذ الأمور على ظواهرها، وفي فن الأدب يذكرون هذه الأبيات:
قبيلة لا يخفرون بذمة ولا يظلمون الناس حبة خردل
وما سمي العدلان إلا لقولهم خذ القعب أيها العبد واعجل
تعاف الكلاب الضاريات لحومهم وتأكل من لحم كعب بن نهشل
فجاء رجل إلى عمر وقال: إن الشاعر هجانا.
قال: وماذا قال؟
قال: يقول: قبيلة لا يخفرون بذمة.
قال: نعم الوفاء، عندهم وفاء.
قال: ولا يظلمون الناس حبة خردل.
قال: إن الله حرم الظلم.
قال: وما سمي العدلان إلا لقولهم خذ القعب أيها العبد واعجل.
قال: خادم القوم سيدهم.
قال: ويقول: تعاف الكلاب الضاريات لحومهم -أي: لحومهم زفرة- وتأكل من لحم كعب بن نهشل .
قال: كفى بالأمة أن تأكل الكلاب لحومها، فصرف الهجاء إلى مدح، فـعمر بليغ، وكان السفير لقريش في المناسبات، وكانت قريش إذا أرادت أن تهنئ قبيلة بنبوغ شاعر أو فارس فيها تبعث عمر ، وإذا أرادت قريش أن تعزي قبيلة في سيد مات فيها تبعث عمر ، وهو القائل: إذا أتتك كلمة من صديقك لها خمسون معنىً سيئاً، وفيها معنى واحد حسن، فاحملها على الواحد الحسن.
إذاً: عمر ما خفي عليه شكوى المرأة. ولما تكلم الرجل أصبح مسئولاً، فاستدعاها عمر رضي الله عنه فأقرت، فقال: يا كعب ! أنت فهمت قضيتها فاحكم بينها وبين زوجها. فأحضر الزوج، وجلسا، فقال: يا أمير المؤمنين! أقضي أمامك وبين يديك؟ قال: نعم. القضاء مبناه على الفهم، أنت فهمت القضية وأنت الذي تستطيع أن تحكم فيها، وهذا تفويض من ولي الأمر إلى أحد الأفراد للقيام بالقضاء، وهذا عين تنصيب القاضي نائباً عن الخليفة. سأل الرجل: لماذا أنت كذا؟ قال: والله! أنا أخاف من الله، وأخاف من البعث وأخاف... وأخاف... إلخ. فقال: اسمع يا أمير المؤمنين! أنا أحكم بينهم بأن يكون لزوجها ثلاث ليال يتهجد فيها، ويتعبد فيها كيفما شاء، وثلاثة أيام يصوم ويفطر كيفما شاء، والليلة الرابعة واليوم الرابع لا يتهجد ولا يصوم ويكون من حقها هي.
فقال له: ومن أين أخذت هذا الحكم: ثلاثة وواحد؟!
قال: الله أعطى للرجل حق التزوج بأربع، فلو كان مستوفياً لحقه من أربع زوجات لكانت لها مع الزوجات واحد من أربعة، فحق الزوجات الثلاث أعطيته إياه، ويوم من الأربعة أعطيتها للمرأة، فقال عمر : والله! لا أدري هل أعجب من فهمك لشكواها أو من حسن قضائك؟! كلاهما.
وقد قال عمر في كتابه لـأبي موسى الأشعري : الفهم الفهم، وأول باب القضاء الفهم.
إذاً فرط إنسان في جانب المادة، واجتهد في جانب الروح أفسد الجانب الآخر، ولهذا جنحت سفن الأمم الماضية، أما الإسلام فكالطائر يحلق بجناحيه في الأفق، ولا زال بحمد الله يحلق بتشريعاته خمسة عشر قرناً، وكأنه اليوم أنزل، بأي سبب؟ بالاعتدال، بالتوازن، بعدم طغيان جانب على جانب.
نجد العلماء يبحثون ذلك، فمنهم من يقول: النهي للكراهية. لماذا والأصل في النهي التحريم؟ قالوا: لأن النهي لعلة ولحكمة يناط بها وهي: الإشفاق على الناس؛ لأن الوصال فيه صعوبة، فنهاهم أن يشقوا على أنفسهم، كما قالوا في صيام يوم عرفات لمن في عرفات، فبعضهم قال: هذا شفقة بهم. بالأمس كانوا في منى واليوم في عرفات، وفي الليل في مزدلفة، ومن الفجر في منى ورمي ونحر وحلق، ثم طواف إفاضة، فالصوم يشق عليه، ويجعله يقصر في بعض هذه الواجبات التي هي أهم، فمن استطاع ووجد في نفسه قوة صام، وهذا اجتهاد منهم، فكذلك هنا.
والآخرون قالوا: لا، النهي يقتضي التحريم، فلا يجوز أن يواصل.
وجاءت بعض الأحاديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر) ، لا يكمل إلى الليل، فوقت يأتي السحور يتسحر، يعني: يقطع صومه بأكلة السحور، وهذه رخصة وإباحة، ومواصلة صوم الليل كله مع النهار لا يجوز.
وبعض السلف كـابن الزبير وطلحة كانوا يواصلون، وينقلون عن ابن الزبير عجائب : كان يواصل خمسة أيام وستة أيام بلياليها! ولكن فعلاً كان يجد العنت، وإذا انتهت مدة وصاله لا يستطيع أن يأكل ولا يشرب نظراً لحالة المعدة، فكانوا يذيبون له التمر في السمن، ثم يلعق من مجموع التمر والسمن إلى أن يلين المعدة ويرطبها، وتمتص هذا الخليط شيئاً فشيئاً، ثم بعد ذلك يأكل الطعام.
وهنا قال بعض العلماء: يطعمني ويسقيني من طعام وشراب الجنة، فقيل: وهل طعام وشراب الجنة لا يفطر؟
قالوا: لا، لا يفطر؛ لأنه ليس من الدنيا، قيل: إذاً ما واصل، وكل الناس ستواصل ويأتيها طعام من الجنة.
فهل نحمل (يطعمني ويسقيني) على حقيقة الطعام والشراب أو نحمل (يطعمني ويسقيني) على أمر معنوي؟
القضية دائرة بين هذين، فإن حملناه على أكل وشرب حقيقة فليس هناك وصال، ولماذا لست مثلنا؟ ما دام أنك تأكل وتشرب فليس هناك وصال.
وإن حملناه على الأمر المعنوي فما هو إذاً؟
أكثر من أطال في هذا ابن القيم رحمه الله، ونقل عن العلماء، وتوسع في هذه المسألة، وقال: إن العبد إذا اشتد حبه لله، وقويت صلته بالله، كان دوام ذكره لله غذاء له، ولربما يكتفي بأبسط الأشياء من الطعام، ويغذي الجانب الروحي، وإذا تغذت الروح ساعدت الجسم، بخلاف الجسم، فإذا تقوى الجسم ضعفت الروح، وإذا تقوت الروح قوت معها الجسم، وقد وجدنا نماذج ليست في نفس المستوى ولكن للتقريب: السرية التي كان أميرها أبا عبيدة ، فقل طعامهم فقام بتموين إجباري، فجمع كل ما في أيدي أصحابه من الزاد وجعله عنده، وصار تموين منظم، يعطي كل واحد تمرتين أو ثلاث أو كذا.. حتى قل التمر فصار الواحد يأخذ تمرة في اليوم، غزاة في سبيل الله وزادهم وتموينهم تمرة! والله! لو كان واحد نائماً في الفراش وتقول له: هذا طعامك اليوم، لا يصبر على هذه الحال، ولكنهم لما كانوا في سبيل الله، وأحسوا أن جوعهم قربة لله، وأحسوا أنهم يتحملون في جانب الله؛ هانت عليهم الشدائد، وأحسوا بالشبع والقوة.
تقول القصة: وفي آخر يوم نقصت تمرة عن عددنا، فوجدنا لها وجداً شديداً -حزنا عليها؛ لأن واحداً منا سيظل بدون أكل، سبحان الله!- ثم ساق الله لهم حوت العنبر، وقعدوا عليه شهراً كاملاً يأكلون من لحمه، ويدهنون من ودكه، ويتفكهون أربعة وعشرين قيراطاً.
فهذه الحالة عندما يقوي الإنسان صلته بالله، ويشفف روحانيته، فإن هذه الشفافية، وهذا القرب من الله، غذاء له، أليس بعض الناس تحصل لهم غيبوبة ولا يدركون ما حولهم استغراقاً في التفكير في ذات الله؟ يحصل لبعض الناس هذا، ونقول: مغمى عليه، وليس مغمى عليه، بل هو في غيبوبة القرب من الله سبحانه وتعالى، ولا يدرك ذلك إلا بعض الخواص.
إذاً: قوله: (أبيت يطعمني طاعم، ولي طاعم يطعمني) نحاول أن نفهمها، ولكن نعترف بأننا لن نفهمها.
الذي يهمنا: أنهم يغايرونه، له طاعم وله ساق، وكيف يكون ذلك؟ نتركها لله ثم لرسول الله.
إذاً: في بادئ الأمر إذا أمر صلى الله عليه وسلم أمراً أو نهى نهياً، وإن كان هو المتكلم فهو داخل تحت الأمر والنهي؛ لأنهم قالوا: تنهانا عن الوصال: (لا تواصلوا) ، وأنت تواصل، فلولا أنه داخل تحت النهي لما حق لهذا السائل أن يقول: أنت تواصل، وكان يمكن أن يقول لهم: أنا خارج عن هذا، لا، فهو المتكلم، وهو داخل في النهي.
وهكذا يقول الأصوليون: الآمر يدخل تحت الأمر، والناهي يدخل تحت النهي إلا إذا جاء صارف.
وعلى هذا، يذكر ابن عبد البر عن الشافعي رحمه الله أنه قال: الوصال مكروه لمن شق عليه، ومن قدر فليواصل. ويقول ابن عبد البر : الجمهور أنه لا يجوز لأحد الوصال، وما ذكر عن بعض الأفراد فهذا اجتهاد شخصي لا يكون حجة على الآخرين، والله تعالى أعلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر