أما بعد:
فيقول المصنف رحمه الله: [ وعن عتاب بن أسيد رضي الله عنه قال: (أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرص العنب كما يخرص النخل، وتؤخذ زكاته زبيباً) رواه الخمسة وفيه انقطاع ].
هذا الأثر وإن كان فيه انقطاع إلا أنه عليه العمل، فيخرص العنب وتؤدى زكاته زبيباً، كما يخرص الرطب وتؤدى زكاته تمراً، لكن يهمنا في هذا الأثر أن العنب يخرص كما يخرص النخل.
فمن كان يعارض في خرص العنب يقول: لا يتأتى انضباط خرص العنب كانضباط خرص النخل، يقول: لأن النخلة مكشوفة أمام الخارص وأمام الجميع، أما العنب فقد يكون مختفياً بين الأوراق وقد يخفى على النظر، فلا يتمكن الخارص من رؤيته كما يتمكن في النخلة.
ولكن كما جاء في هذا الأثر، وإن كان منقطعاً فقد يكفينا رأي من رواه، فالذين رووه على انقطاعه يقولون به؛ فيكفينا هذا فقهاً، وأنها الطريقة التي يمكن أن يساوى فيها العنب بالرطب.
فهذا النص في العنب: أنه يخرص كما يخرص النخل وتؤخذ زكاته زبيباً، ولماذا لا تؤخذ عنباً؟
لأنه لا يدخر، فلو أعطينا للفقير خمسة صناديق عنباً، هل سيأكلها كلها؟ فلو أكثر من أكلها فإنه سيؤذيه، وهل إذا أكل صندوق عنب يغنيه عن لقمة عيش؟ فربما لا يغنيه، فالعنب ليس قوتاً ولا يدخر.
وهذه الفكرة هي التي عارضنا بها اقتراح بعض الأعضاء في مؤتمر ماليزيا بتنفيذ مذهب أبي حنيفة رحمه الله في الخضروات، ولنسأل: ماذا سيصنع المسكين إذا أخذ قليلاً من الطماطم، أو قليلاً من الباميا، أو قليلاً من الفلفل، أو قليلاً من النعناع .. إلخ؟
فإذا قلنا: يضعها في الثلاجة، فالفقير ليس عنده ثلاجة، ولو وضعها في الثلاجة فإلى متى؟ فسيأخذ منها كل يوم، فهل ستكون قوتاً أم فاكهة؟ طبعاً ستكون فاكهة، والخضروات مهما كان فلها أجل، سواءً كانت داخل الثلاجة أو خارجها.
إذاً: لا ينتفع بها بقدر ما يمكن أن يبيعها صاحبها، ويجمع القيمة ويأتي بصدقة القيمة للمسكين فيتصرف فيها بما ينفعه.
وقد أوقف القرار بعد ذلك.
إذاً: انتهينا من موضوع زكاة ما تخرج الأرض، وكيفية زكاتها وهو الخرص.
ونحن قلنا بالزكاة في الشعير والبر، فهل يخرص وهو في سنبله عندما يشتد الحب، أو يترك لصاحبه حتى يحصد ويصفى ويكال؟
هناك من يقول بخرص الحب أيضاً، ولكن لماذا نخرصه؟ هل الريح تطيح به في الأرض؟ ليس هناك شيء يضيع منه أبداً.
وهل يبيعه قبل أن يحصده؟
لا. بخلاف العنب والرطب.
إذاً: الخرص محصور على النخل والعنب، والحب الذي هو متفق عليه من الشعير والبر وما ألحقناه به لا دخل للخرص فيه، وإنما يترك لصاحبه حتى يحصده ويصفيه ويكيله، فهناك يجب عليه أن يزكي ما حصل عنده إن وصل خمسة أوسق فما فوق. والله أعلم.
لما أنهى المصنف رحمه الله الكلام على زكاة بهيمة الأنعام، ثم ما يخرج من الأرض، جاء إلى زكاة الحلي، وتقدم أيضاً زكاة النقدين: الذهب والفضة، وأنه ليس فيما دون خمس أواقٍ من وَرِقٍ صدقة.
وتقدم البحث في هذه الأصناف، وفي أنواع بهيمة الأنعام ما اتفق عليه وما اختلف فيه، ثم أنواع الزروع والثمار، وما اتفق عليه أيضاً وما اختلف فيه، ثم زكاة النقدين: الذهب والفضة، وبقي معنا عروض التجارة، وسيأتي في سياق هذا الحديث.
فلما كان الذهب والفضة مجمعاً على زكاتهما نقداً؛ لأن كلمة (أواق) جمع (أوقية)، والأوقية وحدة وزنية، ووحدة نقدية أيضاً، فهذا يتعلق بالفضة، والدرهم وحدة وزنية، ووحدة عددية؛ فكان الحلي من جنس الذهب والفضة، ولكنه اختلف فيه كما اختلف في بعض أفراد الأجناس المتقدمة.
فشرع المصنف يُفصِّل أو يسوق ما عنده من أدلة أو من أقوال العلماء فيما يتعلق بالذهب والفضة إن كان مصوغاً حلياً تلبسه النساء، فأتى بالحديث: أن امرأةً يمانية أتت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يد ابنتها مسكتان -والمسكة هي ما يسمى الآن بـ(الأسور) أو بـ(بالخلخال) في الرِجِل من ذهب- فلما رآها النبي صلى الله عليه وسلم، سألها: أتؤدين زكاة هذا؟، فـ(هذا) اسم إشارة راجع لما فيه الحديث وهو المسكتان. وفي بعض الروايات: (غليظتان من ذهب، فقال لها: أتؤدين زكاة هذا الذهب الذي في يد ابنتك؟ قالت: لا. فقال: أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيام بسوارين من نار؟).
أعتقد أن هذا أسلوب إثارة، أي: أتحبين أن تلبسي سوارين من نار يوم القيامة؟! ومن يحب هذا؟! ومن يسر بهذا؟!
ففيه الإثارة إلى معرفة الواقع وبراءة الذمة حالاً، ولهذا كان الجواب أنها خلعتهما من يد ابنتها وألقت بهما، وفي تتمة الرواية: (قالت: هما لله ورسوله).
هذا الحديث كما ساق المصنف تصحيحه هو الأصل في مبحث زكاة الحلي، وهو الأصل للاستدلال على أن الحلي المستعمل بالفعل فيه الزكاة؛ لأنه ملبوس في يد البنت.
ثم ساق له المصنف شاهداً من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: (اتخذتُ فتخات من وَرِق -الفتخات جمع فتخة وهي ما يسمى الآن بالخاتم- فنظر إليهما صلى الله عليه وسلم وقال: ما هذا يا
وسيأتي لـأم سلمة رضي الله تعالى عنها أنها: (اتخذت أوضاحاً من ذهب)، الأوضاح من الوضاحة والظهور، والذهب له بريق ووضوح، ولو كان حتى من الفضة فلها أيضاً وضوحٌ وبريق، والأوضاح كانت في شعرها.
تقول: (فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجدتُ في وجهه الأثر) أي: أنه ليس براضٍ؛ فهي صنعتهما من أجله صلى الله عليه وسلم، لكن لم يستقبل ذلك بابتسامة أو بشاشة، وإنما وجدت في وجهه الكراهية، ففطنت فقالت: (أكنزٌ هو يا رسول الله؟!) (هو) ضمير راجع إلى الأوضاح التي في شعرها.
فلم يقل لها صلى الله عليه وسلم لا، أو نعم، وإنما قال: (إذا أديت زكاته فليس بكنز) يعني: وما لم تؤد زكاته فإنه كنز، والحكم على أنه كنز أو ليس بكنز إنما هو لمدلول الآية الكريمة: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ .... [التوبة:34].
إذاً: فلما رأت الكراهية في وجهه صلى الله عليه وسلم فطنت فسألت: ولِمَ الكراهية وإنما هي زينة تتحلى بها لزوجها. إذاً: هذا القدر ليس فيه كراهية، ولكن الخوف من كونه دخل في معنى الكنز، ويكون هناك الوعيد.
فلما سألت أجابها: (إن كنتِ تؤدين زكاتها فليس بكنز).
هذه النصوص الثلاثة التي ساقها المصنف رحمه الله هي عمدة من يقول بوجوب الزكاة في الذهب والفضة حلياً كان أو غير حلي، ويضاف إلى هذا أيضاً ما تقدم في أول الباب من الحث على الصدقات والزكاة في جميع الأموال.
وتقدم لنا ذكر الحديث الطويل: (ما من صاحب إبلٍ لا يؤدي زكاتها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاعٍ قرقرٍ، تطؤه بخفافها وتعضه بأنيابها، فإذا انتهى أخراها أعيد عليه أولاها حتى يقضى بين الخلائق، فيرى مصيره إما إلى الجنة وإما إلى النار)، وكذلك ذكر صاحب البقر، ثم صاحب الغنم، ثم صاحب الذهب فقال: ( وما من صاحب ذهب -أتى باسم الجنس، ولم يفصِّل بين مصنوع حلي أو آنية مستعمل أو غير مستعمل لا يؤدي زكاته إلا إذا كان يوم القيامة صُفِّح له صفائح من نار، فيكوى بها جبينه وجنبه وظهره حتى يفصل بين الخلائق، ويرى مصيره إما إلى جنة وإما إلى نار)، فأخذ البعض من هذا الحديث أن زكاة الذهب واجبة مطلقاً، مع النصوص الأخرى المجمع عليها في غير ما هو حليٌ مستعمل.
والتفصيل في هذه المسألة يطول، وقد كتب والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه عند هذه الآية الكريمة: (َالَّذِينَ يَكْنِزُونَ..) فأطال البحث فيها على عادته في أضواء البيان، فذكر أقوال الموجبين للزكاة، وأقوال المانعين من الزكاة، وأخيراً قال: (والأولى الذي به براءة الذمة أن يزكى) ولم يقل: يجب أو لا يجب.
وصنيع ابن رشد في البداية الذي هو مقرر في الجامعة ما تناول هذه المسألة إلا في سبعة أسطر -أي: نصف الصفحة فقط- وذكر مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي رحمهم الله، ولم يذكر مذهب أحمد لا بقليل ولا بكثير، فاخترت هذه المسألة بالذات لأجعل فيها مبحثاً نموذجياً لدراسة بداية المجتهد، واستوفيت المذاهب الأربعة بما فيها أحمد ، وأخذت من كلام والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه، وما تيسر من المراجع الأخرى وجعلت فيه رسالة، وأخيراً طبعتها بعنوان: (زكاة الحلي).
أجمع جميع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، والأئمة الأربعة وغيرهم ممن اندثرت مذاهبهم، وكل عالمٍ في صدر الإسلام وفيما بعد إلى اليوم بأن الذهب والفضة غير الحلي الملبوس فيه زكاة.
ثم جاء الخلاف فيما هو حليٌ ملبوس بالفعل.
إذاً: دخل في العموم السابق غير حلي النساء كأن يكون هناك أوانٍ من ذهب أو فضة للزينة، أما للاستعمال فمحرم: (الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم)، فإذا كان اتخذها للزينة واتخذها للعوز ليبيعها عندما يحتاج، فهذه أوانٍ وليست حلياً، أو اتخذت ملاعق من ذهب أو فناجين، كل هذه داخلة في جنس الذهب غير حلي النساء.
فإذا جئنا إلى الحلي الذي فيه البحث: فإذا كان الحلي مكسراً غير صالحٍ للزينة، فأجمع أيضاً الأئمة الأربعة على وجوب زكاته، وذكر ابن عبد البر في الاستذكار بدون خلاف حتى عن مالك ، كالتبر غير المصنوع المصوغ، والحلي المكسر الذي لا يصلح للاستعمال، فيكون خارجاً عن الحلي المستعمل، فإذا كان الذهب والفضة نقداً أو مصوغاً مباحاً، أو مصوغاً غير مباح مثل الأواني للأكل، فبإجماع المسلمين أن فيه الزكاة، مع حرمة استعماله.
ولم يبق الخلاف إلا في الحلي المصاغ للنساء خاصة، فلو أن رجلاً اتخذ أساور من ذهب ففيه الزكاة بالإجماع، سواء وضعها في الصندوق لوقت الحاجة يريد بيعها، أو يريد لبسها؛ وإن لبسها كان حراماً وعليه وفيها الزكاة، وإن وضعها في الصندوق كان قُنية، مثل الجنيه، فيجب عليه فيها الزكاة.
فلذلك ما كان مباح الاستعمال، ومحرم الاستعمال، ما لم يكن حلياً للنساء فليس فيه خلاف.
وإذا كان صاحب الذهب قد رفعه على نية أن يصلحه ليُلبس، فيكون هذا في نطاق الاستعمال، فهذا داخل في الحلي المستعمل.
ونجد إماماً آخر يقابله بقوله: لا زكاة فيما هو مستعمل.
ونجد واحداً من الأربعة ورد عنه روايتان: إحداهما أن فيه الزكاة، والأخرى ليس فيه الزكاة.
ونجد الإمام الرابع له وجهان أو قولان، والخلاف عند الفقهاء في الفرق بينهما قديمٌ وحديث؛ فالقديم فيه زكاة والجديد ليس فيه.
فهذا على سبيل الإجمال حتى نحصي الأقوال.
فالإمام أبو حنيفة رحمه الله أوجب الزكاة في الذهب والفضة مطلقاً، نقداً، مصوغاً، تبراً، مستعملاً، مكسراً، بأي حالة من الحالات.
يقابله مالك رحمه الله فقال: لا زكاة في الحلي المستعمل المباح. وهو ينصب على حلي المرأة الذي تستعمله، ويخرج عن ذلك حلي المرأة الذي لا يستعمل؛ وحلي المرأة غير المباح الذي يلبسه الرجل، وآنية الأكل والشرب، فهذا حليٌ غير مباح، فالحلي الغير المباح مزكىً عند مالك ، والحلي المباح والمستعمل بالفعل غير المعطل هو الذي يقول مالك: لا زكاة فيه.
وكلمة (حلي، مباح، مستعمل) منصبة على الذهب والفضة، أما إذا كان هناك لؤلؤ، جواهر، ياقوت، فيروز، ماس، فهذه لا زكاة فيها بالإجماع ، وإن تحلت بها المرأة أو اقتناها الرجل.
أما الإمام الشافعي رحمه الله فعنده قولان: قولٌ قديم أنه يزكى، فيكون هذا القول موافقاً لقول أبي حنيفة ، وقولٌ جديد: أنه لا يزكى، وهذا القول موافق لقول مالك .
فيذكر ابن عبد البر عن الشافعي في هذه المسألة أنه فعلاً في القديم يقول بزكاته كما يقول أبو حنيفة ، وينقل عنه: أنه لما ذهب إلى مصر قال: أستخير الله في الحلي المستعمل، ثم اختار القول بعدم الزكاة، أي: أنه كان متردداً، ولكن اختار عدم الزكاة.
نأتي إلى الإمام أحمد رحمه الله، فيذكر صاحب الإنصاف والمغني -وكل مراجع الحنابلة المتوسعة- عن أحمد رحمه الله روايتين: روايةً نُقل عنه فيها: أنه يزكى، وروايةً نُقل عنه فيها: أنه لا يزكى.
فنحن عندنا منهج: إذا وجدنا مسألة خلافية -وأعتقد أن هذا الخلاف معتدل أو متساوٍ- فيهما قولان، أو روايتان، فخذ القول الذي يقول: تزكى مع من قال: تزكى، والرواية دعها مع القول بالزكاة، فيكون عندنا: قولٌ ورواية وقولٌ في مذهب، قولٌ في مذهب ورواية بعدم الوجوب، ومذهب وقولٌ ورواية في مذهبٍ على مذهب الوجوب، فيكون الخلاف معتدل التوازن.
قالوا: هذا ليس فيه دليل، إذاً بماذا تجيبون عليه؟
فنحن هنا الآن نبدأ بهذا الدليل، وهو صريح صحيح لا لبس فيه، فسألنا الذين قالوا: لا زكاة في الحلي، ما تقولون في هذا الحديث؟
قالوا: كما نقل البيهقي رحمه الله: كان مجيء المرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكلامه معها عندما كان الذهب محرماً بالكلية.
وقالوا: فعلاً قد كان الذهب في بادئ الأمر محرماً على الرجال والنساء، حتى صعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر في المدينة، وأخذ الذهب والحرير وقال: (هذان حرامٌ على رجال أمتي، حلالٌ لنسائها).
أقول وباستحياء: عندما كنتُ أدرس هذه المسألة في سبل السلام في الرياض بكلية الشريعة كان والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه يكتب على هذه الآية في أضواء البيان، وجاءته الملازم من مصر لتصحيح الخطأ فيها، وكان من عادته رحمه الله إذا تغدينا وجلسنا لشرب الشاي أن يأخذ يصحح في الملازم، ولتلهفي أو تطلعي إلى مبحثٍ في هذه المسألة أخذت الملازم وقرأت، فذكر جوابهم على ذلك، فلما قرأتها أردت أن أسأله.
والشيخ الله يغفر له كان يفتح لي صدره قليلاً، وأنا كنت طويل اللسان قليلاً، فقلت: يا شيخ! هذه المسألة يحوك في صدري شيء منها لا أستطيع أن أعبر عنه، قال: ما هو؟ قلت: أتساءل لاستيضاح جواب هؤلاء: بأن ذلك كان وقت تحريم الذهب مطلقاً. أترى يا شيخ! أن الرسول صلى الله عليه وسلم يرى استعمال المحرم، ويترك الإنكار عليه ويذهب يسأل عن الزكاة، أم أن المتبادر أن ينكر على استعمال المحرم أولاً، ثم يأتي إلى موضوع الزكاة؟
فقال: أعد عليَّ مقالتك، فأعدتها عليه.
فقال: أتدري أن ما قلتَه صحيح، ولكنني رأيت فلاناً وفلاناً وفلاناً.. وسلسل القول إلى البيهقي ، فسرت معهم، ولئن أحياني الله -وهذه أمانة ألقيها- إلى إعادة الطبع لأصححن ذلك، أما الآن فإن الكتاب قد طبع، وهذا لوضع الصواب وتصحيح الخطأ فلا يمكن تصحيح عدة آلاف قد طبعت، وهذه أمانة ألقيها للجميع.
إذاً: استدلالهم أو ردهم الحديث بأن ذلك كان حين حرم الذهب أو كان الذهب محرماً للاستعمال مطلقاً فيه نظر.
نأتي إلى حديث فتخات عائشة .. وأوضاح أم سلمة ، ماذا يقال فيها؟ قالوا: هذا لا يستقيم، لماذا؟ قالوا: الفتخات هي خواتم، وليس معقولاً أنها ستلبس خواتم قدر مائتي درهم، فهذا ضعيف.. وأوضاح أم سلمة كذلك، ليس معقولاً أن تلبس أوضاحاً قدر عشرين مثقالاً.
لكن أجاب عن ذلك ابن مسعود رضي الله عنه: بأن تلك الفتخات، أو هذه الخواتيم أو الأوضاح تضم إلى جنسها فيكمل به النصاب، فإذا كان عندها من الأوضاح ذهب وفضة وكل منهما ناقص النصاب فإنه يضم بعضه إلى بعض ويزكى.
إذاً: هي ليست زكاةً في عينها الموجودة بالفعل، ولكن في جنسها وهو الحلي المستعمل.
وهناك أثرٌ عن عائشة يغاير ذلك -ساقه مالك في الموطأ- أنها كانت تلي أيتاماً ولهم حلي فلم تؤد زكاته.
وعن عبد الله بن عمر أيضاً في الموطأ أنه كان يحلي بناته وجواريه ولم يخرج الزكاة عن حليهن، ويذكر ابن عبد البر -ولأول مرة أقرؤها-: كان ابن عمر يزوج بناته بأربعة آلاف دينار، ولم يخرج الزكاة، ويحليهن بها، أي: بهذا المبلغ ولم يؤدِ زكاته.
ونأتي إلى الرواية الأخرى عن ابن عمر أنه ممن يقول بزكاة الحلي، فأجابوا عن ذلك: بأن عائشة رضي الله تعالى عنها كانت تلي أيتاماً، فلعلها كانت تترك زكاة أموال اليتيم حتى يبلغ، وهذا مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله، ولكن الرواية الأخرى في قضية الفتخات فيها: (أتؤدين زكاته؟)، فيكون ورد عن عائشة روايتان: رواية في الفتخات، ورواية في الأيتام، فأي الروايتين أصرح في القضية؟
الجواب: رواية فتخات يدها، فبعضهم يرجح تلك الرواية وبعضهم يرجح هذه.
نأتي أيضاً إلى قول جابر رضي الله تعالى عنه: (ليس في الحلي زكاة) وهذا أخذ به مالك ، ولكن المذكور عن جابر رضي الله تعالى عنه في كتاب الأموال: أن جابراً سُئل عن حلية السيف بالذهب؟
الحلية، (ال) هنا هل هي للعهد فيكون المراد حلية السيف، أم (ال) للجنس فيكون المراد مطلق حلية على صفةٍ عامة؟
ونجد البيهقي في أثر جابر هذا يقول: إنه منقطع أو إنه معضل، فمن احتج به كان داخلاً فيمن يغرر بدينه، فلا يصح.
والعجيب أن ابن عبد البر في نهاية المطاف من بحث هذه المسألة يقول: والخلاصة: أن من أوجب الزكاة في الحلي المستعمل، وفي الإبل العوامل فقد صح قياسه، ومن أبطل الزكاة في الحلي المستعمل، وأبطلها في الإبل العوامل اضطرب قياسه، ومن أوجب الزكاة في الإبل العوامل، ومنع الزكاة في الحلي المستعمل فقد اضطرب قياسه، وهذا القول لـمالك رحمه الله.
والمأثور عن مالك رحمه الله في زكاة بهيمة الأنعام أنه لا يشترط السوم، ولا يشترط أن تكون غير عوامل، مع أن الأئمة الثلاثة رحمهم الله على أن الإبل العوامل لا تزكى، وهو يقول: هي إبلٌ وله فيها زيادة نفعٍ وهو عملها.
فمثلاً: الإبل تستعمل للحرث، وتستعمل لنقل البضائع، وكانت تسمى الإبل: القطار، وإلى الستينات كانت السيارات نادرة، حتى (الجاز) يحمل في التنك من ينبع على ظهور الإبل، وكذلك الحبوب وكل البضائع، فيأتي قطار الإبل فيه حوالي خمسين أو ستين بعيراً مربوطة ومقطورة بعضها في بعض، فتدخل من باب العنبرية وتأتي إلى المناخة، ثم يأتي التجار فيأخذون بضاعتهم.
فهذه إبل عوامل، فهي عند مالك تزكى؛ وهنا ابن عبد البر لم يقل: مالك أو عمر ، وإنما قال: (ومن أوجب الزكاة في الإبل العوامل، ومنعها في الحلي المستعمل فقد اضطرب قياسه).
إذاً: هذا خلاصة ما يمكن أن يأتي به إنسان في عجالة مثل هذا الوقت، ويلقي الضوء على الخلاف الموجود، وجوانب الاستدلال لكلا الطرفين.
وفي النهاية نقول بما قال السلف رضوان الله تعالى عليهم: بأن الأحوط في ذلك إنما هو الزكاة.
قالوا: إنها في تقدير نصابها تقدر بالوزن، هل بلغت وزن العشرين مثقالاً أم لا؟
وفي زكاتها تقدر بالقيمة، وكذلك ما أعد للتجارة من الذهب والفضة، فهي عند التاجر يقدر نصابها بالوزن، وتخرج زكاتها بقيمتها في السوق؛ لأنها عروض تجارة، والنصاب قدره مائة جرام، والتاجر عنده مئات الآلاف، فينظر كم قيمتها تجارياً وكم تباع اليوم، ثم تزكى قيمتها على أنها عروض تجارة.
وأجمعوا على أن حلي الذهب والفضة إذا لابسه جواهر أخرى: فصوص من الياقوت أو الفيروز أو الزمرد أو الماس، فتقدر الجواهر النفيسة على حدة، ويقدر وزن الذهب على حدة؛ حتى إذا استكمل وزنه نصاباً زكي، ويعمل في ذلك بالتحري؛ فإنه يزكى على أنه حلي مستعمل على قول من يقول بزكاته.
وبالله تعالى التوفيق.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر