الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليماً.
أما بعد:
فيقول المصنف رحمه الله: [وعن قبيصة بن مخارق الهلالي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجلٍ تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك..) ].
هذا حديث قبيصة يبين النبي صلى الله عليه وسلم فيه أن الصدقة لا تحل إلا لواحد من ثلاثة أصناف:
والحمالة تكون بأن يحمِّل المرء ذمته حقوقاً لغيره، ليس له فيها شيء -كما أسلفنا- كأن يجد طرفين متنازعين على مال، ويقوم النزاع على تحصيل هذا المال، وكلٌ يدعي المال لنفسه، وليس هناك طريق لفض هذا النزاع إلا الصلح؛ لأنه ليست هناك بينة، ولا طريقة يعتمد عليها لإحقاق الحق لصاحبه، فيأتي هذا الشخص ويتدخل بينهما بالصلح فيتحمل المال المتنازع عليه بينهما في ذمته، ويصطلحان على ذلك، فهذا الشخص المصلح ليس عنده مال يدفع منه تلك الحمالة، أو أن عنده مالاً ولكن لا يريد أن يرهق نفسه، ففي هذه الحالة يجوز له أن يسأل الناس ليجمع مقدار الحمالة التي تحملها.
فهذا الشخص نحن نعرف أنه غني بأملاكه، وبكسبه، وبمزروعاته، وبعمائره، فيأتي ويقول: أنا يا جماعة الخير! تحملت بين فلان وفلان مبلغ كذا، أريد أن تجمعوا لي منه، فحينئذٍ يجوز لكل إنسان يستطيع أن يدفع شيئاً أن يقدم إليه مساعدةً في حمالته.
ومعلوم أنه لن يعلم أحد مقدار ما جمع بالنسبة للحمالة، فقد تكون الحمالة مائة ألف وهو يسأل، ثم لا يعلم أحد كم جمع في هذا المجلس، ولا في ذاك المجلس؟ ولا كم حصل عليه؟ فتكون حاجته للمسألة أمر بينه وبين الله.
فإذا جمع بالمسألة التي حلت له بموجب الحمالة مقدار الحمالة فليمسك، ولا يحق له أن يأخذ شيئاً زائداً عن حمالته؛ لأن الناس لا يعطونه لشخصه، إذ هو غني في الأصل، ولا يحق له أن يأخذ لشخصه شيئاً، إنما أخذ من أجل الحمالة، ومن أجل الإصلاح، وقد حصل على مقدار الحمالة فانقطع سبب السؤال الذي أحل له المسألة.
وهنا كما قالوا: يُعطى ولو كان غنياً، من أجل مساعدة أهل المروءة وأهل النجدة، وأهل المعروف، حتى لا يتكاسلوا ولا يتراجعوا عن التدخل في الإصلاح بين الناس، قال تعالى: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النساء:114]، ولهذا حل له أن يطلب ويسأل ويصرح، سواء أخذ من بيت مال المسلمين من الزكاة، أو أخذ من الأفراد، فكل ذلك جائز له، فإذا حصل على مقدار الحمالة فليمسك عن السؤال.
الصنف الثاني: رجل أصابته جائحة، والجوائح كثيراً ما تكون في الزروع، وقد تصيب غير الزروع، والأصل فيها: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح.
ومثال الجائحة أن يأتي إنسان إلى مزرعة بعد أن ظهر في ثمرها الصلاح وحلّ بيعها، فاشتراها على أنها مبقاة في أرضها أو في نخيلها، حتى ترطب، ثم يأخذها إلى السوق، فجاءت جائحة: كرياح عاتية، أو برد شديد، أو أي آفة من آفات الزراعة وأفسدت تلك الثمرة، وأصبح المشتري لا يستطع أن يستفيد مما اشتراه شيئاً.
فالرسول صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح، بمعنى أن على صاحب البستان أن يرد الثمن للمشتري؛ لأن المشتري لم يستفد شيئاً، وقد ثبت في الحديث: (فبم يأكل أحدكم مال أخيه؟).
أنت بعتها عليه مثلاً بعشرة آلاف، فجاءت الجائحة وأفسدتها، فبأي وجهٍ تأخذ العشرة آلاف هذه وتأكلها؟ ليس لك وجه حق؛ لأن المشتري لم يستفد من الثمرة شيئاً، فالجائحة لم تنزل عليه إنما نزلت على مزرعتك وفيها الثمرة المباعة.
والجوائح ليست من الأرض أو من فعل الخلق، إنما هي من فعل الله سبحانه وتعالى، فهي آفات سماوية كما يقولون.
ومثال آخر للجائحة: لو كان هناك سفينة في عرض البحر فهاج بها البحر وتلاطمت بها الأمواج من كل جانب فغرقت، فهذه أيضاً تكون جائحة.
فالإنسان إذا أصيب بجائحة في ماله، بعدما كان يعد من كبار التجار والأغنياء، وكانت سفنه تعبر المياه، وكانت سياراته تعبر الصحراء بالبضائع، لكنها أصيبت بجائحة، وذهب رأس ماله في هذه التجارة، ففي هذه الحالة يجوز له أن يسأل لكن هل له أن يسأل حتى يصيب العوض لكل ما ذهب منه؟ كالسيارة التي فيها مائة ألف، والباخرة التي فيها من البضاعة ما قيمته نصف مليون، والبستان الذي فيه ما يعادل خمسمائة ألف، فهل يسأل حتى يصيب قيمة ما تلف عليه، سواء كان في البستان أو في الباخرة، أو في السيارة؟
الجواب: لا؛ لأنه ليس في باب معاوضة ومثامنة مع الله، وإنما نظراً لاجتياح ماله، ولأنه أصبح صفر اليدين؛ فإنه يسأل حتى يصيب قواماً من عيش، أي: الذي يقيم معيشته، والذي يقيم حاجته، ويستغني بما يجمعه عن تكفف أيدي الناس، فإذا أصاب قواماً من عيش فليمسك، وله أن يبدأ تجارته من جديد، والله هو الرزاق.
إذاً: هناك فرقٌ بين الأول والثاني، فالأول له أن يسأل حتى يستوفي كامل حمالته، وأما الثاني فإنه يسأل إلى أن يصيب قواماً من عيش، وهو الذي تكون به معيشته، ويصبح كما يقال: كعامة الناس، ثم يمسك عن المسألة.
الصنف الثالث الذي تحل له المسألة: شخصٌ أصابته فاقة، لا بجائحة وقعت عليه، ولكن بطبيعة حاله، كما لو كان يشتغل بالبيع والشراء والسوق ينشط ويكسد، والتجارة ربح وخسارة، فكسد بيعه وخسر في التجارة، فهو بهذا أصابته فاقة وفقر.
ومثل هذا لو عجز عن العمل في وظيفته أو صناعته فتركها، أو أن صناعته لم يبق لها سوق، واستبدلها الناس بأخرى تغني عنها، وأصبح لا يحسن شيئاً غير الذي كان يحسنه أولاً، وجاءت هذه الأشياء المستحدثة وعطلت صناعته، مثاله: ما كنا نشاهد قبل زمن من صناعة الجلود الوطنية، كالقراب، والنعال، وأشياء أخرى، والآن أصبحت هذه الأشياء مستوردة وبربع القيمة وتؤدي خدمة أكثر من الصناعات الأولى، وأصبح لا يستعمل المصنوعات المحلية إلا بعض أهل البوادي، فجاءت الآن الثلاجة، وأصبحت هذه القربة الآن -كما يقولون- من التراث القديم.
فإنسان كانت صنعته أن يعمل القراب ويبيعها، ويصنع النعال ويبيعها، وهذه صناعة وطنية، لكنها أصبحت الآن ليس لها رواج، وبالتالي يصاب صاحبها بالفاقة بسبب تعطيل مهنته.
ومثل هذا أيضاً الوراقون الذين كانوا يكتبون الكتب لطلبة العلم، فقد كسدت حرفتهم؛ لأن المطابع الحديثة الآن صارت موجودة، وهي تدفع بالكتب إلى الأسواق بكميات كبيرة.
فإذا كان هناك إنسان أصابته فاقة سواء بسبب كساد عمله وتفويت باب رزقه الذي كان معتاداً عليه، أو أن السوق هبط ولحقته الفاقة بعدم وجود الربح في سلعته أو في السوق بصفةٍ عامة، وأصبح فقيراً ذا فاقة، ففي هذه الحالة تحل له المسألة إلى أن يصيب قواماً من عيش.
كذلك هنا لا نقول: إنه قد حلت له المسألة إلى أن يعوض كل ما فقده، أو إلى أن يرجع إلى ما كان عليه في نشاط تجارته؛ لأن المقصود أن لا يبقى يتكفف الناس بالسؤال، بخلاف الزكاة؛ لأن الزكاة مفروضة له، فلو أعطي من الزكاة بدون مسألة عطاء أياً كان مقداره فلا شيء عليه، ما دام لم يتكفف الناس السؤال، ولم يرق ماء وجهه أمام الناس لما جاء عن عمر رضي الله عنه: (أنه أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم عطاءه، فقال: يا رسول الله! أعطه من هو أحوج إليه مني)، أي: أنا في غنىً عن هذا والمحتاجون كثير، فأعطه من هو أحوج مني، (فقال: يا
إذاً: في هذا الحديث بيان متى يجوز للإنسان أن يقوم ويتكفف ويسأل: يا فلان! أعطني، يا أيتها الجمعية الفلانية أعطيني، أنا حالي كذا وكذا، إلا أنه جاء فيه القيد في الصنف الثالث الذي أصابته فاقة.
قال: [ (حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجى من قومه: لقد أصابت فلاناً فاقة) ].
نحن عندنا ثلاثة أصناف: صنف تحمل حمالة، وصنف اجتاحت ماله جائحة، وصنف أصابته فاقة، ولم يأت قيد الإشهاد من ثلاثة من ذوي الحجى إلا على من أصابته الفاقة، فلماذا جاء هذا القيد؛ وهو أن يأتي بثلاثة شهودٍ ليسوا عاديين، ولكن من ذوي العقل والفطنة والمعرفة بحياة الناس؟
وما الفرق بين الأصناف الثلاثة، حتى يشترط للثالث الذي أصابته الفاقة أن يشهد له ثلاثة من أرباب الحجى، من أهل محلته الذين يعيشون معه؟ ولماذا الذي تحمل حمالة والذي أصابته جائحة لم يطالبا بأن يقدما شهوداً؟
الجواب: الجائحة لا تحتاج إلى إشهاد عليها، فهي بنفسها شاهدة على نفسها، كإنسان كانت بساتينه قائمة والثمرة موجودة فيها، فأتت عليها رياح شديدة، فأفسدتها؛ فسيقول الناس عنه: مسكين! كسرت الرياح نخله وأطاحت بثمره؛ فهذه الجائحة بنفسها ظاهرة لا تحتاج إلى إثبات ولا تحتاج إلى إشهاد عليها.
وكذلك الذي تحمل حمالة، ليس عمله في السر، فهؤلاء أناس متنازعون، والنزاع معروف عند الجميع، فهذا جاء وأوقف النزاع، وعلم الجميع أنه كان سبب إيقاف النزاع، وأنه تحمل لهم.
إذاً: الذي تحمل حمالة، ومثله الذي أصابته جائحة لا يحتاج إلى الإشهاد؛ لأن حالته شاهدةٌ عليه وشاهدةٌ له، أما من كان ظاهره اليسر بين الناس، ويلبس كالمعتاد، ولكن شأنه في بيته لا ندري عنه، ولكنه في الواقع من الذين قال الله تعالى فيهم: يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ [البقرة:273]، فهو يبعد عن نفسه منظر الفقر والحاجة؛ إعزازاً لنفسه وكرامةً لشخصه وابتعاداً عن التهم، وهو في حقيقة الأمر محتاج وعنده فاقة.
فهنا لما كانت حالة الفاقة خفية احتجنا فيها إلى إشهاد ثلاثة أشخاص معروفين من ذوي الحجى -أي: العقل- يعرفون مكسبه ومصرفه، وأن مصرفه أكثر من مكسبه، ونحن الآن نجد صوراً عديدة وكثيرة جداً من هذا الباب، ولكنها قد تكون خفية في أبناء المجتمع، فقد تجد إنساناً في الصباح وتسأله أين تذهب؟ يقول لك: أذهب إلى العمل، وفي الظهر تلقاه وتقول: من أين أتيت؟ يقول لك: من العمل، وتراه يركب سيارته وثيابه نظيفة ومتميزة، ولكن راتبه على هذا العمل أربعة أو خمسة آلاف، وعنده زوجتان وكل واحدة عندها خمسة أو ستة أولاد، ويحتاج إلى شقتين، ويحتاج إلى كذا وكذا، فماذا يصنع براتبه بجانب هذه التبعات؟
فهذا أصبح مصرفه أكثر من مورده وأصبح في فاقة، ولذلك يعطى من الزكاة؛ لأن المسكين عند العلماء من كان دخله أقل من مصرفه.
وعلى كلٍ: فهذا الشخص يحتاج إلى ثلاثة عقلاء يشهدون لله أن مرتبه كذا، وإذا كان في آخر النهار فهو يتسبب في كذا، مثلاً: يذهب يبيع ويشتري في السوق، أو يعمل سواق (تاكسي) أو يعمل عملاً حراً، فيشهدون أنهم يعرفون دخله ويعرفون مصرفه وكثرة نفقاته، وأنه ليس عنده ما يوفره، وليس عنده ما يكمل حاجة أولاده وعياله، فهذا في فاقة؛ فإذا كان مديناً فإنه يوقف الطلب عنه، وهذا ما يسمى (بإثبات الإعسار)، إذا استدان وجاء الدائنون يطالبونه فاعتذر وقال: ليس عندي ما أوفيكم به فأنا في فاقة، ومدخلي لا يفي بمصرفي، فإذا شهد ثلاثة من ذوي الحجى على تلك الحالة أُوقف عنه الطلب، وأنظر إلى ميسرة، كما قال الله تعالى: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة:280].
فهذا هو الصنف الثالث الذي يحق له أن يسأل الناس وله عليهم أن يعطوه؛ لأنه ممن يستحق، وقد يكون أولى بعشرات المرات من الشخص الذي لا تعرفه ويطوف على الناس، متخذاً المسألة مهنة.
وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من سأل الناس تكثراً لقي الله وليس في وجهه مزعة لحمٍ)، وفي قصة الرجل الذي مات وقدم للصلاة عليه، فقال صلى الله عليه وسلم: (هل ترك شيئاً؟ قالوا: نعم، ثلاثة دنانير، قال: ثلاث كيات من نار)، لماذا هذا الوعيد والناس قد تترك مئات الملايين؟
والجواب: أنهم ما كانوا يتكففون الناس بالسؤال، وما كانوا يتكثرون بالمسألة، بل كانوا يعملون، وكانوا يديرون أموالهم ويربحون، ولا مانع يمنعهم فهذا عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه تصدق بقافلة بكاملها، وعثمان رضي الله تعالى عنه موَّن جيش العسرة بكامله، فهذا إذا مات كم يكون قد ترك في تركته؟
لكن هذا الرجل الذي دعا عليه صلى الله عليه وسلم بثلاث كيات من النار مقابل الثلاثة الدنانير، كان يسأل الناس، والذي يسأل الناس لا يجوز له أن يسأل إلا مقدار حاجته يومياً، فإذا مات وكفن عنده رأس مال قدره ثلاثة دنانير، فيكون معنى هذا أنه كان يسأل آخر مسائله عن غنىً؛ لأنه لديه ثلاثة دنانير، ولا يحق له أن يسأل وعنده مثل هذا.
إذاً: هذا الذي أصابته فاقة يحتاج إلى إقامة الشهادة، والشهادة فيها شهادة خاصة بأن تكون من ثلاثة من ذوي الحجى ممن يعرفون حالته، فإن شهدوا على أنه أصابته فاقة فحينئذٍ له حق المسألة، وإن كان مديناً أُوقف الطلب عنه حتى يُيسر، والله تعالى أعلم.
[ (قال: فما سواهن من المسألة يا
أي: وما سوى هذه الثلاث الحالات فما يأكله -أي ما يأخذه- صاحبه يكون سحتاً، والسحت: هو أشد ما يكون من أكل أموال الناس بالباطل.
وفي رواية: (وإنها لا تحل لمحمدٍ ولا لآل محمد) رواه مسلم ].
هذا البحث يأتي به المصنف رحمه الله تتمةً لمن لا تحل لهم الصدقة، وقد عرفنا فيما تقدم أن الصدقة لا تحل لغنيٍ ولا قويٍ متكسب، وتحل لثلاثة نفر وهم الذين ذكرهم في حديث قبيصة .
فجاء المصنف بهذا الحديث وفيه: (أن الصدقة لا تحل لمحمدٍ ولا لآل محمد صلوات الله وسلامه عليه)، والأخبار في هذا كثيرة، وقد تقدم حديث: (من أداها طيبةً بها نفسه فبها ونعمت، ومن منعها أخذناها وشطر ماله، عزمةً من عزمات ربنا، لا يحل لمحمدٍ ولا لآل محمدٍ منها شيء).
وقد سبق التنويه في أول كتاب الزكاة إلى أن الله سبحانه وتعالى كلف رسوله بجمعها وتقسيمها، مع أنه لا يحل له منها شيء، وقلنا: إن في عفة الرسول صلى الله عليه وسلم عن أموال الناس -وآل بيته تبعاً له- سداً ومنعاً لتلك السهام الآتية ممن في قلوبهم المرض، فلو قام وجمعها وأخذها وشطر المال إذا امتنع صاحبها من أدائها، وكان له من الزكاة ما شاء، كالربع أو الخمس، لقال القائلون من مرضى القلوب: ما قام ولا تعب ولا تكلف جمعها إلا لأن له حظاً فيها، ولكن حينما يُمنع منها بالكلية وتحرم عليه صلى الله عليه وسلم، فإذا قام صلى الله عليه وسلم واجتهد فيها وجمعها فلا يمكن لأي نفسٍ مريضة القلب أن تتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في أخذها وجمعها بأي تهمةٍ أو شبهة؛ لأنها محرمة عليه.
إذاً: فلماذا يفعل هذا؟
الجواب: يفعله طاعةً لله، وحفظاً للمسكين من أن يريق ماء وجهه عند الناس.
ومما جاء أنه فعله صلى الله عليه وسلم تحرزاً وتحفظاً في هذا الباب: (أنه كان يمشي ومعه
فهنا قال: (أخشى أن تكون)، فما بالك بالتي هي من الصدقة يقيناً! فهي محرمة عليه من باب أولى.
قالوا: الصدقة تكفر الذنوب، والصدقة تطهر المال، فكأن الصدقة بطيبها تحمل عن صاحبها كل أوساخه المعنوية، ومن هذا قول الإمام أبي حنيفة رحمه الله بنجاسة الماء الذي يمر على البدن، ويُرفع به الحدث الأصغر أو الأكبر، فاعتبره متنجساً بما حمل من الحدث، فلو أن إنساناً دخل الحمام ومكث فيه ساعة، وجعل يتليف بالصابون والشامبو، ثم خرج من أحسن وأنظف ما يكون، ولكن عند خروجه أراد أن يلبس ثيابه وفي حركةٍ ما مس فرجه، فانتقض وضوؤه، فتوضأ، فماء الوضوء الذي مر بهذا الجسم الذي مكث ساعةً في الحمام، ولم يخرج ولم يعرق، ما الذي نجسه؟
يقول الإمام أبو حنيفة : حلَّ فيه الحدث الذي من أجله توضأ، والحدث نجس.
هكذا يقول رحمه الله، وإن كان العلماء ناقشوه في هذه المسألة، والذي يهمنا هنا أن الصدقة أوساخ الناس، والمراد بالوساخة وساخة معنوية.
إذاً: مقياس الحلال والحرام ومقياس الطيب والخبيث عند رسول الله صلى الله عليه وسلم له اعتبار فوق اعتبارات كل المقاييس؛ لأنه مقياسٌ معنوي لا يصل إليه الإنسان العادي؛ لأن الأوساخ العادية تدرك إما بالعين وإما بالشم، وإما بالإخبار، ولكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم المقياس أعمق من هذا كله: (إنما هي أوساخ الناس) وهي أطيب ما تكون في ذاتها وفي نوعيتها، ولكنها لما دخلت في قناة الصدقة أخذت تطهر المال من كل شائبة، وأخذت تزكي صاحبها كما في الآية الكريمة: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة:103]، أي: من كلا الطرفين، فتطهر الفقير من دنس الحقد والكراهية للأغنياء الذين يعطون الزكاة، فلا يكون حاقداً عليهم، وتزكي الغني بما يدفع من ماله.
ومعنى (تزكي): أي: تنمي ماله عوض ما أخرج من المال في الزكاة، ففيها تطهير، وما دامت كذلك فهي أوساخ الناس، ولهذا لا تحل للنبي صلى الله عليه وسلم، ولا لآله رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.
وسيأتي المصنف بزيادة كلام في هذا الباب، وقد سبق أن أشرنا إلى أن آل البيت إذا لم تعد هناك غنائم، ولم يكن هناك الخمس، فهل يُعْطون من الزكاة إذا كانوا أصحاب فاقة وحاجة؟ أشرنا بأنه من الضروري أن يُعطوا؛ لأنهم حينئذٍ يأخذون بوصف الحاجة لا بوصف القرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
تقدم في الحديث الذي قبل هذا قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الصدقة لا تحل لمحمدٍ ولا لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس)، ثم جاء المصنف رحمه الله بهذا الحديث ليبين من هم آل محمد صلوات الله وسلامه عليه.
وآل الرجل هم أقاربه من العصبة، فيقول: (ذهب جبير بن مطعم وعثمان بن عفان إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالا: يا رسول الله! أعطيت بني المطلب ولم تعطنا ونحن وإياهم سواء)، فقال صلى الله عليه وسلم: (إنما بنو المطلب وبنو هاشم شيءٌ واحد وذلك أن ) جبير بن مطعم وعثمان بن عفان يلتقيان مع النبي صلى الله عليه وسلم في عبد مناف ،فـعثمان ، هو عثمان بن عفان بن عبد شمس بن عبد مناف ، وكذلك جبير بن مطعم ، فنسب عثمان يلتقي مع النبي صلى الله عليه وسلم في الجد عبد مناف ، ولكن هاشم أقرب من عبد مناف إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وبنو المطلب وبنو هاشم لم يفترقوا، بل هم شيءٌ واحد، فقد جاء في بعض الروايات: (لم نفترق في جاهلية ولا إسلام)، وقد بيَّن أصحاب النسب والسيرة أنه لما كتبت الصحيفة الظالمة بمقاطعة بني هاشم انضم بنو المطلب معهم ودخلوا الشعب، سواء من كان مسلماً ومن كان غير مسلم، ولم يخرج عن ذلك إلا أبو لهب لما كان منه من عداوةٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والرسول صلى الله عليه وسلم يشترك معه في جده عبد المطلب ، وهكذا العباس وحمزة وأبو طالب ، يشتركون مع النبي صلى الله عليه وسلم في الجد عبد المطلب.
ثم جاء لـأبي طالب علي وجعفر وعقيل ، وجاء للعباس عدة أبناء، فـالعباس رضي الله تعالى عنه عم رسول الله، وحمزة رضي الله تعالى عنه عم رسول الله، وكذلك أبو لهب عمه، ولكنه لم يسلم ولم يكن له شيءٌ من الفيء أو من خمس الخمس، وليس ممن تحرم عليهم الصدقة.
وقيل: إن أبناء أبي لهب منهم من أسلم في حياته صلى الله عليه وسلم وشهد خيبر، وقيل: إنهم أسلموا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فمن أسلم من أولاد أبي لهب فيدخل في آل البيت نسباً، وأما من لم يسلم فإن الإسلام قد فرق بينهم.
إذاً: من ثبت أنه يلتقي مع النبي صلى الله عليه وسلم في هاشم أو في عبد المطلب ؛ فإنهم يكونون سواء وتحرم عليهم الصدقة، هذا الذي أراده المصنف رحمه الله في إيراد حديث جبير بن مطعم .
وقد سبق أن قدَّمنا أن آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لهم خمس الخمس، فكان يغنيهم عن الصدقة، وأشرنا إلى أن هناك من قال: إنهم إذا انقطع عنهم ما كان لهم من خمس الخمس؛ فإنه لم يبق لهم واردات، فيأخذون كما يأخذ عامة الناس لوجود وصف الحاجة فيهم.
وكذلك إذا تعطل نصيبهم من الغنيمة أو من الفيء فلم يبق لهم إلا بيت مال المسلمين، فلهم أن يأخذوا من الزكاة سواء من الفريضة أو التطوع لحاجتهم وانقطاع موردهم، فهذا هو ما يقتضيه الواقع، ولا ينبغي أن يترك آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم للفاقة والحاجة على أنهم لا تحل لهم الصدقة، فالصدقة لا تحل لهم حينما كان هناك عوضٌ عنها، أما إذا لم يكن هناك عوض فإنهم يستحقون منها، بل هم أولى من غيرهم لصلتهم برسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد كان الصحابة رضوان الله تعالى عليهم يعرفون لآل البيت مقدارهم ويكرمونهم ويعظمون شأنهم في سبيل الله، محبةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، واعترافاً بفضل صلتهم برسول الله صلى الله عليه وسلم.
ونحن نعلم جميعاً ما جاء عن أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه حين خرج بالمسلمين ليستسقوا، فقال عمر : (يا عباس! قم فادع لنا، ثم قال: اللهم! إنا كنا نستسقي برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد توفي رسول الله ونحن نستسقي بـالعباس عم رسول الله)، فلكونه رضي الله تعالى عنه عم رسول الله اختاره عمر ، مع وجود عمر بذاته ووجود عثمان وغيرهما من الصحابة الكرام الأجلاء رضوان الله عليهم، فلم يختر عمر أحداً، بل ولم يتقدم هو بنفسه مع أنه هو الخليفة، ولكن قال: (نستسقي بـالعباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فعرف للعباس مكانته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدمه ليستسقي لهم وقال: (قم يا عباس فادع ونحن نؤمن).
وتجدون في بعض الآثار: (إن الأئمة وفداؤكم إلى الله سبحانه وتعالى، فانظروا من توفدون إلى الله)، فالإمام الذي يؤم الجماعة هو وافد القوم إلى الله؛ لأنهم قدموه بين أيديهم إلى الله ليسأله، وليؤمهم ويدعو ويشركهم في الدعاء، وهكذا قال صلى الله عليه وسلم: (أحقهم بالإمامة أقرؤهم لكتاب الله)، وهنا عمر رضي الله تعالى عنه قدم العباس ؛ لقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ونحن الآن إذا كنا في أمر فيه المفاضلة بين الناس كالإمامة، والقضاء والتعليم ونحو ذلك، ووجد من آل البيت من يساوي غيره، فقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترجحه على غيره ما دام مساوياً له.
بعد أن بين المصنف رحمه الله من هم آل البيت؟ أتبع ذلك ببيان من هم أتباع آل البيت، وذلك في قوله: (إن رجلاً بعثه النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة...)، أي عاملاً له على جمع الزكاة.
ونحن نعلم أن العاملين عليها لهم أجرهم منها، فقال لـأبي رافع : اصحبني، واذهب معي لعلك تصيب من مال الزكاة، أي: من سهم العاملين عليها.
فهنا توقف أبو رافع، وقال: لا، حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسأله، وهذه هي النعمة الكبرى على الرعيل الأول، أن ما يطرأ لهم من أحكام أو ما يطرأ لهم من أحداث أو من مسائل مستجدة يحوك في نفوسهم منها شيء أو يجهلونها، فإنهم سرعان ما يرجعون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيبين لهم الحكم فيها.
ولهذا كان وجوده صلى الله عليه وسلم في الصدر الأول نعمة عظيمة؛ لأنه كان يبين لهم الأحكام في الأحداث التي كانت تستجد، فهذا الرجل الذي كُلف بالعمل على الصدقة لقي في طريقه أبا رافع ، فقال له: تعال معي لعلك تصيب من العمالة، وهنا أبو رافع لا يعلم هل يصح له أن يذهب مع هذا الرجل أم لا؟ وهل يسمح له بأن يذهب معه أم لا؟ وهل هذا التكليف خاصٌ بهذا الرجل فلا يحق لأحد المشاركة فيه، أم أنه يجوز أن يشاركه؟
وبعضهم يقول: كان الرجل يريد أن يولي أبا رافع العمالة على جهة من الجهات التي ولي عليها، فتكون هذه تولية من الرجل لـأبي رافع في عملٍ قد كلَّف به رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاك الرجل نفسه، فـأبو رافع لو ذهب فستكون ولايته على الجانب الذي يوليه إياه ذاك الرجل وليست ولاية من الرسول صلى الله عليه وسلم، وهل الرجل أعطي الحق في أن يولي غيره؟
لأنه إذا وكل إنسانٌ إنساناً فيجب أن يباشر الموكل العمل الذي وكل فيه بنفسه، إلا الأمور التي لا تتأتى من مثله، أما أن يوكل شخصاً آخر لينوب عنه في بعض الأعمال فليس له حقٌ في ذلك؛ لأن من وكله لم يعطه صلاحية التوكيل عنه.
وأيضاً: أبو رافع رضي الله تعالى عنه يحتمل أنه ظن أن تولية الرجل إياه في العمالة على الصدقة ولايةٌ في جمع أموال الناس، وأموال الناس معصومة ولا يحق لأحدٍ أن يأخذها إلا بولايةٍ شرعية، وهل هذا الرجل يملك بأن يولي شخصاً آخر في شيء لم يأذن له فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فتوقف أبو رافع لذلك. وقال: لا أصحبك حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسأله.
قال: [ (فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأله، قال: لا تذهب معه؛ لأن مولى القوم من أنفسهم أو منهم، وإنها لا تحل لنا الصدقة) رواه أحمد والثلاثة وابن خزيمة وابن حبان].
إذاً: أبو رافع هذا مولى لآل البيت، كما يذكرون في التاريخ أنه كان مملوكاً للعباس قبل إسلامه، فأهداه العباس لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أسلم العباس جاء أبو رافع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يبشره بإسلام العباس ؛ لأنهم كانوا يتوقعون ويرجون إسلامه، فمن فرحه صلى الله عليه وسلم بإسلام عمه العباس قال: (أنت حرٌ لوجه الله)، فأعتقه لكونه بشره بإسلام العباس ، وهكذا الجبلة: أن كل من جاءك بخبرٍ سار في أمرٍ شديد عليك أو في أمرٍ تتوقعه أنك ترضيه، فكما سرك وشرح صدرك فأنت تسره تشرح صدره بما تيسر لك.
وفي قصة توبة الثلاثة الذين خُلِّفوا، كان كعب بن مالك في بني سلمة -عند مسجد القبلتين- وكان أحد الثلاثة الذين خلفوا وكانوا قد ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وقد هجرهم أقاربهم وأرسلوا زوجاتهم إلى أهاليهن، وأصبح الواحد منهم يمشي في السوق ينظر في وجه قريبه أو صديقه فلا يلتفت إليه ولا يسلم عليه، كما قال تعالى: حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ [التوبة:118]، فلما نزلت توبتهم بالليل، وأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بها بعد صلاة الفجر ركب رجلٌ فرساً وركض إليه ليبشره، وذهب رجلٌ فصعد على جبل سلع في أول المدينة وصاح بأعلى صوته: أبشر بتوبة الله عليك يا كعب ! فسمع صوت المتكلم قبل أن يصله صاحب الفرس، فوصله صاحب الصوت، وكان عليه رداء فخلعه وأعطاه إياه، وذلك مقابل ما بشره به من نزول توبة الله سبحانه وتعالى عليه.
فلو جاءك إنسان وأنت تنتظر نتيجة ولدك في الجامعة أو في معهد أو في دراسة مهمة، والنتائج تأخرت، فجاءك هذا الإنسان وقال لك: كنت في الإدارة وسمعت بعض أسماء الناجحين وابنك منهم، فأنت في هذه الحالة ستلتفت حولك لتنظر ماذا تعطيه مقابل هذه البشرى.
فـأبو رافع كان مملوكاً للعباس رضي الله تعالى عنه قبل إسلامه، وأهداه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أسلم العباس جاء أبو رافع وبشر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومجيء أبي رافع ببشرى إسلام العباس كأنه لأجل ما سبق من الصحبة، فهو كان مملوكاً للعباس ، وكان يتتبع أخبار العباس، ويتشوق إلى إسلامه، يعني: أنه كان له اهتمام بـالعباس أكثر من اهتمامه بالآخرين بحكم الصلة السابقة بالملك، فلما علم أنه قد أسلم، وعلم أن هذا يسر رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبره، فلما أخبره بذلك أعتقه مقابل هذه البشرى السارة التي ألقاها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما أعتقه صار مولىً له، والولاء يكون للمُعتق على المعتَق لقاء عتقه، يرثه به إذا لم يوجد له وارث فرضاً أو تعصيباً.
فلما جاء أبو رافع وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الرجل الذي أرسلته عاملاً على الزكاة طلب مني أن أصحبه، لعلي أصيب من سهم العاملين عليها، قال له صلى الله عليه وسلم: (مولى القوم من أنفسهم) أي: فلا تذهب.
إذاً: مولى بني هاشم من بني هاشم فلا تحل له الصدقة، وهذا هو الذي أراده المصنف رحمه الله في إيراده حديث أبي رافع بعد بيان آل بيت محمد صلى الله عليه وسلم؛ ليبين أن مولى القوم من أنفسهم. والله سبحانه وتعالى أعلم.
في هذا الحديث قاعدة عامة لجميع الأمة باختلاف طبقاتها وأنسابها، يقول ابن عمر : إن أبي كان يعطيه رسول الله صلى الله عليه وسلم العطاء، والعطاء في هذا الباب يحتمل احتمالين: أنه عطاء العمالة على الزكاة، فيكون قد استعمله، أو أنه العطاء الذي كان يعطيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه عند مجيء مال إليه من أي جهة كانت.
ونذكر بهذه المناسبة قضية مال البحرين حينما جيء به ووضع في المسجد النبوي، وكان كل من أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاه من هذا المال، وجعل أبا هريرة حارساً له، ونعلم قصة الجني الذي كان يأتيه ويأخذ من هذا المال، ليتحقق الذين يتشككون في وجود الجن أو مخالطتهم للإنسان، فقد كان يأتي شيطان في صورة إنسان ويأخذ من هذا المال، فأمسكه أبو هريرة في أول ليلة، فشدد عليه الخناق، فقال الشيطان: أنا من كذا، ودعني فإني ذو عيال وحاجة وفاقة، وأعاهدك ألا أعود، فَرَق له أبو هريرة وأشفق عليه -وهذا خطأ في النظاميات أن يتأثر الإنسان بالعاطفة فيما وكل إليه رسمياً- فتركه.
وفي الليلة الثانية جاء أيضاً فأمسكه، فأخذ يعتذر ويكذب ويعطي العهود والمواثيق، وأنه ذو عيال، وذو فاقة، ولن يعود، فأشفق عليه وتركه.
وفي الليلة الثالثة أتى فأمسكه أبو هريرة ، وقال: لن أطلقك بعد المرتين السابقتين، وسأحتفظ بك إلى أن آتي بك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرى رأيه فيك، فقال لـأبي هريرة: ألا تطلقني وأعلمك فائدة؟ قال: وما هي؟ قال: إذا أردت أن تحفظ مالك من الجن فاقرأ عليه آية الكرسي؛ فإنه لا يمسه ولا يقربه جني، فقبل أبو هريرة منه ذلك وتركه، وقرأ آية الكرسي على المال الذي يحرسه.
وفي صلاة الصبح أقبل أبو هريرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فابتدره متبسماً وقال: (ما فعل الله بأسيرك البارحة يا
وهنا هذا المال كان موجوداً، ومن أخباره أن العباس رضي الله تعالى عنه جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أعطني، قال: خذ الذي تريد، فجاء بردائه ووضعه وحمل عليه فلما أراد أن يحمله عجز عن حمله، فقال: عاوني عليه يا رسول الله! قال له: (خذ على قدر طاقتك)، قال: فمر أحد أصحابك يعاوني عليه، فقال له: (خذ قدر طاقتك)، فوضع منه قليلاً، وأتى ليحمله فلم يستطع، وهكذا ثلاث مرات، وهو يقول: عاوني.. مر أحد أصحابك، فيقول له: (خذ قدر طاقتك)، حتى صار المال الذي في ردائه قدر ما يستطيع أن يحمله فأخذه وذهب، وتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بكلمات... قال تعالى: إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ [الأنفال:70]، وكان العباس يقول: (والله! لقد وجدنا الأولى، ونحن ننتظر الثانية).
فعطاء النبي صلى الله عليه وسلم للعباس هو من مال المسلمين، وعطاء عمر قد يكون من هذا الباب وأنه عطاء كعطاء عامة المسلمين، أو أنه عطاءٌ خاص بالعمالة.
وقول عمر : (أعطه من هو أفقر مني)، كأن عمر رضي الله تعالى عنه ينظر إلى أن الأحق بالعطاء من الصدقات هم الفقراء، ومن كان غنياً عن هذا العطاء من الصدقة فليستعفف، فقال له صلى الله عليه وسلم: (خذه فتموله)، أي: امتلكه وضع يدك عليه، ليكون مملوكاً لك، وبعد أن تمتلكه فشأنك به، إما أن تتموله وتجعله من رأس مالك، وإما أن تتصدق به على غيرك، فتكون هذه صدقةً مستجدة منك أنت.
قوله: (أو تصدق به).
أي: تصدق به إذا كنت لا تريد أن تتموله، وتكون هذه الصدقة منك وأجر مالك.
ولما كان عمر يرد العطاء؛ لأنه متعفف عنه وقانعٌ بما عنده، بين له صلى الله عليه وسلم متى يأخذ ومتى يرد، قال: (وما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرفٍ ولا سائلٍ)، أي: إذا جاء العطاء مثلاً فجاء إنسان وقال: متى سيقسم هذا؟ وكم سيخص الإنسان منه؟ فاستشرفت نفسه إليه بسؤاله عن المال: متى جاء هذا المال؟ ومن أين؟ وأمثال هذه الأمور التي فيها تطلع؛ فإذا كنت جالساً وحولك أناس من ذوي الحاجة، وجاء من أعطاهم لحاجتهم، وأنت تنتظر أن يعطيك كما أعطاهم، فهذا هو تطلع واستشراف النفس للمال، وهذا كأنه سؤالٌ بالمعنى؛ لأن نفسك تريده، وهي تتطلع إليه.
وأما ما أتاك من هذا المال من غير استشراف نفسك، ولا تطلعك، بل جاء إنسان ووضع في حجرك مالاً، وقال: هذا هدية مني لك، وعطاء مني لك، وأنت لا تعلم به ولا تدري عنه، ولا تطلعت لماله، ولا استشرفت نفسك إلى ما عنده، فأخذته وقلت: جزاك الله خيراً، فهنا تنظر: إن كنت في حاجة إليه، فبارك الله لك فيه، وإن كنت في غنىً عنه فتصدق به على من هو أحوج منك إليه.
قوله: (ما أتاك من هذا المال وأنت غير مشرفٍ ولا سائل)؛ في هذا تربية نفسية إسلامية عالية تجعل الإنسان غنياً بنفسه، مترفعاً عن أن يتطلع إلى أموال الناس، فضلاً عن أن يأتي ويصرح ويقول لأحد: أعطني، أو يأتي إلى إنسان ويقول: والله! الآن الحاجات في الأسواق غالية، وأصبح المرتب لا يساوي شيئاً، والأولاد يذهبون المدارس، وهي تريد كذا وكذا، فهو لا يقول له: أعطني، ولكنه يشتكي عنده، وهذه الشكوى مقتضاها العطاء.
إذاً: أيها الإنسان! شكواك حالك لغيرك ممن هو ذو مالٍ كأنه سؤال؛ لأنك استشرفت إلى ما عنده، وتطلعت إلى أن يعطيك.
ومن التطلع إلى مال الناس أن تكون من الناس ولديك لباس لا بأس به، فتتعمد أن تأتي إلى هذه التجمعات بلباس رث، وبحالة سيئة، وبحالة بئيسة تستعطف الناس الذين ينظرون إلى حالك، فيقولون: والله! فلان هذا مسكين، والله إن حاله سيئ فيعطونك؛ فهذا تعرض للناس بالحالة وبالصورة، وكما يقال: لسان الحال أفصح من لسان المقال.
فإذا كان الإنسان في غنىً وفي سعة فلا ينبغي أن يستشرف إلى ما في أيدي الناس، ولا أن يتطلع إليه، ولا أن يظهر بمظهر الذي يحتاج، وكأنه يسأل الناس بمظهره بدلاً من سؤالهم بلسانه.
فمعنى قوله صلى الله عليه وسلم: أن ما أتاك من هذا المال يا عمر ! من غير أن تستشرف له نفسك أو تتطلع إليه فخذه؛ لأنك ما عملت من أجله شيئاً، ولا استجلبته لنفسك، ولا أهنت نفسك لأجله، ولا أظهرت نفسك في مظهر الفاقة، فأنت عزيز النفس مكرم، وهذا كرمٌ ممن أعطاك المال وفضلٌ منه، سواءٌ عرفك أو لم يعرفك، فما دام أنه أعطاك بدون سؤالٍ منك وبدون استشراف نفسك إليه وبدون تطلع إلى العطاء منه؛ فليس هناك ما يمنعك من أخذه.
فإذا أخذته فإن شئت تمولته وجعلته في رصيدك ورأس مالك؛ لأنه جاءك بوجهٍ شرعي طاهر نقي، وإن شئت تصدقت به، وتصدقك به لنفسك أنت لا لمن أعطاك إياه، وإن كان له في ذلك أجرٌ على مساعدتك، ولكن الأجر يكون لك أنت.
قوله: (وما لا فلا تتبعه نفسك).
أي: وما لم يأتك من غير استشراف نفسك أو تطلعك إليه، فلا تتبعه نفسك، فلو جاء إنسان وأعطى الحاضرين وأنت لم يعطك، ولم يعط فلاناً وفلاناً، فلا تتطلع إليه، ولا تتبعه نفسك، ولا تقل: لماذا لم يعطني بينما أعطاهم؟ ونفسك تتبعه وكأن أشعة ترسلها من قلبك إليه: لماذا لم تعطني؟ وكأن لسان حالك يقول: عد وأعطني.
فإذا لم يأتك المال بعفة نفس وعدم تطلع وعدم استشراف فلا تتبعه نفسك، أي: لا تظل تفكر: لماذا لم يعطني؟ ولو أعطاني لكنت فعلت، ولكان كذا، فهذا الذي لا ينبغي ولا يليق بذي المروءة، فأنت ليس لديك دين عليه حتى تطالبه، وليس هو ملزم أن يعطيك، وما دام أنه لم يعطك من نفسه ابتداءً وأنت ليست لك عليه طريق بالعطاء، كدين ملزم، أو بجميلٍ يكافئك عليه، أو بشيءٍ من ذلك، وهو في حاله وأنت في حالك؛ فلا تستشرف نفسك إلى هذا المال الذي رأيته ولا تتبع نفسك إياه؛ لأنه لا حق لك به أصلاً، فإذا أعطاك من نفسه بطيب نفسٍ فخذه، وإلا فلا. والله تعالى أعلم.
علماء التفسير والفقهاء يقولون: هل يتعين تعميم الصدقة على هذه الأصناف الثمانية فيقسم بيت المال الصدقة إلى ثمانية أقسام ويعطي كل قسمٍ حظه؟ أو يجوز أن نعطيها كاملةً لبعض الأصناف ولو لواحدٍ منها فقط؟
الشافعي رحمه الله يقول: يتعين على مسئول بيت المال، أو المسئول عن قسمة الصدقات أن يقسمها على الأصناف الثمانية، ويعطي كل صنفٍ سهمه، إلا من تعطل سهمه فيرده على الأصناف السبعة الباقية.
والصنف الذي يرد سهمه على بقية الأصناف كما جاء عن عمر رضي الله تعالى عنه هو صنف المؤلفة قلوبهم.
فقد جاء المؤلفة قلوبهم إلى أبي بكر رضي الله تعالى عنه بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: (أعطنا سهمنا كما كان رسول الله يعطينا)، فكتب إليهم بسهمهم إلى عامله.
وقال: اذهبوا به إلى عمر ليوقعه، فذهبوا به إلى عمر رضي الله تعالى، فلما قرأه الكتاب قطعه، فرجعوا إلى أبي بكر وتبعهم عمر ، فلما وصلوا إلى أبي بكر قالوا: أنت الأمير أم عمر ؟ قال: هو الأمير إن شاء -إن شاء ترك الإمارة لي وإن شاء أخذها فلا مانع عندي، يعني: إنما هي مسئولية وتكليف بخدمة المسلمين- فدخل عمر ، فقال له أبو بكر : (لِمَ مزقت الكتاب يا عمر ؟! قال: لا حق لهم الآن في شيء، كنا في بادئ الأمر نعطيهم سهم المؤلفة قلوبهم، أما الآن وقد أعزنا الله بالإسلام فلسنا بحاجة إليهم، فإما أن يبقوا على إسلامهم وإلا فالسيف بيننا وبينهم)، فتركوا الأمر وذهبوا.
وبهذا ندفع ما يقوله بعض المغرضين بأن مما أُخذ على عمر أنه عطل كتاب الله؛ لأنه أوقف سهم المؤلفة قلوبهم بعد أن كان ماضياً، والصحيح أن عمر لم يوقفه، ولكن علَّقه؛ لأن الحاجة إليهم أصبحت منفية، ولم يعد المسلمون في زمن أبي بكر وعمر بحاجة إلى المؤلفة قلوبهم ليدافعوا عنهم، أو ليحموا الثغور التي عندهم، أو ليدفعوا شرور قبائلهم، إنما كان هذا عند أن كان المسلمون ضعفاء، أما الآن وقد أعز الله الإسلام والمسلمين فلا حاجة إلى هذا الصنف؛ فإن بقي على إسلامه ففيه صيانة لنفسه وماله ودمه، وإن عارض في ذلك فالسيف بين المسلمين وبينه.
كما أنه رضي الله تعالى عنه أوقف حد السرقة عام المجاعة.
يهمنا هنا أن الشافعي رحمه الله يقول: إذا تعطل سهم فإن حصته ترد على السبعة الباقية.
وبعضهم يقول أيضاً: من قسَّم صدقته بنفسه فليس هناك سهمٌ للعاملين عليها؛ لأنه هو بنفسه قام بتقسيم صدقته.
وأما الجمهور فيقولون: يجوز إعطاء الزكاة للأصناف الثمانية بالتساوي ولا يشترط التساوي، ويجوز إعطاء الزكاة لبعض هؤلاء الثمانية، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم لـمعاذ حينما بعثه إلى اليمن: (فأعلمهم بأن الله قد افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم)، ولم يقل: على الأصناف الثمانية، ولم يقل: ترد على الفقراء والمساكين والعاملين عليها وفي الرقاب ...، وإنما قال: (ترد على فقرائهم)، فقالوا: إذا جاز أن تعطى لفريقٍ واحد جاز أن تعطى لبعض الفرق.
والنووي رحمه الله في هذه النقطة يقول: لو افترضنا كما قال الشافعي رحمه الله: لزوم تجزئة الصدقة إلى ثمانية أسهم: سهم للفقراء، وسهم للمساكين، وسهم للمؤلفة قلوبهم … إلى آخره، فهل يشترط على بيت مال المسلمين في سهم الفقراء أن يعم به جميع الفقراء المسلمين؟ أو لو أعطاه لبعض الفقراء أجزأ ذلك؟
قال: فهم متفقون على أنه إن أعطاه لبعض الفقراء أجزأ، فقال النووي رحمه الله: فما دام أنه يجوز أن نعطي سهماً من أسهم الزكاة لبعض أصحابه فلا مانع أن نعطي الصدقة لبعض أصنافها، وأن نفرد بها صنفاً واحداً، وهذا يرجع إلى نظر الإمام في هذه الأصناف الثمانية، فيقدم الأحق فالأحق.
ولهذا يرى العلماء أن من أخرج صدقته بنفسه فلينظر في هذه الأصناف ويعطي الأولوية لمن كان يستحقها، وليس بلازمٍ عليه أن يتتبع تلك الأصناف ويجعل كل جزءٍ لصاحبه. والله تعالى أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر