إسلام ويب

كتاب الزكاة - مقدمة كتاب الزكاة [10]للشيخ : عطية محمد سالم

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد كثرت أنواع التجارات في عصرنا الحاصر، وتنوعت طرقها وأساليبها، وتداخلت معاملاتها، فيحتاج المرء إلى فقه صحيح حتى يعرف ما تجب فيه الزكاة وما لا تجب، وكذلك استحدثت المصانع الاستثمارية والاستهلاكية، والتي تحتاج إل بيان ضوابط الزكاة فيها.

    1.   

    زكاة عروض التجارة

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليماً.

    أما بعد:

    فيقول المصنف رحمه الله: [ وعن أم سلمة رضي الله عنها: (أنها كانت تلبس أوضاحاً من ذهب، فقالت: يا رسول الله! أكنز هو؟ قال: إذا أديتِ زكاته فليس بكنز) رواه أبو داود والدارقطني وصححه الحاكم ].

    فمفهوم: (إذا أديتِ زكاته فليس بكنز) أن ما لم يؤد زكاته فهو كنز، ولما سئل ابن عباس رضي الله تعالى عنه -وهو من الذين يقولون بزكاة الحلي المستعمل-: (ما هو الكنز يا ابن عباس ؟! قال: ما لم يؤد زكاته ولو على وجه الأرض، وما أديت زكاته فليس بكنزٍ ولو كان مدفوناً تحت الأرض).

    إذاً الكنز في اللغة: المكنوز الموجود دفيناً في الأرض.

    وفي الشرع: ما أديت زكاته فليس بكنز، وما لم تؤد زكاته فهو كنز.

    قال المصنف رحمه الله: [ وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي نعده للبيع) رواه أبو داود ، وإسناده لين ].

    بعدما أنهى المصنف رحمه الله تعالى بيان زكاة الأموال الزكوية المجمع عليها جاء بهذا النوع من أنواع الأموال الزكوية، وإن كان انتهى الخلاف فيها، وصار الأمر فيها إلى الإجماع، لكنه أخرها تبعاً لما قبلها، وتقدم البيان في زكاة بهيمة الأنعام، وفي الذهب والفضة، وفيما تنبته الأرض من حبوب وثمار، على ما فيه خلاف واتفاق.

    وهنا ما يسمى عند الجمهور بزكاة عروض التجارة، فيأتي المؤلف رحمه الله بهذا الحديث عن سمرة بن جندب : (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمرنا أن نخرج الصدقة مما نعده للبيع) والذي يعد للبيع هو عروض التجارة، وفرق بين ما يكتسبه الإنسان ويقتنيه لشخصه، وبين ما يقتنيه ليتاجر فيه وينتظر الربح، وعروض التجارة كان يوجد فيها خلاف سابق، وقد انتهى الخلاف وحكى ابن المنذر الإجماع على وجوب الزكاة فيها.

    الأدلة على زكاة عروض التجارة

    ومما يستدل به على وجوب زكاة عروض التجارة قوله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الأَرْضِ [البقرة:267] فالطيب: هو الحلال، والخبيث: هو الحرام.

    والآخرون يقولون: الطيب: الجيد الذي ترتضيه النفس، والخبيث: هو الرديء الذي لا تستطيبه النفس.

    وذكروا في أسباب نزولها: أن الأنصار كانوا في أول الأمر إذا طابت الثمار يأتي الواحد منهم بالقنو ويعلقه لأهل الصفة يأكلون منه، وكان عامة الناس يأتون بالجيد من أنواع التمر أو الرطب، وكان بعض الناس -كما يقولون- يرائي الآخرين فيأتي بالحشف، وبالنوع الذي ليس مقبولاً أو محبوباً عند الناس، فأنزل الله هذه الآية.

    وقوله تعالى: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ [البقرة:267] قالوا: الحرام، وقيل: إنه رديء التمر.

    وقوله سبحانه: أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ [البقرة:267] وطيبات الكسب قالوا: عطف عليه: ممَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الأَرْضِ [البقرة:267] وهذا هو زكاة المزروعات أو ما تخرجه الأرض من حبوب وثمار، أو من نبات على التعميم، و(مَا كَسَبْتُمْ) يختص بالتجارة؛ لأنه العمل الذي يكتسب به الإنسان منفرداً بخلاف ما تخرج الأرض؛ لأن إخراج الأرض فيه جانبٌ آخر: وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الأَرْضِ [البقرة:267] ، فهناك عامل آخر وهو أن المولى سبحانه وتعالى هو الذي يعطي: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ [الواقعة:63-64] فالله سبحانه وتعالى يعطي العبد من خيرات الأرض.

    وليس ما تنبته الأرض خالص عمل الإنسان وحده، بخلاف التجارة، وإن كان الكل من عند الله، والربح رزق من الله، والتوفيق في التجارة من الله، لكن السبب المباشر أو اليد المباشرة في التجارة هي الإنسان، والشيء المباشر في الأرض هو الإنسان ومن ورائه القادر سبحانه وتعالى على إنبات النبات وعلى إتيان النبات بالحب، وكذلك إنبات الشجر، وإتيان الشجر بالثمر، فهذا فيه صنع المولى سبحانه وتعالى.

    إذاً: (ما أخرج الله من الأرض) قسم، و(طيبات ما كسبتم) قسم، فيكون (طيبات ما كسبتم) المراد منه التجارة، والصناعة، ومن هذا القبيل، وقد انتهى الأمر عند العلماء وأصبح كما قال ابن المنذر : إجماع المسلمين على وجوب الزكاة في عروض التجارة.

    ومن العمومات أيضاً قوله سبحانه مخاطباً سيد الخلق صلى الله عليه وسلم: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً [التوبة:103]، والأموال جمع مال، وأبرز أنواع الأموال التجارة، وهي كما يقال: العنصر الفعال في تنمية الأموال من حيث هي، فـ(مِنْ أَمْوَالِهِمْ) تشمل كل الممتلكات بما فيها مبدئياً وأولياً أمر التجارة.

    وجاء عنه رضي الله تعالى عنه: أنه لقي فلاناً، فقال: (يا فلان! أدِ زكاة مالك، قال: ما عندي إلا جعاب أذن، قال: قدِّرها وأد زكاتها)، أي: كان الرجل يحمل جلوداً، فقال: أد زكاة مالك، قال: ما عندي إلا هذه الجلود أعملها حقائب وأبيعها، قال: أدِ زكاتها.

    وهناك أيضاً آثار ومنها: (كان يأمرنا صلى الله عليه وسلم أن نؤدي زكاة البز)، والبز: بالباء والزاي نوع من القماش بين الحرير والقطن، أو مختلط منهما، وبعض العلماء يقولون: إنما هي محرفة عن البر، والبر مما تنبت الأرض، وليس داخلاً في عروض التجارة، فأجيب عن ذلك: إن التحريف بعيد؛ لأن الأحاديث إنما تروى بالسماع ولا تروى بالكتابة، وما كانت الكتابة إلا متأخرة فيما بعد، وكانت كتابة الحديث في أول الأمر نادرة، فكانت تلقى الأحاديث سماعاً، وفرقٌ بين سماع البر (بالباء والراء) والبز (بالباء والزاي).

    ما أعد للقنية فلا زكاة فيه، وما أعد للتجارة ففيه الزكاة ولو عقاراً

    وأجمعوا على أن ما اشتري للقنية ولو كان كثيراً فلا زكاة فيه، فمثلاً: إنسان اشترى مائة كيس ووضعها في البيت، ولديه أولاد وعوائل يأخذون منها السنة والسنتين، فلا زكاة في هذه، وإن كان أخذ عشرة أكياس ووضعها في دكان من أجل أن يبيع فيها ويشتري بأثمانها غيرها، يقصد بذلك الربح والبيع والشراء فإن فيها الزكاة.

    وأجمعوا على أن كل ما اتخذ للتبادل التجاري بقصد النماء وهو الربح وإن احتمل الخسارة أنه زكوي، أي: من عروض التجارة، سواء كان ذلك من الأراضي البيضاء كأن يتاجر مثلاً في عقار مخطط، فيشتري قطعتين أو ثلاثاً من أجل أن يبيعها فيما بعد عندما ينتهي الحراج، وتنتهي القطع الموجودة وتبدأ الرغبات، فيبيع بما فيه ربح، أو كان من عمائر، كأن اشترى عمارة لا ليسكنها ولا ليؤجرها، ولكن وجدها رخيصة وعلم بأن العمائر والعقار سترتفع أثمانها فاشترى عمارة أو عمائر من أجل أن يبيعها، وسواء كان المالك شخصاً واحداً أو كانوا جماعة اشتركوا في الأرض أو في العمارة؛ ففيه الزكاة.

    أما إذا اشترى الأرض لنفسه؛ أو ليعطي فيما بعد كل واحد من أولاده قطعة، أو تركها للزمن، حتى إذا احتاج باعها أو عمرها فهذه التي للقنية وللتعمير لا زكاة فيها، والتي للتجارة فيها الزكاة، وإذا اشترى العمارة لا للبيع ولا للشراء، ولكن للاستثمار، كأن يؤجر شققاً ويأخذ أجرتها، وليس عنده نية بيع العمارة بذاتها، ومن بعده يرثه أولاده ويستفيدون من إيجار شققها كمورد رزق لهم، فهذه لا زكاة فيها، وإنما ينظر إلى الأجرة التي تأتيه على حسب رصد البلد، إن كانت تؤخذ الأجرة في أول السنة، أو تؤخذ في آخر السنة، فمطلق أجرة العمارة أو أجرة الأرض، تدخل في الكسب وتكون من نوع زكاة الأموال غير التجارية.

    إذاً: الأعيان التجارية سواء كانت أرضاً بيضاء أو عمائر، أو سيارات، أو بواخر، أو طائرات، أو من المواد الغذائية، من الملح إلى العسل، كل ذلك إذا أخذه ليبيع ويشتري فإنه عروض تجارة، فلو اتخذ غنماً للبيع والشراء، كهؤلاء الذين يتاجرون بها من خارج المملكة، الذين لا يأتون بها للقنية والحليب والنسل والزيادة، وإنما يأتون بها ليكتسبون بأثمانها، فهذه عروض تجارة، فلا تزكى على عدد الأربعين شاة على أنها بهيمة أنعام بشرط السوم وحولان الحول، بل تزكى على أنها عروض تجارة فتزكى قيمتها، لأنها ليست مقصورة للقنية والنماء والنسل، ولكنها جلبت لتكون عروض تجارة، وكما تقدم أنه لا ثنائية في الزكاة، فلا يؤخذ منها الزكاة باعتبارين: اعتبار القنية، واعتبار التجارة.

    وكذلك الإبل والبقر إذا جلبها ليبيعها فإنها تعتبر عروض تجارة، فلا تزكى زكاة بهيمة الأنعام، حتى قالوا: لو تاجر في التراب، وقد يكون التراب موضع بيع وشراء، وقد يصنع تراباً مثل الإسمنت، والجبس، والجص؛ فهذا أيضاً إذا عد للتجارة، كأن اتخذ المصنع واكتسب من ورائه، فهذه عروض تجارة.

    إذاً: عروض التجارة بدون استثناء كل ما أعد للبيع والشراء بقصد الربح.

    1.   

    أقسام عروض التجارة

    وهنا قبل الدخول في التفصيل يعتبر العلماء عروض التجارة بالنسبة لصاحبها -صاحب عروض التجارة- على قسمين: تاجرٌ مدير، وتاجرٌ محتكر، وفرق بين المدير والمحتكر، والمحتكر على قسمين: محتكرٌ خاطئ ومحتكر مأجور.

    التاجر المدير

    فالمدير هو الذي يبيع السلغ يومياً سواء كان بالجملة أو التجزئة، فالمستودع مفتوح يبيع منه بالجملة، أو المعرض والدكان مفتوح يبيع بالتجزئة، بالكيلو، بالحبة، بالدرزن، فهذا كله يسمى مديراً؛ لأن عروض التجارة عنده ليست واقفة بل متحركة، فيبيع هذه السلعة ويشتري بثمنها سلعةً أخرى، مثل الدولاب الذي يدور بحركةٍ دائمة.

    فهذا النوع من التجار كيف يزكي ما بيده إذا اكتسب ما يساوي النصاب، لأنه يشترط في زكاة عروض التجارة ملك النصاب حولان الحول، فإذا كان هذا التاجر المدير امتلك ما قيمته نصاب الذهب والفضة، وهو عشرون مثقالاً، أي: أحد عشر جنيهاً سعودياً، أو مائتا درهم فضة، أي: ستة وخمسون ريالاً فضة أو ما يعادلها، وحال عليها الحول في يده وهو يدير فيها، نظرنا في نهاية الحول كم يوجد عنده من عروض التجارة، مقدراً موجوداً في المحل من كل صنف، ولا ننظر إلى أعيان الأصناف.

    فمثلاً: بقالة فيها السكر والشاي والكبريت والملح والصابون... إلخ، فكل ما في البقالة مما يديره للبيع والشراء يقدر، ثم ننظر مجموع قيمته، المجموع ولا ينظر إلى قيمة الشراء ولا إلى تقديرها أو تقييمها عندما اشتريت، بل ينظر لو لو أراد أن يبيعها الآن بمجموعها فبالمقدار الذي تقدر به في نهاية الحول يزكيه.

    فإذا بدأت تجارة المدير بعشرة آلاف فإنها قد تجاوزت النصاب، ولو كانت نقداً لوجبت زكاتها، فإذاً: نحسب الحول من أول يوم بدأت فيه التجارة إلى أن يحول عليها الحول، فعند نهاية الحول نفترض أنها صارت عشرين ألفاً، إذاً نزكي العشرين الألف الآن، فهذه هي زكاة عروض التجارة التي يديرها صاحبها.

    وسواء باع بالجملة أو التجزئة فالكل فيه زكاة.

    التاجر المحتكر

    القسم الثاني من أصحاب عروض التجارة: المحتكر.

    والاحتكار هو الجمع، فحكرها بمعنى: جمعها، وهو الذي يشتري السلع لا ليبيعها ولا ليعرضها للبيع يوم أن اشتراها أو فيما بعد، وإنما يشتري السلعة ويخزنها وينتظر بها مناسباتها، أي: مناسبة ارتفاع السعر في السوق، فمثلاً: التمر في المدينة من رأس المال الموجود، ومن أهم إنتاجها، فيأتي عند الجذاذ ويكون الصاع رخيصاً، فيجمع ويوضع في المخازن، فلا يباع حتى تنتهي فترة الصيف، ويبدأ الشتاء فيحتاج الناس التمر للتدفئة والتغذية، فيبدأ يبيعها، فهو ينتظر الموسم حتى يأتي الحاج؛ لأنه أربح له وأكثر بيعاً، فيحبسها في المستودع، ثم يبدأ بالبيع في الموسم، سواء باع جملة أو تجزئة.

    إذاً: استمر وجود السلع في المخزن خمسة أو ستة أشهر فيكون قد احتكرها، ثم بدأ يتعامل ويبيع بالجملة، أو بدأ هو بنفسه يبيع بالتجزئة، بأكثر أو بأقل، فهذا يسمى محتكراً.

    والمحتكر إن كان يجمع السلعة لا ليبيعها عند الموسم، ولكن عندما يصبح الناس بحاجة إليها، فإذا أمسكها حتى أصبح للناس فيها حاجة، وضمن بها فلم يخرجها، واشتدت حاجة الناس إليها وكانت السلعة من الأشياء الضرورية كمواد الغذاء أو الألبسة، أو ما هو ضروري لحياة الناس، كأن اختزن الدقيق، أو السمن، أو التمر، أو الأرز، والسوق ماشٍ وهو منتظر حتى يشح الصنف في البلد، يريد أن يكون هو صاحب الامتياز، والمتحكم في السوق، فيأتي يتحكم بأسعار السلعة في السوق على ما يشاء.

    ففي هذه الحالة يثبت عليه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (المحتكر خاطئ)، والخاطئ غير المخطئ، فالمخطئ الذي لم يتعمد الذنب، ولكن الخاطئ هو المتعمد قال تعالى: لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ [الحاقة:37]، (الخاطئون) ولم يقل: (المخطئون)، فهذا المحتكر آثم؛ لأنه يتحكم في حاجيات الناس عن قصد، ففي هذه الحالة يتفق العلماء على أن لولي الأمر أن يتدخل بإلزامه بإخراج السلعة، ويبيع بما لا ضرر فيه ولا ضرار.

    فلو كانت معروضة فهو أمرٌ طبيعي، فيسعر ويحدد له جزءاً من الربح، وهذا ما يسمى بالتسعير، فحينئذٍ يكون التسعير واجباً وجائزاً على حسب رأي ولي الأمر، وشدة حاجة الناس إلى ذلك، كما قالوا في امتناع أصحاب الأعمال الضرورية للأمة؛ فإن ولي الأمر يتدخل ويلزمهم بالعمل حتى لا يتحكموا في حاجة الناس كما ذكر ابن تيمية رحمه الله.

    فمثلاً كان الماء في السابق لا يأتي للبيوت إلا عن طريق السقاء يحمله على كتفه ويدخله البيت، والخبز الآن في الأفران، والبريد الآن لمصالح الناس، والكهرباء، والسباكة، فهذه حاجات متواصلة، فمثلاً قائد السيارات الأجرة في الخطوط الطويلة، لو أن طائفة من هؤلاء امتنعوا عن العمل من أجل مصلحة خاصة، نظر ولي الأمر في أمرهم، وفي شكايتهم؛ فإن كانت عليهم مظلمة رفعها، وإن لم تكن مظلمة وأرادوا تحكماً ألزمهم بالعمل إجبارياً؛ حتى لا تتعطل مصالح الناس، وعلى مبدأ: (لا ضرر ولا ضرار).

    كيفية زكاة تجارة التاجر المحتكر

    نأتي إلى هذا التاجر المحتكر، كيف يزكي تجارته؟ فلم يبع ولم يشترِ، وبضاعته مخزونة، فماذا يفعل؟

    يقول الجمهور كـأبي حنيفة والشافعي وأحمد رحمهم الله: عليه أن يقدر ما عنده من عروضِ احتكرها في نهاية الحول ويخرج زكاتها، فإذا جاء حولٌ آخر ولم يبعها قاصداً للاحتكار، فإنه يقدرها مرةً أخرى ويزكي، وهكذا ما دامت موجودة وهو ممتنع عن إخراجها لأيدي الناس فإنه يزكيها كل سنة. وهذا مذهب الأئمة الثلاثة.

    والإمام مالك رحمه الله يقول: هذا المحتكر -على أساس أنه ليس بخاطئ- الذي أمسكها وليس بالناس الحاجة الضرورية إلى ما بيده، ليس متعمداً إضرار الناس، فما دامت السلعة متوفرة في السوق يخرجها المحتكرون كرهاً أو رضاً، اضطر إلى القيمة أو قنع بالسعر الموجود، وبقي بعض الأشخاص محتكراً، فإنه ينتظر حتى ينتهي هؤلاء، فما دام لا يدخل في نطاق الخاطئ باحتكاره، حتى يقول بعض العلماء: قد يؤجر في ذلك؛ لأنه حفظ للناس السلعة يخرجها عندما يحتاجونها، وحينما يحتاجها السوق، فليس متعمداً التحكم فيهم.

    إذاً: هذا الشخص إذا حال الحول على عروض تجارته، هل يقدرها ويزكيها؟ فالإمام مالك يقول: المحتكر له حقٌ شرعي في أن يكتنز هذه السلعة، فلا يزكيها إلا إذا باعها.

    فمثلاً: يكون السعر في السوق منخفضاً، وهو جمعها في وقت الموسم بألف، لكن ورد من خارج البلد من نفس السلعة الكثير، وأصبح ذو ألف يساوي خمسمائة، فانتظر حتى يتوقف الوارد من الخارج ويعتدل السوق ثم باع، فهذا ليس متحكراً خاطئاً، وإنما ينتظر بسلعته السوق النافقة التي يحصل فيها على رزق؛ فهذا الشخص لا يلزمه مالك أن يقدر في نهاية كل حول ويخرج الزكاة، بل يقول: ينتظر الحول بالقيمة؛ لأنه انتظر حولاً وأحوالاً وهي عروض، فالزكاة واجبة فيها من أول، لكن لا نلزمه لأنه لم يبعها، ولو قدر أننا ألزمناه وانخفضت السلعة وكانت أنقص مما قدرها عندما زكاها، فنكون ألزمناه بزكاتها وهو لا يملك الألف.

    فـمالك رحمه الله يعتبر في ذلك نفاذ السلعة، وهذا في الواقع قد ينفع بعض الناس؛ لأننا جربنا في المدينة وسمعنا أن بعض الناس كان هناك ما يسمونه (طفرة) في الأراضي، وكانت تقع صفقات في المجلس الواحد للقطعة الواحدة أو للمربع الواحد أو للأرض الكاملة، وتتضاعف القيمة، فهذا إذا اشترى في هذه الطفرة والسعر مرتفع، ثم وقف وانتبه الناس وبدأ السعر ينخفض، ولم يعد هناك سوقٌ نافقة، وأصبح يدل بها عند الناس فلا يجد من يشتري، فعند ذلك لو ألزمناه أن يقدرها في كل حول، ومكثت خمس أو عشر سنين، نقول: في تلك العشر السنوات التي نزلت فيها قيمة الأرض قد أخذنا منه زكاةً عليها يمكن أن تقارب قيمتها أو نصف القيمة.

    فـمالك يقول: المتحكر غير الخاطئ والذي ينتظر السعر المناسب فإنه لا يزكي عروض تجارته التي احتكرها إلا إذا باعها.

    1.   

    زكاة الدين

    وهذه القاعدة عند مالك تطرد في الدين، فلو كان لإنسان دينٌ عند الناس، فجاء الحول على تلك الديون، فالجمهور يقولون: عليه أن يحسب هذا الدين الذي له عند الناس ويزكيه فهو ملكه، وليس على المدين أن يخرج زكاة الدين الذي لغيره، وإلا فسيكون رباً.

    فإذا كان الدائن له أموال بأيدي الناس، فالأئمة الثلاثة أبو حنيفة والشافعي وأحمد رحمهم الله قالوا: يقدر الدين ويضمه إلى ما بيده وفي صندوقه ويزكي عن الجميع.

    فـمالك رحمه الله فصَّل في الدين، فقال: زكاة الدين بحسب المدين وحالته، والمدين عند مالك موسر قادر، أو معسرٌ عاجز، أو مماطل.

    قال: فالدين إذا كان على موسر قادر غير مماطلٍ بحيث لو أتاه في أي ساعة أعطاه ماله؛ فهذا الدين يعتبر مضمون السداد وكأنه في يد الدائن، وذلك كما في الودائع المصرفية والبنكية، حيث يمكن أن تذهب إلى المصرف أو البنك وتطلب طلبك من رصيدك فيعطيك في الحال؛ قال: هذا النوع من الدين عليه أن يزكيه في نهاية كل حول؛ لأنه في متناول اليد.

    أما الدين الذي ليس في متناول اليد، وصاحبه معسر ليس عنده، أو موسر مماطل، أو موسر ولكن لا يستطيع أن يستدعيه عن طريق السلطة، لأنه هو السلطة بنفسها، فلا يجرؤ على شكايته أو رفع دعوى عليه في المحكمة، أي: لا يستطيع أن يأخذ حقه منه، فهذا يسميه مالك دينٌ ضمار، أي: لا يستطيع أن يصل إليه، ولا يستطيع أن يستثمره، بخلاف المضمون، فإنه ولو لم يستثمره فهو الذي كف يده عنه، كأمانات في البنوك أو في المصارف فإنه لا أحد يمنعك أن تأخذها وتشغلها، لكن أنت بنفسك آثرت أن تكون أمانة بدلاً من أن تعرضها للتجارة، فإذا كان المال مضمون الدفع فكأنه في يدك، أو كأنك وضعته في صندوقك، أو كأنك دفنته في الأرض، فهو مالك وتحت يدك، فعليك أن تزكيه في نهاية كل حول.

    أما إذا كان دينٌ لك في يد الغير وهذا الغير مماطل، أو ليس عنده سداد، أو لا تستطيع عن طريق السلطة أن تأخذ حقك منه، فحينئذٍ في هذه الحالة يقول الجمهور: يقدره في نهاية كل حول ويزكيه لأنه ملكه، ومالك يقول: هذا النوع من الدين لا يزكى إلا إذا حصل في اليد، وكلما قبض من هذا الدين شيئاً زكاه في وقته، سواءً استلم في اليوم نصاباً أو أقل من النصاب، ما دام أن مجموع القرض في الأصل نصاب، فإذا كان مجموع القرض ألفاً أو ألفين أو عشرة آلاف وأصحابها معسرون، وبدأ شخص اليوم فأدى خمسة، وآخر أدى عشرة، وآخر أدى سبعة بعد الحول الأول، فعليه أن يزكي كل ما وصل إليه حتى ولو كان عشرة ريالات؛ لأنه زكوي، والزكاة واجبة فيه من وقت بلوغ الحول والنصاب، فعليه أن يزكي كل حصةٍ جاءت في يده بحسبها، فيخرج منها ربع العشر، فلو أعطاه عشرة ريالات فإنه يخرج ربع ريال.

    وعلى هذا زكاة الدين وكذلك زكاة عروض التجارة.

    توجيه تفصيلات الإمام مالك في الدين الضمار والتاجر المحتكر

    بقي عندنا: توجيه تفصيلات مالك :

    لماذا اختلف مالك مع الجمهور في الدين الضمار، وفي التاجر المحتكر غير الخاطئ.

    يروي مالك رحمه الله في الموطأ بأن أشخاصاً أتوا إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه لما ولي الخلافة، واشتكوا بأن الخليفة الأموي الأول كان قد صادر لأبيهم أموالاً في بيت مال المسلمين، وجاءوا يشتكون ويطلبون هذه الأموال كورثة، فكتب عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه إلى عامله أن أخرج إليهم مالهم وخذ منه زكاة السنوات الماضية، فهو -أي المال- قد مكث في بيت مال المسلمين سنوات.

    ثم أعقبه بكتابٍ آخر: خذ منه زكاة سنةٍ واحدة؛ لأنه كان مالاً ضماراً.

    واعتبر مالك رحمه الله هذه القاعدة في كل ما غاب عن اليد ولم تستطع الوصول إليه كدين مغصوب، أو دين على مماطل، أو وديعة نسيت عند من هي، أو دفين دفنته ونسيت المكان الذي هو فيه، وبعد عشر سنين وجدته مفاجأة، فكل مال لإنسان كانت يده قاصرة عن الوصول إليه، سواءً كان بيدٍ أقوى منها، أو كان بنسيانٍ، أو كان بجهالة أو نحو ذلك فحكمه ما ذكرنا عن مالك، فهذه وجهة نظر مالك أو استدلاله على تقسيم الدين إلى ضمار، وغير ضمار.

    وبعضهم يذكر ذلك رواية عن أحمد رحمه الله.

    1.   

    تحويل المال من قنية إلى تجارة بالنية أو العكس

    ونذكر في هذا المجال: لو أن إنساناً اشترى مائة كيس أرز ووضعه في البيت له ولأولاده على أنها تمويل سنة أو سنتين، ثم بدا له، فقال: لماذا أنا أدخر المائة؟! فيكفي عشرة، وهذه التسعون الباقية أبيع وأشتري فيها، ولما تنتهي العشرة أخذ عشرة أخرى.

    فهو مبدئياً اشتراها للقنية، ثم بدا له أن يحول تلك القنية إلى تجارة، قالوا: فيحسب من تاريخ نيته وقصده تحويلها إلى عروض تجارة، فمن تاريخ دخولها في أمر التجارة تحولت من قنية إلى عروض، فعندما فمن تاريخ التحويل يبدأ الحول، فإذا اكتمل الحول زكاها، ولا ينظر إلى تاريخ شرائها؛ لأن المدة التي مضت كانت على نية القنية فلا زكاة فيها، وبعد سنة أو أكثر أو أقل نوى أن تكون للتجارة وأخذ في طرق التجارة وأسبابها فتحولت من قنية إلى تجارة.

    شيء آخر: اشترى محلاً، وهو سعيد بالمحل الجديد، وعنده رأس مال، فقال: سأذهب قبل أن يرتفع السعر فآخذ خمسين كيس أرز، وعشرين كيس سكر، وكذا صندوق تايت، ثم إنه رأى أن الدكان لا يتحملها قال: سأتركها للبيت.

    فمن يوم أن اشتراها للدكان فهو اشتراها للتجارة، فمكثت هذه البضاعة في الدكان ستة أشهر، وبعدها وجد أن الدكان ليس بمربح، فتحولها للاستهلاك المنزلي في بيته، وستظل معه سنتين أو ثلاث سنوات، فهذه تحولت إلى القنية، فإذا حال عليها الحول فليس عليها زكاة؛ لأن الشرط في عروض التجارة والنقدين أو في الأموال التي فيها الحول أن يمر عليها حولٌ كامل وهي في طريقها.

    فهذا مما يتعلق بالقصد في اتخاذ العروض للتجارة أو للقنية.

    1.   

    حكم زكاة ما يتبع السلعة من الآلات والمصانع

    يبحثون أيضاً في عروض التجارة، هل الذي يزكى من عروض التجارة هو للسلعة فقط، أم أنه يتبعها شيء؟

    ومعنى (يتبعها شيء) أن السكر إذا كان في حوض أو كومة من الأرض أو في أكياس، وهذا الصابون يكون في كراتين وهذه السلعة في صناديق، وهذه في مكاييل، فأدوات التجارة: من الميزان والمكيال وأدوات البيع والشراء، فهذه الأدوات الموجودة في الدكان، والديكور أيضاً الذي صُنع، هل هذا يدخل في عروض التجارة أم أنه خاص لقنيته؟

    فهذه أمور ربما تجدون من يبحث في هذه الناحية من أدوات التجارة ومكاييلها وموازينها، أو آلات أو أجرام، أو أظرف توضع فيها أدوات التجارة فهل هذه الأدوات تتبع عروض التجارة فتجب فيها الزكاة؟

    الجواب: لا.

    والخلاف الشديد فيما يتعلق بالمصنع وآلات الإنتاج، فعندنا مثلاً مصنع سكر، ومصنع نسيج، ومصنع صابون، فهل الآلة المصنعة تقدر مع السلعة أم لا؟

    الآلة التي تنتج هي عروض تجارة ثابتة، ونحن نقدر إنتاجها، فإذا جئنا إلى مطبعة تطبع الكتب، المطبعة فيها حروف، وفيها مكائن تطبع، وفيها مكائن ترص الورق، وفيها مكائن تجلد، وفيها أشياء عديدة، فهل يا ترى الآليات التي تصنع وتنتج نقدرها مع الأوراق والكتب التي تطبع؟ فالورق الموجود في المستودع للمطبعة، الحبر الموجود في المستودع للمطبعة، والخيط الموجود في المستودع، والصمغ..، فكل هذه الأشياء من عروض التجارة، لأنها تباع؛ لكن الآلات التي تصنع ذلك، هل هي تجارية أو غير تجارية؟

    فبعضهم يقول: إن أنشئ المصنع من مبدأ الأمر فكل ما فيه للتجارة، والجمهور يقولون: الآلات الثابتة غير الفنية بذاتها قد تُستهلك، والزكاة في إنتاجها يكفي عن الزكاة في ذاتها.

    والله تعالى أعلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718712

    عدد مرات الحفظ

    765793302