الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فيقول المصنف رحمه الله: [ وعن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده رضي الله عنهم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (في كل سائمة إبل في أربعين بنت لبون، لا تفرق إبل عن حسابها، من أعطاها مؤتجراً بها فله أجرها، ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله، عزمة من عزمات ربنا، لا يحل لآل محمد منها شيء) رواه أحمد وأبو داود والنسائي ، وصححه الحاكم ، وعلق الشافعي القول به على ثبوته ].
وهذا الشرط عام في جميع بهيمة الأنعام، فإذا كان يمتلك أربعين من الغنم وهو نصاب، ولكنه يتكلف العلف إليها بأن يزرع لها البرسيم، أو يشتري لها الشعير أو يزرعه، فهذه تسمى معلوفة، والسائمة هي التي يسرح بها الراعي تسوم في أرض الله، تأكل من النباتات والعشب الذي ينبته الله في الأرض عن طريق الأمطار، ولا يتكلف لها علفاً.
وهنا يبحث الفقهاء فيما لو كانت بهيمة الأنعام سائمة نصف الحول؛ بأن جاءت الأمطار ونبت العشب، ورعت بهيمة الأنعام من هذا العشب ستة أشهر، ثم انقضى العشب في الخلاء، واضطر إلى أن يشتري لها العلف، فعلفها ستة أشهر، فيقول بعض الفقهاء: عليه نصف الزكاة؛ لأنها استوفت شرط الزكاة وهو حولان الحول، ونصف الشرط الآخر وهو السوم، فإذا كانت أربعين شاة فعليه نصف شاة، وإذا كانت مائة وواحدة وعشرين شاة فيها شاتان فعليه شاة واحدة.
وهكذا يجزأ الواجب على بهيمة الأنعام بالنسبة إلى السوم والعلف، فإن كانت سائمة طيلة العام فعليه الزكاة كاملة، وإن كانت معلوفة طيلة العام فلا زكاة عليه، وإن كانت سائمة تارة ومعلوفة تارة فبحسب ذلك يؤخذ منه الزكاة.
قوله: (ومن منعها): هناك فرق بين (من منعها) و(من جحدها) فالجحود لما ثبت أنه من الدين بالضرورة كفر عياذاً بالله! الامتناع من العطاء أو الامتثال معصية.
ونذكر ما فعله الصديق رضي الله تعالى عنه مع مانعي الزكاة، فبعد انتقاله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى كان موقف الناس من الزكاة على عدة أقسام:
منهم من كان من قال: انتهى أمر الزكاة فلا زكاة، وجحد استمرار وجوبها، ومنهم لا زال مقراً بالزكاة ولكن قال: أنا أخرجها بنفسي، ولا أدفعها لـأبي بكر ، هذه أموالنا ونحن مسئولون عنها، فنحن نقسم زكاتها.
وكان الأكثر قد جحدوا الزكاة، وصاحب ذلك ردة بعض القبائل.
فقام الصديق رضي الله تعالى عنه وأعلنها قائلاً: (والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة). وهذا في حق (من جحدها)، وقال: (والله لو منعوني عَقالاً -أو عِقالاً أو عَناقاً- كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه).
إذاً: قام بالأمر، وعمر رضي الله تعالى عنه استوضح في الأمر، وقال: (أتقاتل قوماً يشهدون أن لا إله إلا الله! -هذا في غير المرتدين- فقال: يا عمر ! أجبار في الجاهلية وخوّار في الإسلام؟! ألم يقل: (إلا بحقها) أي: من قال لا إله إلا الله بحقها، ومن حق لا إله إلا الله إيتاء الزكاة، فيقول عمر : (فرأيت أن الحق مع أبي بكر، فشرح الله صدري لما قال أبو بكر ).
فسموا قتال أبي بكر لمانعي الزكاة مع غيرهم: قتال الردة أو حرب أهل الردة، وليس من منع الزكاة مرتداً كمن قالوا: نحن نخرجها بأنفسنا، ولكنه افتيات على ولي الأمر؛ لأن الله سبحانه أوجب على ولي الأمر أن يقوم فيها؛ لقوله سبحانه: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً [التوبة:103] وهذا فعل أمر موجه للنبي صلى الله عليه وسلم، والخليفة من بعده يقوم مقامه، وهكذا كل من ولي أمر المسلمين فإنه يقوم مقامه صلى الله عليه وسلم فيما يجب على الإمام: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ [الحج:41]، فالزكاة قرينة الصلاة في وجوبها، ومهمة أخذها وتوزيعها على من يتولى أمر المسلمين.
وتقدم لنا بأن صدقات المسلمين تؤخذ على مياههم، يأخذها نواب ولي الأمر، فيذهبون إليهم ويحصون ما عندهم، ويأخذون ما وجب عليهم.
ومعنى (عناقاً): هو ولد الشاة الصغير، ومعنى (عَقالاً) بالفتح: نصيب الزكاة في السنة، ومعنى (عِقالاً) بالكسر: الحبل الذي يكون في عنق البعير يعقل به حتى لا ينهض قائماً، فلكأنه يقول: لو أعطوني الإبل التي كانوا يعطونها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ونقصوا عقال واحدة منها لقاتلتهم عليه، فإذا كان سيقاتلهم على الحبل الذي يعقل به البعير هل يتركهم فيما وجب من بنت مخاض ولبون وحقة وجذعة ومسنة؟
ثم يقول صلى الله عليه وسلم: (من أعطاها مؤتجراً) طالباً الأجر (فبها ونعمت، ومن منعها) -أي: غير جاحد (فإنا) بالتأكيد (آخذوها) أي: بالقوة (وشطر ماله) والشطر: النصف، فلماذا يأخذ شطر ماله؟
قالوا: هذا من باب العقوبة بالمال، والحديث فيه تتمة: (وإنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد).
هذا التدليل مهم جداً؛ لأنه صلى الله عليه وسلم يقول: من منعها أخذناها بالقوة، والقوة تحتاج إلى قتال، والقتال يحتاج إلى رجال، والمقاتلة لابد فيها من ضحايا، فنضحي ببعض المسلمين من أجل دفع الزكاة! فما حظه صلى الله عليه وسلم منها حتى يقاتل عليها؟
يقول: أنا كلفت بأخذها: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ [التوبة:103]، ووجب علي القيام بهذا الواجب، مع أني لا حظ لي فيها، أي: فيقوم فيها لمصلحتكم أنتم، فقيامه صلى الله عليه وسلم في الزكاة فمصلحة لمصلحة الأغنياء والفقراء، فمصلحة الأغنياء: إبراء ذمتهم، ومصلحة الفقراء: إيصال حقهم إليهم.
وما يدري الفقير متى غناه ما يدري الغني متى يعيل
وما تدري وإن ضمرت صقباً لمن يكون ذاك الفصيل
فلو ولدت الناقة وأنت قمت على الفصيل الصغير ونظفته وهذبته وفعلت كل شيء، فإنك لا تدري هو لك أو تذهب وتدعه لغيرك.
إذاً: الابتلاء بالمال في الغنى وفي الفقر امتحان من الله للعبد؛ أيشكر الغني على غناه؟! ويصبر الفقير على فقره؟! فمن هنا كان هذا الحق مع كرامة المسكين، فإنه لم يقل له: اذهب وخذ حقك من الأغنياء؛ لأنهما ربما يعطونه وربما يماطلونه أو يعقدون الوجه في وجهه، ولذا كلف الرسول الكريم -وهي لا تحل له- بأن يقوم عليها ويأخذها، ومن امتنع قاتله وأخذها عنوة، وأخذ شطر ماله.
قالوا: نعم، وهذا دليلها.
ثم قالوا: في الغاصب أيضاً إذا كان قد أنشأ فيما غصب زرعاً أو بناءً هدم عليه؛ عقوبة له على غصبه.
إذاً: العقوبة المالية موجودة، ولكن بعض المتأخرين -وخاصة شارح هذا الكتاب- يقول: إننا إذا وسعنا الأمر لولاة الأمر في العقوبات المالية فلربما تطلعت نفوس الضعفاء منهم إلى أموال الرعية، فتذرعوا بأوهى الأسباب ليأخذوا الأموال قهراً، وليأخذوها بغير حق، وبادعاء أنها عقوبة مالية، ولذا نقول: لا ينبغي أن يتعدى ولي أمر في عقوبة مالية إلا ما ورد به الشرع.
وهنا قال: (أخذناها وشطر ماله)، الشطر: النصف (عزمة من عزمات ربنا) أي: ليس فيها هوادة ولا تساهل.
ولكن في الوقت الحاضر يوجد أناس من آل البيت، وكان لهم في السابق سهم في الخمس، وكانوا يأخذون ما يكفيهم من خمس الغنائم من سهم الله ورسوله وذوي القربى، وكانوا يستغنون بذلك، فالآن لا خمس ولا سدس، فقد تعطل حقهم في المال.
فإذا وجد من آل البيت من يستحق الصدقة لو لم يكن من آل البيت؛ أنتركه يجوع لأنه من آل البيت، أم أننا نعطيه بصفة الفاقة والحاجة ويكون قد أخذ لا لأنه من آل البيت، بل لأنه فرد مسلم مستحق محتاج؟
والذي حرمها على آل البيت ما قاله صلى الله عليه وسلم: (إن هذه الصدقة أوساخ الناس) ولا يليق بآل بيت رسول الله الذين يريد الله أن يطهرهم تطهيراً أن يتناولوا أوساخ الناس، ولكن ما دام الحق الأساسي قد تعطل عليهم، وأصبحوا بصفة الفقر أو الحاجة كغيرهم، فإذاً يعطون من الزكاة.
وقد وقع الخلاف في عامل الزكاة إذا كان من آل البيت: وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا [التوبة:60]؛ أيأخذ أجره من الزكاة؟ فبعض العلماء يقول: لا يكون العامل من آل البيت حتى لا يأخذ أجره من الزكاة التي هي أوساخ الناس.
وبعضهم يقول: هو يأخذ بعمله لا بكونه من آل البيت.
والآخرون قالوا: إذا احتيج إليه فإنه يعمل ويأخذ أجره من بيت مال المسلمين الذي يمون بالفيء والغنائم.
والذي يهمنا هنا قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تحل لمحمد ولا لآل محمد)، وهذا كان معمولاً به في السابق كما في قصة بريرة مولاة عائشة رضي الله تعالى عنهما، حيث اشترتها وأعتقتها، فتصدق بلحم على بريرة ؛ لأنها ليست من آل البيت، بل هي مولاة لهم، (مولى القوم من أنفسهم).
فجاء صلى الله عليه وسلم وطلب الغداء، فقدم إليه الخبز والملح والخل، فتساءل عن سبب تقديم (الخبز والملح والخل وهو يرى البرمة تغط على النار؟ قالوا: إن ما فيها لا يصلح لك؛ لأنه لحم تصدق به على بريرة ، فقال صلى الله عليه وسلم: (هو عليها صدقة، ولنا منها هدية. وأكل منه).
وجاء عنه صلى الله عليه وسلم (أنه كان يمشي ومعه
وهناك من يتكلم على هذه اللفظة (وشطر) فيقول: إن العقوبة بالمال لا تأتي، وإن الرواية (وشُطِرَ ماله)، بمعنى: قسم ماله قسمين: قسم خيار المال، وقسم رديء المال، ويأتي المصدق ويتخير من خيار المال، يعني: هو كان يمتنع من تقديم الزكاة من وسط المال، فجاء عقوبة له أن تؤخذ من خيار ماله رغماً عنه، ولكن الجمهور على اللفظ الأول: (آخذوها وشطْر ماله) أي: ونصف ماله معها عقوبة له على منعه للزكاة.
انتهى المؤلف رحمه الله من جميع ما يتعلق ببهيمة الأنعام، وجاء إلى النقدين: الذهب والفضة، فذكر هذا الأثر عن علي رضي الله تعالى عنه.
ثم النقاش في هذا الأثر برمته أهو موقوف على علي من كلامه، أم هو مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعلي ينقله عن رسول الله؟
على كلا الحالتين علماء الحديث يقولون: سواء كان موقوفاً على علي أو كان مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإن فله حكم الرفع، فهو مرفوع بالفعل أو له حكم الرفع.
قالوا: لأن فيه الكلام على تشريع في ركن أساسي، وبيان أنصباء الأموال وما يجب فيها، وليس هذا محل اجتهاد، فلا يتأتى لـعلي ولا لغيره أن يتكلم في هذا المجال من عنده، والحق في ذلك أنه بيان لمجمل في كتاب الله: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:43] وقال تعالى: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [التوبة:34]، فمن الذي يبين لهم الزكاة حتى لا تكون كنزاً، ويسلمون من أن تكوى بها جباههم وظهورهم؟ لا يكون ذلك إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: لا حاجة إلى البحث في سند الحديث مادام أنه صح عن علي رضي الله تعالى عنه، فهو إن كان موقوفاً عليه فله حكم الرفع، وإن كان قد رفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فهو المطلوب.
قوله: (ففيها خمسة دراهم) فخمسة دراهم تخرج من (200درهم)، (200÷5=40)، أي ففي كل (40 درهم) درهم درهماً واحداً، فيكون المخرج (1.4) فننسبه مئوياً وعشر الأربعين هو (1.10×40=4)، وربع الأربعة هو (1.4×4=1)، فهو ربع العشر وهو (2.5%)، فهذه النسبة ثابتة في الذهب والفضة.
والذي يهمنا هنا: اشتراط بلوغ النصاب في الفضة مائتي درهم، واشتراط حولان الحول، وعليه فلا زكاة في الفضة إلا بامتلاك نصاب كامل، ويبقى هذا النصاب مخزوناً بلا حاجة تدعو إليه سنة كاملة.
إذاً: ما دام أن لديه مائتي درهم، ومرت عليه سنة وما احتاج منها إلى شيء، فهو غني، ولو كان فقيراً لأخذ منها، لكن هذه الدراهم نائمة مستريحة ما حرك فيها ساكناً، فهو في غنى عنها، سواء كانت من صناعة أو تجارة أو زراعة، فمن كان عنده رأس مال نائم لم يحركه لحاجة ولا ضرورة، فهذا غني، وهذا من الإرفاق بالغني فلا تؤخذ زكاة ماله إلا إذا ثبت غناه، وما الذي يثبت غناه؟ وجود النصاب سنة كاملة ما امتدت يده إليه.
ومن ناحية أخرى: عنده مائتان، أخذنا منه خمسة وهي:(2.5%)، فهي نسبة ضئيلة جداً لا تؤثر عليه؛ فهذا إرفاق به مرة أخرى.
ومن هنا نجد الزكاة مبنية على الإرفاق بالغني، كما هي مشروعة للإرفاق بالفقير، ومن الإرفاق بالغني اشتراط حولان الحول؛ لأنها علامة على غناه، ومن الإرفاق به أن يكون الجزء المأخوذ ضئيلاً جداً لا يؤثر عليه، وما يؤخذ من الغني كثير أو قليل فهو إرفاق بالفقير كما قيل:
بث الجميل ولا تمنعك خلته فكل ما سد فقراً فهو محمود
وكما قال صلى الله عليه وسلم: (لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة) أي: رجل شاة محرقة لا تحتقره المرأة في أن تهديه لجارتها، لتذهب فتشويه أو تسلقه حتى تحصل منه شيئاً، وقد سمعنا في بعض القصص أنه مر على المدينة سنين جوع، كانوا يتبعون جلود الحيوانات فينفضونها ويدقونها، ويصنعون منها طعاماً.
فإذاً: لا تحتقر شيئاً، وفي الحديث: (اتقوا النار ولو بشق تمرة) .
امرأة مسكينة تأتي إلى بيت رسول الله فتجد أم المؤمنين عائشة وبيدها قطف عنب فتسألها، فتعطيها حبة مما في يدها، فتأخذها المرأة وتنظر فيها تستقلها، فقالت لها عائشة : يا أمة الله! انظري كم فيها من ذرة، والله يقول: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه [الزلزلة:7] تستكثرها.
والمرأة التي شقت التمرة شقين، وأعطت كل شق لطفلة من بناتها، ثم أخذت النواة تمصها، اجتزأت بهذا.
إذاً: كل ما يؤخذ من الغني للفقير قليلاً كان أو كثيراً فهو كل ما سد فقراً، فهو محمود.
إذاً: يبين لنا علي رضي الله تعالى عنه بأنه لا تجب على الإنسان في الفضة زكاة حتى يمتلك مائتي درهم، ولا زكاة عليه في المائتي درهم حتى يحول عليها الحول.
قوله: (وليس عليك شيء حتى يكون لك عشرون ديناراً وحال عليها الحول، ففيها نصف دينار، فما زاد فبحساب ذلك).
جاء علي رضي الله تعالى عنه هنا ببيان نصاب الذهب فقال: (لا شيء عليك في الذهب حتى تمتلك عشرين مثقالاً) ومسمى المثقال والدينار واحد، فالدينار: اسم للوحدة النقدية، والمثقال: اسم للوحدة الوزنية، وكما تقدم بأن نسبة الدرهم إلى الدينار هي: كل عشرة دراهم تزن سبعة مثاقيل، أي: أن المثقال درهم وثلاثة أسباع.
قوله: (ولا زكاة عليك حتى يحول عليها الحول) أي: كشأن الفضة، فإذا امتلكت عشرين مثقالاً وحال عليها الحول فعليك فيها نصف مثقال، النصف في العشرين كم يعادل في المائة؟ واحد في الأربعين، والمائة فيها أربعون وأربعون أخرى، ونصف الأربعين، فتكون هي 2.5%.
هذه قضية عامة يذكرها علي رضي الله تعالى عنه، وهذا بالإجماع في بهيمة الأنعام، وفي النقدين (الذهب والفضة)، وفي عروض التجارة.
أما المال الذي يأتي عن طريق إنبات الأرض فليس فيه حول، قال تعالى: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعام:141] فيزكى عنه عند حصوله، فإذا استوى التمر وجذ وجفف وكان قد خرص قبل أن يجذ، فيؤدي الزكاة يوم أن جف التمر، وكذلك الحبوب نصابها -على ما سيأتي- خمسة أوسق، عندما يصفي الحب، تخرج زكاته.
إذاً: (ولا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول) هذا عام، ولكن يراد به مخصوص، وهو بهيمة الأنعام، والذهب والفضة وعروض التجارة، وما عداها ففيه التفصيل، أما الزروع والحبوب فيوم حصاده، وأما اللقطة أو الكنز أو ما وجد دفيناً -الركاز أو المعدن- أو غير ذلك فله تفصيل آخر يأتي في محله إن شاء الله.
هذا الأثر عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يقول: (من استفاد مالاً) هذه المسألة يبحث فيها الفقهاء المال المتجدد أثناء الحول، فمثلاً: عندك مال قدره مائتا درهم، وليكن هذا المال من التجارة، فيزيد ويزيد إلى أن يأتي نهاية الحول وقد صارت المائتان ألفاً، فعند تقدير العروض في نهاية الحول تزكي ما وجد عندك، ولا تقتصر على زكاة أول ما ابتدأت به.
فإذا كنت بدأت الكسب بالتجارة أو الموظف يوفر من راتبه كل شهر شيئاً، إلى أن بلغ التوفير نصاباً، فيبدأ حساب الحول، فإذا وصل إلى نهاية الحول من يوم ما تم عنده النصاب، وفي أثناء ذلك كان يضم توفيراً مع توفير لشهر مع شهر، إلى النصاب، فكل ذلك يتبع الأصل الأول، وفي نهاية الحول ينظر ماذا اجتمع عنده حتى الراتب الأخير الذي هو قبل الحول مباشرة، ويزكي الجميع.
فكذلك التاجر: ينظر ماذا ربح، وماذا وجد عنده من أول ما بلغت تجارته النصاب إلى أن يحول الحول، وفي نهاية الحول ينظر كم وجد عنده؟ خمسة أنصبة أو ستة أو أكثر أو أقل، فيزكي تجارته بما فيها ما دخل عليه قبل الحول بيوم واحد، ولا نقول: له حول جديد؛ لأن أصله واحد وهو التجارة، وكذلك الموظف أصل ماله وهو الوظيفة.
لكن هذا التاجر وذاك الموظف إذا استفاد مالاً آخر أثناء الحول، سوء في منتصف الحول أو قبل تمام الحول بشهرين أو ثلاثة بأن جاءه ميراث مثلاً، فهل المال الذي جاءه من الميراث تابع للتجارة أم مستقل؟ مستقل.
فعلى هذا يقول ابن عمر : يجعل له حولاً جديداً، فحول التجارة وحده ويزكيها في نهاية الحول، وحول الميراث يمضي في طريقه حتى إذا حال عليه الحول عنده زكاه، وبهذا القول يقول الشافعي رحمه الله: أعني أن من استفاد مالاً أثناء الحول اعتبر له حولاً جديداً.
أما الجمهور فيقولون: المال واحد، سواء جاء بالتجارة، أو جاء بالميراث، أو جاء بالهبة، أو جاء بغيره فكله دخل في ملكه وصندوقه، ينظر في نهاية الحول ويزكي الجميع.
تقدم الكلام على أنصباء البقر وأنه في كل ثلاثين تبيع، وفي كل أربعين مسنة، وهذا مطلق في عموم البقر، فجاء المؤلف بأثر علي رضي الله تعالى عنه ليقيد ذاك العموم وهو قوله: (ليس في البقر العوامل صدقة)، أي: في كل أربعين تبيع إذا لم تكن عوامل.
والبقر العوامل جاء الأثر أنها التي تثير الأرض، أي: تستخدم في الحرث للزراعة، وقد تستخدم في جر العربات أو في السواني -أي: في نضح الماء- إلى غير ذلك، وذلك أن عمل البقر فيما يتعلق بالزراعة سيترتب عليه ثمرة، وهي إما ثمرة الشجر كنخل وعنب وزيتون، وإما حب ذرة وشعير وغيره على ما سيأتي تفصيله إن شاء الله.
وإذا كان ما تعمله البقر ستؤخذ زكاته يوم حصاده فلا يتأتى أن تؤخذ زكاة الحبوب أو الثمار الناشئ عن عمل البقر، ثم تؤخذ الزكاة من البقر الذي نشأ عن عمله تلك الثمار أو الزروع، وهو ما يسمى يعبر عنه بعض المعاصرين بقولهم: (لا ثنية في الزكاة) يعني: لا تؤخذ الزكاة من مال مرتين.
وكونه يقول: (موقوف على علي). تقدم التنبيه على مثل ذلك الموقوف أنه تشريع، والتشريع لا يكون بالاجتهاد ولا بالرأي، فله حكم الرفع، وعليه يكون علياً رضي الله تعالى عنه قد سمع ذلك من الرسول صلى الله عليه وسلم، وذكر ما سمعه دون أن يسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وتقدم هذا في عدة أحاديث في باب الزكاة.
ونذكر الإخوة بأن علياً رضي الله تعالى عنه كانت عنده صحيفة، فلما سئل: (هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم آل البيت بشيء من العلم دون الناس؟ -هل أعطاكم علماً لم يعطه لأحد غيركم؟ قال: لا؛ إلا فهم أوتيه رجل في كتاب الله، وما في هذه الصحيفة. قالوا: وما فيها؟ قال: أنصباء الزكاة، والعقل، وفكاك الأسير) .
إذاً: علي رضي الله تعالى عنه كانت عنده صحيفة كما كتب أبو بكر رضي الله تعالى عنه لـأنس الكتاب الذي بيَّن فيه أنصباء الزكاة، وما كانت كتابة أبي بكر عن رأيه هو، ولكنه عن سماع سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن إيجاب الزكاة فريضة، وإسقاطها يكون إسقاطاً للحق.
فكون علي رضي الله تعالى عنه يقول: (ليس في البقر العوامل زكاة) فيه إسقاط حق الفقراء في هذه الأبقار، وعلي لا يملك أن يسقط حقاً أوجبه الله في قوله سبحانه: وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [الذاريات:19] إذاً: علي لن يقول مثل ذلك إلا إذا كان عن سماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا الحديث وإن كان في البقر فإنه يرد قول المالكية بأن في الإبل العوامل زكاة، ووجهة نظر مالك رحمه الله أن الإبل من حيث هي مال ينمو بالتناسل، فإذا ملك منه النصاب فعليه الزكاة، وما كان منها من العمل فـمالك يقول: هذا العمل من هذه الإبل زيادة منفعة لصاحبها، فالتي لا تعمل ولا يستفيد منها إلا زيادة النماء والنسل فيها زكاة، فمن باب أولى إذا كان فيها النماء والنسل ومع ذلك تعمل، فعملها زيادة فائدة، ففيها الزكاة.
ولكن الجمهور -كما أشرنا- لم يأخذوا من الإبل ولا من البقر العوامل زكاة؛ لأن عملها سيترتب عليه فائدة فتؤخذ الزكاة من تلك الفائدة، فلا نعود عليها بأن نأخذ زكاتها مرة أخرى، اللهم إلا أن تكون عروض تجارة، كأن يتاجر في الإبل ويشغلها، ويتاجر في البقر ويُعملها، فخرجت عن زكاة بهيمة الأنعام بأنصبائها: ثلاثين وأربعين وغيرها، وخرجت عما يخرج فيها من تبيع ومسنة، وعن بنت مخاض وبنت لبون، ودخلت في عروض التجارة، فتقدر قيمتها، ويخرج من مجموع القيمة قدر (2.5%)، وليس فيها وقص كما في أصل بهيمة الأنعام، بل تعامل معاملة عروض التجارة.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر