الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فيقول أبو بكر: (ولا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة، وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية، ولا يخرج في الصدقة هرمة، ولا ذات عوار، ولا تيس إلا أن يشاء المصَّدق، وفي الرقة في مائتي درهم ربع العشر، فإن لم تكن إلا تسعين ومائة فليس فيها صدقة إلا ن يشاء ربها).
فـالصديق رضي الله تعالى عنه في هذا الخطاب، بعدما بين أنصباء الإبل وما يدخل فيها، وأنصباء الغنم وما يؤخذ فيها، بقي من بهيمة الأنعام البقر، والجاموس في بعض البلاد، أما البقر فجاء فيه النص في غير هذا الخطاب، وهو: في كل ثلاثين تبيع أو تبيعة، وفي كل أربعين مسن أو مسنة، والبقر قليل في بلاد العرب، وكانوا يتهاجون باقتنائها، والذي يكثر هو الإبل والغنم.
والفقهاء قاسوا الجاموس على البقر، وألحقوه به في هذا الباب، ولما بيّن الصديق رضي الله تعالى عنه أنصباء الإبل والغنم جاء بالتنصيص على مسألة يكثر وقوعها بين أصحاب بهيمة الأنعام، وهي: الخلطة، وتعريفها: هو أن يأتي صاحب قطيع من الإبل أو قطيع من الغنم إلى شخص آخر له قطيع من الإبل أو من الغنم فيجمعانهما معاً، فهذه خلطة.
أما شركة الأوصاف، فمثالها: رجل هذا عنده خمسون شاة مميزة كل شاة بعينها، فلو اختلطت مع غنم الآخرين استطاع أن يميزها ويخرجها على حدة؛ لأنها معروفة بصفتها.
فالشركة بمقتضى الملك تكون بين جماعة ورثوا رءوساً من الغنم أو اشتروها معاً، أو إنسان نزل إلى السوق بمائة رأس فاشتراها اثنان أو ثلاثة أو أربعة بالشراكة، فصارت المائة من الغنم مملوكة للأربعة المشترين كل بحصته من الثمن، ولو أن كل واحد من الأربعة دفع ربع الثمن فإنهم يكونون شركاء كل واحد بالربع، وكيف يكون شريكاً بالربع؟ كل واحد له في كل شاة ربعها؛ لأنها على المشاع، فإذا ما اقتسموا المائة وكل واحد أخذ خمساً وعشرين شاة أصبحت الخمسة والعشرون في يد كل واحد ملكاً خاصاً، فإذا خلطوها بعد ذلك، صارت شركة أوصاف مشاعة لا شركة أعيان، لأن كل شخص يعرف حقه.
إذاً: خلطة بهيمة الأنعام تنقسم إلى قسمين: خلطة أعيان، كل واحد له نصيب في الجميع مشاعاً، وخلطة أوصاف، فخلطة الأعيان هم شركاء فيها، والزكاة فيها عليهم جميعاً، لكن خلطة الأوصاف هي محل البحث هنا، فعندما يكون أربعة أولاد ورثوا عن أبيهم مائة شاة، وجاء المزكي فوجد المائة الشاة، فقال: لمن هذا؟ فقيل له: لورثة فلان. فإنه سيأخذ الزكاة من المائة على الجميع، إن كانت أربعين، أو مائة، أو أربعمائة فإنه سيأخذ زكاة الجميع على الجميع، وهذه ليست موضوع بحثنا.
فإذا جئنا إلى خلطة الأوصاف، وجاء اثنان كل واحد منهما له عشرون شاة، والمجموع أربعون، فإنه إذا جاء المزكي ووجد الأربعين، هنا يقول: لا يجمع بين مفترق ولا يفرق بين مجتمع، ولو جاء عامل ووجد زيداً عنده عشرون شاة، ووجد عمراً عنده عشرون شاة، كلها مفترقة، فلا يجمع بينها، فيها أخوان من منطقة واحدة، على بئر ماء واحد، ويرعيان في مرعى واحد، كل واحد يرعى ملكه، وآخر النهار يرجع بها إلى بيته، فكل واحد من الأخوين يملك عشرين منفردة، فإذا جاء العامل ووجد الأربعين ترعى معاً فلا يقول: مجموع الأربعين نأخذ فيها شاة. لأنها مفترقة فلا تجمعها، فكل واحد من الأخوين عنده عشرون شاة، وصاحب العشرين لا زكاة عليه، فلا يجمع بين مفترق ليكمل النصاب ويأخذ الشاة، بل يتركها على ما هي عليه، ليس فيها زكاة.
إذاً: صارت الأربعون في حكم المال الواحد، تذهب مع بعضها وتأتي مع بعضها، ولها راع واحد يرعاها، وكبش واحد يلقحها، وتشرب من ماء واحد على حوض واحد، صارت هذه خلطة، واكتملت فيها الشروط، فإذا جاء العامل ووجد الأربعين على هذه الصفة فإنه لا يفرق بينهما فيقول: خذ عشرينك واذهب، وأنت خذ عشرينك واذهب.. بل يأخذ منهما الزكاة.
فخلطة بهيمة الأنعام تجعل المال المختلط كمال رجل واحد، فإذاً في هذه الحالة يأخذ شاة من الأربعين ولا يفرق بين مجتمع.. هذه هي الصورة.
عند أحمد رحمه الله مال الخليطين أو الخلطاء إذا كان مجموعه نصاباً، فإنه يزكى ولو لم يكن لكل واحد من الخلطاء نصاب كامل، فلو وجد أربعون شخصاً، لكل واحد شاة، وخلط الأربعون -على ما تقدم- وجاء العامل فوجد أربعين شاة عند راع واحد على بئر واحد وهي خلطة، فإنه يأخذ شاة من الأربعين، وإن كان لا يوجد في الأربعين الخلطاء نصاب مستقل، بل ينص ابن قدامة في المغني: لو أن الأربعين بين اثنين، واحد له تسعة وثلاثون، والآخر له واحدة، أو أجر صاحب الأربعين أجيراً يرعاها على شاة من الأربعين، وجاء العامل فهم خلطاء؛ لأن الراعي له واحدة أكملت الأربعين، فهم خلطاء، فالعامل يأخذ شاة، ولا يجمع بين مفترق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة.
إذاً: الخلطة تجعل المال المختلط كمال رجل واحد.
وعند أحمد رحمه الله: حتى لو كان لكل واحد شاة، ولو كان لأحدهما ثلاثون والثاني له عشر، فكذلك.
أما مالك رحمه الله فيقول: لا تأثير للخلطة إلا إذا كان لكل واحد نصاب.
إذا كان ثلاثة أشخاص كل واحد يملك أربعين شاة، ولكن كل يرعى غنمه على حدة، وكل أربعين فيها فحلها، ولها راعيها، ومراحها ومسرحها، وبئرها أو حوضها الذي تشرب منه، حتى وإن كانوا يردون بئراً واحدة، لكن لكل صاحب أربعين حوض من الجلد يملؤه ويسقي غنمه، فإنهم يكونون مفترقين، فإذا جاء العامل أخذ من كل واحد شاة؛ لأن كل واحد امتلك أربعين منفردة عن الأخرى.
وأما إذا جاء ووجد الثلاثة قد خلطوا الثلاث الأربعينات مع بعض، وتمت صفة الخلطة: فالراعي واحد، والفحل واحد، والمحلب واحد، والحوض الذي يشربن منه واحد، والمبيت في محل واحد، أي: أنه تمت شروط الخلطة، فإن العامل على جمع الصدقة يأخذ شاة واحدة.
إذاً: في حالة الافتراق على كل واحد شاة، وفي حالة الاجتماع تخرج شاة عن الجميع، لكن لو زادت واحدة ولو من أحد الثلاثة يكون فيها شاتان، فالثلاث الأربعينات اجتمعت وفيها شاة واحدة، لأن خلطة المال جعلته كأنه الشخص الواحد.
وعندما جاء العامل وأخذ شاة فلابد أن تكون من شياه واحد من الثلاثة، فهل يتحمل عنهم زكاة غنمهم؟ لا.
(ولا يجمع بين مفترق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة) أي: لا يأتي هؤلاء الثلاثة ويقولون: والله العام القادم سنخلط. بالأمس كان كل شخص بمفرده، فيجمع بعضهم إلى بعض من أجل أن يأتي العامل ويجد مائة وعشرين شاة فيقولون له: خذ شاة واذهب. ثم يرجعون إلى الانفراد، هذا لا يجوز، ولا أن يأتي العامل ويقول: لمن الغنم هذه؟ فيقولون: لزيد وعبيد وعمرو ولكنها هي خلطة، فيقول: فرقوها. من أجل أن يحصل على ثلاث شياه، فهذا لا يجوز، لأنه إذا تمت الخلطة فلا يفرق بين مجتمع ولا يجمع بين مفترق خشية الصدقة.
وما كان من خليطين فأكثر فإنهما يتراجعان أو يتراجعون بحسب ملكهم، فمثلاً: عندنا ثلاثة، وملكهم متساوٍ، فكل واحد له أربعون شاة، فعلى كل واحد ثلث شاة، فإن كان المأخوذ من مال زيد فله عند كل من الخليطين ثلث شاة، فنقدر قيمة الشاة التي أخذها العامل، فإذا قدرت بثلاثين ريالاً، فكل واحد من الخليطين يدفع له عشرة ريالات.
لو قدر أن المائة والعشرين بين اثنين، واحد له أربعون شاة، وآخر له ثمانون، وتمت الخلطة، وجاء العامل، لا نفرقهم حتى يأخذ شاة من صاحب الأربعين وشاة من صاحب الثمانين، وكذلك هم لا يجتمعون عندما يسمعون بمجيء العامل؛ لأنهم اشترطوا في صحة تأثير الخلطة أن تكون الخلطة طيلة العام، أما إذا كانوا منفردين وفي نهاية العام خلطوا، قالوا: لكي يأتي العامل ونحن مجتمعون فلا يجوز، وإذا جاء العامل وهم على خلطتهم، وتمت شروط الخلطة، فلا يفرق بينهم، بل يأخذ شاة واحدة، ويتراجعان فيما بينهما بالسوية، إن كانت أخذت الشاة من صاحب الأربعين فعلى صاحب الثمانين ثلثي الشاة، وإن كان أخذها من صاحب الثمانين فصاحب الثمانين له على صاحب الأربعين ثلث الشاة.
الإمام مالك يقول: إذا كانت الخلطة بين أربعين وثمانين فهذا صحيح، لكن لو وجد واحد له ثلاثون وآخر له عشر شياه، فهذه ليس لها تأثير؛ لأن كلاً منهما لا يملك النصاب، ولم يعتبر مالك تأثير الخلطة إلا إذا كان فيها ملك نصاب من أحد الخلطاء.
طيب! وجدناها خمسين شاة، أربعون منها لواحد وعشر لواحد آخر، قال: هنا الشاة على صاحب الأربعين، وصاحب العشرة ليس عليه منها شيء.
والإمام أبو حنيفة رحمه الله يقول: لا تأثير للخلطة ألبتة، سواء امتلك كل واحد نصاباً كصاحب الأربعين والثمانين أو لم يمتلك أحدهما نصاباً، فكل زكاته على حدة إلا شركة الأعيان، فهذه شركة مشاعة.
هذه الخلطة بهذه الصفة تؤثر، فلو كان مجموع الصنفين قيمته نصاب زكيت على حسبها، وإن كانت قيمة الصنفين لم تصل إلى النصاب فلا شيء فيها، ولو كانت قيمة أحد الصنفين نصاباً والأخرى لم تبلغ النصاب فإنه يشارك في الزكاة؛ لأن عروض التجارة ليس فيها وقص، وإنما إذا بلغ النصاب أخذت الزكاة في النصاب، وما زاد على النصاب فبحسبه.
نحن عندنا في الغنم من الأربعين إلى المائة والعشرين تسمى وقصاً، وتلك الزيادة لا أثر لها، إنما هي شاة واحدة من بلوغ الأربعين، بخلاف الذهب والفضة، فإنه إذا امتلك عشرين مثقالاً تم النصاب، وفيه ربع العشر، فإذا امتلك خمسة وعشرين مثقالاً نقول له: زك الجميع، فلابد أن يزكي الخمسة والعشرين بنسبة زكاة العشرين اثنين ونصف في المائة، فإذا امتلك ثلاثين ديناراً أيضاً زكي الثلاثين بنسبة اثنين ونصف في المائة، إذاً: لا وقص، وحيثما كان لا وقص فالجميع سواء.
وهذا المبحث في كتب الفقه له تفريعات، وله مسائل فرعية عديدة جداً؛ لأن بهيمة الأنعام يشترط فيها الحول، والخلطة يشترط فيها أن تكون حولاً كاملاً، وهي عندهم كالمال المتجدد، فلو ملك ثلاثين في نصف الحول، وعشرة في النصف الثاني، فهل عليه زكاة أو حتى تتم العشرة الحول كاملاً، وكذلك في الخلطة.
فلو أن الخليطين اختلطا في أول الحول، وجاء ثالث وخلط في نصف الحول، فانتهى حول الاثنين وحول الثالث لم يأت بعد، ماذا يكون الحال؟
وهذه تفريعات في الواقع لا يتأتى تناولها بصفة عامة على هذه الحال، وإنما يهمنا بيان الهيكل الأساسي في الخلطة.
ومرة أخرى بالإجمال: الخلطة إما شركة أعيان وإما شركة أوصاف، فشركة الأعيان مشاعة على ما هي عليه، وشركة الأوصاف يكون ملك كل واحد متميزاً بعينه، لكن اختلطا عاماً كاملاً وصحت الخلطة، فيعامل هذا المال المختلط معاملة مال الرجل الواحد، ولو أن كل شخص من الخلطاء امتلك جزءاً من النصاب، وبمجموعهم كمل النصاب أخذت الزكاة، أما لو فرقا وكل امتلك حقه فلا زكاة على واحد منهم.
إذاً: الخلطة قد تنفع الخلطاء وقد لا تنفعهم، بحسب اكتمال النصاب أو زيادته أو النقص منه.
هذا ما يتعلق بخلطة بهيمة الأنعام، أما تأثير الخلطة في غيرها فهذا موضع خلاف فيما يتعلق بعروض التجارة إذا اتحدا أيضاً في الدكان أو المكان، واتحد البائع والميزان أو المكيال أو الذراع أو غير ذلك، ثم يرجع الخلطاء كل على صاحبه بنسبة ملكه في الخلطة.
(ولا ذات عوار) من عور العينين، (أو معيبة) لأن العيب عوار في السلعة، فأي شاة بها عيب فإنها لا تؤخذ في الصدقة؛ لأنه نقص على المساكين، والعوار بمعنى العيب فهو يتفاوت، وبعضهم يقول: العوراء هي الفاقدة إحدى عينيها. وهذه عند الأصوليين فيها نزاع، فعندما يقال في الأضحية: يجب أن تكون الأضحية سليمة من العور فمن الأصوليين من يقول: هذه معيبة لا تصلح أضحية، وكذلك لا تؤخذ في الزكاة، ومنهم من يقول: العوراء هي التي لا تسرح مع الغنم، ولكن تبقى في البيت، وإذا انفردت في البيت عني بها، وجيء لها بعلف يكفيها وزيادة؛ لأنها أصبحت محل عناية من مالكيها، فلربما تكون أسمن من ذات العينين التي تسرح مع بقية الغنم، ولكن الجمهور على أن العور عيب فلا تؤخذ صاحبة العوار في زكاة الغنم.
ويقاس على ذات العور وعلى الهرمة أي عيب في الشاة ينقص من قيمتها، سواء كان في هيكلها أو في لحمها، فإذا كانت مريضة فلا ينبغي أن يأخذها، وإذا كانت مكسورة لا يأخذها، وعلى هذا فكل شاة معيبة في الغنم لا تصح.
وكيف يأخذ؟
قد تقدم لنا ذلك في حديث معاذ : (وإياك وكرائم أموالهم)، فالعامل لا يجوز له أن يصطفي كرائم الغنم ويأخذها، ولا أن يقبل من صاحب الغنم أهونها، إنما يقولون: تقسم الغنم ثلاثة أقسام: خيار، وعوار، ووسط، فيأخذ من الوسط، والعامل مؤتمن فلا يجوز له أن يظلم صاحب الغنم بأخذ خيارها، ولا يجوز أن يغش المساكين فيأخذ الضعيف فيها، إنما يأخذ الوسط.
قوله: (ولا تيس إلا أن يشاء المصدق).
التيس في الغنم هو الذي يعلوها ويطرقها؛ لأن الغنم في حاجة إليه، فيأتي المصدق ويأخذ التيس ويترك الغنم بلا تيس.. وهذه مضرة، ولا يجوز إخراج التيس في الصدقة إلا أن يشاء المصدِّق، أي: صاحب الغنم؛ لأنه قد يكون معه غيره، أو المصدق هو العامل الذي يأخذ الصدقة؛ لأن التيس -أحياناً- لا يساوي الشاة، والعنز خير منه لأنها تنتج، إلا إذا جاء العامل وجمع غنماً كثيراً وسيسوقها ويحتاج إلى تيوس فيها، فيأخذه منه من أجل مصلحة ما بيده من الماعز.
ولو كان عنده خيل ذكور وإناث يؤجرها أو يستعملها في جر العربات أو في الحرث فهذه ليست للنماء فلا زكاة فيها.
وعلى رأي الإمام أبي حنيفة رحمه الله أن في الخيل زكاة، فما نصابها وما يؤخذ منها؟
لم يأت في أي كتاب من كتب الصدقة بيان أنصباء الخيل ولا بيان ما يؤخذ فيها، ومن هنا أخذ الجمهور أن الخيل خارجة عن حدود الزكاة، واستدلوا أيضاً بحديث: (ليس على المسلم في فرسه ولا في عبده صدقة) فقوله: (فرسه) وإن كان مفرداً، لكنه نكرة مضاف فيشمل الجنس، فأخذ الجمهور بأن الفرس أو الخيل لا زكاة فيه.
أبو حنيفة رحمه الله يقول: الزكاة مبناها على النماء، فإذا كانت ثلاثين فصارت خمسين، فهي نامية، فتشترك مع الإبل والغنم في عموم النماء، ففيها زكاة.
كم نصابها؟
قال: في كل فرس دينار.
نحن لا نعهد زكاة مال من غير جنسه إلا عروض التجارة وأوائل الإبل، في الخمس منها شاة، فأخذ غير جنسها في حد معين، ثم من خمس وعشرين انتقلت إلى جنسها، وكذلك عروض التجارة؛ لأن العروض هي عبارة عن دكان فيه سكر وشاي وصابون ونعناع أو حتى خضار، فماذا سنعطي المسكين من هذا؟ فيقدر الجميع، وتعطى الزكاة من مجموع القيمة؛ لأنها مصلحة للطرفين.
فإذا قلتم: الخيل فيها زكاة فبينوا نصابها منها، وما يؤخذ منها فيها.
وقال قوم: ليس فيها زكاة، واستدلوا بأن عمر رضي الله تعالى عنه أتاه قوم من أهل الشام، وقالوا: إنا أصبنا خيلاً نريد أن تأخذ زكاتها طهرة لها. فقال: لم يأخذها صاحباي من قبلي -يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر رضي الله تعالى عنه- فكيف آخذها؟ فاستشار من عنده، فقالوا: خذ منهم ما دام عن طيب نفس، فسأل علياً رضي الله تعالى عنه، فقال علي : لا بأس إلا أن تصبح فيما بعد ضريبة لازمة عليهم، أي: هم الآن جاءوا طواعية ودفعوا، فإذا ذهب هذا الجيل الذي يدفع طواعية، فسيأتي بعدهم أناس معهم خيل، فيقول من كان بعدك: عمر أخذ على الخيل فيأخذ عليهم، وتكون ضريبة لازمة بغير إلزام.
فـعلي قال: لا بأس إذا أخذت ما لم تصبح ضريبة لازمة عليهم. فقال عمر : نأخذها منهم ونردها على عبيدهم، بمعنى انه أخذ زكاة الخيل وفرض لكل فرس ديناراً، وأعطى عبيدهم من بيت مال المسلمين، فالعبيد ليس لهم شيء؛ لأن بيت مال المسلمين للأحرار، ورزق بيت المال للأحرار، والعبيد تبع للأحرار، فـعمر فرض لعبيد هؤلاء الناس من بيت المال كأنه عوض عما يأخذ منهم في الخيل.
وقيل: سمي الخيل خيلاً لأن بها خيلاء، فانظر إلى الفرس عندما تشبع فإنها تمشي على أطراف حوافرها وتتبختر، وأجود الحيوانات في الرقص والرياضيات واللعب الخيل، وهي أشدها طرباً، فصاحبها كذلك.
(والتي هي له ستر رجل اقتناها تغنياً) يعني: للنماء فيبيع ويستغني بنسلها وبيعها عن الناس. فما ذكر فيها صدقة. قال: ( ولا ينسى حق الله فيها! قالوا: وما حق الله فيها؟ قال: ألا يمنع فحلها عن إناث غيره، ألا يمنع منقطعاً أن يركبه إلى مكانه)، ولم يبين فيها صلى الله عليه وسلم نصاباً ولا ما يؤخذ منها، فقال الجمهور: هذا دليل على أن الخيل لا زكاة فيها.
(قالوا: والحمر يا رسول الله! قال: لم ينزل علي فيها شيء، إلا هذه الآية الجامعة الفاذة: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7-8]) إذاً: رد ذلك إلى صاحبها، إن فعل فيها خيراً فله، وإن كان عكس ذلك فالعكس.
إذاً: الصديق رضي الله تعالى عنه ذكر أنصباء الإبل، وذكر أنصباء الغنم، وجاءت أنصباء البقر في غير هذا الكتاب، ولم يأت للخيل ولا للبرذون ولا للحمار ذكر في أنصاب الزكاة، وعلى هذا فجمهور العلماء على أن الزكاة في بهيمة الأنعام مقصورة على تلك الأصناف الثلاثة، وأن الأصناف الثلاثة الأخرى لا زكاة فيها: الخيل والبراذين والحمار.
قوله: (وفي الرقة في مائتي درهم ربع العشر، فإن لم تكن إلا تسعين ومائة فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها).
هذا جزء من مبحث زكاة الذهب والفضة اقتصر فيه على الفضة، وهي كجملة معترضة بين أحكام الإبل؛ لأنه بقي من أحكام زكاة الإبل ما لو لم توجد العين المطلوبة في عدد الإبل عند صاحبها، فإنه يتقاص هو والعامل على ما سيأتي إن شاء الله.
وهنا يقول: في كل مائتي درهم ربع العشر، فإذا كانت مائة وتسعين، فلا زكاة فيها، لأنها تنقص عن النصاب عشرة، وإذا كانت تنقص واحداً أو اثنين فـمالك يقول: هذا شيء قليل فلا يؤثر، وفيها زكاة. والجمهور يقولون: الحد مائتان، فإن لغة الأرقام ليس فيها تقريب، ومفهوم المخالفة أن ما دون المائتين ولو بواحد لا زكاة فيه.
وبالمناسبة هنا: فالفضة توزن بالدرهم وتصك عملة بالدرهم، فالدرهم في الفضة وحدة وزن ووحدة عد، فتقول: يملك مائة درهم. يعني: نقوداً، أو يملك مائة درهم. يعني: سبيكة تزن مائتي درهم.
والذهب وحدة وزنه المثقال، والمثقال أيضاً وحدة وزن ووحدة عد؛ فالدينار: اسم للنقد، والمثقال: اسم للوزن، والدينار والمثقال شيء واحد.
والمائتا درهم قد تكون دراهم على حدة، وقد تكون دراهم تجمع في القطعة الواحدة، فمثلاً: الريال السعودي: كان ثلاثة دراهم وثلاثة أرباع، الريال الفرنسي كان بريالين سعودي، وقد توجد القطعة النقدية من الريال والروبية غير هذا على حسب اصطلاحات البلاد كم في هذه القطعة من درهم شرعي، فإذا اجتمع عندهم من الريالات ما يعادل المائتي درهم من الفضة، وهو بالريال السعودي ستة وخمسون ريالاً فيكون قد وجد عنده نصاب، فتجب عليه فيه زكاتها، أي: زكاة الفضة في هذا النصاب، فإذا حال عليه الحول أخرج ربع العشر، أي: (2.5%).
بين هنا أوضاع الإبل وظروف المالك فيما إذا لم تتح الفرصة لوجود ما يجب عليه من الزكاة، فإذا كان عنده من عدد الإبل ما تجب فيه الحقة، ولم توجد عنده هذه الحقة وكانت عنده جذعة، والجذعة: أكبر منها بسنة، فهي أكثر قيمة، وتؤخذ في العدد الأكثر.
فإذا وجدت عند من وجبت عليه الحقة جذعةٌ فإنها تؤخذ منه، ويعوض عن الزائد في الحقة شاتين أو عشرين درهماً يدفعها إليه المصدق، أي: العامل الذي جاء ليأخذ الصدقة.
وكذلك العكس: إذا وجبت عليه في إبله جذعة، ولم توجد هذه الجذعة -والجذعة: هي التي جذعت سنَّيها الأماميين- ووجدت عنده حقة، الحقة أقل قيمة من الجذعة، فيدفعها صاحب الإبل، ويدفع معها جبراً للنقصان عن الجذعة شاتين أو عشرين درهماً.
وهكذا في جميع ما يؤخذ في زكاة الإبل كما بوب البخاري رحمه الله: من وجبت عليه بنت مخاض ووجدت عنده بنت لبون فإنه يدفع بنت اللبون، ويأخذ فرقاً عن بنت اللبون وبنت المخاض شاتين أو عشرين درهماً من العامل، أو بالعكس: بأن وجدت عنده من الإبل ما فيها بنت لبون، لكنه لا يوجد في إبله بنت لبون، وفيها بنت مخاض، فإنه يدفع بنت المخاض، ويدفع معها جبراناً للنقص عن بنت اللبون شاتين أو عشرين درهماً.
هكذا يقول الجمهور بناء على منطوق هذا الحديث في هذا الكتاب.
وبعض العلماء من غير الأئمة الأربعة يقول: ليس هناك تقييد بالشاتين والدراهم، ولكن ينظر بحسب كل وقت كم فرق ما بين بنت المخاض وبنت اللبون؟ فيقدر ويدفع في الفرق بدلاً من الشاتين وبدلاً من العشرين درهماً؛ لأن قيمة الشياه وتقدير الدراهم تختلف باختلاف الزمان والمكان.
والله تعالى أعلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر