الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على رسولنا محمد، وعلى آله وصحبه.
وبعد:
فيقول المصنف رحمه الله: [ وعن حكيم بن حزام رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول، وخير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغنِ يغنه الله) متفق عليه، واللفظ للبخاري ].
يقولون: اليد العليا عليا في الهيئة وفي الواقع؛ لأن السائل يقول: أعطني، والثاني يقول: خذ، فاليد العليا هي المعطية، والسفلى هي الآخذة، وهذا يطابق الواقع عملياً، ومن ناحية المعنى: لا شك أن اليد ذات الغنى أعلى من اليد ذات الفاقة، فذات الفاقة متدنية، وذات الغنى مستعلية.
وبعضهم يقول: اليد العليا هي المستعلية على الأغنياء بعفتها، فهو فقير، لكنه متعفف، فصارت يده عليا مستعلية على من يعطيها بعفتها، كما قال الله: يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ [البقرة:273]، ولكن المعنى العام على ظاهر الحديث هو الأول، وهو الواقع الحسي المتداول المعروف، وهل هذا فيه مذمة لليد السفلى أو تفسير واقع وحثٌ للفقراء والمساكين بأن يستعفوا، ويرفعوا أيديهم عن منزلة السفلى؟
هذا حثٌ للفقير وحثٌ للمسكين بأن يستعف، وأن يعمل حتى يرفع يده عن منزلة السفلى، وقد جاء عنه صلى الله عليه وآله وسلم تفسير ذلك عملياً حينما جاءه شابٌ قويٌ جلدٌ يسأل الصدقة، فنظر إليه صلى الله عليه وآله وسلم وقال له: (إن الصدقة لا تحل لقويٍ ذي مرة، قال: ماذا عندك؟ قال: حلسٌ نفترش نصفه، ونلتحف بنصفه، وقعبٌ نأكل ونشرب فيه).
هذا هو أساس بيته، فليس له غرفة نوم، ولا غرفة ضيوف، ولا صالة، أثاثه كله محصور في بطانية أو حنبل يفرش نصفه ويتغطى بنصف، والقعب، هذا هو أدوات المطبخ.
فقال: (علي بهما)، فأخذهما صلى الله عليه وآله وسلم وقال: من يشتري مني هذا؟ فقال رجل: بدرهم -ولعلها لا تبلغ قيمة الدرهم- فقال: من يزيد؟ -حتى لا يكون هناك مماكسة في حقه- فقال رجل: بدرهمين -وأعتقد أن الذي يزيد (100%) إنما هو مجاملة مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم- فقال: خذ، ويعطي الشاب الدرهمين، ويقول: اشترِ بدرهمٍ طعاماً وضعه عند أهلك، واشترِ بدرهمٍ فأساً وحبلاً.
فإذا كان فأس بدرهم فمعناه أن الدرهم كانت له قيمة؛ لأن القيمة الشرائية للنقد حينما يكون النقد عزيزاً، أما إذا كان النقد هابطاً فلا قيمة له، فبعض الجهات عملتها لا تساوي شيئاً، ونحن شاهدنا ارتفاع وانخفاض العملات في الأسواق.
المهم أنه ذهب واشترى الفأس والحبل، وجاء فأخذ الفأس، ووضع عوداً فيه، وقال: اذهب فاحتطب، وبع واستغنِ، ولا أرينك خمسة عشر يوماً، فيذهب، ثم يأتي، ويقف على رسول الله والدراهم في جيبه، فيتبسم صلى الله عليه وآله وسلم ويقول: (لأن يأخذ أحدكم حبلاً وفأساً، فيذهب فيحتطب فيبيع فيستغني، خير له من أن يتكفف الناس أعطوه أو منعوه) .
وقوله عليه الصلاة والسلام: (ومن يستغنِ يغنه الله، ومن يتعفف يعفه الله)، أي: من يستغنِ بالله يغنه، ومن يستعفف في جانب الله يعفه، ويرزقه القناعة والصبر، وهكذا.
كما في قصة المغيرة بن شعبة وهم تحت الشجرة في الحديبية الرضوان عندما كتبت الصحيفة، ولما جاء أحد المشركين يفاوض، أخذ بيده لحية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان المغيرة بن شعبة واقفاً على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: كف يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ألاَّ ترجع إليك! وكان السيف في يده.
فقال: من هذا يا محمد؟! قال: هذا فلان. قال: يا غدر! ما غسلت غدرتك إلا بالأمس، ثم قال الرجل: يا محمد! ما أظن أن هؤلاء يثبتون معك، ما أظنهم إلا ينفضّون عنك، فقال له أبو بكر : امصص بظر اللات! أنحن ننفضُّ عن رسول الله؟
قال: من هذا يا محمد؟! فقال: هذا أبو بكر قال: لولا يد لك عندي، لرددتها عليك، ولكن هذه بتلك، يعني: أن أبا بكر سبق أن عمل له معروفاً، حتى صارت له يد عليه، أي: منة ونعمة.
وهكذا اليد العليا في كل شيء يحتاجه الإنسان، ويتقدم إليه الآخر بقضائها، سواء منه شخصياً أو عن طريقه، فهي يدٌ عليا على من أنعم عليه بذلك المعروف.
علمنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث السابق أن نبحث عن ذوي الحاجات، فنضع المعروف في محله، نضع الكساء للعريان، ونعطي الطعام للجائع، ونعطي الماء للعطشان، وهكذا نعطي الدلو لمن ليس عنده دلو، ونعطي الحبل لمن لا حبل له، ونعطي البعير لمن يحتاج إلى ركوبه، ونعطي القلم لمن لا قلم عنده، فنضع الشيء في موضعه.
وهنا يعلمنا صلى الله عليه وآله وسلم الترتيب والأولوية، كما قال الله: يَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ [البقرة:215] فقال: (وابدأ بمن تعول)، وأولى ما يكون للإنسان نفسه، فأولاً: تكفي نفسك، فلو كان عندك ثوب وأنت عريان، هل تعطيه لغيرك؟ لا، ومن أمثلة العوام: مطابق وأخوه عريان؛ والمطابق هو الذي يأخذ ثوبين وأخوه عريان، فهنا يعطي كل واحد منهما ثوباً.
وأما من له الأولوية في الإنفاق، بعد النفس، فبعض العلماء يقول: الزوجة، ولكن القرآن يقول: فَلِلْوَالِدَيْنِ [البقرة:215]، ونفقة الوالدين هل تكون إجبارياً، أو تطوعاً؟
إذا كان الوالدان مستغنيين فليس لهما حق النفقة على الولد، وكذا الولد، لكن الزوجة مهما كان غناها، فنفقتها واجبة على زوجها على كل حال.
إذاً: نفقة الزوجة في الدرجة الأولى بعد النفس؛ لأنها واجبة في حال غناها وفقرها، لكن الأبوين والأولاد، لا تجب النفقة عليهم إلا عند الحاجة، إذاً: من كانت النفقة واجبة له على كل حال؛ فهو أولى ممن كانت واجبة له في بعض الأحوال، فالنفقة على زوجك أولى.
جاء أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: (يا رسول الله! سمعت ما أنزل الله سبحانه وتعالى في قوله: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92] ، وإن أحب مالي إلي بيرحاء) ، والعامة تقول: بير حاء، وكان هنا عند باب المجيدي، ودخل في توسعة المسجد، وكان فيه ماء يستعذب، وكان بجوار المسجد، وكان أحسن أو أعز أو أحب ماله إليه، فقال: يا رسول الله! هو صدقة؛ ضعه حيث شئت، فقال: (اجعله في أهلك).
محل الشاهد قوله: (اجعله في أهلك)، وهكذا يكون الإنسان صاحب خير؛ سواء كان فقيراً أو غنياً، فيسد من حوائج الناس، والأقربون أولى بمعروفه، ثم بعد ذلك الأدنى فالأدنى.
فقوله: (ما كان عن ظهر غنى) كناية عن المال الزائد المستغنى عنه، فهذا يشعرنا بأنه يبدأ بنفسه هو؛ لأن خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، وأول من يستغني المتصدق؛ فإذا كان عندك ما يغنيك، فالزائد عن الحاجة تكون منه الصدقة، وهذا حفاظ على حياة المتصدق وعلى نفسيته.
و(خير) من صيغ التفضيل حذفت منه الهمزة، وأصلها (أخير)، ونظيرها: (شرٌ)؛ وأصلها (أشر)، لكن حذفت الهمزة تخفيفاً لكثرة الاستعمال.
إذاً: خير الصدقة ما كان حينما يتصدق بها المتصدق عن ظهر غنى، أي: وهو مستغنٍ في نفسه، كما أن الزكاة لا تجب إلا عن ظهر غنى؛ لأنه لا تجب إلا على من يملك النصاب، وهو مستغنٍ عنه طيلة العام، فهكذا تكون الزكاة، وكذلك صدقة التطوع.
ويأتي الحديث للجانب الثاني (ومن يستعفف يعفه الله)، هل قال: (يستعفف) أو قال: (ومن يتعفف)؟ هذه الحروف الزائدة حروف استفعال، وكما يقول الزمخشري : زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، وهذه قاعدة في فقه اللغة.
فقوله: (يستعفف) أبلغ من (يتعفف) فالمعنى: أنه يتكلف العفة ولو لم يكن في شخصه عفيفاً، فهو يتصنع ذلك، ويفتعل ذلك، ويحمل نفسه على العفة ولو كان محتاجاً، وهو متطلِّع إلى الصدقة وينتظرها ولكنه لا يطاوع نفسه ويسير وراءها.
فهنا (يستعف) على وزن (يستفعل) أي: أن الفعل ليس موجوداً لكنه يستجلبه، فهو يستجلب العفة لنفسه، وليحمل نفسه عن منزلة (سفلى)، لتساوي يده الأخرى في علوها، (ومن يستعفف يعفه الله).
قوله: (ومن يستغنِ يغنه الله)، وهذا كما في الحديث: (ليس الغنى بكثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس) ، وكما يقول القائل:
علل النفس بالقناعة وإلا طلبت منك فوق ما يكفيها
فالغنى والفقر في نفس الإنسان، (فعلل النفس بالغنى) أي: احملها على الغنى، (وإلاَّ) إن لم تحملها على الغنى (طلبت منك فوق ما يكفيها)، قال عليه الصلاة والسلام: (لو أن لابن آدم وادياً من ذهب لتمنى ثانياً، ولو أن له واديين من ذهب لتمنى ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب) .
إذاً: النفس من طبيعتها التطلع، ومن جبلتها الجمع والحرص، وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً [الفجر:20]، زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ [آل عمران:14] فهذه أمور جبلت عليها النفس.
(ومن يستغنِ) أي: يستجلب الغنى لنفسه (يغنه الله)، قال والدنا الشيخ الأمين رحمة الله علينا وعليه في جلسة خاصة -جزاه الله عني أحسن الجزاء- قال: يا فلان! إني متخوف خوفاً شديداً، قلت: علامَ؟ وكنا في الرياض، وكان الملك عبد العزيز -الله يغفر له ويرحمه- يجتمع العلماء عنده كل ليلة خميس كما هو الآن، وهذه كانت عادة من زمن الملك عبد العزيز، أنه في ليلة من الأسبوع يستقبل المشايخ، وكذلك كانت تأتي مناسبات ويبعث إليهم بهدايا، فكان -الله يغفر له ويرحمه- إذا جاءه شيء ما يمر عليه أربع وعشرون ساعة، ويقول لي: تعال يا فلان! اكتب.. ويحولها إلى بعض (العوائل) في مكة والمدينة.
ومرة كنت عنده أكتب أسماء العوائل، فقال: والله يا فلان! أنا خائف خوفاً شديداً، قلت له: حصل خير، أنت في أمن، والحمد لله نحن في راحة وأمان، قال: عندي شيء كبير جداً، أخاف أن يذهب عليَّ، قلت: عندك العلم؛ وأنت تبذل منه ويزيد، وما عندك مال تخاف عليه.
قال: لا.. لا، غير هذا، قلت: أيش هو؟ قال: أنا جئت من البلاد بكنزٍ كبير جداً، قلت: يا شيخ! أعرف أمورك قبل أن تجيء إلى الرياض، فأين الكنز؟! قال: القناعة، كنا قانعين بما كنا فيه، ومطمئنين، والدنيا لا تساوي شيئاً، وبدأت الأموال تجري في أيدينا، فأخاف أن تمتد اليد، وتنقبض عليها، ونحرص عليها، وتذهب عنا القناعة التي كنا نعتز بها، فقلت له: مثلك لا يخاف عليه، مادام كلما جاءك شيء، قلت: تعال يا عطية ! اكتب، وحول، ولا تترك عندك شيئاً، فاطمئن ولا تخف من شيء.
لاحظوا -يا إخوان- الحديث السابق: (وخير الصدقة ما كان عن ظهر غنى) وهنا: (أفضل الصدقة جهد المقل) والمقل هو قليل المال، وجهده غاية وسعه واستطاعته، فهو مقل، ويجهد فيما يخرج من القليل الذي عنده، فبين الحديثين تعارض، وليسا سواء بل هما على طرفي نقيض.
فعلى حديث: (خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى) تعطي، وتبقي عندك ما يغنيك، وعلى حديث: (جهد المقل) يعطي من جهده، أي: نهاية قدرته فيما هو قليل في يده.
ومن هنا قال العلماء: هذان الحديثان ظاهرهما التعارض، ولكن أجمع العلماء الذين يعنون بمختلف الحديث أن الحديثين لا تعارض بينهما، وكلٌ يمشي في طريقه المهيأ له، فحديث (ما كان عن ظهر غنى) للشخص الذي لا يستطيع أن يعيش عيشة المقل، وحديث (جهد المقل) لمن كان يستطيع أن يعيش ولو بلا شيء.
وقد جاءت الأمثلة على ذلك في الصدر الأول حينما: (حث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين على الصدقة، فقال فلما أصبحوا جاء عمر بنصف ماله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ماذا تركت لعيالك يا عمر ؟ قال: تركت لهم مثل ذلك، قال: بارك الله لك، ثم جاء أبو بكر بكل ماله!! فقال: ماذا تركت لعيالك يا أبا بكر ؟! قال: تركت لهم الله ورسوله، فقال عمر : والله! لا أسابقك بعد ذلك يا أبا بكر!
فهنا هل كان أبو بكر (عن ظهر غنى) أو (جهد المقل)؟ لم يبقِ شيئاً، وعمر أبقى نصف ماله، ومن هنا يقول العلماء: جهد المقل لمن لا يندم على فعله، ولمن ليس عنده عيال يضيعهم ويعطي غيرهم، ولمن ليس مطالباً بواجبات خاصة، ولكن (عن ظهر غنى) لمن كان ذا عيال، ومن كان ذا التزامات، ومن كان عليه واجبات، ولا ينبغي أن يخلي نفسه من المال، بل تلك الواجبات قد تكون أولى وأحق.
إذاً: يختلف الحال باختلاف الناس، ولذا وصل الحد بالأنصار رضي الله تعالى عنهم إلى جهد المقل، وتصدقوا، فقال الله: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9].
إذاً: الحديثان يبينان لنا منازل الناس في هذه الدنيا، وعفة النفس وغناها، وقوة اليقين مع الله، فكل بحسب ميزانه، وبحسب طاقته وقوته اليقينية بالله.
وهذه أم المؤمنين عائشة تصوم، ويأتي سائل فتقول لـبريرة : أعطي السائل، فقالت: والله! ما عندنا إلا قرص شعير تفطرين عليه، فقالت لها: أعطي السائل، وإذا جاء الإفطار يرزق الله، فتمشي بريرة تقول: يرزق الله! سيأتي المغرب كيف يرزق الله؟ مستبعدة!
فلما أذَّن المغرب وجاء الإفطار ما رزق الله!! فقامت عائشة تصلي، وقبل أن تفرغ من صلاتها التفتت؛ وإذا بجانبها شاة مطبوخة! قالت: ما هذا يا بريرة ؟! قالت: رجل أهداه، والله ما قد أهدى إلينا من قبل شيئاً، فقالت: كلي؛ هذا خيرٌ من قرصكِ، والله! لا يكمل إيمان العبد بالله حتى يكون يقينه فيما عند الله أقوى من يقينه بما في يده.
وهكذا يختلف الناس، وتختلف الدرجات، وتختلف النفوس؛ فكلٌ في طريقه، فإذا أراد الإنسان منا أن يتصدق، فعليه أن ينظر: هل هناك التزامات؟ هل هناك حقوق؟ وعلى حسب ذلك يتصدق، (وكفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول) ، فلا تأخذه الحماسة ويخرج كل شيء، وبعد ذلك يبحث عمن يقرضه!
إذاً: هذان الحديثان مقياسان لنفوس الناس، وقدر استطاعتهم وقدرتهم وقوة يقينهم، ومدى حقوق الآخرين عليهم، وبالله تعالى التوفيق.
هذه مسألة جديدة وهي: بيان الأولوية في الصدقة:
أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالصدقة، وكثيراً ما كان يحث أصحابه على ذلك، والصدقة بمعنى الصدق، وقد قدمنا الإشارة بأن فقه اللغة يقول: إذا اشتركت مادتان في أكثر الحروف، واختلفتا في حرف واحد؛ كان بين المعنيين صلة قوية، وكان الفرق بينهما بقدر الفرق في الحرف الذي اختلفتا فيه.
ومثلوا لذلك بمثال واضح، فقالوا: مادة (خبن)، ومادة (غبن)، خبن: الخاء والباء والنون، وغبن: الغين والباء والنون؛ فاشتركتا في الباء والنون، واختلفتا في الخاء والغين، فقالوا: بين الخبن والغبن قدر مشترك، وذلك أن الخبن هو تقصير ونقص في الثوب الطويل، والغبن نقص في الثمن.
فيكون غبن على البائع إذا باع بأقل من الثمن، فيكون نقصاً عليه، ويكون الغبن في الثمن إذا اشترى بأكثر من القيمة، فيكون نقصاً عليه، وقالوا: الخاء أظهر من الغين في المخرج، وهم يقولون: إذا أردت أن تعرف مخرج الحرف، فائتِ بالهمز، وسكن الحرف، وقف عليه، ففي الخاء تقول: أخْ، فهي من سقف الحلق، والغين تقول: أغْ، كأنها داخلة إلى الحلق، فلما كانت الخاء أظهر في الحروف جعلوها في المعنى الأظهر؛ لأن خبن الثوب تشاهده بعينك، وتخبنه بالخيط، وتعرف الزائد من الناقص، أما الغبن فهو أمر خفي قد يخفى على بعض الناس، ولا يدرك مقدار هذا الغبن في هذه السلعة.
من هنا يقول العلماء: إن الصدقة والصدق اتفقتا في المادة في الحروف الثلاثة، وزيدت التاء للتأنيث، فالصدق مادته: (الصاد، والدال، والقاف)، والصدقة مادتها: (الصاد، والدال، والقاف)، إذاً: كلاهما بمعنى: الصدق، بمعنى: التصديق، والتصديق في الصدقة هو: أن الإنسان في حياته لا يبذل شيئاً إلا عن عوض، وقدمنا ذلك مراراً، وقلنا: إن الحياة مبناها على قانون المعاوضة، والأمر الطبيعي بين الناس أنك لا تدفع درهماً واحداً بغير عوض، وتدفع الملايين في عوض يعادلها، وهنا حينما تدفع الصدقة فأنت لا تأخذ عوضاً عليها ممن تتصدق عليه، إذاً: أين المبادلة؟ أين المعاوضة؟ بل إنه من كمال الصدقة أن تخفي الصدقة حتى عن نفسك: (حتى لا تعلم شمالك ما تنفق يمينك).
إذاً: أين قانون المعاوضة هنا؟ قالوا: قانون المعاوضة هو أن المعاملات المادية بين الناس معاوضة فيما بينهم: خذ وهات، ولكن الصدقة معاوضة بين المتصدق وبين رب العالمين، فهو يتصدق ويدفع مصدقاً بوعد الله، مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ [البقرة:245] ، مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ... [البقرة:261]، ومن هنا فالمؤمن مصدق بوعد الله؛ فهو يدفع الصدقة لمن يعرف ومن لا يعرف، ولا ينتظر منه شيئاً: لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً [الإنسان:9] ؛ لأنه يتعامل مع رب العالمين، ورب العالمين لا تخفى عليه خافية، ولا يضيع عنده معروف.
وفي الحديث: (والصدقة برهان)، أي: على إيمانه وتصديقه بأن الله سيعوضه عن تلك الصدقة، فالحد الأدنى بعشرة أمثالها، والحد الأعلى لا نهاية له، إلى سبعمائة ضعف، (وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ [البقرة:261]، فكان صلى الله عليه وآله وسلم يحثهم على الصدقة، ويحثهم على ألاَّ يستقل إنسان شيئاً؛ لأن العبرة ليست بالكثرة؛ وخزائن الله ملأى، وما عند الله أكثر مما عند البشر، ولكن العبرة بتعاطف المسلم مع أخيه، والشفقة والرحمة وحب الخير والمساعدة، هذا هو الأصل الأساسي في تبادل الصدقة بين الغني وبين الفقير.
جاء في الحديث: (أنه مر رجل شاب على قومٍ مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال أحدهم: لو كان جلد هذا وشبابه هذا في سبيل الله! فقال صلى الله عليه وآله وسلم: إن كان خرج على نفسه يعفها، فهو في سبيل الله)؛ لأنك تعمل وتعف نفسك عن سؤال الناس، فهذه صدقة على نفسك تصدقت بها.
قال: (وإن كان خرج يتكسب ليعف أهله أو زوجه، فهو في سبيل الله، وإن كان خرج بطراً ورئاءً فهو في سبيل الشيطان).
وأم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها تقول: (من بات كالًّا من عمل يده) مثل إنسان يعمل في النهار في البناء بحجر وطين، أو في حصاد حب، أو في تأبير نخل، أو في أيّ عمل مثل: نجارة، حدادة، زراعة، صناعة، وبات كالاً من العمل (بات مغفوراً له).
الحديث هنا جاء بالزوجة في الترتيب الثالث، وهناك روايات أخرى تفيد أن الزوجة في الترتيب الثاني، أي: بعد نفسه تكون الزوجة، وهكذا حكم زكاة الفطر، فلو أن إنساناً عنده زوجه ووالداه وولده، فهم خمسة أشخاص، وليس عنده إلا صاع واحد زائد عن قوت هؤلاء الخمسة، فيخرج الصاع عمن؟ هل يخرجه عن أبيه، أو عن أمه، أو عن زوجه، أو عن ولده، أو عن نفسه؟ عن نفسه أولاً، فإذا رزق صاعاً آخر فالجمهور يقولون: الزوجة قبل الوالدين؛ لأن الزوجة نفقتها لازمة في الغنى والفقر، بخلاف الأبوين والولد، فنفقتهم في حالة الغنى ليست بواجبة، وفي حالة الفقر تجب.
إذاً: من وجبت نفقته بصفة دائمة أولى ممن وجبت نفقته بصفة مؤقتة، وقد جاء في بعض الروايات: (تصدق به على زوجك)، وهنا قال: (على ولدك)، والأمر سيان تقدم أو تأخر فإن الإنفاق على الزوجة أولى، وهي كما في الحديث الصحيح: (حتى اللقمة تضعها في في امرأتك صدقة).
قال بعض أدباء الفقهاء: لو أنه أطعم الزوجة ممازحة فأخذ التمرة ووضعها بيده في فيها -يمازحها- فإنها صدقة؛ لأن هذا من باب تقوية الصلة والرابطة، وجبر الخاطر، وإذا وجدت الصلة القوية بين الزوجين طابت الحياة، أما إذا لم يكن هناك ترابط بينهما، ولا مودة ولا محبة؛ فإن الحياة بينهما لن تطيب، وتكون هناك الشكليات، فينفق عليها حتى لا تشتكيه أو غير ذلك.
والجمهور على أن اللقمة تضعها في في امرأتك من النفقة على زوجتك، وسواء أعطيتها بيدك أو تناولتها هي بيدها.
(قال: عندي آخر، قال: تصدق به على ولدك) إذاً: الولد حينما تنفق عليه وهو في حاجة إلى ذلك، تكتب لك صدقة، وهذا من أهم ما يلزم على الناس أن تراعيه ففي الوقت الحاضر، في بعض البيوت يكون الولد ليس لديه مورد في نفسه، مثلاً لم يتمم الدراسة، أو لم يجد مجالاً للعمل، فلا تستكثر أن تنفق عليه، فإنها صدقة.
وبعضهم أنهى دراسته، وطلب العمل، ولا مجال للعمل -كما يقال: البطالة- ولا يوجد مجالات لوظائف الحكومة، وما عنده القدرة على أن يشق طريقه في الأعمال الحرة، وهو في حاجة إلى النفقة، وليست النفقة مجرد إشباع جوعه، وكسوة بدنه، فقد يحتاج إلى غير ذلك، قد يحتاج إلى فاكهة، وإلى أشياء من المباحات.
والولد يشمل الذكر والأنثى، وبالأخص الأنثى؛ لأنه ليس لها خروج، وليس لها مجال، ونفقتها واجبة إجبارياً على وليها الذي هو الأب أو الزوج، فإذا كان الولد في البيت، وليس له دخل من جهة ما، أو كان عاجزاً عن الكسب؛ فتلزم نفقته.
قد يكون الولد قاصراً سواء كان قاصر الأهلية أو قاصر المسئولية، فلا يستطيع أن يدخل في المشاريع والمقاولات ويلتزم للناس بأعمال، وقد يكون قاصراً خلقاً، بأن يكون من ذوي العاهات.
إذاً: النفقة على مثل هذا الصنف من الأولاد إنما هي صدقة، فلا تتأفف من ذلك، ولا تقل: كيف أنفق عليه وهو قوي جلد ولا يعمل؟! أوجد له سبيل العمل وساعده على إيجاد العمل الذي يستغني به عنك، فإذا لم يجد، أو أنه يبحث ويطلب؛ فأنفق عليه إلى أن يجد ذلك ويستغني بما وجد، فحينئذٍ تترك النفقة عليه.
وقدمنا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضى على البطالة بعمل فعليٍ سريع في الشاب الذي جاء يطلبه الصدقة، ونظر إليه فوجد فيه قوة، فقال: (لا تحل لك)، قال: ليس عندي شيء أي أن يده عاطلة، وليس هناك مجال للعمل.
وبالمناسبة يجب على ولاة الأمور في العالم كله دون استثناء أن يوفروا فرص العمل للشباب في حدود إمكانات الدولة، سواء في القطاع الخاص أو في القطاع العام، وتستطيع الدولة أن توجد مجالات للعمل، ولتشغيل الأيدي الخالية الفارغة، وهذا مكسب للدولة، ومكسب للأمة؛ لأن هذه طاقة معطلة، فإذا وجدت لها فرص العمل فالدولة تستفيد من تلك الطاقة في الإنتاج.
فلما قال: ليس عندي شيء ولا أجد شيئاً، عذره رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه لم يتركه، فقال: (ماذا عندك؟)، قال: عندي حلسٌ وقعب، فقال: (علي بهما)، وأمره أن يذهب ويحتطب ويأتي ويبيع؛ لأن هذه الطاقة البدنية إذا عطلت فهو خطر، خطر على نفسه وعلى المجتمع، لكنه يصرفها في صعود الجبال، وتكسير الحطب، وحمله وبيعه في السوق وحصوله على المادة.
حزمة الحطب التي سيأتي بها ليبيعها ليست قيمتها في حمل الحطب وأعواده، ولكنها في الطاقة التي ستحدثها في المدينة أو في القرية، ستأخذ العجوز منها، وتغسل ثيابها بماءٍ حار، وتخبز عجينها، وتنضج طعامها، وكذلك الرجل، وكذلك أهل البيوت الأغنياء والأثرياء يستدفئون منها، ويخبزون عجينهم، كل هذه الطاقة تتوزع في البلد، وتدير إنتاجاً، وتحصل فائدة عامة على الغني وعلى الفقير وعلى القوي وعلى الضعيف بتلك الطاقة الحطبية!
ونحن عندنا الآن الطاقة الكهربائية، إذا تعطل التيار ساعة أو ساعتين صاح الناس: الثلاجة وقفت، الثلاجة فيها خضار، فيها لحوم؛ ستفسد الأشياء الموجودة، عجلوا.. اتصلوا!! كل هذا لأنها طاقة كانت تعمل وكانت تنتج ثم تعطلت، وهكذا الطاقة البشرية، وهي أغلى ما يكون في العالم؛ لأنها هي الطاقة الإنتاجية، فمن الذي يحرث الأرض؟ ومن الذي يغرس الشجر؟ ومن الذي يجني الثمر؟ ومن الذي يدير المصانع؟ ومن الذي يدير المتاجر؟ ومن الذي يعلم الجاهل؟ ومن..؟ ومن..؟ كل ذلك بالطاقة البشرية.
وكنت في مجلس الوزراء، فسمعت كبيراً من الكبراء يقول: نحن نستورد حتى الطاقة البشرية؛ لأننا في حاجة إليها، فالطاقة البشرية هي أعزُّ وأغلى ما يكون، فالطاقة الكهربائية والطاقة الاقتصادية الطاقة.. وجميع الطاقات مدارها على اليد العاملة، وعلى استخدام الطاقة البشرية؛ لأنها هي المنتجة.
إذاً قوله: (على ولدك) يدل على الإنفاق عليه، فإذا وجد الولد ما يعمل واستغنى فالحمد لله، وإذا لم يجد فواجب علينا أن نكفيه، وإذا لم نكفِه وننفق عليه ماذا سيفعل؟
الجواب معروف للجميع، ويكون هذا دفع منا له إلى طريق الشر حتى يحصل على النفقة التي يحتاجها، ولا يبالي من أين يأتي بها، فإذا أبطلنا اليد ولم نسخرها ونيسر لها العمل النافع، والعمل المنتج، والعمل المشروع، فستنقلب عكساً على الأمة وعلى المجتمع وعلى شخصه، فهو إذا انحرف في سلوكه فأول من يضر نفسه، فيسلط على نفسه المسئولين والشرطة، ثم يضر المجتمع في سلوكه.
وإذا لم يكن عندي نفقة للولد فيمكن أن أيسر له العمل بقدر المستطاع، ولهذا كان لابد من العناية بالأولاد، والعناية بالإنفاق على العاطلين أو تشغيل اليد العاطلة، وتعتبر هذه من أهم قضايا المجتمعات بدون استثناء.
وفي بعض الإحصائيات: كذا مليون في أمريكا يدٌ عاطلة، كذا مليون في كذا.. هذه مصائب! وترجع بالعكس كما أشرنا على المجتمع، ونحن في غنى عن أن نذكر الأحداث والإحصائيات التي تنشرها الجرائد أو تذيعها الإذاعات بسبب تلك الأيدي العاطلة، وما تعكس من أضرار على مجتمعاتها، بل قد ينعكس على بيته وأهله.
إذاً قال: (على ولدك)، حتى لا يكون عالة، وحتى لا يكون آلة إفساد، وحتى لا تنطلق تلك اليد بقوة إلى الشر، ويفسد في الأرض، ويفسد نفسه، ويضر أباه بالذات، فقد يرجع وباله على أبيه وعلى بيته، ومن هنا كان الإنفاق على هذا الولد صدقة: (تصدق به على ولدك).
وأعتقد أن هذا المجال واسع، ويكفي الإشارة والتنبيه إلى رءوس المواضيع في هذا، والله تعالى أعلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر